عرض مشاركة واحدة
  #32  
قديم 14-01-2014, 12:51 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

والخزَّاف حين يزخرف سطح الآنية التي صنعها بزخارف ملونة ، إنما هو بذلك يخلق فن التصوير ، فالتصوير في أيدي البدائيين لم يكن بعد قد أصبح فنا مستقلا ، بل كان وجوده متوقفاً على فن الخزف وصناعة التماثيل ؛ والفطريون إنما يصنعون ألوانهم من الطين ، وأهل "أندامان" Andamanes يصنعون الألوان بخلط المغرة "تراب حديدي" بالزيوت أو الشحوم ؛ واستخدموا مثل هذه الألوان في زخرفة الأسلحة والآلات والآنية والمباني ؛ وكثير من القبائل الصائدة في إفريقية وأوقيانوسيا ، كانت تصوّر على جدران كهوفها أو على الصخور المجاورة لها ، تصاوير ناصعة لصنوف الحيوان التي أرادت صيدها .

ويجوز كذلك أن يكون الخزف وصناعته أصل النحت كما كان أصل التصوير ؛ فتبيّن للخَّزاف أنه لا يستطيع فقط أن يصنع الأواني النافعة، بل في مقدوره كذلك أن يصور الأشخاص في تماثيل يستفاد منها تمائم للسحر، ثم بعدئذ أراد أن يصنع هذه الأشياء لتكون جمَالا في ذاتها ؛ لقد نَحَتَ الإسكيمو قرون الوعل وعاج فيلة البحر تماثيل صغيرة للحيوان والإنسان ؛ وكذلك أراد البدائي أن يميز كوخه بعلامة ، أو يميّز عمود الطوطم أو قبراً من القبور بتمثال صغير يدل على معبوده أو على مَيّته ؛ فكان أول ما نحت من ذلك وجه على عمود ، ثم نحت رأسا ، ثم نحت العمود كله ؛ ومن هذا التميز لقبور الآباء بتماثيل تصور الموتى ، أصبح النحت فنا ؛ وعلى هذا النحو أقام سكان جزيرة إيستر القدامى تماثيل هائلة على قبور موتاهم ، كل تمثال من حجر واحد ، ولقد وجدنا عشرات من هذه التماثيل يبلغ كثير منها عشرين قدماً في ارتفاعه ، وبعضها تراه الآن سطيح الأرض مهشما ، كان ارتفاعه لا يقل عن ستين قدماً .

لكن كيف بدأ فن العمارة ؟ إننا لا نكاد نستطيع إطلاق هذا الاسم الضخم على بناء الكوخ البدائي ، لأن العمارة ليست مجرد بناء ، لكنها بناء جميل ؛ وإنما بدأت العمارة فناً حين فكّر رجل أو فكّرت امرأة لأول مرة أن تقيم بناء للمظهر وللنفع معاً : وربما اتجه الإنسان بهذه الرغبة في خلع الجمال والفخامة على البناء ، إلى المقابر قبل أن يتجه بها إلى الدُّور ؛ وبينما تطور العمود التذكاري الذي أقيم عند المقبرة إلى فن التماثيل ، فقد تطور القبر نفسه إلى المعبد ، ذلك لأن الموتى عند البدائيين كانوا أهم وأقوى من الأحياء ، هذا فضلاً عن أن الموتى مستقرون في مكان واحد ، بينما الأحياء يتجولون هنا وهناك بحيث لا تنفعهم الدُّور الدائمة .

