مشاهدة النسخة كاملة : أطوار خلق الإنسان في القران بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي


ابو وليد البحيرى
15-06-2015, 11:10 AM
أطوار خلق الإنسان في القران بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي
محمد سلامة الغنيمي

أطوار خلق الإنسان
ولعله من الأسباب التي دعتني أن أتحدث عن أطوار الإنسان في هذا البحث ما قاله الإمام بن كثير في تفسيره لآية الخلق في سوره الحج: ما ذكره من أطوار خلق الإنسان أمر كل مكلف أن ينظر فيه، والأمر المطلق، يقتضى الوجوب إلا لدليل صادق عنه، كما أوضحناه مراراً وذلك في قوله - تعالى-: ( فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) (الطارق: 5-6).
يعد خلق الإنسان من آيات الله العظيمة، خاصة إذا علمنا أن كل طور من هذه الأطوار يعد آية في ذاته، كما أن إخبار الله - سبحانه - عن هذه الأطوار والمراحل في القرآن الكريم يعتبر من الإعجاز العلمي، لاسيما وان العلم الحديث لم يتوصل إلى هذه الأطوار إلا منذ سنوات قليله ( فاعتبروا يا أولي الأبصار).
ومن الواضح أنه قبل عمليه خلق الإنسان، قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه الإنسان مذكوراً كما في قوله - تعالى-: ( هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورً ) (الإنسان: 1).
أولاً: عناصر خلق الإنسان الأول:
1- الماء:
يعبر الماء هو العنصر الأول الذي خلق الله منه كل شيء حي سوى الملائكة والجن مما هو حي؛ لأن الملائكة خلقوا من النور، والجان خلق من النار، قال - تعالى-: ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) (الأنبياء: 30).
ويدخل في قوله - تعالى-: ( كل شيء) جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول:
إن قمه هذه المخلوقات جميعها هو الإنسان، وقد خلقه الله - تعالى -من الماء، يقول الله- تبارك وتعالى-: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) (الفرقان: 54)(1).
2- التراب:
التراب هو العنصر الثاني من عناصر خلق أبو البشر آدم - عليه السلام - قال - تعالى-: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: 59).
والتراب: عنصراً أساسياً من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم - عليه السلام - إذ من التراب النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين، قال - تعالى-: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ الأ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (فاطر: 11).
قال - تعالى-: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: 67)، قال - تعالى-: ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم: 20)، قال - تعالى-: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5).
هناك تحقيق آخر للعلماء حول خلق الله الناس من تراب، وهو أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منها عن طريق التناسل، فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب، لان الفروع تبع الأصل، وقد توصل العلم الحديث إلى أن كل العناصر المكونة للإنسان هي عناصر التراب.
ثانياً: مراحل خلق الإنسان الأول:
1- الطين:
وهذا الطين ناتج من امتزاج عنصري الماء والتراب كما وضحنا آنفاً ولذلك فالطين هو المركب الذي يتكون منه خلق جسد الإنسان.
قال - تعالى-: ( ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ).(السجدة: 6-7-8-9).
ويصف الله - سبحانه وتعالى - هذا الطين بأنه كان طيناً لازباً أي: لزج لاصقاً متماسكاً يشد بعضه ببعض، قال - تعالى-: ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ )(الصافات: 11). ومما هو جدير بالذكر أن سبب اختلاف البشر في صفاتهم وأشكالهم وأخلاقهم يرجع إلى المادة التي خلق الله منها آدم حيث جمعها من جميع الأرض، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( إن الله خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن، وبين ذلك والخبيث والطيب، وبين ذلك)) (1).
2- الحمأ المسنون: -
ترك الله - تعالى- هذا الطين بعد ان مزج عنصريه حتى صار حمأ مسنوناً قال - تعالى -: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر: 26).
والحمأ هو الطين الأسود المتغير، كما عليه أقوال المفسرين أما المسنون ففيه خلاف بين المفسرين قيل الكصور من سنه الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة:
تريك سنه وجه غير مقرفة *** ملساء ليس بها خال ولا ندب
وعن بن عباس -رضي الله عنه- أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال له ابن عباس: نعم أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وهو يمدح رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:
أغر كأن البدر سنه وجه *** جلا الغيم عنه ضوءه فنبودا
وقيل المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صوره الإنسان كما تفرغ الصور من الجوهر في أمثلتها (2).
وقيل المسنون في رواية لابن عباس ومجاهد والضحاك إنه: المنتن، وقال بن كثير المسنون الأملس كما قال الشاعر:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء ** تمشي في مرمر مسنون
ويرجح الشنقيطي الرأي الأول بدليل قوله - تعالى -: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) (الحجر: 26). (3)، أي بعد أن مزج الخالق- تبارك وتعالى -عنصري التراب والماء صار المزيج طيناً لازباً لاصقاً، ثم بعد ذلك صار خذا الطين حمأ أسوداً مسنوناً مصوراً.
