عرض مشاركة واحدة
  #58  
قديم 16-08-2010, 05:02 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,781
معدل تقييم المستوى: 20
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

وسائل مقترحة للتربية الجادة


إن الحديث عن المشكلات ينبغي أن يتجاوز النظرة السطحية الساذجة ويأخذ بعداً رأسياً أعمق، يتمثل في التحليل الهادئ للمشكلة ودراسة أبعادها وطرح حلولها الواقعية.
وكما أن التحليل المبسط للمشكلات من خلال عقدة السبب الواحد والحل الواحد، أو الانخداع بمظاهر المشكلات دون حقيقتها، كما أن هذا التناول المفرط في السطحية منهج مرفوض، فالجانب الآخر المفرط في افتعال أسباب وحلول لا يزيد على أن يكون مجرد صرف عن حقيقة الحل وجوهره، وإزعاج لذهن القارئ.
وبناء عليه فنرى أن التربية الجادة هي مستوى معين من التربية ينبغي أن يرتقى إليه، ومن ثم فليس من مسؤولية من يطالب بها افتراض الأسباب، وطرح العلاج في نقاط مرقمة، فغاية ما يؤديه أن يقول: إنكم تقفون في مرحلة متأخرة فتقدموا قليلاً، والقائمون على التربية أياً كانت مستوياتهم وثقافتهم يدركون بوضوح معنى هذا المصطلح وحقيقة هذا المطلب، وأن ما ينتظر من الأمة أفراداً ومجتمعات أكبر بكثير مما هم عليه، وإن التربية المعاصرة -حتى داخل قطاع الصحوة- بحاجة إلى مراجعة وارتفاع مستوى الجدية.
إن كثيراً من القراء يتساءل عن البرامج المقترحة، والوسائل التي تسهم في النقلة الجادة، وهو تساؤل له قيمته وأهميته، لكني أشعر أنه إنما يأتي بعد الاقتناع التام بأن التربية الجادة ضرورة، وحينها فلن يعجز جيل الصحوة المبارك، والذي نرى ثمراته ونتاجه يوماً بعد يوم، لن يعجز هذا الجيل عن ابتكار الوسائل والأساليب والحلول.
وقضية التربية تستحق من جيل الصحوة أن يبذل لها جهداً في رسم المناهج، واكتشاف الوسائل، وتصحيح الأوضاع.
وهو جهد أكبر بكثير من جهد كاتب واحد مأسور بجهله وضعفه وقصوره.
وأعتقد أن كثيراً من الأساتذة والمربين يستطيع وبما يملكه الآن من وسائل وبرامج أن ينتقل خطوات واسعة، ويرتقي مراتب عالية في سلم التربية الجادة.
وها هي مقترحات ينبئ اسمها عن مسماها، لعلها أن تضع بعض المعالم حول الطريق.
وقد قمت بتقسيم هذه الوسائل تقسيماً فنياً إلى وسائل معرفية يمكن أن تمارس من خلال الحديث والطرح المعرفي، وسائل عملية تتم من خلال الممارسة الواقعية، والتقسيم والفصل لا يعدو أن يكون فنياً، وإلا فبينهما من التلازم والتداخل ما لا يخفى.
أ- وسائل معرفية:
1- العناية بالحديث حول الوضع:
كثيرة هي القضايا التي تملأ مجالسنا في الحديث، وتأخذ أوقاتاً طويلة ونفيسة من أعمارنا، وكثير مما يطرح لا يعدو أن يكون قضايا هامشية، أو نقاشاً عقيماً لا يوصل إلى نتيجة عملية، ولو ألقينا نظرة سريعة على حجم هذه اللقاءات والأحاديث التي تطرح في مجالسنا لرأينا ضرورة استثمارها والاستفادة منها.
وحين تكون قضية التربية الجادة قضية نعنى بها في مجالسنا ومنتدياتنا، ويتحدث عنها الخطباء والكتاب والمفكرون، وتدار فيها حلقات النقاش، فإننا سنصل بإذن الله إلى نتائج عملية، وستولد هذه المناقشات والمداولات رأياً عاماً يدرك أهمية التربية الجادة وقيمتها.
2- إدراك سير الجادين:
تترك النماذج والقدوات العملية أثرها البالغ في النفوس، وتبقى شواهد حية على مدى تأهل المعاني النظرية لأن تتحول إلى واقع ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر والاقتناعات إلى عمل ومواقف في جوانب الحياة المختلفة، والتاريخ مليء بهذه الشواهد والنماذج.
