مشاهدة النسخة كاملة : العلاقات الدولية في الحضارة الإسلامية


abomokhtar
11-06-2012, 09:49 PM
لا يزال البعض يظن أن ليس للشريعة الإسلامية كلمة في مجال العلاقات الدولية، وعلى وجه الخصوص أن ما يسمى بالقانون الدولي الإسلامي ليس إلا بعض الوصايا الواردة في الشريعة الإسلامية التي لا تعد قانوناً دولياً؛ حيث لم يجر الاتفاق عليها بين المسلمين وغيرهم.
إن اهتمام الشريعة الإسلامية بالعلاقات الدولية أمر واضح من حيث المبدأ، فما دامت دعوة الإسلام عالمية فلا بد من بلورة رؤيته للعلاقات مع العالم.
من المعروف أن العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي تتنازعه نظريتان؛ تقول إحداهما بتبعية القانون الداخلي للقانون الدولي في هيكل العلاقات التدرجية بين القواعد القانونية؛ إذ إن القانون الدولي هو الذي يحدد عناصر الدولة، ومن ثم يعطي الشرعية للدول التي تكتمل لها هذه العناصر، في حين يذهب الرأي الآخر إلى أن القانون الدولي لم يصل بعد من النضج إلى أن يصبح مهيمناً على القانون الداخلي، وآية ذلك استمرار مبدأ سيادة الدول، وحاجة المعاهدات الدولية إلى التصديق من المؤسسات الدستورية في كل دولة كي يصبح نافذ المفعول.
وإذا كان هذا الرأي وارداً الآن، وبعد عدة عقود من نشأة المنظمات الدولية التي تسعى نحو إقامة حكومة عالمية، فإنه من الطبيعي أن يكون هذا الرأي هو الرأي الوحيد الذي يمكن في ظله ضمان احترام الدول للمبادئ القانونية في علاقتها الخارجية خلال القرون الماضية، ومن هنا كان التعبير بالقانون الدولي الإسلامي عن شق من أحكام الشريعة الإسلامية التي تنظم علاقة دولة الإسلام بغيرها تعبيراً سائغاً ولا غبار عليه.
ومما يؤكد نظرة الإسلام في هذا الموضوع أن نتذكر أن دولة الإسلام ذاتها خاضعة للشريعة الإسلامية، فالشريعة هي التي أنشأت الدولة، وهي التي تضبط تصرفاتها. وليست الدولة هي التي تنشئ الشرائع والقوانين كما في النظم الأخرى، ويكفي أن نشير إلى حادثة الجيش الذي التزم بقرار قاضي المسلمين بناء على شكوى أهل سمرقند.
2- من الأمور التي ينبغي توضيحها: عدم شرعية استخدام القوة لنشر الدعوة الإسلامية، فقد وردت النصوص الصريحة في عدم الإكراه على اعتناق الدين، وأن واجب المسلمين هو مجرد التبليغ.
وإذا كان قد وقع في الماضي استخدام للقوة لإزالة العقبات التي تحول دون حرية الرأي وتبليغه؛ وهو ما أوجد شبهة في أن حروب الفتح كانت لفرض الإسلام بالقوة، فلم يعد وارداً التفكير حالياً في هذا الأمر؛ حيث إن تحقيق المقصد -وهو نشر الدعوة- أصبح ممكناً وعلى نطاق واسع؛ عبر وسائل الإعلام التي لا تعترف بالحدود بين الدول، والتي تصل بها الكلمة المسموعة والصورة المرئية خلال ثوان إلى أطراف الأرض.
3- ولا ينفي ذلك وجود الجهاد، وهو فريضة على المسلمين للدفاع عن حقوقهم إذا انتهكت، وهو أمر قريب من الحالات التي يجيز فيها القانون الدولي الحالي استخدام القوة، ومن أبرزها حالة الدفاع الشرعي الفردي والجماعي المنصوص عليها في المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، وصياغة الأمر على هذا النحو تحتاج إلى تفصيل يبين أحكام الجهاد، ليس هنا موضعه.
4- ومما يحتاج كذلك إلى إعادة نظر: إبراز الظرف التاريخي الذي قسم فيه الفقهاء المسلمون العالم إلى دار إسلام ودار حرب ودار عهد، فالمواجهة الشاملة بين المسلمين وغيرهم في فترة المد الإسلامي، والتي استمرت في زمن المد الغربي الذي تلاها كان طبيعياً أن تترجم إلى أحكام تتعلق بوضع المسلمين المقيمين خارج ديار الإسلام وتصرفاتهم من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، بسبب أن هذه الشريعة لها طابعها الشخصي المستمد من العقيدة، والتوفيق بين هذا الطابع الشخصي وبين السيادة الإقليمية للدول هو الذي أبرز هذا التقسيم.
