مشاهدة النسخة كاملة : قبل التقطيع والتخوين 0000 اقرائوها بحياديه


غاربله
24-08-2011, 09:54 AM
وقعت فى يدى بردية مجهولة من عصر الرعامسة، وجدتها تتدلى من صندوق قمامة بجوار المتحف المصرى. تفحصتها فبدا لى أنها من المفقودات التى تبعثرت إبان ثورة يناير. حملتها بحرص وعزمت على فك طلاسمها لمعرفة ما بها قبل تسليمها إلى السلطات. عدت إلى البيت. أخرجت قاموس آلان جاردنر العتيد، وتوكلت على الله، معتمدا على ما تيسر لى دراسته من قواعد اللغة الهيروغليفية، فى دورة التحقت بها قديما بمركز الدراسات الكلاسيكية بجامعة القاهرة بعد تخرجى فى كلية الهندسة بسنوات، وإليك ما اكتشفته من أمرها: أخبرتنى سطور البردية أنها تعود إلى زمن الفرعون «فا سد رع»، وهو الفرعون الذى يقال إنه أفقر العباد والبلاد، وأضاع ثروتها من الذهب والفضة والمرمر والأحجار الكريمة على حاشيته وألاضيشه، بل وصل به الفجور إلى التواطؤ مع الهكسوس، فكان سقوطه المروع على يد ثورة شعبية، قادها تلاميذ الكتاتيب، الذين برعوا فى علوم الحساب والفلك واستخدموا الحمام الزاجل لنشر مواقيت التظاهر فى ربوع القطر، وذلك قبل أن تُعلن مراسم نقل السلطة لابنه «خا مل رع» بأشهر قليلة، حيث كان الفرعون المتصابى ينتوى ادعاء الموت والفرار للتمتع بما يتبقى له من العمر فى أحضان الجوارى السمراوات الفاتنات ببلاد بونت، التى شيد لنفسه بها قصرا يزيد فى مساحته على وادى الملوك، ويفوق فى فخامته معبدى الكرنك والأقصر معا، ناهيك عما كدسه هناك من الذهب والنفائس. قامت الثورة فانضم إليها الفلاحون وعمال المناجم والمحاجر والبناؤون، وتقول البردية إن «فا سد رع» حاول أن يقمع تلك الثورة بقوات الحرس الفرعونى، التى بطشت بالحشود الهادرة بكل ما أوتيت من قوة، ولكنها انهارت فى نهاية المطاف وانكسرت شوكتها تحت طوفان جموع الشعب المتعطش للعدل والحرية، فأصدر أوامره إلى قادة الجيش لإنقاذه، لكنهم انقلبوا عليه وعقدوا عزمهم على الترحيب بمطالب الثورة، خوفا من تمرد جنودهم ورفضهم توجيه سهامهم إلى صدور الشعب، لأنهم من أبنائه، بل وأعلن بعض كبار القادة على الملأ أنه كان ينتظر اللحظة المناسبة للتخلص من الطاغية الذى نكّس راياته وأحنى أعناقه أمام الأعداء. بعدها راحت السكرة وجاءت الفكرة، ووقع قادة الجيش فى حيص بيص، كما تقول البردية، فتلك كانت هى المرة الأولى فى التاريخ التى يقوم فيها جيش المملكة بتنحية الفرعون الإله نزولا على رغبة الشعب. حينئذ تفتقت أذهان كهنة «آمون رع» عن حيلة تحفظ كرامة القادة وتنهى اختلافاتهم. أعلن كبير الكهنة أنه عثر على وثيقة فى معبد الأقصر تثبت أن الشمس غامت يوم ميلاد الفرعون، بما يعنى بالقطع أن والده ليس «رع» العظيم المرتحل دوما من الشرق إلى الغرب، وأنه باختفائه فى ذلك اليوم يتبرأ من انتساب المولود إليه. عمت الفرحة البلاد بذلك الإعلان الذى استغله الثوار وفسّروه بأنه سقوط للفرعون من منزلة الآلهة إلى مرتبة البشر، بما يجيز لهم محاسبته أمام محكمة «ماعت». رفض القادة فلم يكن الاتفاق بينهم وبين الكهنة ينص على ذلك التحول، الذى لم يخطر لهم على بال. عمت الاضطرابات وفى نهاية الأمر رضخ القادة لإرضاء الثوار الذين سقط الكثير من ذويهم ***ى بيد حرس الفرعون الباطش. عُقدت المحاكمة بعد مماطلات وتسويف. دب الخلاف والشقاق بين كهنة المعبد الكبار، فما زال بعضهم على ولائه للفرعون المخلوع. فى نهاية الأمر وبين ذهول الجميع، رجحت كفة ريشة ماعت فى ميزان العدل على كفة سيئاته فأعلنت المحكمة تبرئته من الذنوب. اتضح التواطؤ. ضج عموم القطر بالتظاهرات التى قمعها الجيش بلا رحمة. أعلن قادته أنهم سيطاردون الثوار بلا هوادة. قال بعضهم: لماذا لا يرضون بما نقدمه لهم من تنازلات؟ لقد صاروا كالوحش الجائع الذى لا يرتوى من الدماء. طمع الكهنة فى السلطة وتنازعهم كبار القادة. اقترح الثوار أن يحكم البلاد مجلس منتخب يضم ممثلين لكل الآلهة من حماة الوجهين البحرى والقبلى. رفض الكهنة والقادة. ألقوا بآلتهم جزافا على الحكماء والثوار. تم وصمهم بالهرطقة والزندقة وبأنهم السبب فى كل سوء لحق بالبلاد، وبأن لهم صلات مشبوهة بالحيثيين والفينيقيين. كانت خطة لتأليب العامة والدهماء عليهم. تلت ذلك سطور ممسوحة تعقبها جملة تقول: كانت حقا فرصة عظيمة لقيام نهضة لا مثيل لها… وتنتهى البردية التى أصاب التلف بقية سطورها… حاولت جاهدا معرفة ما حدث بلا جدوى. تجولت فى كتب تاريخ ذلك العصر فلم أجد كلمة واحدة تدل على تلك الفترة. قلت لنفسى يائسا: فى نهاية المطاف هى فترة مجهولة سقطت من تاريخ الرعامسة، ولكننا نعرف مما تلاها أن أمور الفراعين عادت إلى ما كانت عليه قبلها. ربما أن الوقيعة التى دق أسافينها الكهنة والقادة بين الشعب من ناحية، وبين الحكماء والثوار من ناحية أخرى، هى التى أجهضت فرصة قيام دولة فريدة فى مصر القديمة. أغلقت قاموس آلان جاردنر. توجهت من فورى إلى أمين المتحف المصرى. انبهر الرجل بالبردية. تفحصها طويلا. ضحك وقال: لا قيمة لها رغم أنها تبدو غير زائفة. المعلوم من تاريخ الرعامسة لا يثبت صحتها. يمكنك أن تحتفظ بها. قلت لنفسى: لن يقلل ذلك من قيمة ما تحكيه، لأننا لن نسمح للتاريخ بأن يكرر نفسه. لن نتنازل عن ثورتنا للقادة والكهنة الجدد. أمامنا فرصة نادرة، لنكتب اليوم بردية تبقى سطورها واضح