عرض مشاركة واحدة
  #62  
قديم 16-08-2010, 12:22 PM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,781
معدل تقييم المستوى: 20
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

صور من نتاج التربية الجادة


إن ما سبق حشده من المسوغات والمبررات لرفع الصوت بالمطالبة بالتربية الجادة كافٍ فيما أحسب أن يوجد لدينا الاقتناع بأهميتها وضرورتها.
لكن ذكر النماذج الواقعية يزيد اقتناعاً بإمكانية تحول المقررات العقلية إلى واقع عملي ملموس.
ومن ثم فهذه نماذج وصور من التاريخ القريب والبعيد، ناطقة وشاهدة بأن التربية الجادة شجرة مباركة تؤتي الثمار اليانعة بإذن الله عز وجل.
أ- في العبادة:
سأل سعد بن هشام بن عامر عائشة -رضي الله عنها-: "أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟! قال: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ...". [رواه مسلم 746].
وفي رواية: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم". [رواه النسائي 1601، وأبو داود 1342].
أما النبي صلى الله عليه وسلّم فقد سار على هذا المسلك، فعن المغيرة رضي الله عنه قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلّم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا". [رواه البخاري 1130، ومسلم 2819].
وتروي هذا المعنى أيضاً عائشة رضي الله عنها إذ تقول: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً.
فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع". [رواه البخاري 4837، ومسلم 2820].
حين سأل علي بن أبي طالب وفاطمة -رضي الله عنهما- رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خادماً أمرهما صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح قبل النوم والتكبير والتحميد، قال علي رضي الله عنه: "فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قيل له: ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين". [متفق عليه. والشاهد منه عند مسلم 2727].
إن النفوس الجادة الصادقة تدرك أن العبادة والصلة بالله تبارك وتعالى أمر لا غنى لها عنه، حتى في الأوقات التي يغفل فيها من يغفل، ويسهو من يسهو فإن هذه النفوس لا تنسى نصيبها من العبادة وصلتها بربها.
وها هو عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم إذا رأى رؤيا قصّها على النبي صلى الله عليه وسلّم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلّم. وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: نِعْمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً". [رواه البخاري 3738- 3739].
ب- في العلم:
1- لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً:
حين قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل وسألوه عن أعلم أهل الأرض فلم يكن يعلم أن هناك في الأرض أعلم منه، قال عن نفسه إنه أعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، وصار له هذا الخبر الذي نقرؤه في سورة الكهف.
عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "قام موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟! فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب، وكيف به؟! فقيل له: احمل حوتا في مكتل فإذا فقدته فهو ثم ..." . [رواه البخاري 122، ومسلم 2380].
ويحكي لنا القرآن تصميم موسى وعزيمته حين قال: (ُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً). [الكهف:60]. ومضى حتى لقي النّصَب، ولم يجد مسّ النّصَب إلا حين فارق المكان الذي أُمر به.
لقد قام موسى بهذه الرحلة الشاقة من أجل أن يتعلم، فتعلم ثلاث مسائل، فهل نرى اليوم في أتباعه وأتباع محمد صلى الله عليه وسلّم من ينصب ويجتهد لتحصيل العلم؟!
2 - هل وجد لهم وقتاً؟!:
قال أبو حاتم عن القعنبي: "سألناه أن يقرأ علينا الموطأ فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند حجاج بن منهال، قال فإذا فرغتم منه، قلنا نأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم، قال فإذا فرغتم، قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال فبعد العصر، قلنا نأتي عارماً أبا النعمان، قال فبعد المغرب، فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كَبْلٌ. [كبل: بسكون الباء هو الفرو الكثير الصوف الثقيل. اللسان 11/ 581]. ما تحته شيء في الصيف فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذ. [سير أعلام النبلاء 10/ 260].
لقد كان هذا الموقف أثناء فصل الصيف، وكان لهم ثلاثة دروس وقت الضحى، ودرس بعد العصر، في ظل غياب وسائل التبريد وتخفيف حرارة الجو، ولست أدري من أي الموقفين العجب موقف الطلبة الذين احتملوا كل هذه المشقة، أو موقف الشيخ الذي استجاب لهم رغم اعتذاراتهم عن عدد من الفرص التي منحهم إياها.
