مشاهدة النسخة كاملة : معنى الايكولوجيا العميقة


مجمد جاد الاسوانى
29-08-2015, 12:58 AM
لإيكولوجيا العميقة: المصطلح ودلالته
ابتكر مصطلح الإيكولوجيا العميقة الفيلسوف النرويجي آرني نيس Arne Naess في مقالة كتبها عام 1973 في مجلة inquiry النرويجية بعنوان «الضحل والعميق: حركات الإيكولوجيا بعيدة المدى»، وأشار بذلك إلى الانقسام الصاعد في الفكر الإيكولوجي بين تيارين: الإيكولوجيا الضحلة السائدة آنذاك والتي وصفها بأنها تكافح التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية (أي تتعامل مع المشكلات البيئية) مركزة اهتمامها على صحة ورفاهية سكان البلدان المتطورة؛ والإيكولوجيا العميقة التي يُعدّ ما سبق مجرد جزء من اهتمامها، لأنها تطرح أسئلة أعمق حول طبيعة المشكلات البيئية(7).
والفرق بين الضحل والعميق يتجاوز الدلالة اللغوية ليشير إلى مقاربتين فكريتين مختلفتين. يوضح آرني نيس هذا الفرق فيما يخص مشكلات بيئية محددة، كالتلوث مثلاً. فالمقاربة الضحلة ترى أنه يمكن التغلب على المشكلة عن طريق تنقية الهواء والماء باستخدام التكنولوجيا والاختراعات العلمية، وكذلك بسن القوانين التي تحدد نسبة الانبعاثات الملوثة المسموحة. وقد يجري تصدير الصناعات الملوثة والنفايات إلى أقاليم وبلدان أخرى. أما المقاربة العميقة فتقيّم المشكلة من وجهة نظر النطاق الحيوي ككل، فلا تركز حصرياً على تأثيراته على صحة الإنسان، بل على الحياة بأشكالها المتنوعة، ولا على إقليم محدد بل على النطاق البيئي بأكمله. بعد هذا التوسيع الأفقي لمنظورها، تمضي الإيكولوجيا العميقة بالتساؤل «عمودياً» بغرض فهم المشكلة وعلاقتها بالمشكلات الأخرى، ومدى ارتباطها بالقيم والأفكار والأهداف التي توجه البشر في نشاطهم، ودور أسلوب الحياة lifestyle ومجمل الشروط الحضارية في إحداث المشكلة(8).
أصول الأزمة البيئية
أوصلت هذه السيرورة التساؤلية مفكري الإيكولوجيا العميقة إلى فحص أسس الحضارة الحديثة والمعاصرة وتقصي النظرة إلى العالم التي حدثت المشكلات البيئية في سياقها. يرى فريتجوف كابرا Fritjof Capra «أننا يجب أن ننظر، وإلى حد بعيد، إلى هذه المشكلات كوجوه مختلفة لأزمة واحدة هي إلى درجة كبيرة أزمة في الفهم. فهي تنجم عن حقيقة أن معظمنا، وعلى الأخص مؤسساتنا الاجتماعية الكبيرة، تشترك في مفاهيم نظرة إلى العالم فات أوانها، وفي إدراك للواقع غير كافٍ للتعامل مع عالمنا المكتظ والمترابط»(9).
هذه النظرة التي فات أوانها ما هي إلا النظرة الحديثة إلى العالم المهيمنة حالياً التي تعد نواة أسلوب الحياة المعاصر، ووجَّهت وتوجه مسيرة العلم والتكنولوجيا والمجتمع منذ مئات السنين. ويعتبر مفكرو الإيكولوجيا العميقة أن العواقب البيئية لهذه النظرة ترجع إلى الافتراضات الأربعة الأساسية التالية:
«1 - يختلف البشر جوهرياً عن المخلوقات الأخرى على كوكب الأرض، وهذا الكوكب يعدّ ملكية حصرية لهم.
2 - العالم ضخم وواسع، ولذلك فهو يؤمن فرصاً غير محدودة للبشر.
3 - البشر سادة مصيرهم الخاص، ويمكنهم اختيار أهدافهم والقيام بأي شيء ضروري لإنجازها.
4 - إن تاريخ البشرية هو تاريخ التقدم، ولكل مشكلة ثمة حلّ، ولذلك لا ينبغي للتقدم أن يتوقف»(10).
