عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 29-03-2013, 01:48 AM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
مشرف سوبر ركن مسك الكلام فى الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,696
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New الحسبة في النظام الإسلامي.. تاريخها وأهميتها

نشأت وظيفة الحسبة إلى جانب وظيفة القاضي؛ نتيجة تضخُّم ظروف الحياة في الخلافة الإسلامية، وهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يُعَيِّنُ لذلك مَنْ يراه أهلاً له، فيتعيَّن فَرْضُه عليه بحُكْمِ الولاية، وإن كان على غيره من فروض الكفاية[1]، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [ آل عمران: 104].وفي تطوُّرها فقد تَعَدَّتِ الحسبة هذا المعنى الديني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى واجبات عملية مادِّيَّة تتَّفق مع المصالح العامَّة للمسلمين؛ فقد تناولت أمورًا اجتماعية متعدِّدة؛ مثل: المحافظة على النظافة في الطرق، والرأفة بالحيوان بأن لا يُحَمَّل ما لا يطيق، ورعاية الصحَّة بتغطية الروايا، ومنع معلِّمِي الصبيان من ضرب الأطفال ضربًا مبرحًا، ومراقبة الحانات وشاربي الخمر، وتبرُّج النساء، وبعبارة عامَّة كل ما يَتَعَلَّق بالمجتمع وأخلاقه، والظهور فيه بالمظهر اللائق، كما تناولت أمورًا اقتصادية؛ وذلك لتضخُّم المدن الإسلامية بأرباب الحرف والتجارات، فكان عمل المحتسب الأساسي منع الغش في الصناعة والمعاملات، وبخاصة الإشراف على الموازين والمكاييل وصحَّتها ونسبها[2].
ولم تعرف الأمم والحضارات السابقة وكذا اللاحقة هذه الوظيفة في مجتمعاتها وأعرافها، والحق أن هذه الوظيفة في غاية الأهمية؛ لأنها تمثِّل المراقبة الأخلاقية على الشعوب، فمن المعلوم أن الحضارة الإسلامية اهتمت بعاملين مهمين؛ فالأول: العامل المادي. والثاني: العامل الروحي، ومن ثَمَّ كانت وظيفة الحسبة بمنزلة التطبيق الرائع لأخلاقيات الإسلام وأوامره السلوكية.
الحسبة في عهد النبي

وأول من احتسب في تاريخ الحضارة الإسلامية، هو رسول الله ، فعن أبي هريرة أن رسول الله مرَّ على صُبْرة[3] طعامٍ، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟". قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"[4].


وحينما بدأت الدولة الإسلامية الأولى تأخذ في التشكل والاستقلال، رأينا رسول الله يُعيّن أول محتسب في الإسلام، حيث استعمل سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح، على سوق مَكَّةَ[5]؛ مما يُدلل على أهمية هذه الوظيفة منذ فجر الإسلام.
ومن اللافت للنظر أن بعض النساء من الصحابيات قد استُعْمِلْنَ في هذه الوظيفة منذ عهد النبي ، فقد ذكر ابن عبد البر أن سمراء بنت نهيك الأسدية رضي الله عنها "أدركت رسول الله وعُمِّرَتْ، وكانت تمرُّ في الأسواق، وتأمرُ بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها"[6]، بل الأعجب أن عمر بن الخطاب أبقاها محتسبة على السوق، وهذا ما يؤكده ابن الجوزي بقوله: "وكان عمر إذا دخل السوق، دخل عليها"[7]. أي يدخل عليها مكان عملها لا بيتها، كما قد يُتَوَهَّم[8].
بل كان أمير المؤمنين عمر يقوم بوظيفة المحتسب بنفسه، فكان يتولَّى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُوَجِّه الناس إلى الحقِّ والصراط السوي، ويمنع الغشَّ، ويحذر منه، وكان يمرُّ في السوق ومعه الدِّرَّة[9]، فيزجر بها غلاة الأسعار والغشاشين[10].
وظل نظام المراقبة والحسبة موجودًا طوال العهد الراشدي والأموي، وإن لم يحمل صاحبه لقب المحتسب؛ إذ عُرِف هذا المسمَّى في العصر العباسي، وقد عَيَّن زياد بن أبيه عاملاً على سوق البصرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان[11].
الحسبة في العصر العباسي

