مشاهدة النسخة كاملة : أبو موسى الأشعري ومزمار آل داود


صوت الامة
20-08-2012, 12:06 AM
http://www.alashraf.ws/up/uploads/13027285553.jpg

د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
من الناس من يشتهر في التاريخ بشجاعته ، ومنهم من يشتهر بقوته ، ومنهم من يشتهر بملكه ، ومنهم من يشتهر بكثرة ماله ، ومنهم من يشتهر بغزارة علمه ، ومنهم من يشتهر بتقواه وورعه ، ومن هذا الصنف الأخير أبو موسى الأشعري .
فمن أبو موسى هذا ؟ إنه الصحابي الجليل عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب القحطاني اليمني الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قومه : "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر" وفي رواية أخرى: "أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب ، وهم خيار من في الأرض".
هم خيار أهل الأرض ؛ ولذلك يحبهم الله ويحبونه ، فقد قُرئ ذات يوم أمام النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" فقال صلى الله عليه وسلم: " هم قوم هذا، يعني أبا موسى" .
وخصه النبي صلى الله عليه وسلم دون قومه بميزة أخرى فقال : " سيد الفوارس أبو موسى" . " (1) ..

إسلامه وقومه :

لقد أسلم ـ رضي الله عنه ـ مبكرا قبل هجرة الحبشة ، وبعد مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام عاد إلى قومه الأشعريين في زبيد باليمن ، فأقام بينهم داعيا إلى الله سبحانه وتعالى ، حتى إذا حلت سنة 7هـ عزم على اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فخرج إليه في حوالي 70 نفرا ممن أسلموا من آل بيته ، ولما كانوا على مقربة من المدينة صاروا يهتفون شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه".(2) . وقد صادف دخولهم المدينة رجوع جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من الحبشة ..

ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

وبمجرد أن وطأت أقدام أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ المدينة حرص على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومصاحبته ، لازمه مقتديا متأسيا ، ولازمه مطيعا لأوامره ، ولازمه متعلما متفقها متأدبا، ولازمه مجاهدا ، فقد اشترك في غزوة ذات الرقاع ، وفي فتح مكة ، وفي غزوة حنين ، حيث كان ضمن السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس لتعقب الفارين من حنين ، وكان تحت إمرة أخيه أبي عامر الأشعري ، ثم حمل الراية بعد استشهاده " ففتح الله عليه وهزمهم الله عز وجل" (3) .

اشتهاره بطيب الصوت عند تلاوة القرآن الكريم :

كان أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ قد أقبل بعد دخوله الإسلام على تعلم القرآن الكريم وحفظه ، حتى أتمه كله عن ظهر قلب ، وقد جمع مع الحفظ جمال الصوت ورقته ، وكان من أطيب الناس وأندهم صوتاً عند تلاوة القرآن الكريم ، وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " (4).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما تسمع له وهو لا يعلم ؛ فقال ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم : "لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا " (5).
ولكنه ـ رضي الله عنه ـ لم يكن يتكلف في قراءته ، ويصل بها إلى الألحان المنهي عنها في الإسلام ، تلك الألحان التي سئل عنها أحمد بن حنبل رحمه الله فقال : بدعة ومحدثة ، فقال السائل : تكرهه يا أبا عبد الله قال: نعم ، إلا ما كان من طبع كما كان أبو موسى الأشعري ، فأما من تعلمه فألحان مكروهة. (6).
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ في خلافته يجلس إليه مع من حضر من الصحابة ويقول له : شوقنا إلى ربنا، أي بقراءة القرآن الكريم عليهم ، وفي رواية حبيب بن أبي مرزوق: بلغنا أن عمر بن الخطاب ربما قال لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فقرأ عليه أبو موسى.

حرصه على سماع الحديث والتفقه من النبي صلى الله عليه وسلم :


ولم يقتصر أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ على حفظ القرآن الكريم ، وإنما كان حريصا على سماع الحديث والفقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الصحابة الذين سبقوه بالإيمان ، حتى صار من أفقههم ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ثلاثمائة وستين حديثاً رغم قصر المدة التي لازمه فيها .
وكان مع حرصه على العلم لا يرى فائدة منه إلا إذا اقترن بالعمل ، ويروي في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل ما بعثني الله تعالى به من الهدي والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا - وفي لفظ وزرعوا - وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فلذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. (7)

بشرى النبي صلى الله عليه وسلم له :

لم يظفر أبو موسى الأشعري بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وبحفظ القرآن الكريم فقط وإنما ببشرة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ، فهو يقول : كنت عند النبي ( وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ) ومعه بلال، فأتى النبيَّ أعرابي، فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: " أبشر" فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر!! فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: "رد البشرى، فاقبلا أنتما!!" قالا: قبلنا.(8) .

ومع ذلك كان يحسب أن عمله وجهاده واجتهاده ليس كافيا لأن يبلغ به درجة الصالحين حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فطمأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "المرء مع من أحب " .(9) .

