عرض مشاركة واحدة
  #83  
قديم 28-09-2014, 10:59 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 35
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

الفصل السادس


هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه


المبحث الأول


فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة

أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
بعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )[الأنفال:30] فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل ا***وه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة([1])، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله كيدهم، فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً([2]).
قال سيد قطب في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم: «إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته، فيما يقضي به ويأمر: ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق، وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم.
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت، أو لي***وه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطروداً، ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا ***ه، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).
إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط([3]).
ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة:
عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة([4])، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث.
قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عني من عندك» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: «إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة» قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة» قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما([5]).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا([6]) فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف([7]) لقن([8])، فيدلج([9]) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يَكتادان([10]) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رِسَل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما([11])- حتى ينعق([12]) بها عامر بن فهيرة بغلس([13]) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا- والخريت الماهر- بالهداية قد غمس حلفاً([14]) في آل العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر به فهيرة، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل»([15]).
ثالثـًا: خروج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى الغار:
لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر.
أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته([16]) وكان الميعاد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر t فخرجا من خوخة([17]) لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال([18]).
رابعًا: رِقة النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة:
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»([19]).
ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه)([20]) وهذه من جنود الله عز وجل التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ )[المدثر:31]. أي وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية([21]) كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة([22]).
خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم:
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها([23]) قال تعالى: ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا )[الإسراء:80].
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص ( وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة ( مِن لَّدُنْكَ ) تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه([24]).
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق t قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟([25])».
وفي رواية: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما».
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[التوبة:40].
__________________
رد مع اقتباس