مشاهدة النسخة كاملة : وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى"


abomokhtar
19-12-2012, 10:34 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:

فأهل الحديث نجوم سماء العلم، كواكب قبة الفهم، تيجان المدارس، بدور المجالس. لبسوا الليل، واستفاؤوا بالنهار.. كم من حكمة كتبوها، كم من دمعة سكبوها، كم من عَرَق في الطلب أذروه، كم من مداد في الدفاتر أجروه. أما ساهروا النجوم في الرواية ؟ أما كدوا الأذهان في الدراية ؟ أما أتعبوا القلوب في الرعاية ؟ أما حثٌّوا النفوس على العناية ؟. آهٍ ما أحسن (حدثنا) في المسامع، وآهٍ ما أجمل (أخبرنا) في المجامع !!.. اشتغل الناس بجمع الدرهم والدينار، وبناء الدور وحفر الآبار، وعمارة البساتين وغرس الأشجار، واشتغلوا هم بجمع الآثار، ونقل الأخبار، ومصاحبة أنفُس المختار. سهر الناس مع أصوات العيدان، ونغمات القيان، وأشعار فلان وفلان، وسهروا هم سفيان وحماد، ومجاهد وابن الهاد، ساعة مع المتن وساعة مع الإسناد.

ونحن هنا في هذا الموقع المبارك سنلقي الضوء في هذه الصفحات على سيرة أحد رجال الحديث وأنصار السنة وقائد المسيرة لحفظ الوحيين، نحن هنا في وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى" أحد الذين حفظ التاريخ جهودهم في حفظ السنة ونشرها عبر دوراته المباركة التي يقيمها في الحرمين.

وفي هذه الصفحة سنعرض الحوار وعناصر اللقاء التي طرحت على فضيلة الشيخ في حلقات كي يبقى اللقاء معه متجددا، وأسلوب الطرح متنوعاً، حتى تدوم الفائدة ويستمر التشويق. فإلى أولى محاور هذا اللقاء.

المحور الأول / معلومات شخصية.

الاسم: يحيى بن عبد العزيز بن عبد الله بن علي اليحيى

النسب: الوالد من قبيلة بني تميم، والوالدة من قبيلة عنزة

الكنية: أبو عبد الرحمن

المولد: ولدت في شهر رجب المحرم سنة 1380 من هجرة النبي r، في مدينة بريدة من أعمال محافظة القصيم.

في بلدة العلم القصيم ولادتي.. وإذا أردت دويرتي فبريدتي

أهل بيتك وأسرتك: في عصمتي أربع زوجات -ولله الحمد- ولي من الولد ثمانية عشر نفساً، اثنا عشر منهم ذكور، وستة منهم إناث. يحفظ القرآن منهم ثلاثة، ويحفظ السنة منهم واحد، وأرجو من الله -عز وجل- أن يكون جميعهم من حفظة كتاب الله وسنة رسوله.


رب أتمم مساعيا وأمانيا *** من لي سواك مُعَلِّقاً آماليا


الشهادات العلمية: في مجال الدراسة الأكاديمية حصلت على شهادة البكالوريوس في الفيزياء والتربية من جامعة الرياض (قديماً، والملك سعود حديثاً) عام 1403هـ كمواصلة للشهادة العلمية التي حصلت عليها في الثانوية، ثم غيَّرت مجرى الدراسة إلى العلم الشرعي والتحقت بجامعة الإمام محمد بن سعود، وحصلت على البكالوريوس مرة أخرى في أصول الدين عام 1407هـ. ثم رأيت أن أكتفي بهذا القدر من علم الجامعات لأشتغل بما تبقى من العمر في علم المساجد سائلا المولى -جل وعلا- حسن الختام .

المحور الثاني: النشأة وطلب العلم:

بداية، قُصَّ علينا رحلتك وأيامك التي قضيتها في الدراسة.

هي وإن كانت أياماً لم تحفل بكثير من الإنجازات، لكنها كانت مليئة بالمغامرات، وسأبدأ الحديث من المرحلة الابتدائية.. بدأت دراستي الابتدائية في قرية (أوثال) بحكم أن والدي كان مديرها، وهذه كانت المحطة الأولى، ثم تنقلت بعد ذلك في أربع مدارس حين انتقلت إلى بريدة حتى استقر بي المقام في مدرسة (رواق)، ومنها تخرجت وحصلت على الشهادة الابتدائية وترتيبي فيها (الأول أو الثاني). ثم درست المرحلة المتوسطة في متوسطة (صلاح الدين الأيوبي) حتى تخرجت منها وأنا الأول على فصلي، وبعدها درست الثانوية في ثانوية (بريدة العامة) الوحيدة آنذاك والتحقت بالقسم العلمي فيها ثم تخرجت منها وكنت من العشرة الأوائل .

ولموقفٍ مَّا حدث معي في الثانوية كان في داخلي دافع قوي لأن أكمل دراستي العلمية في قسم الفيزياء، فالتحقت بجامعة الرياض بقسم الفيزياء حتى تخرجت منها بتفوق، وأراد الله بي الخير وهداني إلى الاشتغال بما ينفعني وينفع أمتي - وقد كنت بدأت قبل ذلك بالاشتغال بحفظ القرآن والالتحاق بدروس العلم -، فلما قضيت من جامعة الرياض التحقت بجامعة الإمام محمد بن سعود في قسم أصول الدين حتى تخرجت منها حاملاً شهادتين جامعيتين: علمية وشرعية .

بعدها انكببت على علم الشريعة والتحقت بالحلقات في المساجد وحضرت الدروس وتنقلت بين الأشياخ حتى فتح الله علي في العلم والحفظ وبارك لي في العمر ببركة اشتغالي بعلم القرآن والسنة .

- إذن لم تكن منشغلا بطلب العلم الشرعي من أول عمرك، كيف كانت قصة التحول؟

نعم، قضيت زهرة شبابي في الدراسة العلمية في الثانوية والمرحلة الجامعية وما ندمت على شيء ندمي على
ذهاب وقتي في هذه الدراسة، ولا أكتمك سراً إن قلت إنها دراسة ما أريد بها وجه الله ؛ فقد كان وراء اختياري لقسم الفيزياء في الجامعة شيء من التحدي وإثبات الجدارة لأستاذ كثيراً ما عَلَّق عينا وعيَّر فهمنا .

ذات مرة قال لنا: أنتم "بدوان" ولستم على مستوى الأقسام العلمية، فتولَّدت عندي نزعةُ انتقام ورد كرامة وعزمت على أن أدرس هذه المادة وأنجح فيها ثم ألتحق في هذا القسم في الجامعة على بُغض مني وكراهة لأخيب ظن هذا الأستاذ فينا وكان لي ذلك وأبدعت في هذا القسم حتى صارت عندي أسس المعلومات الفيزيائية أسهل من السهل. ولكن قدر الله أن أحب العلم الشرعي في أول مرحلة من مراحل الجامعة، فكنت أقضي أغلب الأوقات في طلبه في المكتبة ومع المشايخ وغلب عليَّ حُبُّه حتى كدت أن أترك الفيزياء ولكن.. لم يُقدَّر لي ذلك، فأكملت الدراسة حتى حصلت على الشهادة ثم عُيِّنت مدرساً للمادة.

حتى جاء ذلك الموقف الذي هزَّني هزاً وكان وراء التحاقي بالدراسة الشرعية.. حين كنت ذات مرة في غرفة المدرسين جالساً إذ أقبل الطلاب يبحثون عن مدرس التربية الإسلامية ليسألوا عن مسألة شرعية فلم يجدوه، فتعرضت لهم لعلهم يسألون فلم يفعلوا -مع أن مدرس المواد الإسلامية كان رجلاً بسيطاً في علمه لكن كونه صاحب شهادة أعطاه هذه المكانة- فعلمت حينئذ أن الشهادة لها دور كبير في التأثير في الوسط الاجتماعي، عندها.

وفي نفس اليوم استأذنت من المدير وانطلقت إلى البيت فأخذت شهاداتي وما هو مطلوب مني وقررت أن أنتسب في كلية أصول الدين، وقابلت العميد الرومي، فما كان منه إلا أن قَبِل الانتساب مباشرة بالرغم من أن فترة القبول قد انتهت، ثم ما هي إلا أربع سنوات حتى أنهيت البكالوريوس في أصول الدين لأطلب بعد ذلك التحول من تدريس الفيزياء إلى تدريس العلوم الشرعية، ومن قبل ذلك ومن بعده وإلى يومي هذا وأنا أُدرِّس كلام ربنا وسنة نبيه . والحمد لله رب العالمين.