إن الذي يحمل الاستعداد التام أن يتعلم في مثل هذه الظروف، أو يعلِّم في مثل هذه المشقة سيدرك قيمة العلم وما يوجبه على صاحبه من: قيام بحقه، ودعوة إليه، وصيانة للعلم عن الابتذال والاحتقار والإهانة.
ونتطلع حينئذٍ لجيل الصحوة الحاضر؟! كم منهم من يحمل الاستعداد نفسه، والروح إياها التي يملك أبو حاتم وأصحابه؟!
ج- في الامتثال لأوامر الله:
حين استنفر النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه في غزوة تبوك تخلف عن الغزوة من تخلف، وكان ممن تخلف من الصادقين: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وحين سألهم النبي صلى الله عليه وسلّم كما سأل غيرهم عن سبب تخلفهم عن الغزوة لم يكن لهم عذر يقبله صلى الله عليه وسلّم فأمر الناس أن لا يكلمهم أحد، وبقوا على هذه الحال يمشون في شوارع المدينة، ويجوبونها وكأنهم يتعاملون مع أشباح وصور، وحين بلغوا أربعين يوماً أمروا أن يعتزلوا زوجاتهم فكانت عزلة أكثر، وحصاراً أشد، حتى بلغ بهم الحال إلى ما وصفه الله سبحانه وتعالى في قوله: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). [التوبة: 118].
وفي هذه الحالة يجيء كعبَ بن مالك -رضي الله عنه- خطاب من ملك غسان يطلب منه أن يلحق به فيسجره في التنور، ويسلم أمره لله، فجاء الفرج بعد خمسين ليلة. [حديث كعب: رواه البخاري 4418، ومسلم 2769].
إنها صورة من صور التربية الجادة، والتي تربى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم.
وكذلك المجتمع يعطي مثالاً في الجدية والانضباط، مما يعكس أثر التربية النبوية وهي في فترة النضج والتمام في العاشرة من الهجرة.
د- في الجهاد:
1- فليس مني:
سأل بنو إسرائيل نبياً لهم أن يُفرض عليهم الجهاد فيقاتلوا من أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم فكتب الله عليهم القتال، وولى عليهم طالوت، فسار بمن استجاب منهم، وحين فصل بهم ابتلاهم الله بهذا الابتلاء: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). [البقرة: 249].
إن الذي لا يستطيع أن يضبط نفسه ويثني رغبته، فيتخلى عن شرب الماء وهو متاحٌ أمامه لا يصلح أن يعتمد عليه في هذه المهمات، وبالمقابل فالذي يجتاز هذا الابتلاء تكون نفسه قد ارتفعت وسمت، وتطلعت إلى مرحلة عالية من الاستسلام والانضباط.
لقد كان الموقف يتطلب نفوساً عالية مهيأة لمثل هذا الدور، ومن هنا كانت هذه المواقف وسيلة لتنقية الصفوف من غير الجادين، حتى لم يبق إلا الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم: (يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ). [البقرة: 249]. فيسّر الله على يديهم الفتح.
2 - لا يتبعني أحد من هؤلاء:
حين رفض بنو إسرائيل الدخول إلى الأرض المقدسة وتاهوا أربعين سنة، أرسل إليهم يوشع بن نون عليه السلام فرأى أنه لابد من الاستفادة من التجربة السابقة فخطبهم قائلاً: "لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها.
قال: فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئاً فحبست عليه حتى فتح الله عليه...". [رواه البخاري 3124 مسلم 1747].
إن القضية قضية جهاد لا يحتملها إلا الرجال الجادون الصادقون، فمن ينتظر متاعاً من متاع الدنيا، أو تعلقت نفسه برغبة فانية، أو يجعل القضية على هامش الاهتمامات، لا يصلح أن يعتمد عليه في هذه المهمة الشاقة: (تحرير الأرض المقدسة).
ولقد استطاع هذا الجيل الجاد، أن يحقق الهدف، فحرر الله على يديه الأرض المقدسة.
