مشاهدة النسخة كاملة : معركة باب الشزري


abomokhtar
17-09-2012, 05:14 PM
لم يكد المسلمون يفتحون بلاد الأندلس ويستقرون بها حتى دبت الخلافات والاضطرابات التي منشؤها العصبية القبلية والعرقية، فقد دبت صراعات بين قبائل العرب اليمنية والقيسية فيما بينهم، وأيضًا بين عنصري الفتح: العرب والبربر من ناحية أخرى، وعصفت هذه الخلافات باستقرار الأندلس وهدوئه ووحدته، وظلت هذه الاضطرابات قائمة حتى بعد توحيد الأندلس على يد صقر قريش عبد الرحمن الداخل، والذي واجه ظروفًا بالغة الصعوبة بسبب العصبية القبلية المسيطرة على عقول الكثير من زعماء الأندلس، خاصة ولاة الأقاليم البعيدة الذين كانوا يجنحون نحو الاستقلال ويحكمون هذه الأقاليم فيما يشبه الإقطاعيات الخاصة والحكم الذاتي، وكان على رأس هؤلاء العصبيين رجلان من الولاة هما «سليمان بن يقظان الكلبي» وكان واليًا على برشلونة، و«الحسين بن يحيى الأنصاري» وكان واليًا على سرقسطة، حيث تحالف الرجلان على محاربة عبد الرحمن الداخل وإفشال فكرة توحيد الأندلس. لم تكن حوادث الحرب الأهلية في الأندلس لتخفى عن أكبر ملوك أوروبا «شارلمان» الذي كان يضطرم بعاطفة دينية عميقة وحمية كبيرة لخدمة النصرانية، وقد شن حروبًا ذات طابع صليبي على القبائل ال***ونية الوثنية وأجبر الكثير منها على اعتناق النصرانية، فلفتت اضطرابات الأندلس أنظار «شارلمان» وأخذ يجهز لحملة صليبية كبرى على الأندلس، وأثناء انهماكه في التجهيز للحملة إذ بزعماء الفتنة تأخذهم المطامع والأهواء العصبية لأبعد مدى يصل إليه مسلم، وانحطاط ليس دينيًا فقط بل وأخلاقي وإنساني، حيث سار «سليمان بن يقظان الكلبي» إلى لقاء «شارلمان» سنة 160هـ، وعرض عليه التحالف ضد عبد الرحمن الداخل وفي المقابل تكون الولايات الأندلسية الشمالية من نصيب شارلمان وينضوي باقي زعماء الثورة الأندلسية تحت لوائه وحمايته، فلبى شارلمان دعوة الثوار الخونة وهو يضمر في نفسه أنه سيأكل الأندلس كلها ويعيدها نصرانية مرة أخرى.
كانت خطة الهجوم تقتضي أن يهجم شارلمان من ناحيتين: الشرق والغرب، على أن يكون اللقاء بين القسمين عند مدينة «سرقسطة»، وهناك يلتقي مع زعماء الثورة الخونة، وانتظر شارلمان حتى انقضاء الشتاء وبدأ الهجوم في الربيع، وفي الطريق اقتحم بلاد البشكنس وخرَّبها واستولى عليها، والبشكنس مشهورون باعتزازهم بأنفسهم وأنهم لم يخضعوا لأحد قط من النصارى أو المسلمين، مما جعلهم شديدي الحنق على شارلمان، وسيظهر أثر ذلك فيما بعد.
ثم حدث ما لم يكن في حسبان «شارلمان» ولا «سليمان بن يقظان»؛ إذ انشق «الحسين بن يحيى الأنصاري» عن صف الثائرين بسبب حسده وغيرته من «سليمان بن يقظان» الذي اتشح بثوب الزعامة والقيادة بعد تفاوضه مع «شارلمان»، وقرر الحسين أن يخرج من الحلف وقام بتحصين مدينته «سرقسطة» وبالغ في تحصينها ليمنع الثوار وشارلمان من الدخول.
