اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > الاقسام المميزة > الموضوعات العامة

الموضوعات العامة قسم يختص بعرض الموضوعات و المعلومات العامة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-07-2017, 11:29 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي موانع التقدم يوسف زيدان ( سلسلة مقالات )


موانع التقدم: الجهل والجاهلية

يوسف زيدان

«التقدم» مفهوم حديث نسبياً، بدأ طرحه بقوة بعد الموجات المتتالية للحداثة الأوروبية، وانشغل به العقل العربى فى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فأدى الحراك الفكرى الدائر حول هذا المحور إلى ظهور تيارين كبيرين، كان كل منهما يزعم أن سبيله ومنهجه هو الطريق إلى التقدم: تيار الإصلاح الدينى المتمثل فى جمال الدين الأفعانى، ثم الأستاذ الإمام محمد عبده، ثم تلميذه محمد رشيد رضا، والتيار الليبرالى «العلمى» المتمثل فى أنطوان مراش، ثم شبلى شميل، ثم فرح أنطون، ثم كبار مفكرى مصر.

وفى مطلع القرن العشرين اصطدم التياران وتفرغ كل تيار منهما لدحض الآخر والاستعلاء عليه باعتبار أن السبيل «الوحيد» للتقدم هو رؤيته الخاصة مع أن الأمر كان يحتاج كليهما، ولكن بدلاً من تآزر الجهود وتناغمها، احتدمت المواجهات بين الفريقين فور ظهور كتاب فرح أنطون «فلسفة ابن رشد» فانبرى له رشيد رضا وشاركه محمد عبده، فكانت المساجلات الفكرية المشهورة والمناقشات الحادة التى امتدت وامتد أثرها حتى انقضت العشرون سنة الأولى من القرن العشرين.

وحين أسقط «كمال أتاتورك» الخلافة العثمانية «سنة 1924» فلم يعد للمسلمين فى مختلف البلاد العربية «خليفة». طمح إلى نوال هذه المرتبة اثنان من الحكام العرب: الملك فؤاد فى مصر، الملك عبدالعزيز آل سعود فى نجد. ولجأ كلاهما إلى توظيف تيار الإصلاح الدينى لصالحه، وهو ما نجم عنه ظهور جماعة «الإخوان المسلمين» كامتداد لتيار الإصلاح الدينى وبديل عنه، كما نجمت عن حالة التنافس بين الملكين لوراثة الخلافة، مواجهات تطورت حتى اتخذت شكلاً عنيفاً، فقد زحف الملك «عبدالعزيز» على الحجاز سنة 1925 واستولى عليها وبالتالى على الحرمين الشريفين، وقطع أعوانه ومناصروه الطريق على محمل الحجاج المصريين واعتدوا على بعض الحجيج «الحجاج» فأمر قائد المحمل اللواء محمود عزمى «الذى أطلق اسمه على الشارع القاهرى الراقى بالزمالك» بإطلاق النار على قاطعى الطريق، ف*** منهم عدداً يتراوح ما بين أربعين وخمسة وعشرين شخصاً، وعاد المحمل إلى مصر دون أداء الفريضة ومن غير تجديد كسوة الكعبة التى ظلت مصر تقوم بعملها كل عام منذ العصر المملوكى.. وهناك مخطوطة بديعة، مزخرفة، تحكى هذا التاريخ الطويل، كتبها العلامة المصرى الشهير «ابن حجر العسقلانى» تحت عنوان: اللمحة اللطيفة فى ذكر كسوة الكعبة الشريفة «نُشرت مؤخراً بعد طول إهمال لها، بتحقيق د. محمد على فهيم».

وعاد المحمل المصرى محاولاً الحج وإيصال الكسوة، فقُطع عليهم الطريق مجدداً فأمر «محمود عزمى» بضرب قُطاع الطرق السعوديين بالمدافع، ف*** منهم وجرح المئات «يقال 250 ما بين قتيل وجريح» وهو ما أحيا- آنذاك- الذكريات المريرة السابقة، أعنى تدمير الجيش المصرى لعاصمة السعوديين الأولى- قبل الرياض «الدرعية» وأدى أيضاً إلى منع مصر لمعوناتها المالية والغذائية والطبية عن الحجاز، فصار موسم الحج مناسبة لانتشار الأوبئة وشكوى الحجيج القادمين من مختلف بلدان الإسلام. ولم يتوقف هذا النزاع بين الملكين، والتنافس على منصب «الخلافة» إلا بوفاة الملك فؤاد، بعدما جرت بينهما وقائع وشنائع عديدة، لا مجال لذكرها هنا.. والطريف فى هذا الأمر أن مهرجان «الجنادرية» السعودى استضاف هذا العام 2017 وزير الثقافة المصرى، الكاتب الصحفى حلمى النمنم، فألقى هناك كلمة رسمية أشاد فيها واستشهد بروابط «الأخوة» التى جمع بين مصر والسعودية منذ زمن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، وأخيه الملك فؤاد «ملك مصر والسودان».