وإبراز النماذج والقدوات أسلوب تربوي عني به القرآن الكريم، وعني به صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم في تربيته لأصحابه.
ففي كتاب الله تبارك وتعالى يأتي الحديث كثيراً عن قصص السابقين وفي مقدمتهم الأنبياء وأتباعهم، يأتي آمراً بالتأسي والاعتبار والاتعاظ.
فيورد القرآن أمام محمد صلى الله عليه وسلّم - وهو يأمره بالصبر - هذا النموذج الجاد ليتأسى به: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم). [الأحقاف:25].
وحين تحدث القرآن عما أصاب النبي صلى الله عليه وسلّم من تكذيب وصد ذكره بما أصاب إخوانه الأنبياء السابقين: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ). [الأنعام: 34].
ويأتي الحديث كثيراً في القرآن المكي عن قصة سحرة فرعون وصبرهم على طغيانه وتضحيتهم بأرواحهم في سبيل الله، ليكون نموذجاً بارزاً أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين أصابهم ما أصابهم في مكة.
وبعد غزوة أحد أبرز القرآن أمام المسلمين هذا النموذج الجاد: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). [آل عمران:146-147].
وهكذا يأتي عرض النموذج الجاد في القرآن الكريم كثيراً.
ويتبع النبي صلى الله عليه وسلّم هذا المنهج في تربيته لأصحابه، فحين أتاه خباب -رضي الله عنه- شاكياً له ما أصابه من المشركين وضعه صلى الله عليه وسلّم أمام نموذج جاد وقدوة عملية ليعتبر ويتعظ فقال له: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". [رواه البخاري 3612].
3- إدراك بذل الأعداء وجهدهم:
إن من يتأمل في واقع الأعداء يرى عجباً من التضحية لمبادئهم الباطلة والبذل في سبيلها، وتحمل الشدائد والأهوال، ولعل واقع المنصرين اليوم أكبر شاهد على ذلك، كل ذلك يتم مع نتاج بطيء الثمرة محفوف بالمخاطر.
وحين يرى المسلم الجاد ما يبذله هؤلاء يتساءل:
إذا كان هذا شأن أهل الباطل والضلال، فكيف بأهل الحق والبصيرة؟!.
كيف بمن يعلم أنه يؤجر على كل خطوة يخطوها في سبيل الله ولو لم تؤت ثمارها العاجلة؟!.
قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). [التوبة:120-121].
وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في التعقيب على غزوة أحد:
(وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ). [النساء: 104].
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). [آل عمران: 140].
4- إدراك تحديات الواقع:
إنك حين تأخذ في الحديث عن جانب واحد من جوانب واقع الأمة المسلمة اليوم ستشعر أن ما هو متاح لك من الوقت لن يسعفك مهما كان، ولئن كانت الفترات السابقة التي مرت على الأمة من الهوان والضعف تمثل جانباً من الجوانب، فهي اليوم غير ذلك.
ويشعر المصلحون اليوم أن الجهود المبذولة لو صرفت لإصلاح الجانب الأخلاقي والسلوكي، أو الجانب العلمي، أو تصحيح مفاهيم الدين التي علاها الغبش، أو غير ذلك -لو صرفت لجانب واحد فقط - لاستوعبها، فكيف حين يراد سد جميع الثغرات، وعلاج مشكلات الأمة.
إن الجيل حين يدرك ضخامة التحدي يعلم أنه لن يصل لمستوى ذلك إلا حين يتربى تربية جادة، ومن ثم فإن إبراز التحديات الحقيقية أمام جيل الصحوة أولى من أن نصور للناس أن الدعوة قضية سهلة يمكن أن يقوم بها الإنسان وهو في رحلة أو نزهة، فيلقي كلمة هنا، ويهدي كتاباً هناك، ويطرح برنامجاً في هذا المكان أو ذاك. [لا اعتراض على ذلك لكن حين نصور للناس أن هذا مفهوم الدعوة فقط، تتحول الدعوة إلى هذه الجهود المبعثرة فتقصر عن أداء دورها التغييري المرتقب].
5- الثقة بتحقق الهدف:
إن الشعور بمشكلات الواقع - رغم أهميته - ينبغي أن يربط به التفاؤل بتحقيق الهدف والثقة بنصر الله عز وجل وإلا أصبح مبعثاً على التشاؤم والإحباط، وهي اللغة التي تسيطر اليوم على تفكير فئام من المسلمين فيرون أن الواقع وتحدياته أضخم من أن يقوم بأعبائه بشر، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر دون أن تعمل وتبذل.