3- مرحله كونه صلصالا: -
بعد أن صار الطين حمأ مسنوناً في صوره آدم حتى صار صلصالا كالفخار قال - تعالى-: ( خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (الرحمن: 14-15)، والصلصال هو: الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار، وهذا قول أكثر المفسرين.
وهذا الصلصال يشبه الفخار إلا إنه ليس بالفخار؛ لأن الله لم يدل آدم النار، حتى يكون فخاراً، قال - تعالى-: ( خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) (الرحمن: 14). والحاصل أن الله - سبحانه وتعالى - لما مزج عنصري التراب والماء صار طيناً فلما أنتن الطين صار حمأ مسنوناً مصوراً على هيئته فلما يبس صار صلصالا، وإلى هذه المرحلة لم يبدأ آدم في الحياة أما بخصوص ألمده الزمنية التي بين مرحله الطين والحمأ المسنون والصلصال، لم يحددها الله - سبحانه - في القرآن الكريم وكذلك لم يرد بشأنها حديثاً نبوياً صحيحاً يستدل به.
ومن الأحاديث التي تبين هذه المرحلة ما رواه أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (( إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طيناً ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنوناً خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار، قال فكان إبليس يمر به فيقول له: لقد خلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس فلقاه الله رحمه ربه فقال الله يرحمك ربك...........)) (1).
4- نفخ الروح:
بعد أن سوى الله - تعالى- الإنسان الأول وصوره، ثم صار صلصالا أي يبس الطين بعد تصويره، دبت الروح في جسد آدم - عليه السلام -، قال - تعالى-: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (ص: 71-72).
أضاف - سبحانه - الروح إلى ذاته، للإشعار بأن هذه الروح لا يملكها إلا هو -تعالى -، وأن مرد كنهها وكيفيه خذا النفخ، مما أستأثر - سبحانه - به، ولا سبيل لأحد إلى معرفته، كما قال - تعالى -: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلًا ) (الإسراء: 85). (4).
وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - ملائكته قبل خلق آدم أنه بأن عليهم أن يسجدوا لهذا المخلوق بعد أن تدب الروح في جسده، قال - تعالى -: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (ص: 71-72)، هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لما نفخ في آدم الروح وجب على الملائكة أن يسجدوا له لأن الفاء تفيد التعقيب وتمنع التراخي.
يقول صاحب الظلال: " ما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوه، القصير الأجل، المحدود المعرفة ما كان له أن ينال شياً من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريم " النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً" وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهذيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء، وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم، ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه.... فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له الملائكة الرحمن إلا بهذا السر".
اللطيف العظيم إنه بهذا السر كريم كريم، فإذا تخلى عنه أو أعتصم منه أرتد إلى أصله الزهيد من طين " (5).
* مراحل خلق الإنسان في بطن أُمه:
كما أن القرآن الكريم تحدث عن مراحل خلق الإنسان الأول، كذلك تدرج في الحديث عن خلق سلاله هذا الإنسان، ومن الآيات التي تشير إلى هذه المراحل قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (الحج: 5).
وقوله - تعالى -: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 12-14)، وقوله - تعالى -: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) (الإنسان: 2).
5- النطفة:
ورد ذكر كلمة نطفة في القرآن الكريم في اثنا عشر آية: -
قال - تعالى -: ( خَلَقَ الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (النحل: 4)، قال - تعالى-: ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (الكهف: 37)، قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " (الحج: 5)، قال - تعالى-: ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 13-14)، قال - تعالى-: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (فاطر: 11)، قال - تعالى-: ( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس: 77)، قال - تعالى-: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ) (غافر: 67)، قال - تعالى-: ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) (النجم: 46)، قال - تعالى-: ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) (القيامة: 37)، قال - تعالى -: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) (الإنسان: 2)، قال - تعالى -: ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس: 19).
وجاءت هذه المرحلة بعد اكتمال خلق أول ذكر وأول أًنثى من الكائن البشرى، والنطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، حيث يختلط بعد عمليه الجماع ماء الرجل مع ماء المرأة فيصير الماءان نطفه.