- قبل أن ندخل في تفاصيل حياتك العلمية كيف تصف سنواتك الأولى التي قضيتها من عمرك؟

حقيقة مرحلة الابتدائية كانت مرحلة طفولة، كانت مرحلة لهو ولعب ومغامرات. في الحقيقة لم أكن طفلاً عادياً، كنت في قمة الحيوية والحركة والتهور، وسأقص عليك بعض القصص: في فصل الربيع كان الأهل يسكنون البر أربعة أشهر تقريباً، فكنت أرعى الغنم وأحمل الكلأ والعشب الذي تجزه أمي، وكنت مولعاً بصعود الجبال فلا أدع جبلاً إلا وأصعده وأجلس أُنشد على ذروته ما تَلَقَّنْته في المدرسة، وآكل الحميض والبسباس والزعاليق والبقير والعراجين والفقع، فإذا رجعت تناولت الحليب بشراهة وكنت أشربه من الغنم مباشرة.

وأما في الصيف فكنت كثيراً ما أذهب مع أمي إلى قرية القصيعة وكانت كثيرة النخل، فجعلت لا أدع نخلة إلا رقَيت عليها وأكلت منها، فإذا اشتد الحر نزلت في القليب عبر الدلو وسبحت فيها وكانت عميقة جداً. المهم كانت حياتي مليئة بالمخاطر ولكن الله سلَّم .
في المتوسطة والثانوية عُرفت بالمشاكسة والشغب، كنت لا أدع إنساناً إلا وأحببت أن يكون لي معه موقف سلبي بمشاجرة أو بمضاربة، كانت مرحلة تصبغها الإثارة والحركة لكنها كانت في غير فائدة. إلا أنه في المرحلة الثانوية في الصف الثالث انضممت إلى جمعية التوعية الإسلامية وكانت بداية الخير، ثم في دراستي في جامعة الرياض بدأ الالتزام الجاد والالتحاق بدروس العلم، وفيها أيضاً صرت مؤذناً لجامع السكن الجامعي محتسباً ثم أصبحت إماماً ومع نهاية الدراسة الجامعية أتممت حفظ القرآن الكريم .

باختصار. حياتي كانت كلها دروس وعبر، حتى لعبي ومشاكسي استفدت منها دروساً، لقد رأيت في حياتي الحلو والحامض والمفرح والمحزن والمضحك والمبكي، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.


- فضيلة الشيخ: مسيرتك في طلب العلم الشرعي كيف كانت ؟ وهل عايشت تحولات منهجية أو نوعية من فن إلى فن في فترة الطلب ؟ نريد أن نلقي الضوء على المنهج الذي سرت عليه في طلبك للعلم.

لا شك أن الطالب في باكورة طلبه لا بد أن يمر بمدرسة التجربة ويخوض غمار الواقع، وهو حيث يضع نفسه فإن كان عالي الهمة فإنه لاشك لا يرضى بدون شواهق الكمالات.


ومن تكن العلياء همة نفسه *** فكل الذي يلقاه فيها محبب
ومن طلب العلياء وابتغاها *** أدار لها رحى الحرب العوان


فهو حينئذ سيذهب يطلب عالي الإسناد، وقوة المنهج، ولو تَبدَّى له صعوبة الطريق، ووعورة السير، وغرابة المسلك، ومخالفة الأقران، وربما مخالفة المنهجية السائدة في مجتمعه الصغير. وأما من كان ضعيف الشخصية ساذج البصيرة محبوس الفكر فإنه لن يطمح إلا إلى ما دون مدِّ بصره، وهذا مثله ليس أهلاً لطلب العلا.


دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي


كانت بدايتي مع هذه المتون التي نسجها الناس، فحفظت اثنا عشر متناً في مختلف الفنون من لغة وفقه وعقيدة وفرائض. ولكن مع الأسف. لم أجد ضالتي التي أنشدها وبغيتي التي أطلبها، كانت المتون لها بريق يطيح بمن لم يغُص في حقيقة الأمر، ولها زخرفة تستهوي بسيط التفكير، وما هي بالنسبة لمتون الوحيين إلا كنسبة المن والسلوى إلى القثاء والثوم والبصل والعدس.

فكانت آمالي وتطلعاتي أكبر من ذلك، فَهُديت بحمد الله إلى حفظ المتون النبوية التي نسجها سيد الناس وأفصحهم وأبلغهم. أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وطفقت أُقَلِّب ناظريَّ وأجيل فكري في صفحات كتب السنة ومسانيدها المعتمدة. في صحيحي الشيخين ومسند أحمد وسنن الأربعة وغيرهم، وقلت في نفسي: أولئك أساتذتي وقدوتي وعلمائي. فعشتُ في رحاب الوحيين وصبغت نفسي بصبغتهما، والحمد لله الذي بهداه اهتدينا.

وبلا شك انضم إلى هذا دروس أحضرها في أكثر من فن، كان من أبرزها دروس في شرح السنة والتفسير والمصطلح والفقه والعقيدة والفرائض واللغة أخذتها عن أهلها الأثبات الثقات على ما هي الجادة المطروقة في طلب العلم أعني تلقي العلم عن الأشياخ وثني الركب في مجالسهم وحلقاتهم حتى لا يدخل المرء في قولهم :"من طلب العلم وحده خرج منه وحده" .

في نقاط واضحة. ما هي معالم منهجك في طلب العلم التي سرت عليها وتربي عليها طلابك؟

معالم المنهج الذي سلكته على قسمين:

(1)- معلم الحفظ والاستظهار

(2)- معلم الفقه والقراءة

الأول: معلم الحفظ والاستظهار: وهو في مجمله يعني الاشتغال بحفظ المتن عن ظهر قلب إلا أن الحفظ يهتم بضبط المادة المحفوظة بلفظها ،أما الاستظهار فإنه يهتم بحفظ المعنى والمحتوى .

والمتون المختارة لهذا المعلم هي مرتبة على النحو التالي:

1- الجمع بين الصحيحين (حفظ)

2- زيادات السنن الأربعة والدارمي والموطأ (حفظ)

3- زيادات المسانيد الثلاثة عشر (حفظ واستظهار)

4- زيادات الصحاح: ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (حفظ)

5- زيادات المعاجم الثلاثة (حفظ واستظهار)

6- زيادات مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة وسنن البيهقي (استظهار)

7- زيادات سنن سعيد بن منصور وسنن الدارقطني (حفظ واستظهار)

8- زيادات الأدب المفرد للبخاري والزهد لابن المبارك ووكيع وأحمد (حفظ واستظهار).

وهذه المتون هي مجموعة في سلسلة الموسوعة الحديثية التي نوزع أجزاءها على الطلاب في الدورات. ولا يخفى أن الطريقة المتبعة في حفظ هذه الكتب هي طريقة الزيادات وهي الطريقة التي نسير عليها في حفظ السنة في الدورات عبر مؤلف الجمع بين الصحيحين وزيادات كتب السنة عليه.

أما معلم الفقه والقراءة فهو يتضمن قراءة محصل التفاسير عند السلف الصالح، وقراءة شروح الأحاديث التي حفظها الطالب في المعلم السابق من كتب الشروح المشتهرة، وقراءة زيادات بقية كتب العلم المسندة في العقيدة والفقه والسيرة على الكتب السابقة.
ثمة هناك جزء يتعلق بتحصيل علوم الآلة وقد جمعت فيها مذكرات مختصرة تلخص أصول الأبواب وتعطي الطالب مجمل كلام أهل العلم في المسألة، وتعلم هذه العلوم في مرتبة بين الحفظ والقراءة. وهذه الكتب هي:

1- القواعد والتقاسيم العقدية والسلوكية .

2- القواعد والتقاسيم الحديثية .

3- القواعد والتقاسيم الأصولية والفقهية .

4-القواعد والتقاسيم اللغوية والنحوية .