ولما وصلت الجيوش الصليبية ومعها قوات الثوار بقيادة سليمان بن يقظان إلى سرقسطة فوجئت بالتحصين الشديد للمدينة وبالاستماتة الدفاعية لأهلها، فضربوا عليها حصارًا شديدًا فلم يجد شيئًا، وفي هذه الأثناء وصلت الأخبار لشارلمان أن بعض القبائل ال***ونية ـ ألد أعدائه ـ قد انتهزوا فرصة غيابه واجتاحوا أملاكه فيما وراء «الراين»، فقرر شارلمان الرجوع لإنقاذ مملكته ولكنه أخذ «سليمان بن يقظان» أسيرًا معه ظنًا منه أنه قد خدعه.
وفي طريق عودة شارلمان إلى بلاده اجتاز ببلاد البشكنس مرة أخرى، فدخل عاصمتهم «بنبلونة» ودمرها بالكلية لمعاقبة البشكنس على تعاونهم مع المسلمين ووقوفهم ضده من قبل، وفي هذه الفترة كان عبد الرحمن الداخل قد انتهى من القضاء على فتنة البربر في جنوبي الأندلس، وقرر الاستفادة من التغييرات الحادثة على ساحة الحرب لصالح المسلمين، حيث أرسل جيشًا من قرطبة إلى سرقسطة وأمرهم بالتعاون مع «الحسين الأنصاري» ومع أولاد «سليمان بن يقظان» الأسير لدى شارلمان وهما «مطروح»، و«عيشون» وتكوين جيش إسلامي يهاجم الخطوط الخلفية لجيوش شارلمان لاسترداد الأسرى ومنهم «سليمان بن يقظان»، ثم قام عبد الرحمن الداخل بعمل عسكري عبقري إذ قام بتسليح «البشكنس» بكمية ضخمة من السهام والرماح وطلب منهم الوقوف على قمم ممرات جبال «ألبرت»، أو «البرانس الآن» خاصة عند الممر الشهير والمعروف باسم «باب الشزري»، والذي سوف يسلكه شارلمان وجنوده.
وفي يوم 5 من ذي القعدة سنة 161 هـ وأثناء عبور شارلمان لهذا الممر هجمت القوات الإسلامية على مؤخرة الصليبيين وفي نفس الوقت انهالت السهام والرماح المميتة من على قمم الجبال كالصواعق الخاطفة، فاضطرب الجيش الصليبي بشدة وانفصلت مؤخرته من هول الصدمة وقوة الهجمة، وتم تحرير الأسرى ومنهم سليمان بن يقظان، وأخذت الغنائم والأسلاب وفي مقدمتها الخزانة الملكية لشارلمان، ومزقت المؤخرة شر تمزيق و*** أميرها واسمه «رولان» وكان من أخلص وأحب أمراء شارلمان له، وكان م***ه مصيبة عظيمة على الصليبيين جميعًا خاصة شارلمان، والجدير بالذكر أن الأدب الفرنسي خلَّد ذكرى رولان بأنشودة شعرية مكونة من أربعة آلاف بيت وهي من أشهر أناشيد الفرنسيين وتغلب عليها الأساطير والخرافات، وظلت موقعة «باب الشزري» مستقى خصبًا لكثير من الكتَّاب والشعراء الفرنج لعدة قرون.
الجدير بالذكر أن المؤرخين الأجانب وبعض المؤرخين المسلمين ذكروا أن سبب خروج «شارلمان» إلى الأندلس هو تحريض الخليفة العباسي هارون الرشيد له على ذلك، للعداوة المعروفة بين الدولة العباسية والدولة الأموية بالأندلس، وهذا الادعاء عار من الصحة تمامًا وأحد الأباطيل التاريخية التي يجب ردها وتبرئة الرشيد منها، ذلك لأن الرشيد وقت المعركة «161هـ» كان ولي العهد الثاني بعد أخيه «الهادي»، وكان أبوهما «المهدي» هو الخليفة وقتها، هذا غير أن الرشيد وقتها كان في السادسة عشرة من العمر فقط.