عرض مشاركة واحدة
  #74  
قديم 26-09-2014, 03:48 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 35
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثاني


مواكب الخير وطلائع النور

قال جابر بن عبد الله الأنصاري:
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام([1]).
أولاً: الاتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة:
1- إسلام سويد بن الصامت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق، فقدم سويد بن الصامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة([2]) لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن ***ه الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قُتل وهو مسلم، وكان ***ه يوم بَعاث([3]) وعلى أية حال لا توجد دلائل على قيام سويد بن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه([4]).
2- إسلام إياس بن معاذ:
لما قدم أبو الحيسر بن رافع مكة ومعه فتيان من بني عبد الأشهل, فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليَّ الكتاب»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: هذا والله خير مما جئتم له فيأخذ أبو الحيسر كفًّا من تراب، فضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا, فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روي من حضره من قومه أنه ما زال يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع([5]).
ثانيًا: بدء إسلام الأنصار:
كانت البداية المثمرة مع وفد من الخزرج في موسم الحج, عند عقبة منى، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟». قالوا: نفر من الخزرج. قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن([6]).
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا([7])، وكانوا ستة نفر: وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب([8]). فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا بينهم فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم([9]).
فهذا أول موكب من مواكب الخير، لم يكتف بالإيمان، وإنما أخذ العهد على نفسه أن يدعو إليه قومه، وقد وفى كل منهم لدينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم حين رجعوا نشطوا في الدعوة إلى الله، وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم, فلم تبقَ دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة فقد كان لقاء هؤلاء مع الرسول على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق, ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور.
أكان معقولاً في لحظة يسيرة أن يتحول هؤلاء من وثنيين متعصبين إلى أنصار للدعوة متفتحين، وجنود للحق مخلصين، ودعاة إلى الله متجردين يذهبون إلى أقوامهم وبين جوانحهم نور، وعلى وجوههم نور، وإنهم لعلى نور؟ تلك مشيئة القدر العالي هيأت للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين، والسنوات العجاف التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم نضالاً مستمرًا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والتماسًا للحليف، قد ولت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوته الرادعة، وجيشه الباسل وسيلتقي الحق بالباطل ليصفي معه حساب الأيام الخوالي، والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيأها الله للخير لتتصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعت من خير، وبما حلمت من نور([10]).
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المقابلة التي حدثت عند العقبة, وتلاقى فيها فريق من الخزرج بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا على يديه لم تكن فيها بيعة([11])؛ لأنها كانت من نفر صغير لا يرون لأنفسهم الحق في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرجوع إلى قبائلهم في المدينة, ولكنهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام([12]).
__________________
رد مع اقتباس