في السياق ذاته، ينظر غريغوري باتيسون Gregory Bateson إلى الأفكار الخاطئة حول طبيعة الإنسان وعلاقته بالبيئة كعامل رئيسي في إحداث الأزمة البيئية، ويرجع هذه الأفكار المهيمنة في الحضارة الغربية إلى الحقبة الصناعية، ويلخصها كما يلي: «1 ـ نحن ضد الطبيعة ـ 2 ـ نحن ضد البشر الآخرين ـ 3 ـ الفرد (أو الشركة المفردة أو الأمة المفردة) هو موضع الاهتمام والتركيز ـ 4 ـ نستطيع السيطرة على البيئة وينبغي أن نكافح لتعزيز هذه السيطرة ـ 5 ـ التقدم التكنولوجي كفيل بحل المشكلات»(11).
ولكن من أين انبثقت هذه الافتراضات والأفكار؟ ما هو المصدر أو القوة الدافعة التي كانت وراءها؟ يجيب مفكرو الإيكولوجيا العميقة عن هذا التساؤل بالعودة إلى اللحظة التأسيسية الديكارتية التي دشنت العصر الحديث. يقول فريتجوف كابرا: «أقام ديكارت نظرته إلى الطبيعة على التقسيم الأساسي بين عالمين مستقلين منفصلين ـ عالم العقل وعالم المادة. ورأى الكون المادي، وبضمنه الكائنات الحية، كالآلة التي يمكن فهمها من حيث المبدأ بتحليلها إلى أجزائها»(12). كان من نتائج هذا الفهم التعامل مع الطبيعة كآخر other ينبغي مواجهته وإخضاعه واستغلاله والتحكم به لخدمة أهدافنا الخاصة مع كل ما يتضمنه ذلك من مركزية بشرية Anthropocentrism ترسخت في سياق تطور الحضارة الغربية الحديثة، وأصبحت نواة النظرة الحديثة إلى العالم المهيمنة حالياً.
والمركزية البشرية هي النظرة التي تضع ال*** البشري في مركز الكون، والاتجاه الذي يعزو أهمية خاصة للكائنات البشرية والاهتمامات البشرية في المخطط العام للأشياء. وقد نجم عن هذا المنظور ميل الإنسان إلى التعامل مع البيئة ومكوناتها المادية والحية، أي مع الطبيعة عموماً، بوصفها مرصودة ومركونة لأجل منفعته وخدمته، وبذلك وجد المسوِّغ لاستغلال البيئة والتحكم بمكوناتها وتوجيهها لخدمة الأهداف الخاصة لنا نحن البشر.
وقد تجلّى التعبير الأبرز عن المركزية البشرية على المستوى المعرفي في الدعوة التي أطلقها ديكارت Descartes إلى إيجاد فلسفة عملية تتيح سيادة الإنسان على عالم الطبيعة. يقتبس بيل ديفال Bill Devall وجورج سيسشنز George Sessions من مقالة ديكارت في المنهج المقطع التالي:
«أقنعتني اكتشافاتي أنه من الممكن أن نصل إلى معرفة ستكون ذات نفع كبير في هذه الحياة، وأنه بدلاً من الفلسفة التأملية التي تدرس الآن، نستطيع أن نجد فلسفة عملية نعرف بواسطتها طبيعة وسلوك النار والماء والهواء والنجوم والسماء وكل الأجسام الأخرى، وبالإضافة إلى ما نعرفه الآن من المهارات المختلفة لعمّالنا، نستطيع أن نستخدم هذه الكيانات وفق الأغراض المناسبة لها، وبذلك نجعل أنفسنا سادة الطبيعة وملاّكها»(13).
لم تقتصر النظرة الحديثة إلى العالم المهيمنة حالياً والمركزية البشرية المرافقة لها على الجانب المعرفي في علاقة الإنسان بالبيئة، بل تعدّته إلى الجانب القيمي الذي تجلى في غياب أي اعتبار أخلاقي لدى الإنسان للطبيعة أو مكوناتها. فعندما يكون البشر مركز الكون فإنهم يصبحون أيضاً محور عالم الأخلاق والقيم الأخلاقية. وسوف يعني هذا أن يتم تعريف الخير والشر بالإحالة إليهم فحسب، مما يعني أن الآخر- غير البشري the non-human other، سواء من المخلوقات الأخرى أو المنظومات البيئية الداعمة للحياة، لا يملك قيمة خاصة به تؤهله لاستحقاق الاعتبار الأخلاقي، بل إن قيمته مرتبطة حصرياً بمدى نفعه للبشر.