ولا مجال هنا للمقارنة مع موقف (غروسيوس) ومَن تلاه من فقهاء القانون الدولي بعد ذلك بعدة قرون، الذين تصوروا أن العالم قسمان: قسم متمدن هو الدول المسيحية التي أنشؤوا لها القانون الدولي، وقسم همجي هو باقي الدول، وإذا كان لا بد من إجراء المقارنة، فلذلك تفصيل لا يتسع له هذا المجال.
وإذا أخذنا في الاعتبار الظرف التاريخي لهذا التقسيم إلى دار إسلام ودار حرب ودار عهد، فإننا نجد أن العلاقات التي تربط الدول الآن بعضها ببعض تحتم علينا إعادة النظر في هذا التقسيم؛ إذ أصبح الأصل في العلاقات الدولية أنها علاقات دار العهد، وانحسر نطاق دار الحرب إلى الدول التي يوجد بينها وبين بلاد المسلمين حالة حرب فعلية.
5- من الأمور التي ينبغي إبرازها تلك القواعد الإنسانية التي حوتها الأحكام الشرعية والتي سبقت معاهدات جنيف بصدد حماية المدنيين والأسرى وغيرهم لقرون طويلة، والتي فصلت أحكامها كتب الفقه وخصصت لها بعض المؤلفات، ككتاب (السير) لمحمد بن الحسن الشيباني.
6- ومما يحتاج إلى بيان، استجابة لما نصت عليه المادة 38 ج 3 من ميثاق الأمم المتحدة في اعتبار المبادئ القانونية العامة المتعارف عليها بين الدول مصدراً من مصادر القانون الدولي، نفض الغبار عن القواعد الفقهية الكلية التي تمثل المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية، والتي غفل المعاصرون من علماء المسلمين عن الاهتمام بها، وإبراز دورها في هذا المجال المهم.
7- وأخيراً فهناك الدور الرسالي للأمة الإسلامية، الذي يحدد هدفها في المجتمع الدولي، ويستلزم أن يكون لمجموعة الدول الإسلامية في المجال الدولي رأي في مشاكل العالم الحالية يتفق وهذا الدور الرسالي إن لم ينطلق منه، وبهذا تؤدي الأمة الإسلامية، ممثلة بهذه الدول، دورًا فعالاً في دفع المجتمع الدولي نحو العدالة والسلام[(8)].
ثالثاً: دور المسلمين في تأسيس القانون الدولي
لا ريب أن العرب منذ القرن السابع للميلاد وما بعده، حتى إبان القرون الوسطى، كانوا المجلين في ميدان الحضارة والعلوم والتجارة الدولية. ومعلوم أن الغرب قد احتك بهم منذ القديم بواسطة صقلية والأندلس وغيرهما من الممالك المحيطة، واقتبس منهم كثيراً. ثم ازداد هذا الاحتكاك والاقتباس إبان الحروب الصليبية وما بعدها، وأهم ميادين اقتباس الغرب عن العرب ميدان التجارة الخارجية، وميدان العلوم بجميع أنواعها ولاسيما في القانون التجاري والدولي[(9)].
في مجال العلاقات الدولية، وتحديداً في فقه القانون الدولي، ثمة إشارات في مراجع مختلفة إلى دور الشيباني وأثره في الفكر الغربي الأوربي، فضلاً عن آثار غيره من فقهاء المسلمين الكبار.
* الشيباني و(السير الكبير):
لقد عالج الفقهاء المسلمون قواعد العلاقات الخارجية في فقه السير[(10)] الذي يعني مسلك الدولة في المغازي، بدءاً من مغازي الرسول (ص) إلى سير أهل بيته وأصحابه[(11)]. وقد توقفوا عند مسائل الجهاد، الحرابة، العهد، الأمان، الصلح، الغنائم، العلاقة مع أهل الذمة، الموادعة، إقامة الحدود، دار الحرب، دار السلام، السبايا، الخراج، العشر، الغزو، أهل البغي، أهل الردة... وغير ذلك من مسائل الحرب والسلم.