لقد وعد الله تبارك وتعالى أن دينه سيظهر ويعلو: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً). [الفتح: 28].
ووعد تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالتمكين والنصر: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً). [النور: 55].
ويخبر صلى الله عليه وسلّم بوعد صادق أن هذا الدين سيعم أرجاء المعمورة، فعن تميم الداري - رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزّاً يعزّ الله به الإسلام، وذلّاً يذلّ الله به الكفر". [رواه أحمد 4/ 103 والحاكم 4/ 430 بمعناه، وابن مندة في الإيمان 1085، والطبراني كما في المجمع 6/ 14].
إن إدراك هذا المعنى وإبرازه أمام الأمة يبعث على العمل والجد؛ إذ أن الواثق بتحقق هدفه هو وحده الذي يستطيع أن يعمل.
6- إدراك حقيقة الدنيا وزوالها:
إن كثيراً مما يعيق الناس عن العمل الصالح لدين الله سيطرة النظرة للدنيا، فهو يريد المال أو الجاه، أو تجنب المخاطر التي قد تلحقه في دنياه، أو الراحة والسلامة، وكلها مطالب دنيوية.
وحين يدرك المرء قيمة الدنيا وأنها لا تعدو أن تكون متاعاً زائلاً، تتزين لدى مريدها وتبدو فاتنة ساحرة ثم ما تلبث أن تتحول إلى جحيم لا يطاق، إن ثلاثين سنة من عمر الإنسان في شباب وصبوة، وحين يجاوز الستين تحاصره هموم الشيخوخة، فلا يتبقى له مما يستلذ به في دنياه إلا ثلاثون سنة يذهب ثلثها في الراحة والنوم، وثلثها في العمل والتحصيل لها، فلن يتبقى له بعد إلا سنوات عشر هي حقيقة عمره الذي يتمتع به في لذائذ الدنيا، هذا كله إذا سلم من الحوادث وما أكثرها.
وهب أنها تضاعفت أضعافاً ماذا عساها تغني صاحبها؟! إذ بعدها - مهما طالت - الحياة الآخرة الأبدية السرمدية.
هل تأملت يوماً في الأرض وقت الربيع وجمالها الفاتن، ثم عدت لها بعد أيام لتراها غدت قفراً يباباً؟! فهكذا الدنيا (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). [يونس: 24].
لقد ربى صلى الله عليه وسلّم أصحابه على هذا المعنى حين كان يصور لهم الدنيا بهذا التصوير.
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجديٍ أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟!.
فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟!.
قال: أتحبون أنه لكم؟!.
قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟!.
فقال: فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم". [رواه مسلم 2957].
وحين يستقر هذا المعنى في النفوس تتجه للعمل الجاد المثمر، والنظر إلى الدار الآخرة، والاستهانة بما يلاقي المرء في هذه الدار من نصب وشقاء.
ب- وسائل عملية:
1- العبادات الشرعية:
إن العبادات الشرعية مع ما فيها من تحقيق الأجر والثواب ورفعة الدرجات، فهي تربي المسلم على البذل والتحمل في سبيل الله، وتوجد لديه العزيمة الصادقة، ولهذا رتب الشرع مزيداً من الفضائل على ما يشق على المسلم أداؤه من العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلّم لعائشة -رضي الله عنها-: "أجرك على قدر نصبك".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!.
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إسباغ الوضوء على المكارة، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" . [رواه مسلم 251].
إنّ إسباغ الوضوء عبادة فاضلة، لكنه على المكارة والمشقة يصبح أفضل وأكثر رفعة في الدرجات.
وهكذا الصيام والقيام والحج وسائر العبادات فهي تعوِّد صاحبها على البذل والتحمل في سبيل الله ومجاوزة الرغبات والأهواء.
2- القدوة:
ليس ثمّة أعمق تأثيراً في النفس وأقوى دافعاً من القدوة المرئية، ولاسيما في مثل المعاني الفضفاضة التي قد يختلف الناس في تفسيرها وتحديد ضوابطها، فلعلك أن ترى بعضاً ممن يفرط في حسن الظن بعمله يتصور أنه يقف في مرتبة متقدمة من الجدية، بل ربما رأى أنه متطرفٌ ومبالغ، وأنه يشق على من معه ويحتاج لمزيد من الرفق والراحة.