هذه هي المنهجية العلمية التي اتبعتها في خاصة نفسي، والتي أتبنى عليها الحفاظ، وقد رسمت لذلك خطة عملية لتحصيل هذه المعالم عبر مراحل ثلاث أسأل الله أن ييسر قيامها في أرض الواقع. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

- بعد أن استقر بك الطلب على المنهج الذي ارتضيته والعلم الذي أحببته. ما هي الأسباب التي دفعتك إلى هذا القرار؟ وما هي تصوراتك عن أفضلية هذا المنهج؟

أعظم الأسباب التي جعلتني أختار هذا الطريق هو أنني استقرأت المناهج السائدة في مجتمعي العلمي وسبرتها عن تجربة ونظر، فلم أجد عن مثل الاشتغال بحفظ السنة والتفقه على نصوص الوحيين بديلاً ؛ إذ وجدت أن الذي غلب على منهج الطلب تقليد مُبَطَّن للمتأخرين، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. كنت أرى أنه من العار أن يخرج إلينا طالب علم وسع عقله أصناف المتون والفنون. ولم يسع من أحاديث النبي إلا هنهنات وتمتمات، وما على القارئ المنصف والطالب المتجرد إلا أن يتأمل ذلك تأمل طالب الحق مريد الكمال.

من هنا وهناك تبلورت في مخيلتي أفضلية هذا المنهج على غيره، وانتظم عِقدها فيما يلي :

1- أنه ليس شيء يُتعلم أحب إلى الله وإلى رسوله من علم يكون فيه قال الله قال رسوله قال الصحابة قال التابعون. "علم الكتاب والسنة والأثر". وهذا يقين.

2- طلب علو الإسناد، وأعني به: أخذ العلم من أصوله ومن معينه الأول


أيها المغتذي ليطلب علماً *** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تنال أصلاً *** كيف ضيعت علم أصل الأصول


فَرقٌ بين من يعتمد المتن ثم يشرحه ويستدل له بالنص، وبين من يعتمد أولاً النص ثم يستعين على فهمه وشرحه بالمتن. إنها الأصالة العلمية حين تتأسس علوم الشريعة كلها مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة مباشرة لا حين يكون الأصل والمحفوظ هو كلام فلان ثم إن عَلِم بالدليل فحسن وإلا فلا بأس.

3- أن اشتغال طالب العلم بحفظ الوحيين ومطالعته للأحاديث والتأمل فيها يطلعه على أسرار الشريعة ويصبغه بصبغة سُنِّيَّة إيمانية، ويوقفه على محاسن التشريع وكمال الدين.

4- أن في هذا المنهج تطبيق لمعنى دستورية القرآن وكونه ملاذ الأمة ومنجاها وأنه السبيل إلى رفعتها وسؤددها على الأمم، حين يشيع بين طلاب العلم همُّ حفظ القرآن وحفظ السنة ثم الاشتغال بفهمها والعمل بها وتطبيقها.

- من هم مشايخك الذين تلقيت عنهم؟ وما هي الدروس التي درستها عليهم؟

تلقيت العلم الشرعي عن جمع من المشايخ وأهل العلم سواء في الدراسة الأكاديمية في جامعة الإمام أو في المساجد والجوامع والدروس الخاصة ، إلا أن من أكثر وأبرز من تتلمذت على يديه -وفي طليعتهم-: الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله أخذت عنه المصطلح والفرائض والحديث والفقه، ومنهم الشيخ العلامة محمد بن صالح بن العثيمين رحمه الله في الفقه والعقيدة والتفسير والنحو، وكذا الشيخ صالح الخريصي رحمه الله في الفقه، والشيخ الحافظ عبد الله بن محمد الدويش رحمه الله شيخي في الحديث والمصطلح، والشيخ العلامة حمود بن عبد الله العقلا أخذت عنه اللغة والعقيدة، والشيخ محمد بن صالح المنصور في الفرائض والنحو والحديث، والشيخان عبد الكريم اسكندر وعبد الكريم الهنداوي شيخاي في اللغة والنحو والصرف، والشيخ محمد صديق ال***** في أصول الفقه والقواعد الفقهية.

- في مجالس التعلم ومن خلال ملازمتك للمشايخ. هل من موقف لك مع مشايخك كان لها تأثير عليك..؟

إي والله، إني لازلت أذكر كلمات قالوها لي ما كنت لأنساها، وتحتفظ ذاكرتي بلحظات جميلة جليلة تنبئ عن عظمة هذا الشيخ الذي علَّمني، وأكثر من كان له تأثير عليَّ هو سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز. ومما أذكره: أني كنت ذات مرة في مجلس الدرس فأخذتني نومة فما أيقظني إلا بكاؤه. وقال لي مرة -وقد أجرى لأبنائي اختباراً لهم في الحديث-: أوصيك بأبنائك، فإنه سيكون لهم شأن. وكثيراً ما كان يسألني عن كتابي (الجمع بين الكتب الستة) ويقول: متى سيخرج كتابك لأطَّلع عليه.. عجِّل في إخراجه -إشارة إلى وضع مقدمة له والإشادة به-.

كانت لي حظوة عند الشيخ ؛ فمرة قلت له كلمة أثارته وأغضبته، فقام من عندي و ولاني ظهره، فتبعته لأعتذر له -وكان ذلك بعد صلاة الفجر في بيته- فلم أدركه لكنه قال لي: الغداء عندي، فلما جئت الظهر وجدت عنده وزير الشؤون الإسلامية بماليزيا، فلما دخلت عنده أقامني وأجلسني عن يمينه وجلس يسألني عن التأليف والطلاب .

تعلمت من الشيخ ابن باز الكثير والكثير، وعلى رأس ما أخذت عنه مبدأ السماحة والبراءة. براءة الشيخ مع طلابه الخالية عن الحواجز وكأنهم أصدقاء له .

ممن استفدت منهم: الشيخ محمد بن صالح العثيمين. كم وكم استفدت من هذا الرجل لاسيما في حب التعليم وكيفية التعامل مع الطلاب، وأيضاً في علمه وفقهه في معالجة النصوص المشكلة والجمع بين المسائل المتشابهة، فرحمه الله كم له علي من الفضل. رأبته في المنام كثيراً.

منها: أني رأيته وقد تقدم ليؤم المصلين، فقام ليعدل الصفوف فالتفت عن يمينه وقال (استووا اعتدلوا) ثم التفت عن يساره وقال مثله، فوقع نظره عليَّ فما كان منه حين رآني إلا أن تأخر في الصف وقدَّمني للإمامة. كان مُعجباً بفكرة كتابي (الجمع بين الصحيحين) ويقول: هذا الكتاب سأطبع على نفقتي الخاصة. أحببتُ الشيخ ابن عثيمين وأحبني حتى كان يقول: يا يحيى لا تغب عن الدرس، فإني إذا جلست في الدرس فلم أرك ضاق صدري، وإذا رأيتك استأنست واتسع صدري، وقلما رآني الشيخ إلا تبسم في وجهي.

مما استفدته من الشيخ: مبدأ الصرامة في التعامل والذكاء في التفقه والحفظ.

"هذان الشيخان كانت لهما الحظوة في نفسي والذكرى في حياتي التي لا أنساها".

ومن مشايخي الذين تأثرت بهم: الشيخ صالح الخريصي، وأخذت عنه مبدأ الخلوة بالنفس والتَّنَسُّك. والشيخ عبد الله الدويش وأخذت منه خلق الصبر والجَلَد على الحفظ.

ولكل من مشايخي وقفات وعبر يطول المقام بسردها. أسأل الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، ويرفع درجاتهم في عليين، ويجمعنا بهم في جنات النعيم، وأن لا يحرمنا بركة علومهم، ويجعلنا خير خلف لهم. الكل :-


مجالسهم مثل الرياض أنيقة *** لقد طاب منها الريح وانتشر العطر


- من كانوا أقرانك في الطلب؟

ممن زاملتهم في فترة الطلب: الشيخ / عبد العزيز الراجحي، والشيخ / عبد المحسن الزامل، وخِلَّي وصديقي الشيخ / خليل المديفر -وهو من حفاظ الوحيين المتقنين-، وهؤلاء اجتمعنا بهم في حلقات الشيخ ابن باز، وأما الذين زاملتهم في دروس الشيخ ابن عثيمين فأذكر منهم: الشيخ / سلمان بن فهد العودة والشيخ / إبراهيم بن محمد الدبيان .