مبادئ الإيكولوجيا العميقة
من خلال هذا الفهم الذي تقدمه لأصول الأزمة البيئية، تدعو الإيكولوجيا العميقة إلى نبذ النظرة الحديثة إلى العالم المهيمنة حالياً مع ما يرافقها من مركزية بشرية تجعل الإنسان الحقيقة المحورية في الكون، وتتذهن الطبيعة وكائناتها كآخر أدنى من الحياة البشرية. وبديلاً عن ذلك تطرح «مركزية» إيكولوجية Ecocentricism تقوم على الترابط والاعتماد المتبادل بين أعضاء النطاق البيئي، وتُحِلّ الانسجام والتناغم بين الإنسان والطبيعة محل أفكار وقيم السيطرة والغطرسة. تُبنى المركزية الإيكولوجية على مبدأين رئيسيين هما المساواتية الحيوية Biocentric Equality وتحقيق الذات Self – Realization :
أ- المساواتية الحيوية
تعني المساواتية الحيوية أن «كل الأشياء في النطاق الحيوي لها الحق المتساوي في العيش والازدهار وبلوغ أشكالها الفردية الخاصة من التفتح»(14). ويراد بهذا المبدأ إقصاء البشر عن ذروة سلم التراتبية، بل ورفض لوجود هذه التراتبية استناداً إلى الاعتماد المتبادل بين أعضاء النطاق الحيوي، والذي من خلاله يسهم كل عضو في بقاء الأعضاء الآخرين على نحو تكافلي وتكاملي. وهذا يقتضي أن كل عضو يمتلك قيمته الأصلية inherent Value النابعة من هذا الإسهام وليس من خلال نفعه للبشر حصرياً.
المركزية البشرية هي النظرة التي تضع ال*** البشري في مركز الكون، والاتجاه الذي يعزو أهمية خاصة للكائنات البشرية والاهتمامات البشرية في المخطط العام للأشياء. وقد نجم عن هذا المنظور ميل الإنسان إلى التعامل مع البيئة ومكوناتها المادية والحية، أي مع الطبيعة عموماً، بوصفها مرصودة ومركونة لأجل منفعته وخدمته
من جهة أخرى، تستند المساواتية الحيوية إلى نظرة الإيكولوجيا العميقة إلى الحياة ككل، أي «كسيرورة متكاملة»(15) نشأت في سياق السيرورات الطبيعية الأخرى. فعلى الرغم من التنوع والتعقيد الذي نلاحظه لدى الكائنات الحية، إلا أن «الحياة واحدة أساسياً»(16)، ومن هنا أيضاً تأتي القيمة الأصلية المتساوية لكافة أشكال الحياة. وينبغي أن نوضح أن مصطلح الحياة يستعمل هنا بمعنى أوسع من مجرد الدلالة على أفراد الكائنات الحية ليشمل الأنواع الحية والمنظومات البيئية التي تحتضن الحياة وترعاها.
ولكن، ما هو شأن التدخلات البشرية في الطبيعة، كالتغذي على الحيوان والنبات وقطع الأشجار وبناء السدود.. إلخ؟ فالكائنات الحية تستعمل بعضها بعضاً وتغير بيئاتها، فما حدود المساواتية الحيوية إذاً؟ في الحقيقة، لا تصل الإيكولوجيا العميقة إلى حد الحظر أو التحريم المطلق، كما يفعل أنصار حقوق الحيوان مثلاً، بل تربط التدخلات البشرية في الطبيعة بتحقيق الحاجات الحيوية الضرورية وفق القوانين الإيكولوجية التي تحفظ تنوع الحياة. ويتم ذلك بأن يراعي النشاط البشري مبادئ استدامة sustainability المنظومات البيئية مع كل ما يتطلبه ذلك من تغييرات اجتماعية واقتصادية وإيديولوجية تقود إلى أسلوب حياة مستدام يختلف جذرياً عن أسلوب الحياة المعاصر(17).
