مشاهدة النسخة كاملة : روعة التشريع في تحكير الوقف... د. راغب السرجاني


abomokhtar
16-05-2013, 09:04 PM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/13/05/20/wkf%20copy.jpg

إن لفظة التحكير غالبًا ما يصاحبها اشمئزاز في النفس عند سماعها، وهناك من الأحاديث النبويَّة الشريفة ما يُجرِّم بل يُحرم تحكير السلع والخدمات التي يحتاجها الناس؛ بيد أن عبقريَّة الفقيه المسلم نظرت إلى الأمر بطرق مغايرة؛ حيث رأت أن ثمة حالات يجوز فيها التحكير بل ويُستحبُّ لأجل المصالح المترتِّبَة!

فالحكر عقد إجارة يُقصد به إبقاء الأرض الموقوفة في يد المستأجر بقصد البناء عليها أو غرسها، أو لأي غرض آخر، على نفقة المستأجر بحيث لا يضرُّ بالوقف؛ شريطة أن يدفع المستأجر أجرًا محدودًا، يتَّفِق عليه دون تحديد مدَّة الإجارة[1].
واللافت أن الفقهاء أجازوا تحكير الأرض الموقوفة إذا ضعف عائدها، ولم يُوجَدْ مَنْ يرغب في استئجارها لإصلاحها، فإنه يجوز حينئذ تحكيرها، وقد استند الفقهاء إلى إجازة التحكير على القاعدة الفقهيَّة التي تقول: تنزل الحاجة منزلة الضرورة. وهنا نلاحظ روعة الفقه الإسلامي؛ حيث لم يَقِفْ جامدًا أمام التغيُّرات التي من الممكن أن تطرأ على الوقف، بل بحث عن المصلحة الشرعيَّة؛ وهي استمرار الوقف في عمله، حتى لو ضعفت غلَّة الأرض، أو فسدت بصورة من الصور، فكان هذا التحكير الذي يُشَجِّع المستأجر على إصلاح الأرض أو العقار؛ لكي تتحقَّق الفائدة للجميع؛ لذلك لا يجوز قَبُول تحكير الوقف إلا إذا ارتبط بتحقيقه مصلحة للوقف، وكانت هناك ضرورة لذلك بأن هُدم العقار الموقوف وتعطَّل الانتفاع به، ولم يكن للوقف ريع لإعماره، واستحال إبداله، فحينئذٍ جوَّز بعض الفقهاء تحكير الوقف[2].
وقد يحصل التحكير بإذن الناظر للمستأجر بالبناء أو الغرس أو أي غرض آخر على وجه البقاء والقرار، وذلك بعد إجراء عقد الإجارة وخلال المدَّة المبيَّنَة بالعقد، وتبقى الأرض بيد المستأجر بعد انتهاء مدَّة الإجارة؛ ما دام منتظمًا على دفع أجر المِثْلِ، أي أن المدَّة مفتوحة غير محدَّدة، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الحنفيَّة المتأخِّرُون، ولا يصحُّ الاحتكار إلا إذا كان الحكر بأجرة المثل، لا أقلَّ منه على تقدير أن الأرض الموقوفة خالية من البناء -وهو ما يُطلق عليه المسقفات- والغراس -وهو ما يُطلق عليه المستغلات- الذي أحدثه المستأجر (المحتكر) فيها، ولا يجوز أن تبقى الأجرة المتَّفَق عليها ثابتة على حال واحدة، بل تزيد وتنقص حسب الزمان والمكان والعوامل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المحيطة.
ولم ينسَ الفقهاء قضيَّة زيادة أسعار الإيجار زيادة فاحشة، فإذا زادت أجرة المِثْلِ زيادة فاحشة، فإن الفقهاء يُفَرِّقُون بين نوعين:
[1] إذا كانت الزيادة بسبب العمارة أو البناء الذي أقامه المحتكر في الأرض فلا تلزمه الزيادة.