- لا بد وأن تحتفظ ذاكرة كل إنسان بمواقف مرَّ بها أولحظات عاشها كان لها تأثيراً عليه إيجابياً أو سلبياً. ماذا كان نصيب الشيخ يحيى من ذلك؟

في الحقيقة أعظم ما مرَّ عليَّ في حياتي وخاصة زمن الطلب مَوجة التعويق والتحطيم والتثبيط التي واجهتني حين سلكت مسلك حفظ كتب السنة، كان منشؤ كثير من ذلك البغي والحسد. لقد عشت أول زمن الطلب في مواجهة صعوبات حسية أو معنوية تنوء منها الجبال فكنت أقول لنفسي:

فذرهُمُ عَنكَ واعلَم أنهم هَمَجٌ *** قَد بدَّلوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الحُمُقا

ووالله إني وجدت في المقابل حَلاوة النص وطَعم الحديث، فعشت في رحاب الوحي، فإذا ما نطقت كان حديثي وإذا ما سكت كان الغليلا. وذقت في سهري لذة حفظ السنة فكان كما قال القائل:


سهري لتنقيح الحديث ألذ لي *** من وصل غانية وطيب عناق


حتى حفظت بحمد الله أكثر من عشرة آلاف حديث عن ظهر قلب ألقيتُها في الدروس على كرسي الحرم المدني وذاكرت بها الطلاب.
كانت تلك المعوقات جنوداً شيطانية، وإن بدت بادئ الأمر قوية. لكنها لم تلبث أن تحطمت وتلاشت وضعفَت أمام الصمود والإباء.


وهم يُطفِؤون المَجْد والله واقدُ *** وهم يُنقصون الفضل والله واهِبُ


وعندي يقين أن النفس الكبيرة لابد أن تتعب وتذوق المر وتَطعم العلقم، وقد قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُستطاع العلم براحة الجسم"


ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله *** ومن يخطب الحسناء يصبر على الذل


شيخنا الفاضل: حقيقة، حياتك العلمية مدرسة عظيمة تجلَّت فيها مبادئ جليلة هي قوام رحلة الطلب، ما بين صبر على الحفظ، ودفع للعوائق، ومجابهةٍ للمثبطين، إضافةً إلى المنهجية السديدة والأصالة العلمية التي اخترتها في نظام تعلمك.

قبل أن ننهي هذا المحور معك نريد أن تختم بإعطائنا برنامجك اليومي الذي كنت تقضيه أيام الطلب لعل في ذلك تذكرة ونفعاً لمن خلفك من الحفاظ وطلاب العلم.

الحياة مراحل، فمنها مرحلة الصبا ، والشباب، والكهولة، وما بعد الكهولة. ولكل مرحلة قدراتها وعقليتها وقناعاتها وطاقاتها. والذي أرى أنه كان الزمن الفاعل في حياتي هو مرحلة الشباب فهي المرحلة الذهبية للطلب وفيها استقرت رؤية الإنسان لهدفه واتضحت وصار سيره إليها مشتداً.

كان البرنامج اليومي يقسم على الصلوات -وهذه أفضل طريقة لترتيب الجدول اليومي، وفيها بركة-:

- فبعد الفجر خصصته للقرآن والاشتغال به بمراجعة المحفوظ والنظر في تفسيره.

- يعقب ذلك استراحة حتى الظهر.

- وبعد الظهر وقت القراءة على المشايخ والالتقاء بهم. ثم استراحة إلى العصر.

-أما العصر فهو وقت الاشتغال بالسنة ما بين حفظ ومراجعة ونظر في شروحها. وما بين العشاءين جعلته لمراجعة القرآن الكريم.

- وبعد العشاء وقت النشاط الحر فأشتغل فيه بالمراجعات والقراءة المتفرقة في بطون الكتب.

وأما الآن أعني في مر حلة الكهولة وما بعدها فهو وقت العطاء والبذل من تعليم وتأليف، واستعداد للرحيل إلى الدار الآخرة. ولم أترك قط أمر المراجعة للمحفوظات وتعاهدها بالدرس والمذاكرة والقراءة فهي زادي وعدتي في حياتي.

أسأل الله أن يتم علي فضله وإنعامه ويسبل علي سِتره ولطفه.


أبو عدي القحطاني

abomokhtar
19-12-2012, 10:36 AM
كيف كانت بداية قصة تحفيظ الصحيحين وبقية كتب السنة؟

في مرحلة من مراحل حياتي استوقفتني الحالة السائدة في تحصيل علوم الشريعة، فوجدت الأعم الأغلب مستغرقاً في تنظير قواعد وتفريع مسائل وشرح لمتون واختصار لكتب، وكانت غاية ما يقدم لطلاب العلم المتميزين وغيرهم متون علمية.. ومنظومات رجزية.. ومقطوعات صوتية. قد خلت من نَفَسِ المعصوم صلى الله عليه وسلم حتى حِفْظ الحديث هو في متون مؤلفة لأحاديث الأحكام فحسب، هذا إن لم تكن مجموعة أحاديث معدودة لا تتجاوز المائة والمئتين!

وهذا بلا شك طيب وجميل. لكن هناك ما هو أطيب منه وأجمل. .! وتساءلت هل هذا هو دأب السلف في القرون المفضلة الأولى؟ وإذالم يكن الأمر كذلك فكيف السبيل؟

وما هو الطريق إلى انتهاج طريقة السلف؟ وهل هو ممكن في ظل الظروف الحالية؟ ثم قلت : لماذا غاب حفظ أصول السنة كالصحيحين والسنن والمسانيد؟ لماذا غاب عن الساحة جامع البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وموطأ مالك؟ هل كانوا ألَّفُوها لأنفسهم؟ أو أنه لا يحفظها إلا أهل عصرهم؟ أو أن ذاكرة أهل زماننا غير ذاكرتهم؟ بالطبع كلا. .

ومن هنا كانت البداية، فبدأت مع نفسي فحملتها على حفظ السنة من مصادرها الأصلية، وعكفت على ذلك حتى استقر في ذاكرتي محصَّل مُعتمد كتب السنة ولله الحمد ثم بعدها أردت أن أقرر هذه الطريقة وأن أطرح هذا المنهج على الساحة وكانت البداية في بريدة مقر إقامتي..

في بريدة بذرتُ أول بذرة.. وخَرَّجتُ أطيب ثمرة

- إذن الدورة كان لها نشاط قبل نشاطها في مكة !!

نعم كانت تلك النواة الأولى لدورات الحرمين، بل إن شئت قلت هي الانطلاقة الكبرى لمشروع تحفيظ السنة وما بعدها هو من نتاجها وعيال عليها.

- أين ومتى كانت البداية؟

حين فرغت من حفظ الجمع بين الصحيحين على يد شيخي "عبد الله الدويش" و "عبد الكريم اسكندر" ولدت فكرة تحفيظ السنة وبدأت المسيرة، وكانت الانطلاقة من مسجد "السنيدي" بحي "السلام" ببريدة وقد كنت إمام المسجد وقتها. وكان ذلك في عام 1408هـ

- من كانوا ركائز هذه الحلقة الحديثية من الحفاظ؟ وكيف تم انتقاؤهم؟

قمت باستقراء وحصر نسبي لحفاظ القرآن الكريم من الشباب ممن هم في المرحلة الثانوية ممن يتحلون بسمت صالح وحب للعلم، فاجتمع لي بادئ الأمر ستة منهم: "فهد بن عبد الرحمن اليحيى، وتركي بن فهد الغميز، وأحمد، وصالح، وعبد الله، وعبد الرحمن". فرتبت معهم ليكون الاجتماع بهم ولأقوم بتوضيح الفكرة، وتجلية الخطة، ووضع الآلية. وفعلاً حصل الاجتماع وتحدثتُ فيه عن أهمية الحفظ وكيفيته، والسُّبُل المُفْضِية إليه والمعوِّقات التي قد تحول بين حافظ القرآن ومواصلة الطلب، وأشعلتُ فيهم الحماس ورفعتُ منهم الهمة، فحازت كلمتي ارتياح الجميع، وحددنا موعد البدء لتكون الحلقة الحديثية في مسجد حي "السلام"، وقد كان. فحضر الجميع ولم يتأخر واحد منهم والحمد لله.