■ ■ ■

ومع الدخول الدينى فى الملعب السياسى، صار هوى «الإخوان» سعودياً فاحتد عليهم الاتجاه الليبرالى ودفع حجتهم «الشرعية» المتمثلة فى إعلاء وإعلان حديث نبوى يقول: من مات وليس فى عنقه بيعة «لخليفة» مات ميتة جاهلية! فنشر الشيخ المستنير «على عبدالرازق» كتابه الشهير: الإسلام وأصول الحكم.. وأكد فيه أن الخلافة ليست شرطاً من شروط الدين، فحُوكم تحت ضغط التيار الدينى وانحاز له كبار ممثلى التيار الليبرالى المستنير آنذاك.

وعقب توقيع الاتفاقية المهمة بين مصر وإنجلترا، نشر العلامة الليبرالى المرموق «طه حسين» فى العام التالى «1937» كتابه: «مستقبل الثقافة فى مصر»، واقترح فيه أن تأخذ مصر بأسباب التقدم وتلحق بركب الحضارة الأوروبية، وتشترك فى صياغة المنظومة الحضارية المعاصرة. فلحق به التيار الدينى، وتعقبوه بتحريك الدعاوى القضائية هذه باعتباره عدواً للدين «تماماً كما يحدث فى أيامنا الحالية!» وهيجوا ضده هذه المظاهرات المتشنجة الزاعقة بقولهم: يسقط الوزير الأعمى! وغير ذلك من الأساليب الوقحة والحقيرة التى يلجأ إليها اللاعبون بالدين فى مجال السياسة.

وفى منتصف القرن العشرين، يعنى من فترة بسيطة نسبياً فى حياة الأمم، كانت مصر ومدنها الكبيرة، وكانت الحواضر العربية الوهاجة: بيروت، بغداد، دمشق، الدار البيضاء «كازابلانكا» وما حولها من ربوع خضراء تعيش حالة من التقدم الحضارى، تسمح لها بالمشاركة فى صياغة المنظومة الحضارية المعاصرة آنذاك. بل كانت لهذه الحواضر المصرية والعربية فرصة أكبر من غيرها فى هذا السياق التقدمى «الحضارى»، نظراً لأنها لم تتعرض للتدمير الكلى والجزئى الذى حاق بالمدن الأوروبية جراء الحرب العالمية الثانية «راح ضحيتها 35 مليون شخص» لأن بلادنا لم تشارك بقوة فى تلك الحرب ولم تكن أرضنا مسرحاً لها إلا فى بعض المعارك.

بل هناك من يقول إن القاهرة عام 1950 كانت أرقى حضارياً من معظم العواصم الأوروبية التى أتلفتها ويلات الحرب، وكانت آنذاك قائمة ومتقدمة بالقياس لبرلين ولندن وطوكيو وبكين، وغيرها من المدن والعواصم المدمرة كلياً أو جزئياً.. وكانت الجامعات المصرية: فؤاد «القاهرة» فاروق «الإسكندرية» فى ذات المرتبة الأكاديمية مع كبريات الجامعات الأوروبية، وكذلك كانت الحالة الاقتصادية، فالجنيه المصرى هو الأعلى قيمة من مثيله الذهبى والإسترلينى، والأسعار أرخص وسوق العمل أوسع. حتى إن الإيطاليين واليونانيين «ناهيك عن الشوام والأرمن والجريتلية أهل كريت» يأتون إلى مصر بحثاً عن الرزق، وأملاً فى حياة أفضل وفرص عمل أجدى مما فى بلادهم.

ماذا حدث؟

خلال أعوام تعد فى أعمار البلاد قليلة، بل هى أقل من متوسط عمر الشخص الواحد، يعنى فى فترة تتراوح ما بين أربعين وستين سنة، جرى تدهور بلادنا سريعاً، وتوالى سقوطها الحضارى المريع الذى نعيش اليوم نتائجه المروعة. وقامت موانع تحول دون تطور مصر والمجتمعات العربية الأخرى، وهى الموانع والعوائق التى تساندت فيما بينها وتآزرت وتفاعلت، حتى صار حلم التحضر اليوم فى بلادنا شبه مستحيل.