[2] إذا كانت الزيادة بسبب ارتفاع قيمة الأرض نفسها، أو لكثرة رغبة الناس فيها، فإن الزيادة تلزمه إتمامًا لأجر المثل، فإذا وافق على دفع الزيادة تبقى الأرض معه أو مع ورثته، وإن رفض الزيادة أُخِذَت الأرض منه وما عليها من إنشاءات وإحداثات.
وهنا -أيضًا- صورة راقية من صور المرونة الفقهيَّة؛ حيث لم يضع الفقهاء قانونًا جامدًا لكل المتغيِّرات، بل بحثوا عن المصلحة الشرعيَّة، ولم يلجأوا إلى إهدار مصلحة المستأجر أو الموقوف عليهم، إنما قدَّروا الأمر قدره، فإذا كانت الزيادة في الأجر بسبب إصلاحات المستأجر فلا تلزمه هذه الزيادة؛ لأنه السبب الرئيس في حدوثها، ولو كانت الزيادة بسبب ارتفاع قيمة الأرض فهي حقُّ الموقوف عليهم، ولا يجب أن تُهْدَرَ.

ويجب على القاضي أن يُشرف على تحكير الوقف -سواء كان عقارًا أو أرضًا- إشرافًا كاملاً؛ فإن رأى أن المصلحة لن تتحقَّق إلاَّ بتحكير الأرض الموقوفة أو العقار الموقوف؛ جاز له ذلك، ويجب عليه الاحتراز من أفعال المستأجرين؛ فله أن يُفسخ العقد إن رأى أي ضرر قد يُسبِّبَه المستأجر في الوقف؛ كإتلافه، أو نهبه، أو ادِّعَائه أنه له ولورثته، وإنه مهما طالت مدَّة الإجارة فللقاضي أن يسترجع الوقف متى رأى أن ذلك في مصلحة العين الموقوفة والمستحقين[3].
العدول عن رأي الأستاذ
إنَّ العدول إلى الحقِّ صفة إسلاميَّة أصيلة؛ فلقد كان من الطبيعي أن يستمسك تلميذ أبي حنيفة أبو يوسف ببطلان الوقف ومنعه كأستاذه، لكنه "لَمَّا حجَّ مع الخليفة هارون الرشيد (http://islamstory.com/ar/%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AF) فرأى وقوف الصحابة (http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%85) رضي الله عنهم بـ المدينة ونواحيها؛ رجع فأفتى بلزوم الوقف"[4].
ولم يكن رجوع أبي يوسف عن رأي إمامه إلا لكونه رأى إجماع الصحابة على لزوم الوقف، لكن أبا يوسف أضاف مع الدليل الإجماعي الذي عاينه المصلحةَ التي تَمَثَّلَتْ في مصلحة المعاد؛ إذ الوقف صدقة جارية ينتفع بها صاحبها بعد مماته، وكذلك مصلحة المعاش، "كبناء الخانات والرِّباطات واتخاذ المقابر"[5].
ولعلَّ الذي جعل أبا حنيفة يقول ببطلان الوقف ومنعه، افتقاره للأدلَّة التي أيَّدت لزوم الوقف، وهو ما جعل تلميذه أبا يوسف يقول عند رجوعه عن رأي شيخه في هذه المسألة: "لو بلغ أبا حنيفة لقال به"[6]. أي لو علم أبو حنيفة ما عَلِمَه أبو يوسف من الأدلَّة الشرعيَّة التي افتقدها من قبل، لرجع إلى القول بجواز الوقف، وهذا الأمر من الأدب الظاهر مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله رغم مماته؛ ثم إنه تواضع أمام الأدلَّة التي عاينها، ومن ثم انصياعه لها.