ولقد وجد الإنسان لذة في الإيقاع منذ زمان بعيد ، وربما كان ذلك قبل أن يفكر في نحت الأشياء أو بناء المقابر بزمن طويل ؛ وأخذ يُطَوّرُ صياح الحيوان وتغريده ؛ وقفزه ونَقرَه ، حتى جعل منه غناء ورقصاً ؛ وربما أنشد - مثل الحيوان - قبل أن يتعلم الكلام ورقص حين أنشد الغناء ؛ والواقع أنك لن تجد فنا يميز البدائيين ويعبر عن نفوسهم كما يميزهم الرقص ويعبّر ، ولقد طَوَّرَه من سذاجة أولّية إلى تركيب وتعقيد أين منهما رقص المتحضرين ؛ ونَوَّعَهُ صوراً شتى تُعَدُّ بالمئات ؛ فالأعياد الكبرى عند القبائل ، كانت تحتفل أولاً بالرقص في صورتيه : الجمعي والفردي ؛ وكذلك كانت الحروب الكبرى تبدأ بخطوات وأناشيد عسكرية ؛ والمحافل الكبرى في الدين كانت مزيجاً من غناء ومسرحية ورقص ؛ إنما يبدو لنا ضرباً من اللعب ، قد كان على الأرجح أموراً جدية للإنسان الأول ؛ فهم حين كانوا يرقصون ، لم يريدوا بذلك أن يعبروا عن أنفسهم وكفى بل قصدوا إلى الإيحاء إلى الطبيعة وإلى الآلهة ، مثال ذلك استحثاث الطبيعة على وفرة النسل كانوا يؤدونه أساساً بالتنويم الذي ينتج عن الرقص ؛ ويرى "سبنسر" أن الرقص يرجع في أصله إلى ترحيب ذي طقوس برئيس عاد من الحروب ظافراً ؛ أما "فرويد" فرأيه أن الرقص أصله التعبير الطبيعي عن الشـهوة الحسية ، وفن الجماعة في إثارة الرغبة الجنـسية ؛ فلو كان لنا أن نقول - غير متجاوزين هذه الآراء من حيث ضيق النظر - بأن الرقص إنما نشأ من الطقوس المقدسة وألوان العربدة ، ثم جمعنا النظريات الثلاث التي أسلفنا ذكرها في نظرية واحدة ؛ كان لنا بذلك فكرة عن أصل الرقص هي أدق ما يمكننا الوصول إليه اليوم .

ولنا أن نقول بأنه عن الرقص نشأ العزف الموسيقي على الآلات كما نشأت المسرحية ؛ فالعزف الموسيقي - فيما يبدو - قد نشأ عن رغبة الإنسان في توقيع الرقص توقيعاً له فواصل تحدده ، وتصاحبه أصوات تقويّة ؛ وعن رغبته كذلك في زيادة التهـيج اللازم للشعور الوطني أو الجنـسي بفعل صرخات أو نغمات موزونة ؛ وكانت آلات العزف محدودة المدى والأداء ، ولكنها من حيث الأنواع لا تكاد تقع تحت الحصر ؛ فقد بذل الإنسان كل ما وهبته الطبيعة من نبوغ في صناعة الأبواق بأنواعها والطبول والشخاشيخ والمصفقات والنايات وغيرها من آلات الموسيقى ، صنعها من قرون الحيوان وجلودها وأصدافها وعاجها ، ومن النحاس والخيزران والخشب ؛ ثم زخرف الإنسان هذه الآلات بالألوان والنقوش الدقيقة ؛ ومن وتر القوس قديماً نشأت عشرات الآلات ، ومن القيثارة البدائية إلى الكمان والبِيان الحديثين ؛ ونشأ بين القبائل منشدون محترفون كما نشأ بينهم الراقصون المحترفون ، وتطور السُّلَّم الموسيقي من غموض وخفوت حتى أصبح على ما هو عليه الآن .

