عرض مشاركة واحدة
  #168  
قديم 31-01-2015, 12:42 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 35
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثاني


اشتداد المحنة بالمسلمين

مع أن المسلمين أخذوا بكافة الاحتياطات في تأمين جبهتهم الداخلية, ومحاولة الدفاع عن الإسلام والمدينة من جيش الأحزاب الزاحف, إلا أن سنة الله الماضية لا نصر إلا بعد شدة، ولا منحة إلا بعد محنة، وكلما اقترب النصر زاد البلاء والامتحان، وقد ازدادت محنة المسلمين في الخندق لأمور:
أولاً: نقض اليهود من بني قريظة العهد ومحاولة ضرب المسلمين من الخلف:
كان المسلمون يخشون غدر يهود بني قريظة الذين يسكنون في جنوب المدينة فيقع المسلمون حينئذ بين نارين، اليهود خلف خطوطهم، والأحزاب بأعدادهم الهائلة من أمامهم، ونجح اليهودي زعيم بني النضير في استدراج كعب بن أسد زعيم بني قريظة لينضم مع الأحزاب لمحاربة المسلمين.
وسرت الشائعات بين المسلمين بأن قريظة قد نقضت عهدها معهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تنقض بنو قريظة العهد الذي بينهم وبينه؛ لأن اليهود قوم لا عهد لهم ولا ذمة، ولذلك انتدب النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام (رجل المهمات الصعبة) ليأتيه من أخبارهم فذهب الزبير، فنظر ثم رجع فقال: يا رسول الله: رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون([1]) طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم([2]). وبعد أن كثرت القرائن الدالة على نقض بني قريظة للعهد، أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير -رضي الله عنهم- وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا ([3])أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس([4]). فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم قد نقضوا العهد, فرجعوا فسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة([5]), فعرف النبي صلى الله عليه وسلم مرادهم([6]).
واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم غدر بني قريظة بالثبات والحزم واستخدام كل الوسائل التي من شأنها أن تقوي روح المؤمنين وتصدع جبهات المعتدين، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه (سلمة بن أسلم) في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل، يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير ليرهبوا بني قريظة, وفي هذه الأثناء استعدت بنو قريظة للمشاركة مع الأحزاب، فأرسلت إلى جيوشها عشرين بعيرًا كانت محملة تمرًا، وشعيرًا، وتينًا لتمدهم بها وتقويهم على البقاء إلا أنها أصبحت غنيمة للمسلمين الذين استطاعوا مصادرتها وأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم([7]).
ثانيًا: تشديد الحصار على المسلمين وانسحاب المنافقين ونشرهم الأراجيف:
زادت جيوش الأحزاب في تشديد الحصار على المسلمين بعد انضمام بني قريظة إليها، واشتد الكرب على المسلمين، وتأزم الموقف، وقد تحدث القرآن الكريم عن حالة الحرج والتدهور التي أصابت المسلمين ووصف ما وصل إليه المسلمون من جزع وخوف، وفزع في تلك المحنة الرهيبة أصدق وصف, حيث قال تعالى: ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ` هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا )[الأحزاب: 10، 11]. وكان ظن المسلمين بالله قويًا، وقد سجله القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا )[الأحزاب: 22].
وأما المنافقون فقد انسحبوا من الجيش، وزاد خوفهم حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وطلب البعض الآخر الإذن لهم بالرجوع إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، فقد كان موقفهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإجحاف والتخذيل([8]), ولكن القرآن الكريم يتكفل بتصوير ذلك أدق تصوير([9]), والآيات هي: ( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ` وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا `` وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً ` قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ` قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ` قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ` أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ` يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً )[الأحزاب: 13-20].
إن الآيات السابقة أشارت إلى النفاق وما تولد عنه من القلق في النفوس, والجبن في القلوب, وانعدام الثقة بالله عند تعاظم الخطوب والجرأة على الله تعالى بدل اللجوء إليه عند الامتحان، ولا يقف الأمر عند الاعتقاد بل يتبعه العمل المخذل المرجف، فهم يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم للانصراف عن ميدان العمل، والقتال بحجج واهية؛ زاعمين أن بيوتهم مكشوفة للأعداء، وإنما يقصدون الفرار من الموت لضعف معتقدهم وللخوف المسيطر عليهم، بل ويحثون الآخرين على ترك موقعهم والرجوع إلى بيوتهم، ولم يراعوا عقد الإيمان وعهود الإسلام([10]).
وتزايدت محاولات المشركين لاقتحام الخندق، وأصبحت خيل المشركين تطوف بأعداد كبيرة كل ليلة حول الخندق حتى الصباح، وحاول خالد بن الوليد مع مجموعة من فرسان قريش أن يقتحم الخندق على المسلمين في ناحية ضيقة منه, ويأخذهم على حين غرة، لكن أسيد بن حضير في مائتين من الصحابة يراقبون تحركاتهم، وقد حصلت مناوشات استشهد فيها الطفيل بن النعمان والذي ***ه وحشي قاتل حمزة يوم أحد، رماه بحربة عبر الخندق فأصابت منه م***ا([11])، واستطاع حبان بن العرقة من المشركين أن يرمي سهمًا أصاب سعد بن معاذ t في أكحله([12])، وقال: خذها وأنا بن العرقة، وقد قال سعد بن معاذ عندما أصيب: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها شهادة, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة([13]). وقد استجاب الله دعوة هذا العبد الصالح وهو الذي سيحكم فيهم, ثم وجه المشركون كتيبة غليظة نحو مقر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقاتلهم المسلمون يومًا إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت كتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا، وشغل بهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل العصر، ولم تنصرف الكتيبة إلا مع الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» ([14]).
__________________
رد مع اقتباس