ب- تحقيق الذات
تتصل المساواتية الحيوية على نحو وثيق بمفهوم تحقيق الذات، ومع أن آرني نيس هو أول من وضع المصطلح، إلا أنه رفض تجميده في تعريف محدد، ويقول في هذا الصدد: «يخيب أمل الناس لأنني أستطيع تأليف كتاب حول حدس لم يشرح أو يُعرّف في أي موضع»(18)، لكن من الواضح أن الهدف الرئيسي من هذا المفهوم يتمثل في إعادة ربط الإنسان بالطبيعة، وأول خطوة في هذا الربط تتم عبر اقتراح مفهوم الذات الإيكولوجية ecological self التي تمضي إلى أبعد من الذات الغربية الحديثة المعرَّفة كـ (أنا) معزولة مستقلة تجهد في المقام الأول في سبيل الإشباع وتضع نفسها في مواجهة الطبيعة(19).
إن تحقيق الذات الإيكولوجية ليس هدفاً نسعى إليه أو موضعاً معيَّناً نقترب منه، بل سيرورة مستمرة من النضج والنمو الروحي تتطلب التوحد (20) مع الآخر، البشري وغير البشري. فعندما نكتشف أن الآخر مكوِّن من مكونات ذاتنا فهذا يعني أننا لا نستطيع الانفصال عنه أو تدميره إذا أردنا تحقيق ذواتنا. بمعنى آخر، إن الذات تنطوي على أبعاد/ ممكنات متنوعة (البعد البيولوجي والطبيعي والاجتماعي والثقافي..) تتفتح في السياق التطوري والتاريخي. وتحقيق الذات ما هو إلا هذا التفتح المستمر.
هذا التوسيع لمفهوم الذات، أو هذه النظرة التي ترى وحدة الطبيعة والذات، هي مصدر أخلاقيات جديدة بيئية تكون نواة أسلوب الحياة الإيكولوجي ومفتاحاً للوعي البيئي. يكتب آرني نيس: «تنشأ العناية بالطبيعة تلقائياً عندما تتسع الذات وتتعمق بحيث نشعر أن حماية الطبيعة هي حماية لأنفسنا. فنحن لا نحتاج إلى توصيات أخلاقية كي نتنفس. لذلك، عندما تشمل ذاتك، بالمعنى الموسع، كائناً آخر فلن تحتاج إلى مواعظ أخلاقية كي تقوم بالعناية به. إنك تعتني بذاتك دون شعور بالضغط الأخلاقي لفعل ذلك. هكذا، عندما يكون الواقع هو ذلك الذي تختبره الذات الإيكولوجية سيتبع سلوكنا بشكل عفوي وجميل معايير أخلاق بيئية دقيقة»(21).
خاتمة
لعل ما يميز الإيكولوجيا العميقة هو كشفها للبعد الفلسفي الذي تنطوي عليه الأزمة البيئية. وهي إذ تفعل ذلك عبر سيرورة التساؤل العميق وصولاً إلى الأساسيات، فإنها تذكرنا بالنهج السقراطي في توليد الحقيقة. كما أنها حين تدعو البشر إلى العيش مع أخذ كوكب الأرض بالحسبان، أي من خلال إقامة علاقة متوازنة مع الأرض واعتبارها عاملاً مقرراً ومحدداً في جميع نشاطاتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الصعيد النظري والعملي، إنما تضفي على الفلسفة ذلك المعنى الذي ربما بهت قليلاً، أقصد الفلسفة كضرب من الحكمة: حكمة التفكير وحكمة التدبير.

* * * *
الهوامـش:
1 - Kumar, H.D, Modern Concepts of Ecology, Vikas Publisher House, New Delhi, 2nd ed., 1981, p. 1.
2 - حول نشأة الإيكولوجيا ينظر:
الحفار، محمد سعيد، الموسوعة البيئية العربية، قطر، 1998، المجلد الأول، ص 100.
ماير، أرنست، هذا هو علم البيولوجيا، ت: عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 22، الكويت، 2002.
3 - Kumar, op. cit., p. 2.
4 - Ibid., p. 3.
5 - Ibid., pp. 3-4.
6 - ينظر الفصل المعنون «الإنسان مشكلة البيئة» لدى:
الحمد، رشيد، وصباريني، محمد سعيد، البيئة ومشكلاتها، سلسلة عالم المعرفة، العدد 22، ط. 2 (منقحة)، الكويت، 1984.7

alijandro
30-08-2015, 12:11 AM
مشكووووووووووووووووووووووور