3- لو سرت بنا:
حين خرج النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه لمواجهة المشركين في غزوة بدر، وكان أصحابه يظنون أنهم خرجوا للعير وفاتت العير ولم يبق إلا ذات الشوكة استشار صلى الله عليه وسلّم أصحابه كعادته، فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه- فأعرض عنه، ثم تكلم عمر -رضي الله عنه- فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: "إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا". [رواه مسلم 1779].
وفي رواية فقال بعض الأنصار: "إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار.
فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذاً لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). [المائدة: 24]. ولكن والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك". [رواه أحمد. قال ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 288: "هذا إسناد ثلاثي على شرط الصحيح". وانظر السيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 2/ 358-359. وهو من أحسن ما كُتب في السيرة].
لقد كان هذا الجيل الذي تربى تلك التربية أهلاً لأن يحقق تلك المنجزات والانتصارات والتي ليست بدر إلا فاتحتها، لقد كان يقول تلك الكلمة وهو في الميدان، وهو يدرك تماماً مسئوليتها، أما قبل ذلك فما أكثر من يقولها وحين يحين البأس تتحول اللهجة إلى: (وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). [النساء: 77].
وتبدو العبرة هنا لا في هذه المقولة التي لا تصدر من غير الجادين، بل في استشارة النبي صلى الله عليه وسلّم لعامة أصحابه وتحميلهم المسئولية في ذلك، فالاستشارة تربية على الجدية والمسئولية الفردية، وهي في الوقت نفسه دليل على ثقة النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا الجيل الذي رباه.
4 - كيف نسي الروم وساوس الشيطان؟!:
ومن صور نتاج التربية الجادة ما صنعه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وذلك أن المسلمين صعب عليهم أمر مواجهة الروم، فكتبوا لأبي بكر - رضي الله عنه - فقال قولته المشهورة: "لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".
روى الطبري في تاريخه أن كتاب أبي بكر وافى خالداً بالحيرة منصرفه من حجه: "أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجّوا وأشجّوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء". [تاريخ الطبري 3/ 385].
وسار خالد -رضي الله عنه- ورأى أنه بحاجة إلى طريق يتجنب فيه الروم، وأن الوقت يتطلب المبادرة فقال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟! فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فأجابوه: لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيوش، إنما يأخذه الفذ الراكب فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليهم فلم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة الطائي على تهيب شديد، فقام خالد في أصحابه وقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله، فكان رد أصحابه عليه: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك. [تاريخ الطبري 3/ 408- 409].
فقال له رافع: استكثروا من الماء، من استطاع منكم أن يصرَّ أذن ناقته على ماء فليفعل فإنها المهالك، إلا ما دفع الله، أبغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسانَّ.
فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشاً أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن فقطع مشافرهن، ثم كعمهن. [كعم البعير: يكعمه كعْما، فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه. اللسان 12/ 522]. لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر، فسار فغذَّاً بالخيول والأثقال فكلما نزل منزلاً افتض أربعاً من تلك الشوارف فأخذ ما في أكراشها فسقاه الخيل، ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء، ثم وصل موطن الماء بعد خمسة أيام. [تاريخ الطبري 3/ 425. وانظر للاستزادة قادة فتح العراق والجزيرة, للواء محمود شيت خطاب، ص 121- 125].
لقد كانت محاولة جادة وجريئة، وفي الوقت نفسه هي الحل الوحيد.
أترى أنه يمكن أن يتخذ هذا القرار الحاسم رجلٌ غير جاد؟!.
وفي الوقت نفسه لك أن تتصور النتائج المرة والفرص التي تفوت لو لم يحسم الأمر بهذه الجدية.
والجدية لا تتمثل في موقف خالد - رضي الله عنه - فحسب، بل الجيش الذي سار معه كان يتمثل هذا المعنى.
هـ- في الدعوة:
ولعل خير مثال على ذلك سير أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم الذين بذلوا أرواحهم ومهجهم وأموالهم في سبيل الله، وكانت الدعوة هي قضيتهم الأولى والأساس مع قومهم.
ويبدو هذا النموذج أيضاً في قصة أصحاب الأخدود وموقف الغلام حين أنجاه الله من ال*** أول مرة، فعاد إلى أين؟! إلى الملك: "ثم أرسله في قرقور مرة أخرى فنجاه الله، فجاء يمشي إلى الملك، ثم رأى أنه لابد من إنقاذ الناس فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به". [رواه مسلم 3005].