ومنذ العصر العباسي بدأت وظيفة المحتسب تأخذ شكلاً مغايرًا، فأصبحت معروفة بين الناس منذ الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور؛ ولذلك فتيسيرًا على المحتسبين، وتنظيمًا للمجتمع؛ نقل المنصور أسواق بغداد والمدينةِ الشرقية إلى مناطق أخرى متخصصة، وبعيدة عن مركز المَدِينةِ ودواوينها، فنقل الأسواق إلى باب الكَرْخ وباب الشعير، وعَيَّن لها محتسبِينَ؛ يُراقبون شئونها، ويضبطون مخالفاتها[12].
وقد تطورت وظيفة المحتسب في ظلِّ الخلافة العباسية من مراقبة المكاييل والموازين، ومنع الاحتكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الإشراف على نظافة الأسواق والمساجد، ومراقبة الموظفين للتقيد بالأعمال، حتى مراقبة المؤذِّن للتَّقَيُّد بأوقات الصلاة، وامتدَّت سلطة المحتسب كذلك إلى مراقبة القضاة إذا تأخَّروا عن أعمالهم، أو انقطعوا عن الجلوس عن الحكم، والغريب أن المحتسب كان له الحق في امتحان واختيار ذوي المهن والحرف؛ لمعرفة مدى إتقانهم للمهنة والحرفة؛ حتى لا يستغلُّوا الآخرين؛ فقد طلب الخليفة العباسي المعتضد (ت 279هـ) من سنان بن ثابت رئيس الأطباء امتحان جميع الأطباء ببغداد، وكانوا حوالي 860 طبيبًا، وأمر المحتسب بعدم السماح لطبيب أن يُمارس مهنته إلا بعد اجتياز الامتحان[13]!
دور المحتسب في الدولة