ومن الموسيقى والغناء والرقص مجتمعة ، خَلَقَ لنا "الهمجي" المسرحية والأوبرا ، ذلك لأن الرقص البدائي كان في كثير من الأحيان يختص بالمحاكاة ، فقد كان يحاكي حركات الحيوان والإنسان ولا يجاوز هذه المرحلة ، ثم انتقل إلى أداء يحاكي به الأفعال والحوادث ؛ فمثلا بعض القبائل الأسترالية كانت تقوم برقصة جنـسية حول فجوة في الأرض يوشّون حوافيها بالشجيرات ليمثلوا بها فـرج المرأة وبعد أن يحركوا أجسامهم حركات نشوانة غَزِلَة ، يطعنون برماحهم طعنات رمزية في الفجوة ؛ وقبائل استراليا الشمالية الغربية ، كانت تمثل مسرحية الموت والبعث لا تختلف إلا في درجة البساطة عن مسرحية اللغز في القرون الوسطى والمسرحية العاطفية في العصر الحديث ؛ فكنت ترى الراقصين يهبطون إلى الأرض في حركة بطيئة ، ثم يغطون وجوههم بغصون يحملونها ، تمثيلاً للموت ؛ حتى إذا ما أشار لهم الرئيس ، نهضوا نهوضاً مباغتاً وهم يرقصون ويغنون رقصا وغناء عنيفين يَدُلون بهما على فوزهم الذي أحرزوه ، ويعلنون بعث الروح وعلى هذا النحو أو ما يشبهه ، كانوا يقومون بمئات الأوضاع في التمثيل الصامت ، ليصفوا بها أهم الأحداث في تاريخ القبيلة ، أو أهم الأفعال في حياة الفرد ؛ فلما اختفى التوقيع من هذا التمثيل، تحول الرقص إلى مسرحية، وبهذا وُلدَت لنا صورة من أعظم صور الفنون .

بهذه الوسائل خلق لنا البدائيون السابقون لعصر الحضارة صور الحضارة وأسسها ؛ فإذا ما نظرنا إلى الوراء نستعرض هذا الوصف الموجز للثقافة البدائية ، وجدنا هناك كل عنصر من عناصر المدنية إلا عنصرين : هما الكتابة والدولة ، فكل أوضاع الحياة الاقتصادية وُضعت لنا أصولهُا في هذه المرحلة : الصيد والسّماكة ، الرعي والزراعة ، النقل والبناء ، الصناعة والتجارة وشئون المال ؛ وكذلك كل الأنظمة السياسية البسيطة نبتت جذورها في هذه المرحلة : العشيرة والأسرة ، القرية والجماعة والقبيلة ؛ وكذلك ترى الحرية والنظام - هذان المحوران المتضادان اللذان تدور حولهما المدنيَّة كلها - قد تلاءما وتوافقا لأول مرة في هذه المرحلة ، فبدأ حينئذ القانون وبدأت العدالة ؛ وقامت أسس الأخلاق : تدريب الأطفال وتنظيم الجنـسين : وتلقين الشرف والحشمة وقواعد السلوك والولاء ؛ وكذلك وضعت أسس الدين ؛ واستخدمت آماله ومخاوفه في تأييد الأخلاق وتدعيم المجتمع ؛ وتطور الكلام إلى لغات معقدة ، وظهرت الجراحة وظهر الطب ، وبَدَت بوادر متواضعة للعلم والأدب والفن ؛ وفوق هذا كله كانت هذه المرحلة صورة لعهد تم فيه إبداع عجيب ، فنظام يُخلق من فوضى ، وطريق بعد طريق يُشَقُّ من حياة الحيوان لينتهي إلى الإنسان الحكيم ؛ فبغير هؤلاء "الهمج" وما أنفقوه من مائة ألف عام في تجريب وتحسُّس، لما كتُب للمدنيَّة النهوض ؛ فنحن مَدِينون لهم بكل شيء تقريباً - كما يرث اليافع المحظوظ، أو إن شئت فقل كذلك إنه اليافع المتحلّل ، كما يرث هذا اليافع سبيله إلى الثقافة والأمن والدّعة ، من أسلاف أمّيّين وَرَّثوه ما ورَّثوه بكدحهم الطويل.
رد مع اقتباس