إن مجرد التفكير بوضع قواعد لهذه المسائل من خلال الفقه الإسلامي يشير إلى أن المسلمين وضعوا قواعد للعلاقات الدولية منذ القرن السابع الميلادي، أي قبل نحو ألف سنة من انطلاقة القانون الدولي الحديث في أوربة. وما تزال قواعد الحرب والسلم- بصفة عامة- هي التي تختصر قواعد العلاقات الدولية والقانون الدولي في عصرنا. إنه تصنيف مستمر ومتراكم من خلال معطيات حضارية إنسانية كان فيها للمسلمين دور مركزي متميز.
إن عصر الشيباني[(12)] في القرن الثاني للهجرة يؤكد تطور الفقه الإسلامي وازدهاره، فقد احتل هذا الفقه مكانة متقدمة في عصره وفي العصور اللاحقة، حيث احتفظ بصفة المؤسس.
كما أثر أبو يوسف[(13)] في فقه الشيباني، وهو الذي استعمل (السير) في كتابه (الرد على سير الأوزاعي). فالإمام (عبد الرحمن الأوزاعي)[(14)] كتب في السير أيام العصر الأموي استناداً إلى السنة النبوية، وإلى قرارات الحكام في ذلك العصر، ويبدو أبو يوسف في عرضه لسير الأوزاعي مقارناً بين فقه أبي حنيفة وفقه الأوزاعي، ولا يخفى بعد ذلك أن الإمام الشافعي[(15)] راح يعرض خلافه في الرأي مع أبي حنيفة وأبي يوسف، ويبدو أكثر قرباً من آثار الأوزاعي.
عالج الأوزاعي قبل الشيباني أحكام الحرب، متوقفاً عند معاملة أفراد العدو وعند توزيع الغنائم.
أما أبو حنيفة[(16)] فهو الواضع لأحكام علاقات المسلمين بالعالم الخارجي مستنداً في فقهه إلى القياس.
في مضمار فقه أهل البيت يبرز فقه الإمام جعفر الصادق في العبادات والمعاملات، ويمكن العودة إلى فقهه في الجهاد ووجوبه، المرابطة، الموقف من الحربي والذمي، صورة القتال الحربي، الأسرى والغنائم، أهل البغي، الأمر بالمعروف...[(17)].
لقد تأثر العالم الإسباني (سواريز) ( Francisco Suarez ) (1548- 1617) بالفكر الإسلامي وبالقواعد الدولية التي وضعها العرب والمسلمون. وبدوره أثر (سواريز) في علم وفكر رائد القانون الدولي في الغرب ومحامي هولندة العام ومؤرخها الرسمي (غروسيوس) ( Hugo de Groot ) (1583 - 1645) الذي عاش في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والذي وضع مؤلفاً عن قانون الحرب والسلم أهداه إلى (لويس الثالث عشر) في عام 1623 بعدما وضع مؤلفاً عن حرب البحار في العام 1609[(18)]. وبذلك مهد (غروسيوس) للتأليف حول قانون العلاقات الدولية الذي صار يعرف بالقانون الدولي العام.
* هل تأثر (غروسيوس) بأفكار الشيباني؟
تشير بعض المراجع إلى أن (غروسيوس) كان منفياً إلى الأستانة سنة 1640، ومن المحتمل أنه قد اتصل بالفكر الإسلامي من خلال هذا الموقع[(19)].
بيد أن وفاة (غروسيوس) بعد ثلاث سنوات من وجوده في الأستانة تترك علامة استفهام حول هذه المعلومة، علماً بأن أهم كتاباته جاءت قبل هذا التاريخ.
مهما يكن من أمر، فإن العلاقات بين الشرق والغرب، وتحديداً بين العالم الإسلامي والعالم الأوربي ظلت قائمة ومتفاعلة وتطورت بعد الاكتشافات البحرية، ومن الثابت أن الغرب الأوربي أفاد كثيراً من الفكر الإسلامي، سواء في الأندلس أو في صقلية أو غيرهما من نقاط التماس والتفاعل.
ومما لاشك فيه أن الشيباني احتل مكانة مرموقة إسلامياً وغربياً، فقد أخذت تنشر دراسات معاصرة عن فقهه ودوره في وضع القواعد الدولية، ومن المعروف أن عدداً ممن تأثروا بالشيباني من علماء العرب والمسلمين عاشوا في الغرب أو انتقلوا إليه مدة من الزمن، فحصل تفاعل عالمي- إنساني يؤسس لجعل العلاقات الدولية قائمة على قواعد القانون لا على شريعة القوة وحدها. وفي هذا المضمار يبرز أثر الشريعة الإسلامية من حيث استنادها إلى فكرة المصلحة العامة للإنسانية بعيداً عن شريعة الغاب، وإن كان هذا الأثر في العلاقات الدولية يحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث.