ومن عجائب قدره الله - سبحانه -، أن يصل تعداد الحيوانات المنوية التي تفرزها الخصيتين إلى ما بين مائتين إلى ثلاثمائة حيوان منوي في الدفعة الواحدة، بينما الأنثى تدفع بويضة واحدة عليها تاج مشع، ولا يصل من الكميات الهائلة من الحيوانات المنوية إلى البويضة إلا حيواناً منوياً واحداً.
وما أن يتم التحام الحيوان المنوي بالبويضة، حتى تباشر البويضة الملقحة بالانقسام إلى خليتين، فأربع، فثمان وهكذا.... دون زيادة في حجم مجموع هذه الخلايا عن حجم البويضة الملقحة، وتتم عمليه الانقسام هذه والبويضة في طريقها إلى الرحم، ثم تأتي المرحلة الثانية وهى:
2- العلقة:
ورد ذكر لفظ العلقة في القرآن الكريم في خمس آيات: قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " (الحج: 5)، قال - تعالى -: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: 67)، قال - تعالى -: ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14)، قال - تعالى-: ( ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (القيامة: 38).
والعلقة: هي القطعة من العلق وهو الدم الجامد.
وبعد أن تصل البويضة المخصبة إلى الرحم، وبعد انقسامها تصبح عبارة عن كتله من الخلايا الصغيرة، يطلق عليها اسم التوتة حيث تشبه ثمره، حينئذ تتعلق بجدار الرحم، وتستمر في التعلق مده أربع وعشرين ساعة، وتتميز العلقة من طبقتين هما: طبقه خارجية " آكله ومغذيه "، وطبقه داخليه، ومنها يخلق الله الجنين.
وقد سمى الله - سبحانه - أول سوره نزلت في القرآن باسم هذه المرحلة، ليذكرنا الله - سبحانه - بتلك اللحظات التي كان فيها الإنسان عبارة عن كتله دم عالقة بجدار الرحم تستمد منه الدفء والغذاء والسكن، قال - تعالى-: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ) (العلق: 1-2).
3-المضغة:
ذُكر لفظ المضغة في القرآن الكريم ثلاث مرات مرتين في سوره (المؤمنون: 14). ومرة واحدة في سوره (الحج: 5)، والمضغة هي القطعة الصغيرة من اللحم بقدر ما يمضغ وبعد عمليه العلوق تبدأ مرحله المضغة في الأسبوع الثالث، وهذا الطور يمر بمرحلتين:
أ- غير المخلقة: تستمر هذه المرحلة من الأسبوع الثالث حتى الأسبوع الرابع، ولا يكون هناك أي تمايز لأي عضو أو جهاز.
ب- المضغة المخلقة: يمر الحمل بعد نهاية الأسبوع الرابع بجمله من التغيرات الدقيقة والمدهشة وتنمو فيها الخلايا وتتطور، ليكون الإنسان في أحسن تقويم وتنتهي هذه المرحلة في نهاية الشهر الثالث تقريباً.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين المرحلتين فقال - تعالى-: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5).
وقد راعى القرآن الكريم الفارق الزمني والخلقي بين كل طور من أطوار الخلق، فالمسافة بين النطفة والعلقة مسافة كبيره في ميزان الخلق وإن كانت غيره بعيده في حساب الزمان ولذا جاء التعبير في النقاه بين النطفة والعلقة فاصلاً بينهم بثم "...... ( ثم خلقنا النطفة علقة)، فالمسافة شاسعة بين النطفة والعلقة سواء أكانت نطفه الذكر "الحيوان المنوي " أم نطفه الأنثى " البويضة "، أو هما معاً " النطفة الأمشاج "والتي في قناة الرحم لتصل إلى القرار المكين فتستقر فيه، ولكن ألنقله بين العلقة والمضغة سريعة والمسافة قريبه، فإن العلقة تدخل إلى المضغة دون أن يكون هناك فارق زمني أو خلقي كبير ومن ثم جاء التعبير عنها بالفاء، دلالة على الاتصال فيها: ( فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً)، وكذلك بين المضغة والعظام ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)، ثم تبطئ السرعة، ويأتي فارق زمني وخلقي ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1).
4- العظام:
في هذا الطور تتحول قطعه اللحم إلى هيكل عظمى، قال تعالى: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) (المؤمنون: 14)7.
6 - كساء العظام بالحم: قال - تعالى-: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) (المؤمنون: 14)، فهذه الآية تشير إلى أن العظام تتشكل أولاً ثم يلتف حولها اللحم والعضلات كأنه كساء لها، وهذا التصوير الدقيق يشير إلى عظمه القرآن ودقته.
7- الخلق الأخر:
وفي هذه المرحلة يكون نفخ الروح، وتكون هذه النفخة بعد مرحله العلقة نحو أربعه أشهر، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغه مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) (7). قال - تعالى -: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ)، أي خلقً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيواناً بعد أن كان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره، بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه، عجائب فطريه، وغرائب حكمته، لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح..... (8).
ويقول صاحب الظلال: لقد نشأ ال*** الإنساني من سلاله من طين، فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنه الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب الرجل، فتستقر في رحم امرأة، نطفه مائية واحدة، لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة، تستقر: ( في قرار مكين) ثابتة في الرحم الغائر بين عظام الحوض المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات!
والتعبير القرآني يجعل النطفة طوراً من أطوار النشأة الإنسانية، تالياً في وجوده لوجود الإنسان، وهي حقيقة، ولكنها حقيقة عجيبة تدعوا إلى التأمل، فهذا الإنسان الضخم يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة، كما يعاد من جديد في الجنين وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التخصيص العجيب.