ومن ثَمَّ وجدنا المتأخِّرين من فقهاء الحنفيَّة يُجِيزُون الوقف، ويُؤَوِّلون رأي أبي حنيفة السابق؛ وذلك لِمَا رَأَوْا من الأدلَّة الصريحة في السُّنَّة النبويَّة، وكذا الإجماع المتواتر على مرِّ السنين من الفقهاء أصحاب المذاهب المختلفة، فرأينا البَابَرْتِيَّ يقول عن الوقف: "والأصح أنه جائز عنده -أي عند أبي حنيفة- إلاَّ أنه غير لازم بمنزلة العارية، وعندهما -أي أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني- حَبْسُ العين على حُكْمِ مِلْكِ الله تعالى؛ فيزول مِلْكُ الواقف عنه إلى الله تعالى على وجهٍ تعود منفعته إلى العباد، فيلزمُ ولا يُباع ولا يُوهَب ولا يورث"[7].
بل صرَّح بعض فقهاء الحنفيَّة بلزوم الوقف دون تأويل لِمَا قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ومن جملة هؤلاء أَبو بكر بن مسعود الكاشاني[8] الذي قال: "لا خلاف بين العلماء في جواز الوقف في حقِّ وجوبِ التَّصَدُّق بالفرع ما دام الوقف حيًّا، حتى إنَّ مَنْ وقف داره أو أرضه يلزمه التصدُّق بِغَلَّةِ الدار والأرض، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتَّصَدُّق بالغَلَّة"[9].
ومن الأدلَّة التي ذكرها إبراهيم بن موسى الطرابلسي[10]، والتي دلَّلَتْ على مشروعيَّة الوقف وجوازه، ما ذكره عن ابن كعب القُرظي[11]، بقوله: "كانت الحبس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة حوائط في المدينة (http://islamstory.com/ar/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9)... وقد حبس المسلمون بعده على أولادهم وأولاد أولادهم، وقد حبس أبو بكر رضي الله عنه رباعًا له بمكة وتركها، فلا نعلم أنها وُرِثَتْ عنه، ولكن يسكنها مَنْ حَضَر من وَلَدِ ولده ونسله بمكة، ولم يتوارثوها، فإمَّا أن تكون صدقة موقوفة، أو تركوها على ما تركها أبو بكر رضي الله عنه ، وكرهوا مخالفة فعله فيها، وهذا عندنا شبيهٌ بالوقف، وهي مشهورة بمكة"[12].
ولم يكن أبو يوسف رحمه الله الذي انفرد في تاريخ التشريع الإسلامي بمخالفة رأي شيخه أبي حنيفة رحمه الله؛ فالاختلافات الفقهيَّة أو بالأحرى الاجتهادات تكاد لا تُحصى في المؤلفات الفقهيَّة المتنوِّعة؛ مما يُؤَكِّد على المرونة الرائعة التي اتصفت بها الحضارة الإسلامية (http://islamstory.com/ar/muslim-civilization) في جانب الفكر والتنظير، فضلاً عن التشريع نفسه، فكما خالف أبو يوسف أبا حنيفة في مشروعيَّة الأوقاف (http://islamstory.com/ar/%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%88%D9%82%D8%A7%D9%81) ولزومها، فإننا نجد الإمام ابن القيم[13] رحمه الله يخالف رأي شيخه وأستاذه ابن تيمية (http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%AA%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9) رحمه الله في مسألة تأجير الوقف لمدَّة طويلة على ما مرَّ بنا في تأجير الوقف؛ فقد رأى ابن القيم (http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D9%82%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%A9) أن ذلك قد يخالف شروط الواقف، ويمنع تحقق المصلحة المرجوَّة من الوقف للمستحِقِّين، فقال: "ومن الحيل الباطلة: تحايلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلاً، وقد شرط الواقف ألاَّ يُؤَجَّر أكثر من سنتين أو ثلاثٍ؛ فيؤجّره المدَّة الطويلة في عقود متفرِّقة في مجلس واحد، وهذه الحيلة باطلة قطعًا، فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتِّبَة على طول مدَّة الإجارة، فإنها مفاسد كثيرة جدًّا، وكم قد مُلِكَ من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفيَّة بطول المدَّة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين بعد سنين! وكم فات البطون اللواحق (الأجيال اللاحقة) من منفعة الوقف بالإيجار الطويل! وكم أُجّر الوقف بدون إجارة مِثْلِهِ لطول المدَّة وقبض الأجرة! وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعاف ما كانت، ولم يتمكَّن الموقوف عليه من استيفائها! وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العدَّ، والواقف إنما قصد دفعها، وخشي منها بالإجارة الطويلة، فصرَّح بأنه لا يؤجّر أكثر من تلك المدَّة التي شرطها، فإيجاره أكثر منها -سواء كان في عقد أم عقود- مُخَالَفَةٌ صريحة لشرطه، مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة، ويا لله العجب! هل تزول هذه المفاسد بتعدُّد العقود في مجلس واحد؟! وأي غرض للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدَّة ثم يُجَوِّزها في ساعة واحدة في عقود متفرِّقة؟! وإذا أجَّره في عقود متفرِّقة أكثر من ثلاث سنين، أيصحُّ أن يقال: وَفَّى بشرط الواقف ولم يخالفه؟ هذا مِنْ أَبطلِ الباطل وأقبح الحيل، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه"[14].