- ماذا عن المادة المحفوظة؟ وبرنامج الحفظ؟

كان الكتاب المقرر في الحلقة ابتداءً هو: "مختصر صحيح مسلم للمنذري"، نظراً لسهولته وخلو المكتبة من كتاب مبسط للحفاظ. وكان مقدار الحفظ: صفحة في كل يوم، يسمع الطلاب في أي وقت بعد الصلوات، وأنا أتولى التسميع. لكن كانت تواجهنا مشكلة في المختصر وهي أنه يحتاج إلى كثير من الاستدراكات، إضافةً إلى اختلاط المتفق عليه بالتي انفرد بها مسلم.

حاولتُ جاهداً أن أبقي على المختصر وأضيف عليه بعض التعديلات، وقد فعلت ولكن كانت المشكلة باقية بشكل لا تستوعبه هذه الإضافات. مما اضطرني في نهاية المطاف أن أقوم بتأليف "الجمع بين الصحيحين" بعد الاستقراء التام للمتابعات والشواهد ثم أبني عليه ما زاده أهل السنن والمسانيد والصحاح والمعاجم والمصنفات لأستبدل بعد ذلك مختصر مسلم بالجمع بين الصحيحين الذي صنفتُه لأقدم للحفاظ مادة خالية من التكرار والمصاعب ونحو ذلك.

- حدثنا عن انطلاقة الحلقة وأيامها ومجريات الحفظ فيها؟

انطلقت الحلقة بحمد الله بكل جد وصدق واستمرت في تحقيق رسالتها ولم تنقطع أبداً حتى مع تخلف المتخلفين وتثبيط المخذلين بقيت جَذوتها مضيئة لم تنطفئ، فلقد بدأت الدورة بستة حفاظ، ثم ما لبثوا يزيدون مع مرور الأيام حتى صاروا يربون على الثلاثين حافظاً. استمرت الدورة في "بريدة القصيم" أكثر من أربع سنوات رأيت فيها أحسن الطلاب وعشت أيامها مع من أقول إنهم نخبة من كان في بريدة وقتئذ..

قوم تراهم غيارى دون مجدهم *** حتى كأن المعالي عندهم حُرَم


ولا أدل على ذلك من المكانة التي وصل إليها أولئك القوم بفضل الله عليهم.

وأيضاً.. كانت تعرض على الحفاظ المثبطات والمهونات، وتتجاذبهم المشاغل، وينتابهم الملل بين الفينة والأخرى. ربما كان ذلك عائداً إلى عدة عوامل. منها:

1- غرابة المنهج

2- صعوبته النسبية

3- وجود معوقين وقطاع طرق يقولون لهم : ما سمعنا بهذا في علمائنا الأولين والمعاصرين.


سِعَاية رجال لا طَبَاخ بهم *** قالوا بما جهلوا فينا وما علموا


صَبَر من صَبَر في تلك المحنة.. ونكص من نكص.. وتباطأ من تباطأ.. وكانت العُقبى للصابرين، نعم فلقد أكرم الله الدورة بجمع كريم أصيل من خيرة الشباب لحقوا بالركب وانضموا للفئة الصابرة حتى كانوا وِحدة واحدة على قلب رجل واحد، كتب الله على أيديهم فيما بعد قيام الدورة بين العالمين


واستعذبوا الأحزان حتى إنهم *** يتحاسدون مَضَاضة الأحزان


كانت الأيام الأولى للحلقة أيامَ اختبار وتمحيص.. لي أولاً هل أثبت على التحفيظ حتى لو تخلى عني الأحباب؟ أم لا؟ وهي اختبار أيضاً للفئة التي بدأَت معي هل تصدُق في الطلب وتصبر على مر الحفظ والتحفظ وغرابة الطريق؟ أم تنكص على الأعقاب وترجع القهقرى؟

مرت أولى الأيام بجدية وحماس ونجاح في الحفظ، ولم يَدُر في خَلَد أحد أن يخضع الجميع لاختبار صعب يَبتَليهم وهذا ما حدث.. عندما انتصف الطلاب في كتاب الإيمان بدأ ينتابهم العجز والكسل ويدب فيهم الملل، وكنت أرقب الحلقة وأنا خائف مترقب للفشل في كل لحظة حتى إنني إذا جلست في مجلس التسميع كنت ألحظ بعيوني وألتفت كثيراً إلى باب المسجد أنتظرهم بكل لهفة وشوق وترقب لحضورهم.

وذات ليلة طلبت منهم الحضور للمسجد لأبُثَّ لهم ما يُكِنُّه صدري في تخوف وأمل، فلما اجتمعوا ذكرت لهم توقعاتي المستقبلية ومما قلت لهم: يا أحبابي، كم أنتم اليوم؟ فقالوا: تسعة. فقلت: أنا متأكد كما أنكم أمامي أنه لن يبقى منكم إلا خمسة أو أقل.

فكان كل منهم يقول: لعلي أكون أنا الذي أبقى، واستبعدوا أن يتوقف واحد منهم مع هذا الحماس المتوقد حتى إن بعضهم أقسم أنه لن يتوقف مهما كانت الظروف وكننت أقول : ستبدي لكم الأيام ما تخبؤه لكم وأنتم والميدان.!

ومرت الأيام بعد هذا اللقاء، وفي اليوم السادس منه يكون أول انفراط العقد وتثلم الحلقة ثلمتها الأولى.. حين تخلف "صالح" وذلك قبل أن يكمل كتاب الإيمان، وصار تخلُّفه يتكرر ويستمر حتى علمت أنه انقطع.

ومرة وافقته فسألته عن ذلك فبرر الانقطاع بأن عنده مشاريع وأعمالاً وقد كان صادقاً. وبعده بدأ الشك والوهن يتسرب إلى نفوس الباقين وبدأ التسيب، فتبعه "أحمد"، وقد كان فرغ من كتاب الإيمان وقد كنت أُجلُّه ولا زلت، ومن بعده "عبد العزيز"، ثم أصدم الصدمة الكبرى بتخلف "فهد" الذي كنت أعلق عليه الآمال حتى إني لأذكر الحديث الذي توقف عنده وهو حديث أبي هريرة: "ألا أدلكم على مايمحو الله به الخطايا"، فلم يزل يتساقطون حتى ما بقيت إلا مع اثنين: "تركي الغميز" و"عبد الرحمن"، فانتهوا من كتاب الطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام، ولما انتصفوا في كتاب الحج وبالتحديد عند حديث وبرة: "سألت ابن عمر عن الطواف "صار بيني وبين "عبد الرحمن" موقف فزجرته وأنبته وأظنني أسمعته كلمة جارحة فقام قائلاً: أعتذر عن المواصلة، فقلت: أنت وما شئت وقد وليتك ما توليت، وفعلاً ينقطع، وأبقى مع ريحانة القلب "تركي الغميز".. (من جَدوَاه تَنشر ما لم يُنشر) وحيداً فريداً.


وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرهم *** وعانق المجد من وافى ومن صبر


وهنا كانت محنتي إذ بقيت وحدي في الحلقة مع واحد فقط من التسعة، لكنني مع هذا لم أقطع الأمل من عودتهم "فهد"و"عبد الله"و"عبد العزيز" حيث كنت على أمل بعودتهم. .

وفعلاً؛ أراد الله بهم الخير، وكان أولهم رجوعاً: (فَطِن البديهة) "فهد اليحيى" حين اهتبلت فرصة وجوده في إحدى مناسبات العائلة فأخذته وحدَّثته وبَثثتُ له حبي وارتياحي لوجوده في الحلقة وطموحاتي فيه، فما كان منه إلا أن وعدني الوعد المؤكد على أن يعود ويكمل المسيرة.

ويرجع "فهد"، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن انتصف "تركي" في الطريق، وتأخذ "فهد" الحماسة والجد فكان لا يغيب يوماً واحداً، وفرحت بهذين الطالبين أيما فرح، وما هي إلا أيام ويعود العقد إلى نظامه وترتص اللآلئ بجوار أخواتها، ويعود (مفتاح باب الندى) "صالح الصقعبي" ومن بعده (ساحر اللفظ) "عبد العزيز الراجحي"


وفي الجواهر أشباه مشاكلة *** وليس تمتزج الأنوار والظلم


وهنا تدخل الحلقة في طور جديد حين ينضم إليها كوكبة من النجباء وخيار الشباب يبدؤهم (من زرعت له في الصدر مني مودة) "يوسف الغفيص"، ومن بعده (حلو الشمائل) "إبراهيم الحميضي". وكان يوسف هذا فاتحة الخير إذ بدخوله اشتعل الحماس بين الحفاظ، وأُوقدت فتيلة التنافس، وإذ بالدورة تبلغ أصداءها أنحاء "بريدة" فطفق كل من حفظ القرآن يعرض عليَّ التسجيل فمنهم من يَصدُق وأقبله، ومنهم من يعتذر فأعذره.

