عرض مشاركة واحدة
  #52  
قديم 19-09-2014, 11:26 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 35
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

خامسًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني:
إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك؛ فالقصص القرآني مملوء بالتوحيد، والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة.
وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف -عليه السلام- متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة، قال علماء الأخلاق والحكماء: «لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيًّا فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسًا فاضلاً، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هديًا لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة، ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها اثنتي عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة, لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن وتنبيهًا للمتعلمين الساعين للفضائل»([11]).
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
1- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )[يوسف:24].
2- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه ( قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ )[يوسف:77].
3- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ )[يوسف: 59،60] فبداية الآية لين، ونهايتها للشدة.
4- ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )[يوسف:55].
5- قوة الذاكرة, ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ )[يوسف:58].
6- جودة المصَوِّرة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )[يوسف:4].
7- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [يوسف:38]( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَِ ) [يوسف:101].
8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: ( يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )[يوسف:39] وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ )[يوسف:37] والثاني بقوله: ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) [يوسف:37] وشهدا له بقولهما:( نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [يوسف:36].
9- العفو مع المقدرة: ( قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )

[يوسف:92].

10- إكرام العشيرة: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ )[يوسف:93].
11- قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ )[يوسف:54].
12- حسن التدبير ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ )[يوسف:47] تالله، ما أجمل القرآن, وما أبهج العلم.
لا شك أن العلاقة بين القصص القرآني والأخلاق متينة؛ لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببًا في هلاك الأمم والشعوب.
لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير والاستجابة, والالتزام في تربيته للصحابة، لكي يحول الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس. ومع تطور الدعوة الإسلامية ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في:
أ- التشريع:
الذي وضع لحماية القيم الخلقية, كشرائع الحدود والقصاص, التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بال*** أو السرقة) وانتهاك الأعراض، (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة).
ب- سلطة المجتمع:
التي تقوم على أساس ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والتناصح بين المؤمنين، ومسئولية بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسئولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[التوبة:71].
بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )[آل عمران:110].
وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها في الفترة المدنية.
ج- سلطة الدولة:
التي وجب قيامها، وأقيمت على أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته([12]).
وبذلك اجتمع للخلق الإسلامي أطراف الكمال كلها, وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الالتزام بالمنهج الرباني.
هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي والأخلاقي في الفترة المكية، ولقد آتت هذه التربية أكُلها فقد كان ما ينوف على العشرين من الصحابة الكرام الخمسين الأوائل السابقين إلى الإسلام مارسوا مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون منهم معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الإطلاق، كان فيه تسعة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم نماذج ساهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى، مثل أم الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن.
لقد أتيح للرعيل الأول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية، والعقلية والأخلاقية.. على يد مربي البشرية الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم حداة الركب، وهداة الأمة([13]), فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويربيهم وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويتعبق من نوره، ويتغذى من كلامه ويتربى على عينه([14]).

* * *






([1]) فقه الدعوة، عبد الحليم محمود (1/471، 472).
([2]) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم 395.
([3]) أبو داود في الصلاة, رقم 1319. (3) الحاكم (2/160) وأقره الذهبي.

([5]) انظر: منهج الإسلام في تزكية النفس (1/227).
([6]) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق رقم 2002«حسن صحيح».
([7]) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق رقم 2004 «صحيح غريب».
([8]) انظر: دراسات قرآنية، لمحمد قطب، ص130.
([9]) انظر آيات سورة (المؤمنون – الآيات: 1-11)، وسورة (الأنعام- الآيات: 151- 153) ، وسورة (الرعد- الآيات : 19-22) وسورة (الإسراء – الآيات: 23-38) وغيرها.
([10]) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص591.
([11]) انظر: تفسير القاسمي، (9/310).
([12]) المنهاج القرآني في التشريع، ص433. (2) انظر: التربية القياديةللغضبان (1/201).


([14]) نفس المصدر (1/202، 203).
__________________
رد مع اقتباس