إن هذا الملمح الرائع الذي نراه من مخالفة التلميذ لرأي أستاذه، ما هو إلا دليل على عظمة فقهاء المسلمين، ومن ثَمَّ روعة التشريع الإسلامي؛ فكلٌّ من أبي يوسف وابن القيم -رحمهما الله- لم يخالف شيخه لمجرَّد الخلاف؛ حتى يُشار إليه بالبنان ويُقال: لقد خالف شيخه. لكنهما رأَيَا أن مصالح الشريعة الغراء مُقَدَّمة على الانصياع لرأي الشيخ مهما كان الأمر؛ كما أنه يُؤَكِّد على حُرّية الفكر، وعدم التقيُّد أو الجمود على رأي مُعَيَّنٍ كما هو الحال عند كثير من المسلمين اليوم!
[1] عكرمة صبري (http://islamstory.com/ar/%D8%B9%D9%83%D8%B1%D9%85%D8%A9-%D8%B5%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9): الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق ص293.
[2] انظر: الفتاوى الهندية 2/478، وابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار 4/302، 390، 391، والمرداوي: الإنصاف 6/82، وعبد الجليل عشّوب: كتاب الوقف ص101، 102، وعكرمة سعيد صبري: الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق ص293، 294.
[3] انظر: حاشية ابن عابدين 4/391، والطرابلسي: الإسعاف ص52، 53، وعكرمة صبري: الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق ص292، 293.
[4] السرخسي: المبسوط 12/25.
[5] انظر: السرخسي: المبسوط 12/26.
[6] الشوكاني: نيل الأوطار 11/44.
[7] نظام الدين البلخي وآخرون: الفتاوى الهندية 2/350.
[8] أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاشاني علاء الدين: فقيه حنفي، من أهل حلب، توفي في حلب سنة 587هـ، له مؤلفات منها: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، والسلطان المبين في أصول الدين. انظر الزركلي: الأعلام 2/70.
[9] أبو بكر الكاساني: بدائع الصنائع 6/218.
[10] إبراهيم بن موسى بن أبي بكر الطرابلسي، برهان الدين: فقيه حنفي، وُلِدَ في طرابلس الشام، وأخذ بدمشق عن جماعة، وانتقل إلى القاهرة، وتوفي بها سنة 922هـ، من مؤلفاته: الإسعاف في أحكام الأوقاف. انظر الزركلي: الأعلام 1/76.
[11] ابن كعب القرظي: هو أبو حمزة محمد بن كعب بن سليم القرظي، من عُبَّاد أهل المدينة، وعلمائهم بالقرآن، توفي سنة 108هـ. انظر: ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار ص 65.
[12] الطرابلسي: الإسعاف في أحكام الأوقاف ص6.
[13] ابن القيم: هو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي (691- 751هـ=1292- 1350م)، من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد كبار العلماء، مولده ووفاته في دمشق، تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. انظر: الزركلي: الأعلام 6/56.
[14] انظر: ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين 3/291، 292.