ثم أنتقل إلى جامع "الجردان" إماماً وينضم إلى الحلقة مثاليون كان منهم : (من اشتق مُسَمُّوه له اسماً من الحمد) "محمد بن صالح المحيجين"، ثم (من ملأ عيني ملاحة وجمالاً) "عبد الله بن ناصر السلمي"، وبعده (من ملأ فؤادي مهابة وجلالاً) "عبد الله بن فوزان الفوزان".

وتمضي الأيام ليأتي (من لم يذق سكر الشباب) "عبد الرحمن العقل"، ثم يتسابق الشباب من حفاظ القرآن الكريم على الحلقة، كلما حدَّثهم بها أحد أو حضروا لقاءً من لقاءاتي فيبادرون ويطلبون التسجيل، فينضم إلى الحلقة: "فهد التركي" و(من صُعِقت به أذن الحسود) "عبد الله بن محمد التويجري"، ثم (من عفت محاسنه عندي إساءته)" ياسر بن إبراهيم السلامة"، ثم (من سيط حب المكرمات بلحمه) "سليمان الدبيخي"، ثم جاء "عبد الرحمن بن علي الجمعة"، ثم "خالد السيف"، ثم "أحمد"، ثم "منصور الصقعوب"...

ورأيت أن أجمعهم في كل شهر في طلعة برية فكانوا إذا اجتمعوا جاؤوا بكل طريفة ويزداد بعض القوم من بعضهم علماً، وكنت أعقد لهم المناظرات العلمية التي ربما تستمر الواحدة منها خمس ساعات.

وتمضي الأيام. . ويختم "تركي" المقرر، ويصنع بهذا الختام مناسبة برية وي*** فيها ذبيحة، ويلقي "فهد اليحيى" بهذه المناسبة قصيدة. ثم يتوالون في الختام، وكل من ختم خرج بنا إلى البر في مناسبة حتى ختم الجميع "الجمع بين الصحيحين" وشرعوا في "السنن" ومنهم من تجاوزوها إلى "المسانيد". ثم تفتح حلقات لتسميع الأحاديث يتبناها أولئك الفتية ويواصلون المشوار ويكملون المسيرة التي بدؤوها فحلقة للشيخ "يوسف" و"تركي الغميز" و"فهد اليحيى" و"عبد الله الفوزان" و"محمد الراشد".

والحمد لله الذي حَمى حِمى الحلقة بحماه، ورعا رعاياها برعايته.

- فضيلة الشيخ : أيام لا تنسى تلك التي قضيتها في تأسيس حلقات تسميع السنة وشق طريقها في الساحة. لاشك أن لك فيها ذكريات من مواقف أفرحتك وأخرى أحزنتك وشقَّت عليك. ماذا تحفظ ذاكرتك من ذلك؟

نعم إني لأذكر مواقف عشتها من أصعب ما مر عليَّ في أيامي في الحلقة التي كانت هي الهم في صباحي وهي الهم في مسائي. وسأذكر لك طرفاً منها :-

- أُولى هذه المواقف الصعبة: بداية تخاذل الطلاب في الحلقة وانسحابهم الواحد تلو الآخر. لقد كنت بذهاب الواحد منهم كأني أفقد أخاً عزيزاً عليَّ إن لم يكن ابناً محبوباً، ولكن والحمد لله أنزل الله على قلبي الثبات والطمأنينة وتسليت ببقاء "تركي الغميز" حتى أذن الله برجوع الشباب وبدء المسيرة من جديد.

- ثانيها:

والذي لا أنساه حين انقلبت فيه التوقعات وخابت معه الظنون يوم أتاني طالب من الطلاب وقد كان ألح عليَّ بادئ الأمر لأقبله، ولما ثبتت جدارته في الحفظ إذا هو يطلب الانسحاب ويعتذر عن المواصلة، تفاجأت وقلت له: لماذا ولم يبق عليك إلا خمس صفحات من مفردات البخاري. فأتمم ما بدأت به وأنعم فما المعروف إلا بالتمام

فقال: أحتفظ بالسبب، المهم اسمح لي واعذرني، فقلت : يا بني اسمع مني ، وحاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أثنيه عن قراره ولكن لم أفلح، فما كان مني إلا أن أجهشت بالبكاء، وقلت في نفسي: يا عجباً، بالأمس يترجاني ويطلبني لأقبله واليوم ينعكس الحال وأصير أنا الذي أترجاه ليبقى. ويصر الطالب على ذلك وينقطع وتنقطع أخباره، ولما سألت عنه أُخبرتُ أنهبحمد الله- سائر في سبيل الطلب والدراسة على أحسن حال.

أما الذكريات الجميلة في تلك الأيام، فأجملها:

- عند عودة الطلاب إلى الحلقة، وانضمام جمع مبارك من الحفاظ أمثال "يوسف الغفيص" و"عبد الله السلمي" و"الفوزان" و"المحيجين". وقد كنت كلما جاء طالب وتوسمت فيه النبل والذكاء خررت ساجداً لربي شكراً.

- ثالثها:

يوم خرجنا مع الحفاظ في إحدى النزهات، وقد كنت أعددت كلمة لأثبت بها الحفاظ وأرفع معنوياتهم، وإذ بـ"يوسف الغفيص" يطلب أن يتحدث فأذنت له، فتكلم بكلام وضع فيها النقاط على الحروف، وأكد للجميع أن مسيرة الحفظ ستسمر، ولن يعيقها أحد، وتخلف الواحد أو أكثر لن يضر إلا صاحبه، فالمحجة ظاهرة والطريقة سُنية..، ويعلم الله كم ارتحت كثيراً لكلامه، فلقد أثلج صدري وأزال ما علق في خاطري تجاه من انقطع عن الحلقة، ومنذ ذلك اليوم ولـ"يوسف" مكانة خاصة في قلبي، ومن يومها وأنا أوليه كل عناية وأفيده ما استطعت، وبالمقابل كنت أسأله وأستفيد منه أيضاً، وعلمت بما لا يدع للشك مجالاً أنه رجل له مستقبل كبير، ولقد قلت له يوماً : يا"يوسف" إن شاء الله ستكون من حفاظ الكتب الستة، فقال : صحيح يا شيخ ! ممكن هذا؟ وابتسم، فقلت له: أنت مؤهل، وأنا متأكد من ذلك كما أن بعد اليوم غداً

- ورابعها:

يوم شعرت أني حصدت حصاد ما بذرته ؛ كان ذلك عام 1412هـ حين رأت اللجنة العلمية بالقصيم أن تقام مسابقة لحفظ السنة النبوية، فرحبتُ بذلك ورحب الجميع بها، ووضعت المسابقة على سبع مراحل. . أولاها في حفظ الصحيحين ثم في حفظ مختصر البخاري ثم في حفظ مختصر مسلم ثم في حفظ ألف حديث ثم في حفظ خمسمائة حديث ثم في حفظ خمسين حديثاً. وظهرت النتيجة المبهرة المفرحة : كان العشرة الأوائل من طلابي ولله الحمد والمنة.

- كيف اتصلت هذه الحلقات بفكرة دورات الحرمين؟

بعد أن انتقلت إلى جامع "الملك فهد" بـ"الصفراء" استمر تسجيل الطلاب في الحلقة فالتحق في تلك الفترة: (بارع النسب) "شافي بن سلطان العجمي" ثم (من كل حُسن فمن عينيه أوله) "عمر بن عبد الله المقبل" ثم "فهد الشتوي" ثم "محمد بن عبد الله السيف" ثم (من بَلَوتُه فلم أزدد إلا رغبة في إخائه) "عبد المحسن المطيري" و"عبد القادر العامري" ثم التحق "وليد الحسين" ثم "محمد الخضيري" و"تركي بن عبد الرحمن اليحيى" إلا أنه انقطع ثم واصل في الدورات المكثفة بمكة المكرمة.

