مشاهدة النسخة كاملة : تتوالى المحن .. وتبقى مصر


abomokhtar
01-05-2012, 10:59 AM
تنوَّعت الخُطوب والمدلهمَّات التي ألَمَّت بهذا الوطن الحبيب على مَدارِ تاريخه التَّلِيد، إنَّ بلدنا مصرَ مرَّت بمِحَنٍ شديدةٍ ومآسٍ عظيمة، سجَّلَها ودوَّنها المؤرِّخون مبثوثةً في مصنَّفاتهم عبر أحْقاب التاريخ المختلفة، وقد جمعها وأجملها الإمام عبد الرحمن بن أبي بكرٍ جلال الدين السيوطي وحصَرَها على امتِداد تسعة قُرون في كتابه (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)، وعَنْوَنَ لها بـ"ذكر الحوادث الغريبة الكائنة بمصر في ملَّة الإسلام من غَلاءٍ ووَباءٍ وزلازل وآيات وغير ذلك".

وقد آثَرتُ ذِكر هذه المِحَن والابتلاءات التي مرَّت بها بلدنا مصر؛ حتى نعرف أنَّ المصائب مهما تكاثَرتْ أو تعاضَدتْ، فإنها إلى زَوالٍ إنْ شاء الله، وإليك أهم تلك الخطوب التي ألَمَّت بمصر[1]:

وقَع الطاعون بها -وما أدْراك ما الطاعُون!- سنة ستٍّ وستِّين[2]، وخمسٍ وثمانين[3]، وتسعٍ وأربعين وسَبعمائة[4]، وست عشرة وثمانمائة، وثماني عشرة وثمانمائة، وواحدٍ وأربعين وثمانمائة[5]، وأربعٍ وثمانين وثمانمائة[6].

وفي سنة ثمانين ومائة[7]، وخمسٍ وأربعين ومائتين[8]، وأربعٍ وأربعين وثلاثمائة[9]، وإحدى عشرة وأربعمائة[10]، واثنتين وستين وأربعمائة[11]، وستمائة[12]، وثمان وستمائة[13] - وقعتْ بمصر زلازلُ عظيمةٌ وشديدة، مات بسببها خلقٌ كثيرٌ.

وفي سنة ثمانٍ وثلاثين ومائتين أقبلت الروم في البحر في ثلاثمائة مركبٍ، وأبهة عظيمةٍ، فكبسوا دمياط، وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكسرة في البحر، وسبوا ستَّمائة امرأةٍ، وأخذوا من الأمتِعة والأسلِحة شيئًا كثيرًا، وفرَّ الناس منهم في كلِّ جهةٍ؛ فكان مَن غَرِقَ في بحيرة تِنِّيس أكثر ممَّن أُسِرَ، ورجَعُوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد[14].

وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين، زُلِزلت الأرض ورُجِمت السُّوَيداء -قرية بناحية مصر- من السَّماء، ووُزِنَ حجرٌ من الحجارة، فكان عشرة أرطال[15].

وفي سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين لليلتين بقِيَتا من المحرَّم طلع نجمٌ ذو جمَّة، ثم صارَتِ الجمَّة ذُؤَابة، قال: وفي هذه السنة وردت الأخبار أنَّ نيل مصر غارَ، فلم يَبْقَ منه شيءٌ، وهذا شيءٌ لم يُعهَد مثلُه، ولا بلغنا في الأخبار السابقة، فغلت الأسعار بسبب ذلك، وفي أيَّام أحمد بن طولون تساقطت النجوم، فراعَه ذلك، فسأل العلماء والمنجِّمين عن ذلك، فما أجابوا بشيءٍ، فدخل عليه الجمل الشاعر وهم في الحديث، فأنشد في الحال:

قَالُوا تَسَاقَطَتِ النُّجُو *** مُ لِحَادِثٍ فَظٍّ عَسِيرْ

فَأَجَبْتُ عِنْدَ مَقَالِهِمْ *** بِجَوَابِ مُحْتَنكٍ خَبِيرْ

هَذِي النُّجُومُ السَّاقِطَا *** تُ نُجُومُ أَعْدَاءِ الأَمِيرْ

فتفاءَل ابن طولون بذلك، ووصَلَه[16].