قد تطالب الناس أن يكونوا جادين في تناولهم للقضايا، في نقدهم، في نقاشهم، وتنجح في تحقيق بعض ما تسعى إليه منهم، لكن هذا النجاح الذي تحققه لن يكون حتماً بالدرجة نفسها التي يحققها من يطالبهم من خلال منهج عملي وقدوة منظورة، فهو يعتذر بأدب عن الدخول أو الاستمرار في نقاشٍ غير جاد، ولا يرضى أن يضيع وقته بالإنصات لنقد غير جاد، ويحسب الحساب لوقته أن لا يضيع هدراً، ويرفض الاستجابة لمطلب يخل بجديته، فهو حين يراه الناس يرون النموذج الجاد فعلاً.
وكم يساهم الأستاذ والأب والموجه في تأخير الناس مراحل عن المنزلة التي ينبغي أن يصلوها من خلال القدوة السيئة، بل كم يمارس هؤلاء في خلق الإحباط عند الجادين ووأد البذرة الجادة لدى من يريد أن يضع قدمه في أول الطريق.
فهل يا ترى ينجح المربون في أن يكونوا قدوة حسنة لمن تحت أيديهم في الجدية والعملية؟! وإلا صاروا أولى أن يطالبوا هم بأن يتربوا تربية جادة تؤهلهم للانتصار على أنفسهم.
3- الوسط الجاد:
مما يمكن أن يلحق بالقدوة ويدرج ضمن إطارها: الوسط الجاد، فكما أن الطالب يلمس القدوة من أستاذه وشيخه، فهو أيضاً لا يمكنه الانخلاع من التأثر بصورة أو أخرى بأقرانه وزملائه من الطلاب.
وتأثر الشاب بالوسط الذي يعيشه لا يزال أهم عامل وراء النقلة الهائلة التي يقطعها الشاب نحو طريق الاستقامة.
ومن ثم فإن الوسط الجاد ضرورة لا غنى عنها، ومطلب ملح للوصول إلى التربية الجادة، ومن التكليف بما لا يطاق أن يراد من الموهوب والنابغ أن يصل لما ينتظر منه وهو لا يزال يعيش في أوساط غير جادة.
أفلا يمكن التفكير في خلق أجواء وأوساط أكثر جدية لبعض العناصر الجادة - ولو كان ذلك بصورة جزئية - أم أن الأوضاع التعليمية والتربوية الموروثة قد صارت سوراً منيعاً لا يسوغ تسلقه أو تجاوزه؟!.
وحين نقدم البرامج التربوية بصورة جماعية فهل يعني ذلك أن نشكل الجميع في قالب واحد غير ملقين أي اعتبار للفروق الفردية والاستعدادات الشخصية؟!.
ولا نزال نرى العديد من الشباب ممن يحمل همَّةً وتطلعاً للعلم والارتقاء التربوي يبقي ضحية الوسط الذي يعاشره، وبأي معيار استواء من هو في أول الطريق مع من قطع فيه مراحل.
ألا يمكن أن نستمد من تاريخنا وخبرتنا التربوية وسائل تسعفنا في تجاوز أو تخفيف أثر الوسط على تلك العناصر المتميزة دون إخلال بجماعية البرامج؟!.
5- الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة:
تترسخ لدى الناس أعراف وعادات تكبلهم بأسرها وقيودها، وتعوقهم كثيراً عن العمل المنتج، لذا فمن يريد أن يكون جاداً منتجاً في حياته لابد له أن يختار أحد البديلين الخضوع المستمر للأعراف والعوائد وخسارة الحياة الجادة، أو تجاوزها والجرأة على مخالفتها.
إن المجاملات والمناسبات الاجتماعية، وأنماط التعامل مع الأوقات نماذج للأعراف التي تمثل فيروساً للشخصيات الجادة، فتعيش مع الناس وهي تعاني الحرقة والألم.
وحين تكون مشاعر بعض الناس وخواطرهم أغلى علينا من أوقاتنا وأعمالنا فسوف نمارس هدراً بلا حدود لكثير من أوقاتنا وجهودنا، فحين نريد أن نكون جادين فلنملك الجرأة على الخروج على الأعراف الخاطئة، وربما التضحية بمشاعر بعض الناس، وهي مرحلة تمهد بعد ذلك لأن يستوعبنا الناس، ويتعاملون معنا على هذا الأساس.