ثم توقفت الحلقة لعائق معتبر استمر ثلاث سنوات، ثم زال العائق بحمد الله وانتقلت إلى مسجد "حسان بن ثابت" بحي الإسكان، وكانت مواصلة التحفيظ بعد ذلك لكن على قلة وضعف، وكان أول من بدأ (من شُقَّ من عُود المحامد عوده) "بدر بن إبراهيم الغيث" ثم (الثقف اللقن) "نايف العجمي". ثم تولدت فكرة الدورة المكثفة الصيفية في الحرم المكي ثم الدورات المكثفة الفصلية، ولا زال العطاء مدراراً والإقبال متواصلاً والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


أبو عدي القحطاني

abomokhtar
19-12-2012, 10:37 AM
قصة الدورات الصيفية في الحرم المكي والحرم المدني

- بداية الدورات في مكة، حدثنا عنها، كيف كانت؟

- استمر عطاء الحلقة الحديثية في بريدة طيلة عشر سنوات ، حتى وصلت حلقات تحفيظ السنة إلى أكثر من عشر حلقات قام عليها نبذة من الحفاظ الأوائل.

وحين رأيتُ الحلقة قد بدأت تشق طريقها وتأخذ مكانتها في الساحة العلمية.. بدا لي أن أنتقل بها إلى طورٍ أكبرَ وأوسعَ ليعُم نفعها ويعظُم أثرها، فقمت بإعادة النظر في البرنامج وإعداد خطة جديدة لدورة جديدة يختلف نظامها عن الطريقة الأولى سواء من حيث المادة أو من حيث القدر المحفوظ، ثم درست البداية والنهاية والمدة وحجم المقرر بصورة دقيقة ومضبوطة حتى اكتملت عندي الصورة النهائية للدورة، ومن ثمَّ اخترت المكان.. فلم أجد أفضل ولا أنسب مكان لإقامتها من بيت الله العتيق في مكة المكرمة مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم.

- كيف مهَّدت للدورة حتى يتم انتقالها من القصيم إلى مكة؟

في عام 1421هـ وفي شهر رمضان المبارك ذهبت إلى مكة للعمرة في العشر الأواخر، وهناك بدأت أعمل للبرنامج الدعاية والإعلان وأقوم بتسجيل الطلاب المتميزين الذين أعلم من قرائن الأحوال أنهم قادرون على تطبيق الخطة المرسومة لحفظ الصحيحين، وكذا في كل مجلس أحضره كنت أقوم بالدعوة إلى هذه الدورة الحديثية الجديدة.. ومن سجلتُه أخذت رقم هاتفه. ومضت الأيام.. وما إن اقتربت العطلة الصيفية المزمَعُ إقامة الدورة فيها حتى سجلت ما يقارب المائتين طالب.

وكان بعض المشايخ قد اقترح علي أن أقوم بترسيم الدورة من قبل وزارة الشؤون الإسلامية. وكان اقتراحاً رائعاً صائباً فأجريت مكالمات هاتفية مع الأحباب بمكة فقاموا بكتابة خطاب إلى الإمارة يطلبون فيه الموافقة على ذلك. وجاء الرد بالموافقة فعلاً على إقامة الدورة.

- كيف كانت طبيعة البرنامج أول الأمر؟

- كانت الدورة في انطلاقتها الأولى على قسمين: قسم في المسجد الحرام، وقسم في جامع الشيخ عبد العزيز بن باز. وأما برنامج الحفظ فقد كان برنامجاً جاداً صارماً، إذ تستمر الدورة سبعين يوماً يحفظ فيه الطالب فيها أجزاء الجمع بين الصحيحين الستة، في كل يوم (20) صفحة من الكتاب المقرر. حتى يختموا الصحيحين.

- هل واجهتك صعوبات في أثناء الانتقال وترسيم العمل؟

-لا، لم أواجه أي صعوبات في ترسيم الدورة فقد كانت تحت عناية رب العالمين سبحانه وتعالى.

- على أي ضوء ووفق أي معايير يتم قبول الطلاب في الدورة؟

في أول تسجيل للطلاب في دورة مكة كنت أنا من يتولى تسجيل الطلاب، وكنت حريصاً على أن لا يدخل الدورة إلا من أظن فيه الأهلية للنجاح في برنامج الدورة، ولذلك ربما تشددت في الشروط فكنت لا أقبل إلا من أتم حفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب بعد أن أختبره ، وكان متفوقاً متميزاً في دراسته في الجامعة أو غيرها إضافة إلى أسئلة فرعية أخرى.

التجربة الأولى لدورات الصحيحين:

- شهد عام 1422هـ الانطلاقة الأولى لدورات الصحيحين في مكة المكرمة. . قبل ذلك: كيف كانت التوقعات حيال قيام هذه الدورة؟
لم يكن يدور في خَلَد أحد كلَّمتُه عن الدورة وغاياتها أو جاءه خبرها أنها ستنجح ولا بنسبة 10% حتى أني فوجئت بمن هم من خاصتي يستبعدون نجاحها أيما استبعاد. ولكني والحمد لله كنت واثقاً 100% أنها ستنجح نجاحاً يتحدث عنه القريب والبعيد، وكنت أقول لكل من يناقشني فيها: أنا متأكد بإذن الله أنها ناجحة كتأكدي أن الواحد مع الواحد اثنان. فكانوا لا يزيدون على الابتسامة أو السكون المبطن. فلما كان قبل سفري إلى مكة اجتمعت مع أزيد من عشرة مشايخ وقدمت لهم استبياناً عن الدورة لأرى وأسمع آخر مشورة ورأي يتعلق بالدورة قبل البدء بها، ولكنني لم أرَ فيه أي جديد بل ربما رأيت فيه ما يخَذِّلُني ويحطِّمُ آمالي.

ولكني كنتُ أقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين» ( رواه النسائي في السنن الكبرى والحاكم والبزار، وحسنه الألباني)، وكان هذا هو زادي الذي أتثبت به أمام العقبات.

- كون هذه الدورة هي الأسبق والأغرب في تاريخ الدورات وما يعني ذلك من أهمية وعظمة بالنسبة لك.. ماذا عن الاستعدادات والتجهيزات التي قمت بها لأجل الدورة؟

أولاً:

كنت أعلم أن الدورة ستكون باهظة التكاليف لأنها ستقام بجانب الحرم إضافة إلى تكاليف الإعاشة والسكن طيلة فترة الدورة. فقمت بإجراء اتصالات مع كل من رأيت فيه خيراً لكي يساعدني على أعباء هذه الدورة، وكانت المواقف مشرِقة ومشرِّفَة، فقد هبَّ أهل الغنى لتلبية جميع متطلبات الدورة من المسكن والغذاء وغيرها ولله الحمد .

ثانياً:

قمت بإعداد الجدول لمشايخ الدورة من البداية إلى النهاية، وكان قد أبدا ستة عشر شيخاً من الحفاظ استعدادهم معي للمشاركة في برنامج الدورة هم: الشيخ يوسف الغفيص، والشيخ خليل المديفر، والشيخ فهد بن عبد الرحمن اليحيى، والشيخ تركي الغميز، والشيخ عبد الله السلمي، والشيخ عبد الله الفوزان، والشيخ سليمان الدبيخي، والشيخ إبراهيم الحميضي، والشيخ صالح الصقعبي، والشيخ عبد الله التويجري، والشيخ محمد الراشد، والشيخ شافي العجمي، والشيخ عبد الرحمن العقيل، والشيخ فهد التركي، والشيخ أحمد الصقعوب، والشيخ عمر المقبل، والشيخ عبد الله السويلم. وكانوا نعم المعينين لي في هذه الدورة ابتداء وانتهاء فلم يألوا جهداً في إسداء الملاحظات وسد الثغرات ورفع المعنويات وتوجيه الطلاب حتى انتهت على خير ما يرام.

ثالثاً:

بعد نهاية الامتحانات الدراسية كان قد بقي على موعد الدورة أسبوع واحد، فأخذت إجازة اضطرارية في هذا الأسبوع لكي أكون في أرض الموقع حتى أستقبل الطلاب وأباشر تنظيم الأمور قبل بداية الانطلاقة، فوصلت بحمد الله إلى أرض الحرم في اليوم السادس عشر من شهر ربيع الأول بصحبة الأهل والأولاد. وما إن صارت ليلة العشرين ليلة أول أيام الدورة حتى أقبل الطلاب من كل فج وبدأ الجوال لا يهدأ ولا دقيقة واحدة يسألون عن المكان والموقع وكان عدد من قبل في الدورة مائة وعشرون طالباً من اثنتي عشرة ***ية، وهكذا باشرنا التنظيم والترتيب حتى تمت الأمور وأصبح الجميع في غرفهم وكان ذلك في فندق المروة.