وكان كثير من المحتسبين يُقيم الحدود، ويُوقِّع العقوبات على الأمراء والسلاطين المخالفين؛ شأنهم شأن باقي الرعية؛ فقد ذكر نظام الملك في كتابه "سير الملوك" أن السلطان السلجوقي محمود بن ملكشاه "كان قد شرب الخمر مرَّة مع خاصَّته وندمائه طوال الليل... وكان علي بن نوشتكين ومحمد العربي (من قُوَّاده ومُقَرَّبيه) ممن حضروا المجلس، وممن ظلُّوا يسهرون ويشربون مع مَحْمود الليلة بكاملها، ومع إشراقة الصباح أُصيب علي بدوار، وبدا عليه أثر إرهاق السهر والإفراط في الشراب، فاستأذن السلطان بالذهاب إلى منزله، فقال له مَحْمود: ليس صوابًا أن تذهب في وضح النهار وأنت سكران هكذا، ابقَ هنا واسترح في إحدى الحجرات حتى العصر، ثم اذهب آنذاك وأنت صاحٍ؛ فإنني أخشى إذا ما ذهبتَ الآن بهذه الحال أن يراك المحتسب في السوق، فيأخذك، ويُقيم عليك الحدَّ، فيُراقُ ماء وجهك، وينتابُني الغمُّ، دون أن أستطيع التفوُّه بشيء. غير أن علي بن نوشتكين الذي كان قائدًا لخمسين ألف فارس، وصنديدَ زمانه، والذي كان يُعدُّ بألف رجل، لم يخطر له على بال أن المحتسب سيجرؤ حتى على مجرَّد التفكير في الأمر، فلم يَنْثَنِ عن عزمه، بل أصرَّ على أن لا بُدَّ من الذهاب، فقال مَحْمود: الرأي رأيك، دعوه يذهب. وركب علي بن نوشتكين في موكب عظيم من فرسانه وغلمانه وخدمه؛ قاصدًا منزله، وشاء الله I أن يكون المحتسب مع مائة من رجاله بين خيَّال وراجل في وسط السوق، فلما رأى عليًّا سكران، أمرَ بإنزاله عن فرسه، ونزل هو أيضًا، ثم أمرَ بأن يجلس رجلٌ على رأسه، وآخر على رجليه، وجلَدَهُ بيده -دون أدنى محاباة- أربعين جلدة، حتى التهم الأرض بأسنانه، وحاشيُته وعسكره ينظرون، دون أن يجرؤ أي منهم على أن يتفوه بكلمة واحدة!"[14].
هذه هي الحضارة الإسلامية، التي لا تُفَرِّق بين قائد يستطيع أن يُحَرِّك خمسين ألفًا بإشارة منه، وبين محتسب لا يملك من أمره إلا مائة رجل فقط، ورغم ذلك، يُنزل المحتسبُ العقوبة علانية على القائد أمام جنوده وفرسانه، ولا يستطيع أحد منهم أن يُحَرِّك ساكنًا؛ ذلك لأن الحقَّ كان مع المحتسب النابه، الذي جعل القائد عبرة لمن يعتبر!
ولذلك بحثَ الخلفاء والأمراء والسلاطين عن المحتسبين أصحاب المهارة والعلم والحزم، وقد حكى ابن الإخوة في "نهاية الرتبة" أن "أتابك طغتكين سلطان دمشق طلب له محتسبًا، فذُكِرَ له رجلٌ من أهل العلم، فأمر بإحضاره، فلمَّا بصُر به قال: "إنِّي ولَّيتك أمر الحسبة على النَّاس؛ بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر. قال: إن كان الأمر كذلك، فقُم عن هذه الطَّرَّاحة، وارفع هذا المسند؛ فإنَّهما حريرٌ، واخلع هذا الخاتم، فإنَّه ذهبٌ. فقد قال النبي في الذهب والحرير: "إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتي، حِلٌّ لإِنَاثِهَا"[15]. قال: فنهض السُّلطان عن طَرَّاحته، وأمر برفع مسنده، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: قد ضممتُ إليك النظر في أمور الشُّرطة. فما رأى النَّاس محتسبًا أهيب منه"[16].
ولذلك كان منصب المحتسب في غاية الأهمية، خاصة في أوقات الأزمات والغلاء، ففي عام 307هـ غلت الأسعار في بغداد غلوًا فاحشًا حتى "ضجت العامة... وكسروا المنابر، وقطعوا الصلاة، وأحرقوا الجسور"[17]، فكانت وظيفة المحتسب حينئذ -وهو إبراهيم بن بطحا- أن يُسَعِّر بعض السلع الضرورية، فسَعَّر كُرَّ[18]الدقيق بخمسين دينارًا، وهو ما هدَّأ من الثورة واضطراب العامة[19].
ولم يكن منصب المحتسب حكرًا على من توليهم الدولة لهذه الوظيفة، فمن المعلوم أن الحضارة الإسلامية قد ربَّت جميع أبنائها على الوقوف أمام المنكر ومحاربته بقدر ما يُستطاع، وهذا الأمر من أعجب ما يُقال، ومن أكثر ما يلفت النظر في حضارتنا الخالدة، فكل مسلم بطبعه وبدينه وبحضارته مُحتسبٌ وإن لم يُتوَلَّها، وقد حكى الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" أن "أبا الحسين النوريَّ اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاَّح (بحَّار) فقال: ما هذا؟ ولمن هذا؟ فقال له: هذه خمر للمعتضد. فصَعِدَ أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان (أوعية ضخمة) بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنًّا واحدًا تركه، واستغاث الملاح، فجاءت الشرطة، فأخذوا أبا الحسين، فأوقفوه بين يدي المعتضد، فقال له: ما أنت؟ فقال: أنا المحتسب. فقال: ومن ولاَّك الحسبة؟ فقال: الذي ولاَّك الخلافة يا أمير المؤمنين.
فأطرق رأسه، ثم رفعه فقال: ما الذي حملك على ما فعلت؟ فقال: شفقةً عليك؛ لدفع الضرر عنك. فأطرق رأسه، ثم رفعه، فقال: ولأي شيء تركت منها دنًّا واحدًا لم تكسره؟ فقال: لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالاً لله تعالى، فلم أُبَالِ أحدًا، حتى انتهيتُ إلى هذا الدنِّ دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أَقْدَمْتُ على مثلك فتركته. فقال له المعتضد: اذهب، فقد أطلقت يدك، فغيِّر ما أحببتَ أن تُغَيِّره من المنكر.
فقال له النوري: الآن انتقض عزمي عن التغيير. فقال: وَلِمَ؟ فقال: لأني كنتُ أُغَيِّرُ عن الله، وأنا الآن أُغَيِّر عن شرطي. فقال: سَلْ حاجتك. فقال: أحبُّ أن تُخْرِجَني من بين يديك سالمًا. فأمر به فأُخْرِج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفيًا؛ خشية أن يشقَّ عليه أحدٌ في حاجة عند المعتضد، فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد"[20].
د. راغب السرجاني
[1] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/225.
[2] الماوردي: الأحكام السلطانية ص 211 وما بعدها، وابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/225، وعبد المنعم ماجد: تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص 57.
[3] الصبرة: الكومة المجموعة من الطعام. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/109.
[4] مسلم: كتاب الإيمان، باب قول النبي من غشنا فليس منا (102)، أبو داود (3452)، والترمذي (1315)، وابن ماجه (2224)، وأحمد (7290).
[5] ابن عبد البر: الاستيعاب 1/185.
[6] المصدر السابق 4/1863.
[7] ابن الجوزي: سيرة عمر بن الخطاب ص41.
[8] انظر: ظافر القاسمي: نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي 2/592.
[9] الدرة: العصا أو السوط التي يُضرب بها. انظر: المعجم الوسيط مادة درر ص279.
[10] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/578.
[11] الصلابي: الدولة الأموية 1/315.
[12] انظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/480.
[13] انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 1/112.
[14] نظام الملك: سياست نامه ص80، 81.
[15] مشكل الآثار للطحاوي (4209).
[16] ابن الإخوة: نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص78.
[17] محمد بن عبد الملك الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص21.
[18] الكُرُّ: مكيال لأَهل العراق، قدره ستون قفيزًا، أربعون أردبًا، أو سبعمائة وعشرون صاعًا. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كرر 5/135. والصاع عند الحنفية: 3261.5 جرام، وعند غيرهم: 2172جرامًا.
[19] محمد بن عبد الملك الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص21.
[20] ابن كثير: البداية والنهاية 11/89.
__________________
رد مع اقتباس