6- الواقعية والتدرج:
يولِّد الحديث حول الجدية ومناقشتها لدى كثير من الخيرين طموحاً وحماسة نحو حياة عالية من الجد والعمل، وحين يسعى بعضهم لتحويل هذا الشعور إلى ميدان الواقع يصطدمون بقدراتهم وعاداتهم ومَن حولهم، وقد يتولد من هذه الصدمة شعور بالإحباط والفشل.
ومن ثم فالواقعية والتدرج، والشعور بأن النقلة لا يمكن أن تتم في لحظات، كل ذلك يقوم بدوره في ضبط النفس لتتجنب القفزات المحطمة.
وهو منهج يجب أن نمارسه في تربيتنا لأنفسنا، وفي تربيتنا لمن تحت أيدينا، وندرك أن الفترة الطويلة التي قضاها الناس في البطالة والخمول لا يمكن أن تزول آثارها بين عشية وضحاها.
وبهذا وجه النبي صلى الله عليه وسلّم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لن ينجي أحداً منكم عمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!.
قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة. سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" . [رواه البخاري 6463، ومسلم 2816 بنحوه].
7- مراعاة الميدان المناسب:
سنة الله تبارك وتعالى في الناس أنهم يتفاوتون، فمن يصلح في ميدان قد لا يصلح في سواه.
قال معاوية - رضي الله عنه - لصعصعة بن صوحان: "صف لي الناس. فقال: خلق الناس أصنافاً: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق".
وها هو خالد بن الوليد سيف الله -رضي الله عنه- يقول: "منعني الجهاد كثيراً من القراءة". [رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح].
ونبّه الحافظ ابن القيم من يربي ابنه لهذا المعنى فقال: "ومما ينبغي أن يتعمّد حال الصبي، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له". [تحفة المودود، ص 243].
وقال رحمه الله: "فإذا علم هذا، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته.
قال تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ). [النساء: 100].
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعدٌ لها أظلم عليه وقته، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة...". ثم ذكر من جمع بين تلك الطرق كلها.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي حول قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً). [التوبة: 122]: "وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشادٌ وتنبيه لطيفٌ لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور". [تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 3/ 315].
فما صلة ذلك بالتربية الجادة؟!:
إن كثيراً من الناشئة يتطلعون إلى ميدان من ميادين الخير، كطلب العلم، أو مجال من مجالات الدعوة مما هم غير مهيئين له أصلاً، فلا يبلغون ما يتطلعون إليه، فيشعرون أو يشعر من يريبهم أنهم صنف غير جاد، بينما لو سلك فيه الميدان المناسب له لأمكن أن يستثمر جهده، ويفتح له باب من العمل الصالح.
9- التعويد على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسئولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلابد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسئولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا - في برامجهم التي يقدمونها - القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسئولية، وألا يبقوا كلاً على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول سنرى نماذج من رعاية هذا الجانب، فهو صلى الله عليه وسلّم يعلم الناس أن يتحملوا المسئولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسئولية لفرد أو فردين.
فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟! قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم". [رواه البخاري 2686].
ومن ذلك أيضاً استشارته صلى الله عليه وسلّم لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك.
وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسئولية، ولو عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟!.
وعلى المستوى الفردي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمَّر أبا بكر على الحج.
بل كان يؤمر الشباب مع وجود غيرهم، فأمر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة. [رواه البخاري 4269، ومسلم 96]. ثم أمره على جيش يغزو الروم. [رواه البخاري 4469، ومسلم 2426].
وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه. [رواه مسلم 468].
... وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن الله جيل جاد يحمل المسئولية ويعطيها قدرها.
10- المشاركة العملية من المربي:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول صلى الله عليه وسلّم، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
• فشاركهم في بناء المسجد:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلّم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة". [رواه البخاري 428، ومسلم 524].
• وشاركهم في حفر الخندق:
فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب، ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة". [رواه البخاري 6414، ومسلم 1804].
• وكان يشاركهم في الفزع للصوت:
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلّم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلّم وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عريّ، وفي عنقه السيف، وهو يقول: م تراعوا، لم تراعوا. ثم قال: وجدناه بحراً، أو قال إنه لبحر". [رواه البخاري 2908، ومسلم 2307].
• وأما مشاركته لهم في الجهاد:
فقد خرج صلى الله عليه وسلّم في (19) غزوة. [رواه البخاري 3949، ومسلم 1254].
بل قال عن نفسه: "ولولا أن أشقّ على أمتي ما قعدت خلف سرية". [رواه البخاري 36، ومسلم 1876].
وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
رد مع اقتباس