لقد كان بإمكان الغلام حين نجاه الله أن يذهب في أرض الله ويختار مكاناً آخر، ولن يعلم عنه الملك وربما يظنّ أنه هلك، لكنه لم يفعل ويتكرر الأمر كذلك في المرة الثانية.
وكان بإمكانه أن يأتي مستخفياً إلى القرية، لكنه ذهب إلى الملك، ثم جاد بنفسه في سبيل الله عز وجل لينقذ الناس من الشرك والضلال، فهل نرى اليوم في أمة محمد من يحمل العزيمة نفسها؟!.
و- في العفة والبعد عن الشهوات:
ومن ثمار التربية الجادة الترفع عن اتباع الشهوات، والسمو بالنفس، ولعل من ألمع هذه الصور موقف يوسف عليه السلام فقد "ذكر الله عن يوسف الصديق صلى الله عليه وسلّم من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه صلى الله عليه وسلّم كان شاباً والشباب مركب الشهوة، وكان عزباً ليس عنده ما يعوضه، وكان غريباً عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحيي منهم أن يعلموا فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع ذلك كله فعف لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف تكون حاله". [روضة المحبين 325-326].
ز- للمرأة دور في الجدية:
حين نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم وأصابه ما أصابه من هول الموقف فرجع إلى خديجة -رضي الله عنها- يرجف فؤاده، حينئذ قالت له: "والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
ثم لم تكتف بهذا الأمر، بل ذهبت إلى ورقة، وسألته، واصطحبت معها زوجها صلى الله عليه وسلّم إليه. [رواه البخاري 3، ومسلم 160].
إنها صورة من صور التربية الجادة، لقد كان لهذه المرأة الجادة دورٌ مهمٌ وأساس في تثبيت صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم، وكانت له بمثابة خط الدفاع الخلفي، ولذا استحقت رضي الله عنها أن تبشر من عند خالق السموات والأرض بشرى ينقلها جبريل.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى جبريل - عليه السلام - إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، ومعها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولانصب". [رواه البخاري 3820، ومسلم 2432].
إن هذا الموقف من خديجة رضي الله عنها ليسجل شهادة إدانة لبعض نساء المسلمين اللاتي تقف إحداهن عقبة في طريق زوجها الداعية إلى الله عز وجل، وتثقل كاهله بكثرة المطالب، والشكوى من الانقطاع والغياب وكأنه إنما خلق ليبقى في حضنها.
وحين قدم أحد رجالات الإسلام للمحنة في القول بخلق القرآن وهو بشر تأخذه عواطف البشر ومشاعرهم، حين قدِّم للمحنة تحركت لديه عاطفة الأبوة فتذكر بناته اللاتي خلفهن وراءه في بلاده.
وما لبث أن أتاه كتاب منهن يأمره بالثبات قائلات له: "والله لأن يأتينا خبر نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك قلت بخلق القرآن".
وهي كلمة لم تصدر اعتباطاً، وإنما هي تعكس التربية الجادة التي تلقتها هذه الفتيات حتى صار الحق لديهن ونصرة الدين بمنزلة أعلى من التمتع بالوالد في دار الدنيا، وحين يكون هناك مجال للمفاضلة والخيار فليكن في صالح الحق ونصرة الدين، وليهن نعي الوالد حينئذٍ.
وهكذا يجد الأب نتاج هذه التربية ويستفيد منها هو في دنياه؛ فتكون ثباتاً له بإذن الله؛ فالتربية الجادة شجرة مباركة تؤتي ثمارها كل حين، وكثيراً ما يجني المربي قبل غيره ثمرة هذه التربية.
فكم من شيخ وعظه تلميذه، أو أوقفه على خطأ، أو صحح له هفوة، أو أقاله من زلة، وما كان التلميذ ليبلغ هذه المنزلة لولا التربية التي تلقاها من شيخه، والجزاء من جنس العمل.
وليت المربين والأساتذة يدركون أن نضج التلميذ، واستقلال تفكيره، وتخلصه من أسر الرق الفكري والتبعية العمياء، أن ذلك خيرٌ لهم هم، وأنهم أول من يجني الثمرة.
رد مع اقتباس