وقد اعترف المستشرقون للشيباني بمكانة خاصة، حتى إن المستشرق النمساوي (جوزيف هارمر فون برغشتال[(20)]/ J.Hammer Von Purgstall ) نعته بأنه "غروسيوس[(21)] المسلمين"، وورد هذا النعت على لسان مستشرق ألماني هو (هانس كروزه[(22)]/ Hans Kruse ) الذي لم يكتف بذلك، بل أسس عام 1375هـ/ 1955م جمعية أسماها (جمعية الشيباني للقانون الدولي). ومن هنا يجدر بنا أن نتذكر بأن الشيباني توفي سنة 189هـ/ 804م، في حين كانت وفاة الفقيه الهولندي (غروسيوس) الذي يعد مؤسس القانون الدولي العام في سنة 1055هـ/ 1645م، وهكذا يكون الشيباني قد سبقه بما يزيد على ثمانية قرون من الزمان. ومهما يكن الحال، فالشيباني يعد من أبرز الفقهاء المسلمين الذين كتبوا في العلاقات القانونية الإسلامية مع الشعوب الأخرى، بل هو واضع القانون الدولي الإسلامي.
ثم تطور علم السير بعد ذلك متأثراً بالتطورات الدولية كالحروب على مدى قرون عديدة (ومنها الحروب الصليبية) وتجلى هذا التطور على أيدي عديد من العلماء، وفي مقدمتهم أحد معاصري الشيباني، وأعني به الإمام الشافعي (ت 204هـ/ 819م) ومحمد بن أحمد السرخسي (ت 491هـ/1097م)[(23)] شارح كتاب الشيباني آنف الذكر، وأحمد بن محمد بن سلمة الطحاوي (ت321هـ/933م) في كتابه المسمى (كتاب المختصر) الذي نشر في القاهرة سنة 1950[(24)]، وابن تيمية[(25)] (ت 728هـ/1367م) في كتابه "السياسة الشرعية".
وهكذا فإن الإسلام سبق القانون الدولي الأوربي، ليس في تاريخ وجوده فحسب، بل في كثير من أحكامه ومبادئه، ولا سيما فيما يتصل بمبدأ الشرف الدولي والعدالة الإنسانية والسلم العالمي[(26)]، خصوصاً إذا تذكرنا بأن الشريعة الإسلامية تقوم على عقيدة تلزم المسلم بتنفيذ أحكامها، بخلاف القانون الدولي الوضعي؛ إذ يقوم خلاف كبير بين شراح هذا القانون حول مدى إلزاميته، فهو بنظرهم مجرد مبادئ يمكن للدول الخروج عليها، بل إن بعضهم يعد أحكامه -كما أسلفنا- قاصرة على الدول النصرانية، ولذلك تأخر اعتراف الدول الأوربية بعضوية الدول العثمانية في الأسرة الدولية إلى أواسط القرن الماضي، مع أنها كانت تحتل في بعض الفترات أقاليم واسعة من أوربة، حيث كان تفكير دول العالم النصراني[(27)].
ونحن في عالم اليوم مازلنا نعاني من تشنجات ومكائد ومؤامرات الشعوب والدول الأخرى ضدنا، وتركز في ذلك فيما يسمى بالنظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وسقوط الشيوعية وهزيمتها على أرض الواقع، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وتوالت الإعلانات الرسمية والتصريحات من كبار المسؤولين في أوربة وأمريكة، أنه لم يبق بعد سقوط الاشتراكية إلا الإسلام بصفته عنصر مواجهة وتخطيط له، لإضعافه في الساحة الدولية بمختلف الوسائل. وما المحاولات السلمية في الشرق الأوسط إلا مقدمة لفرض التفوق الإسرائيلي في المنطقة وخدمة المصالح الاستعمارية، أو في منطقة الخليج (حرب 1990 وحرب 2003)، وكذلك الوضع في البوسنة والهرسك، وأفغانستان وغيرها من البقاع الإسلامية.
محمد بوبوش (http://www.fikr.com/?Prog=book&Page=authorinfo&aid=17106)

محمد رافع 52
13-06-2012, 11:10 AM
جزاكم الله خيراً