ومن النطفة إلى العلقة، حينما تمتزج خليه الذكر ببويضة الأنثى، وتتعلق هذه بجدار الرحم نقطه صغيره في أول الأمر، تتغذى بدم الأم.......
ومن العلقة إلى المضغة، حينما تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحول إلى قطعه من دم غليظ مختلط..... وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول، ولا تتوانى حركته المنتظمة الرتيبة، وبتلك القوه الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير، حتى تجئ مرحله العظام.... ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا)، فمرحلة كسوه العظام باللحم: ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ).... وهنا يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن، من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة.
أخيراً: بعد تقدم علم الأجنة التشريحي، ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم، وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً في الجنين، ولا تشاهد خليه واحده من خلايا اللحم إلا بعد ظهور العظام، وتمام الهيكل العظمى للجنين وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا)، ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ).... فسبحان العليم الخبير!
( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ ).... هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة، فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعد للارتقاء.
ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان.
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينه هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد، وهو ينشأ ( خَلْقًا آَخَرَ )، في آخر أطواره الجنينية، بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني؛ لأنه غير مزود بتلك الخصائص، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً كما تقول النظريات المادية فهما نوعان مختلفان، اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي صارت سلاله الطين إنساناً، واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني ( خَلْقًا آَخَرَ )، وإنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني، ثم يبقى الحيوان حيواناً في مكانه لا يتعداه، ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال، بواسطة خصائص مميزه، وهبها الله عن تدبير مقصود لاعن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان. (10).
قال - تعالى-: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر: 6). يقصد بهذه الظلمات، ظلمه البطن وظلمه الرحم، وظلمه المشيمة.
وبعد مرحله النفخ تأتى مرحله تكوين السمع والبصر، قال - تعالى -: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78)، وقدم - سبحانه - السمع قبل البصر، وقد ثبت علمياً أن السمع يتكون قبل البصر، ثم بعد ذلك يستمر نمو الإنسان في بطن أمه يوماً بعد يوم إلى أن يكتمل نموه ويصير طفلاً ( ثم يخرجكم طفلاً ).
المستفاد تربوياً من دراسة أطوار خلق الإنسان:
1- أن هذا الإنسان الذي بشأ الله - تعالى -خلقه من طين وماء مهين، كرمه - سبحانه وتعالى - حيث جعل الملائكة العابدون الطائعون النورانيون الذين في طاعة دائمة لا يعصون الله ما أمرهم يسجدون له، سجود طاعة لله لا سجود عباده لآدم، قال - تعالى -: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34)
وكذلك أخرج من رحمته من رفض السجود له لذلك نهى العلماء أن يهان الإنسان وأن يضرب على وجهه حتى ولو كان لأجل التربية وتقويم السلوك، قال - تعالى-: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).(الإسراء: 70).
2- خلق الله - تعالى- في عدة أطوار، حيث أنسأه - سبحانه - بالتدرج طوراً بعد طوراً حتى صار في أحسن تقويم، وهو جل شأنه قادراً على أن يقول له كن، ولكنه - سبحانه وتعالى - اختار لنفسه سنه الإنشاء المتدرج، وهذه هي سنه الله - تعالى- في خلقه.
ولذلك علينا أن نأخذ هذا التدرج بعين الاعتبار في تربيه الإنسان، وأن عمليه التربية لا تأتي دفعة واحدة.
3- كانت قبضه التراب التي خلق منها آدم من جميع الأرض، لذلك خرجت ذريته متفرع متنوعة مختلفة منها الأسود والأبيض والطويل والقصير والصالح والطالح، وعلى هذا فإن هناك فروقاً فرديه بين البشر جماعات وأفراد، وعلى المربين أن ينوعوا ويغيروا من أساليبهم وطرقهم في التربية على حسب الحاجة.
4- الطاعة المطلقة لله - سبحانه وتعالى -، والاستسلام والانقياد لأوامره - سبحانه وتعالى -، وأن من سولت له نفسه الاعتراض وعدم المبادرة فهو ملعون مطرود من رحمته - جل وعلا -.
5- خلق الله الإنسان في أحسن تقويم قال - تعالى -: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4). والميعاد في ذلك هو الأيمان والعمل الصالح.
6- يتكون الإنسان من جزأين أساسيين جزء ملموس وجزء محسوس وهما الجسد والروح ولابد أن يتم إشباع الجزأين، فكلاً منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.
ويستفاد تربوياً من دراسة أطوار الجنين في:
- تتابع هذه الأطوار طوراً بعد طوراً، يشهد بوجود الله - سبحانه وتعالى -، وبيان عظمته جل شأنه وبديع صنعه.