وفي سنة أربعٍ وثمانين ومائتين، وكذا سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ظهر بمصر ظُلمةٌ شديدة، وحُمرة في الأفق؛ حتى جعل الرجُل ينظُر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدًّا، وكذلك الجدران، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل، فخرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرَّعون إليه، حتى كشف عنهم[17].

وفي سنة سبعٍ كانت الحروب والأراجيف الصعبة بمصر، ثم لطف الله وأوقع المرض بالمغاربة، ومات جماعةٌ من أُمَرائهم، واشتدَّت علَّة القائم[18].

وفي سنة خمسٍ وخمسين قطعتْ بنو سليم الطريق على الحجيج من أهل مصر، وأخذوا منهم عشرين ألف بعيرٍ بأحمالها، وعليها من الأموال والأمتعة ما لا يقوم كثرةً، وبقي الحاج في البوادي، فهلك أكثرهم. وفي أيَّام كافور الإخشيدي كثُرت الزلازل بمصر، فأقامتْ ستَّة أشهر[19].

وفي سنة ستِّين وثلاثمائة سارت القرامطة في جمعٍ كثيرٍ إلى الديار المصريَّة، فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالاً شديدًا بعين شمس، وحاصَرُوا مصر شُهُورًا[20].

وفي سنة ثلاثٍ وستِّين خرج بنو هلال وطائفةٌ من العرب على الحجَّاج، ف***وا منهم خلقًا كثيرًا، وعطَّلوا على مَن بَقِيَ منهم الحجَّ في هذا العام، ولم يحصل لأحدٍ حَجٌّ في هذه السنة سوى أهل درب العراق وحدَهم[21].

وفي سنة ستٍّ وثمانين قدمتْ مصر أربع عشرة قطعةً من الأسطول، ف***ت ونهبت، وأحرقت أموال التجَّار، وأخذت سَرايا العزيز وحَظاياه، وكان حالاً لم يُرَ أعظمُ منه[22].

وفي سنة خمسٍ وأربعمائة زاد الحاكم بأمر الله في منْع النساء من الخُروج من المنازل، ومن دُخول الحمَّامات، ومن التطلُّع من الطاقات والأسطحة، ومنع الخفَّافين من عمل الخِفاف لهنَّ، وقتَلَ خلقًا من النساء على مخالفتهن في ذلك، وهدَمَ بعض الحمَّامات عليهن، وأغرق خلقًا[23].

وفي سنة خمسٍ وخمسين وأربعمائة وقَع مُوتان[24] بالجدري والفَجأة، ووقَع بمصر وباءٌ شديد، كان يخرج منها كلَّ يوم ألف جنازةٍ[25].

وفي سنة ستِّين وأربعمائة كان ابتداء الغلاء العظيم بمصر، الذي لم يُسمَع بمثله في الدهور؛ من عهد يوسف الصدِّيق -عليه الصلاة السلام- واشتدَّ القحْط والوَباء سبع سنين متوالية؛ حيث أكَلُوا الجِيَف والميتات، وأُفنيَت الدواب، وبِيع الكلب بخمسة دَنانير والهر بثلاثة دنانير، ولم يبقَ لخليفة مصر سوى ثلاثة أفراس بعد العدِّ الكثير، ونزَل الوزير يومًا عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعْفه من الجوع؛ فأخذها ثلاثة نفرٍ ف***وها وأكلوها، فأُخِذوا فصُلِبوا، وأصبحوا وقد أكلهم الناس، ولم يبقَ إلا عظامهم. وظُهِر على رجلٍ ي*** الصبيان والنساء ويَبِيع لحومهم، ويدفن رءوسهم وأطرافهم، فقُتِل. وبِيعَت البيضة بدينار، وبلغ أردب القمح مائة دينار ثم عُدِمَ أصلاً، حتى حكى صاحب "المرآة" أنَّ امرأةً خرجَتْ من القاهرة، ومعها مُدّ جوهر، فقالت: مَن يأخُذُه بمدّ قمح؟ فلم يلتَفِت إليها أحدٌ[26]!