أبو موسى أميرا للنبي صلى الله عليه وسلم :

بعد أن تم فتح بلاد اليمن أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري أميرا على الكورة السفلي من بلاد اليمن ( زُبَيْد ومأرب وَزَمَع والساحل) وبعث معه معاذ بن جبل على الكورة العليا وقال لهما : " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا " .

جهاده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :

كان أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ قد ترك إمارته باليمن عقب حجة الوداع ، وعاد ليلازم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ولكن بعد وفاة رسول الله لم يطل مقامه بها ، وإنما خرج مجاهدا في سبيل الله ، وسائحا لنشر دعوة الله عز وجل ، وكان أميرا على الجيش الذي فتح الدينور وماسبذان وكور الأهواز أيام عمر ـ رضي الله عنه .

أبو موسى أميرا لعمر بن الخطاب :

استعمل عمر ـ رضي الله عنه ـ أبا موسى أميرا على البصرة ، وأوصاه عند رحيله بقوله " إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالحديث، وأنا شريكك في ذلك".. وكانت نعم الوصية فإن الناس ظلوا على الجادة والخير فترة تمسكهم بالقرآن فلما تركوه وانشغلوا بغيره دب بينهم من الخلف ما دب .

وقد بدأ ـ رضي الله عنه ـ عمله بقوله : " إن أمير المؤمنين عمر بعثني إليكم، أعلمكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!!
ولا أحسب أنه ذكر تنظيف الطرقات إلا بعد أن أحصى كل الأمور الأخرى ، وفي خطبته الوجيزة رد على من جعلوا همهم من الدين تعلم بعض أحكامه ، ورد على العلمانيين الذين لا يفهمون أن الإسلام يجمع بين الحسنيين .

وقد تعلق به أهل البصرة أيما تعلق حتى إنه لما استبدله عثمان رضي الله عنه بالمغيرة بن شعبة أرسلوا إليه أن يعيده عليهم فلبى طلبهم وأعاده إليهم .

حرصه على تنقية عقيدة رعيته :

وكان ـ رضي الله عنه ـ حريصا في خطبه على تنقية عقيدة الناس من أدران الشرك ، وكان يخطب فيهم ويقول : أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل .... خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقالوا : كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : قولوا : اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا وأنت تعلمه ، ونستغفر لما تعلم " (10)
كما كان يحث رعيته على الاقتصاد وعدم اللجوء للاستدانة ، ويقول لهم : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إن من أعظم خطيئة عند الله بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت الرجل وعليه أموال الناس دينا في عنقه لا يوجد لها قضاء"
ويحذرهم من الافتتان بالمال ويقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم " (11).

ويحثهم على مكارم الأخلاق ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها". "لمن ألان الكلام وأطعم الطعام، وبات لله قائماً والناس نيام".

ويحثهم على الصداقة والصحبة الصالحة ويقول : " من كثر صديقه ركب أرقاب أعدائه" (12) كما كان يحرص على تنقية مجتمعه من العناصر المفسدة ، فقد وجد في عصره شاب جميل افتتن النساء بجماله وجمال شعره فنفاه إلى فارس..
كما كان يجلس لهم يعلمهم القرآن ، يقول أنس : بعثني الأشعري إلى عمر فقال لي عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن، فقال: أما إنه كيس ولا تسمعها إياه (13)

ويحثهم على العمل بما تعلموا ، ولا يتقولوا على الله ، ويقول : "من علمه الله علما فليعلمه ولا يقولن ما ليس له به علم فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين ".
كما كان دائم التذكير لهم بالآخرة ويقول: "أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع ،ثم يبكون الدماء حتى لو أجري فيها السفن لسارت ".

وحتى في اللحظات الأخيرة من عمره لم يبخل على رعيته بالنصيحة ، فقد ذكر ابن سعد عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن أنه أغمى عليه في مرضه ، فصاحت عليه أم أبي بردة فأفاق فقال: إني بريء ممن حلق وسلق وشق.
فرضي الله عنه وأرضاه ونفعنا بهديه وسيرته !.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
الهومش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد : 4 / 107.
2 ـ الإصابة في معرفة الصحابة :3 / 362.
3ـ السيرة النبوية لابن كثير : 3 / 641
4ـ انظر غاية النهاية في طبقات القراء 1 / 197
5ـ زاد المعاد :1 / 470
6ـ طبقات الحنابلة :1 / 159
7ـ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (2 / 280
8ـ صحيح ابن حبان - (3 / 111)
9ـ طبقات الحنابلة - (1 / 261)
10ـ التاريخ الكبير :9 / 58
11ـ تاريخ دمشق : 61 / 254
12ـ تاريخ دمشق : 32 / 91).
13ـ الطبقات الكبرى لابن سعد : 2 / 345
المصدر : موقع التاريخ

فيض خاطري
20-08-2012, 02:41 AM
جزاكم الله خيرا
مجهود رائع