كما أن نشأه هذه الأطوار وتتابعها بهذا النظام، يدل على أن مقصود مدبر ولا يمكن أن يكون مصادفه.

- الإيمان بالله - سبحانه وتعالى -، والسير على نهيج القرآن، والتسليم والانقياد الكامل لله - سبحانه وتعالى-.

ذكر القرآن الكريم لهذه المراحل والأطوار بهذا التتابع، بعكس اهتمام القرآن الكريم بالإنسان عامة وبالطفل خاصة.

أطوار الإنسان في القرآن الكريم:

إذا نظرنا وتدبرنا ما ورد في القرآن الكريم عن الإنسان نظرة تحليل وتقسيم لأطواره سنجد آن الله - سبحانه وتعالى - لم يضع حدوداً فاصله بين أطوار ومراحل الإنسان، إلا أنني أجتهد في هذه الدراسة معتمداً على الله مستدلاً بالآيات والأسماء التي وردت متعلقة بهذه الأطوار وأقوال العلماء فيها والله ولى التوفيق.

أولاً: مرحله المهد:

ورد لفظ المهد في المعجم الوجيز بمعنى السرير يهيأ للصبي ويوطأ لينام فيه، ومهد بمعنى "وطأ وسهل المهد: - أسم للمضجع الذي يهيأ للصبي في رضاعه، وهو في يمهده الأصل مصدر مهده إذا بسطه وسواه. (1)

ويقول ابن كثير في تفسيره لقوله - تعالى -: ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) (مريم: 29) أي كيف تخيلنا في الجواب على صبى صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بيت مخض وزبده؟ (2)
من خلال ذلك نرى أن مرحله المهد تمتد منذ الولادة حتى الفطام أو هي مدة الرضاعة، حيث يُبسط ويهيأ للصبي فيها حتى يشد عوده ويستطيع الحركة والأكل مما على الأرض.
ثانياً: مرحله الصبا: من المهد إلى ما قبل البلوغ
ورد لفظ الصبا في المعجم الوجيز بمعنى الصغر والحداثة، وهو من" صبا فلان - صبوه "وصبوه بمعنى مال إلى اللهو، وإليه حسن وتشوق، أما اسم الفاعل (الصبي) فهو الصغير دون الغلام، أو من لم يفطم بعد والصبية والصبيان هو الناشئ الذي يدرب على المهنة بالعمل والمحاكاة، قال تعالى: ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم: 12).
قال صاحب الوسيط في تفسيره لهذه الآية:

يعني صبياً لم يبلغ الحلم، وقد أورد القرطبي قولاً لابن عباس في تفسيره لهذه الآية: "من قرآ القرآن قبل آن يحتلم فهو ممن أوتى الحكم صبياً" وقال الطبري: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال، وعند الفقهاء الصبي مادون الحلم؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (( رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)) (1).