وفي سنة خمسٍ وستين اشتدَّ الغلاء والوباء بمصر؛ حتى إنَّ أهل البيت كانوا يموتون في ليلة، وحتى إنَّ امرأةً أكلَتْ رغيفًا بألف دِينار، باعَتْ عروضها -وقيمته ألف دينار- واشترَتْ به جملة قمح، وحمله الحمَّال على ظهره فنهبه الناس، فنَهَبَتِ المرأة مع الناس فصحَّ لها رغيف واحد. وكان السودان يقفون في الأزقَّة يصطادون النساء بالكلاليب، فيَأكُلون لحومهنَّ، واجتازت امرأةٌ بزقاق القناديل، فعلَّقَها السودان بالكلاليب، وقطعوا من عَجُزِها قطعةً، وقعَدُوا يأكُلونها وغفلوا عنها، فخرجَتْ من الدار واستغاثَتْ، فجاء الوالي وكبس الدار، فأخرج منها أُلُوفًا من القَتْلَى[27].

وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة هَبَّتْ ريحٌ سوداء بمصر، فاستمرَّت ثلاثة أيَّام، فأهلكتْ خلقًا كثيرًا من الناس والدواب والأنعام[28].

وفي سنة ستٍّ وتسعين قال الذهبي في (العبر): كسر النيل من ثلاثة عشر ذراعًا إلا ثلاثة أصابع؛ فاشتدَّ الغلاء، وعدمت الأقوات، ووقَع البلاء، وعظم الخطب، إلى أنْ آلَ بهم الأمر إلى أكْل الآدميِّين الموتى. قال ابن كثيرٍ في هذه السنة والتي بعدَها: كان بدِيار مصر غلاءٌ شديد، فهلك الغني والفقير، وعمَّ الجليل والحقير، وهرب الناس منها نحو الشام، ولم يصلْ منها إلا القليل من الفِئام، وتخطَّفتهم الفرنج من الطرقات، وعزوهم في أنفُسهم، واغتالوهم بالقليل من الأقوات، وكان الأمير لؤلؤ أحد الحجَّاب بالديار المصريَّة يتصدَّق في هذا الغلاء في كلِّ يوم باثني عشر ألف رغيف على اثني عشر ألف فقير[29].

وفي سنة سبعٍ وتسعين، قال الذهبي في (العبر): كان الجوع والموت المفرط بالدِّيار المصرية، وجَرَتْ أمورٌ تتجاوز الوصف، ودام ذلك إلى نصف العام الآتي، فلو قال القائل: مات ثلاثة أرباع أهل الإقليم لما بَعُد! وكلُّه نزرٌ في جنب ما هلك بالإقليم.

وقيل: إنَّ مصر كان بها تسعمائة منسج للحصر، فلم يبقَ إلا خمسة عشر منسجًا، فقِسْ على هذا!

وبلغ الفَرُّوج مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكليَّة لولا ما جُلِبَ من الشام.

وأمَّا أكْل لحوم الآدميين، فشاعَ وتواتَرَ.

وفي شعبان كانت الزلزلة العُظمَى التي عمَّت أكثر الدُّنيا[30].

وضُرِبتْ مصرُ بالغلاء الشديد الذي أنهك البلاد والعباد أيضًا سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين[31]، وثمانٍ وخمسين وثلاثمائة[32]، وستين وأربعمائة[33]، واثنتين وستين وأربعمائة[34]، وست وتسعين وخمسمائة[35]، وثمانٍ وعشرين وستمائة[36]، وأربع وتسعين وستمائة[37]، وست وثلاثين وسبعمائة[38].



ورغم كلِّ هذه المِحَن التي ألَمَّت بهذا البلد الكريم مصر، إلا أنَّ مصر صمدَتْ وبقيَتْ على مرِّ الزمان قلعةً شامخةً وحصنًا باذِخًا للإسلام وأهله، وستمرُّ المِحنة وينجلي الكرْب، وتَبقى مصر عزيزةً مرفوعةَ الهامَة بدِينها - إنْ شاء الله تعالى.
منقول