رابعاً:

وُزِّعَت الأجزاء على الطلاب وقُسِّمت المجموعات وعرف كل طالب شيخه، ثم صلوا في اليوم الثاني صلاة الصبح وأصبح الجميع على خير ثم أخذ كلٌّ موضعه في الحرم المكي أو في مسجد الشيخ ابن باز، وبدأ الحفظ وجد الجد.

يوم السبت 20/ 3 / 1422هـ اليوم الأول من أيام الدورة.. وبداية الانطلاقة في حفظ الصحيحين للمرة الأولى في برامج الدورات العلمية.

- كيف تصف لنا الأيام الأولى للدورة؟

- نعم، بدأت الدورة بكل جدية وقوة، فحفظ الجميع وبدون استثناء في ذلك الصباح خمسة أوجه، وانتهى اليوم الأول والنتيجة ناجحة 100% ولما أخذ الطلاب مضاجعهم تأكدت عبر الهاتف الداخلي أن الجميع قد حفظوا خمسة عشر وجهاً في اليوم الأول.

وفي اليوم الثاني استمر النشاط والتقدم على أكمله. وجاء اليوم الثالث وهو اليوم الذي كنت أخافه على مسيرة الطلاب بل كنت معلقاً النهاية على اجتيازه لأنه كان يتضمن الأحاديث الطويلة والصعبة. . ولكن عين الله كانت ترعى الجميع، فلقد مضى اليوم الثالث بنجاح أفضل من سابقيه، وحينئذ علمت أن الدورة قد كُتِبَ لها ما كنت أتطلع إليه. .

حقاً.. كانت بداية الدورة محوطة بالعناية الإلهية، بداية ناجحة بكل المعايير، الكل فيها مقبل على الحفظ والتسميع، والصوت السائد بينهم هو "عن فلان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" لست تسمع غير هذا.

- ماذا عن الطلاب وحالهم؟ كيف كان تفاعلهم وتقبلهم لبرنامج الدورة الجديد؟ وماذا عن نشاطهم في الحفظ؟

-أما الطلاب؛ فمن فضل الله علي أني كنت أجيد أسلوبين: أسلوب استثارة الهمم واستحثاثها، وأسلوب صناعة المنافسة بين الطلاب بعد معرفة نوعياتهم. ولذلك فقد كنت أترقب الوقت الذي يتبين في من هم السبَّاقون. وما إن مرَّ الأسبوع الأول حتى تجلى المتميزون، وترشَّح عندي نفرٌ جعلتهم الطليعة في هذه المسيرة.

فكان منهم: باسل الرشود، وعبد الله زكي، وتركي اليحيى، ومحمد القحطاني، ومنصور الغامدي. وبدأ التنافس المرسوم، وشحذ الهمم المدروس، وطفق الطلاب لا يعرفون شيئاً اسمه الملل أو السأم أو الفتور، وكان منظرهم يسُر الناظرين، وهيأتهم تجذب قلوب المحبين، تراهم غادين رائحين، وفي أروقة الحرم معتكفين، وعلى حفظ السنة منكبين، بل قد وجد منهم من يقضي أربعة عشر ساعة يومياً في الحفظ، حتى قال لي بعضهم وقد مضى أسبوع على الدورة : والله يا شيخ ما ذاقت عيني طعم النوم منذ ثلاثة أيام.

وقمتُ بدوري في استنهاض همم البعض الذين كانوا دون هؤلاء في الحماس والسبق قائلاً لهم: كيف أنتم؟ ؟ لقد هبت الركاب فهبوا وطارت الطيور بأرزاقها فشمروا.. وكانت كلماتي شديدة الوقع عليهم.

وفي الدورة تجلت من أخبار الطلاب أمورٌ أشبه بالكرامات أو المعجزات، فمنها: وجود بعض الطلاب يقرأ الصفحة مرتين وفي الثالثة يعيدها حفظاً عن ظهر قلب. ومنها: وجود من يحفظ يومياً مائة حديث دون أن يخطئ خطأً واحداً. ومنها: وجود من حفظ في يوم واحد ثلاثمائة حديث أي ما يعادل عمدة الأحكام أو قريباً منها. ومنها: وجود من يرتب محفوظاته الألف تصاعدياً و تنازلياً من النهاية إلى البداية ومن البداية إلى النهاية. ومنها: وجود من يجلس خمس عشرة ساعة متواصلة يحفظ الأحاديث دون حصول ملل أو سأم. ومنها: تفوق حفظ الكبار على من هم دونهم. وأمورٌ كثيرة شهِدَتها الدورة الأولى، ليس لها تفسير إلا أنها ببركة السنة والاشتغال بها.

- ماذا كان لهذه الدفعة من التميز بعد هذا النجاح العظيم؟

- لما رأت عيناي هذا الفضل والإكرام الذي أكرمني الله به بأن أخرِّج من برنامج الدورة حفاظاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم غمرني أمل كبير أن هذه الدورة سيكتب لها الاستمرار.

وبخصوص الطلاب منحتُ جلَّ الذين حفظوا علي المتفق عليه وملحقاته مع المفردات إجازة في تسميعه وتحفيظه، وبعضهم أجزته زيادة على ذلك في شرحه وتعليمه.

- اليوم الأخير من الدورة.. صف لنا المشاعر فيه؟

- قُضيت الدورة. .ولكن لم ينقضِ معها الطموح ولم تفتُر العزائم، فالكل عازم على المواصلة ومراجعة المحفوظات بعد الدورة. كثير منهم حين أنهى الجمع بين الصحيحين فاضت عيناه متأثراً وفرِحاً بإتمام الكتاب. فعلاً كانت مسيرة جادة نحو هدف سامٍ. .جدَّ فيه الجد، واشتد معه العزم، واستُنفرت فيه الهمم، واستثُيرت العزائم ورُفع الإعلان الكبير: "لن نحط رحالنا إلا عند الحديث الأخير".


وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرهم *** وعانق المجد من وافى ومن صبرا


وقد كنت طلبت من الطلاب أن يكتب كل من أتم الحفظ مشاعره حين أتم. وكان أول من أنهى الجمع هو باسل الرشود، حفظ الأجزاء الستة في سبعة وعشرين يوماً ثم تتابع الطلاب بعده بقوة ليأتي تركي اليحيى في المرتبة الثانية وعبد الله زكي في المرتبة الثالثة ومحمد القحطاني في المرتبة الرابعة. . وهكذا توالى الطلاب إلى النهاية في مظهرٍ لا أروع منه ولا أجمل.

- أخيراً.. ما هو تقييمك للتجربة الأولى لدورات تحفيظ السنة؟ وما هي أبرز الأسباب؟

أولاً:

أحمد الله جل جلاله الذي لا يُحمد إلا إياه، فهو المتفضل السابق بنعمه، الكريم على عباده، وقد علم منا الضعف والعجز ورأى حبنا لنشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يخذلنا وهو نعم المولى ونعم النصير.

ثانياً:

أما الأسباب والأسرار خلف هذا النجاح فهي كما يلي:

1 - التوكل على الله والاستعانة به واللجوء إلى عونه وتوفيقه.

2 - أنها في مسجد إبراهيم عليه السلام ، وبجوار الكعبة المشرفة في مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فما ظنك بمكان كهذا تحفَّظُ فيه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون عملاً مباركاً وسعياً متقبلاً.

3 - المادة المحفوظة، وهي كلام النبي صلى الله عليه وسلم. . مادة شرعية مقدسة، فيها نَفَس النبوة وروح الدين، فلا تراها إلا سهلة على الأذهان، محببة إلى النفوس، شديدة الثبات في الحافظة.

4 - حسن الاختيار للطلاب.

5 - الخدمات التي تقدم للحافظ من سكن وتغذية ونظافة وملبس، والتي يقصد منها تفريغ الطالب ذهنياً وإعداده نفسياً وصرفه عن جميع الشواغل عن الحفظ.


أبو عدي القحطاني