ثالثاً: مرحله الفتوه:

تمتد هذه المرحلة من الاحتلام حتى مرحله الكهولة، وقد جاء في الوجيز الشباب: بين المراهقة والرجولة، والفتى: الشاب أول شبابه بين المراهقة والرجولة – والخادم، وفى القرآن الكريم: ( قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا ) (الكهف: 62).
وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف: 10)، إذا أخذت أقوال المفسرين في الفتيه ستجد أنها مرحله الشباب أو ما بعد الاحتلام، فقد قال ابن كثير: "الفتيه جمع فتى جمع تكسير وهو من جموع الفتيه ويد للفظ الفتيه على أنهم شباب لا شيب"، وفي تفسير الجلالين: " الفتيه جمع فتى وهو الشاب الكامل"، ويقول د/ محمد سيد طنطاوي في الوسيط: " الفتيه جمع فتى وهو وصف للإنسان عندما يكون في مطلع شبابه"، وقال أيضاً في تفسيره؛ لقوله - تعالى-: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي َرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الأخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (يوسف: 36)، الفتيان تثنيه فتى، وهو من جاوز الحلم ودخل في سن الشباب.
رابعاً: الكهوله:
يصير الفتى كهلا عندما تكتمل قوته البدنية والعقلية أي هي مرحلة الاكتمال والرشد، وفي المعجم الكهل: من جاوز الثلاثين إلى نحو الخمسين( 13).

قال - تعالى-: ( ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين) يقول الإمام القرطبي الكهل: "بين حال الغلومة وحال الشيخوخة " وفي تفسير البغوي العرب تمدح الكهولة؛ لأنها الحالة الوسطى في استحكام السن واستحكام العقل ورجوح الرأي والتجربة، وقد أورد البغوي في تفسيره لهذه الآية قولاً لابن عباس، قال: "أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنه، ممكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله إليه"
خامساً: الشيخوخة:
تمتد هذه المرحلة ما بين الكهولة والهرم، وفى الوجيز شاخ الإنسان شيخاً، وشيخوخة: أسن، والشيخ: من أدرك الشيخوخة وهي غالباً عند الخمسين، وفوق الكهل ودون الهرم.
بعد الانتهاء من هذه المرحلة الكهولة يدخل الإنسان في مرحله جديدة من النمو، ومن الملاحظ أن الإنسان في هذه المرحلة يضعف عن القيام بما كان يقوم في المرحلة السابقة، ويستمر الضعف حتى يصل إلى الوفاة، وهذه من حكمت الله في خلقه أن كل شيء إذا تم يبدأ في الانتقاص من حيث بدأ، ويقول الله - تعالى-: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: 67)
وقال أيضاً "ً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً" (الأحقاف: 150)، أى أن هذه المرحله تبدأ بعد الأربعين.
سادساً: الهرم: -
وقد ورد في الوجيز، هَرم الرجل هرماً: أي بلغ أقصى الكبر وضعف فهو هرم، يقول الأمام الشنقيطي في أضواء البيان، قوله - تعالى -: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)، يبين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنهم بعد أن أنشأهم خلقاً آخر فأخرج الواحد منهم من بطن أُمه صغيراً ثم يكون محتلماُ ثم يكون شاباً ثم يكون كهلاً ثم يكون شيخاً ثم هرماً أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عَمر منهم ومن لم يعَمر.
ويقول أيضاً الإمام بن كثير: قال العفوي عن بن عباس: ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) يعني تنقله من حال إلى حال أي خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً ثم احتلم ثم صار شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً".
ومن الجدير بالذكر أنه ليس هناك حدوداً زمنيه فاصله بين هذه المرحلة؛ لأن هناك فروقاً وظروفاً ومؤثرات قد تختلف من فرداً لأخر ومن بيئة إلى أُخره كلاً حسب ما يسره الله له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [الموسوعة القرآنية المتخصصة ص 780: ا. د /عبد الحي الفرماوي]
(2) [أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحة، وقال الترمذي: حسن صحيح].
(3) [ارجع إلى أضواء البيان وتفسير القرآن العظيم وفتح القدير فى تفسير الحجر: 26].
(4) [رواه البزار والترمذي والنسائي في اليوم والليلة].
(5) [الوسيط: ج 12، ص 181].
(6) [التفسير التربوي ج3: ص 145].
(7) [علم أطوار الإنسان: ص 100].
(8) [البخاري: بدء الخلق، ومسلم: القدر]
(9) [الكشاف ج 3، ص 178].
(10) [في ظلال القرآن: ج 5، ص 182].
(11) التفسير الوسيط ج 9 ص 34.
(12) [البداية والنهاية]
(13) [رواه أحمد، وأصحاب السنة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، وحسنه الترمذي].

عمرو_كامل
20-10-2016, 04:50 PM
بارك الله فيك