وفى هذه المقالة، وما سوف يتلوها من مقالات فى الأسابيع المقبلة، سوف نتوقف عند هذه الموانع والعوائق التى حالت بين بلادنا والحياة الحضارية الكريمة، اللائقة بالإنسان المعاصر. وهى العوائق والموانع التى منها: الجهل والجاهلية، أغلوطة إسرائيل، تقديس الخرافة، النزعة القبلية، القلاقل الإقليمية، الديكتاتوريات العسكرية، الأخلاق.. ولنبدأ بما بدأنا به هذا الحصر، علماً بأنها «جميعاً» تعد من العناصر المتساندة التى اشتركت فى إحداث حالة التدهور الحضارى العام، فيكون كلامنا اليوم عن الجهل والجاهلية.

■ ■ ■

الجهل هو نقيض العلم والمعرفة، والسبيل إلى العلم والمعرفة «أحد أهم شروط التقدم» هو التعليم والتثقيف العام. وقد يظن بعض الناس أن النصف الأول من القرن العشرين لم تكن فيه مصر تتيح لأهلها التعليم والتثقيف، حتى جاء الزعيم المسمى إعلامياً «خالد الذكر» ورفاقه من الضباط الأحرار «جداً» لأنه أطلق شعار: التعليم حق كالماء والهواء! وهذا وهم عظيم، فهذا الشعار أطلقه «طه حسين» قبل سنة 1952، وكان التعليم متاحاً لكل من أراده. بدليل أن طه حسين نفسه، وخالد الذكر ورفقاءه وغيرهم، كانوا من الفقراء الذين تعلموا. فالشعب لم يكن محروماً من التعليم، مثلما يتوهم الواهمون، بل كان مستوى التعليم راقياً ومتقدماً آنذاك فى مصر، وقد أخبرنى أساتذة أساتذتى الذين هربوا من مصر فى الخمسينيات واستقروا فى أوروبا وأمريكا، فراراً من القهر السياسى الناصرى، أمثال د. عبدالحميد صبرة الأستاذة بـ«جامعة هارفارد» ود. رشدى راشد «الأستاذ فى السربون»، بأنهم لم يجدوا مشكلة فى الانتقال من هنا إلى هناك، نظراً للتقارب الشديد فى درجة التعليم الجامعى والأكاديمى. وكذلك أخبرنى أستاذ أساتذتى د. محمد ثابت الفندى. بأن كتابه «فلسفة الرياضيات» كان يتم تدريسه فى السربون فى الثلاثينيات من القرن العشرين. وكلنا نعرف كيف تفاعل د. مصطفى مشرفة مع «آينشتين» حين طرح الأخير نظريته فى النسبية. ناهيك عن أدلة كثيرة تؤكد ارتقاء المستوى التعليمى والأكاديمى بمصر فى النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك كان حال التثقيف العام الذى يشهد له مؤلفونا الكبار الذين نبغوا بمصر أو تخرجوا فى جامعاتها قبل منتصف القرن العشرين، وبالتحديد قبل حركة الضباط الأحرار «جداً» عام 1952: طه حسين، السنهورى، عبدالرحمن بدوى، العقاد، توفيق الحكيم.. وكثيرون من النوابغ غيرهم.

وبعد أن استقرت السلطة السياسية «الأبدية» فى يد الأحرار جداً من الضباط، تم تعميم التعليم وتسطيح التثقيف، فأقيمت مدارس كثيرة وجامعات من دون عناية بمستوى التدريس، وتولى أمر التثقيف العام وزراء «الإرشاد» فهبط المستوى متسارعاً وتم قطع الصلات المعرفية بالعالم الذى يتقدم، وتقلصت ميزانية التعليم حتى كادت تقتصر على رواتب المدرسين الذين تدهور مستواهم تدريجياً.. فى زيارة لرئيس وزراء ماليزيا «مهاتير محمد» سألناه عن المعجزة التى قام بها فى ماليزيا فنقلها خلال 18 سنة إلى مصاف الدول المتقدمة، فاندهش من السؤال وقال إنه لا توجد معجزة! فكل ما فى الأمر أنه قام بتوجيه جزء كبير من الميزانية العامة للتعليم والبعثات الأكاديمية، وقام هؤلاء المتعلمون بهذه الطفرة.

وفى زيارة لكوريا الجنوبية قبل سنوات، سألتهم عن الأماكن الأثرية بالبلاد، لأزورها، فقالوا إنه لا يوجد مبنى قائم قبل منتصف الخمسينيات! قلت لهم: فكيف حدثت هذه المعجزة فى كوريا؟ قالوا: لا توجد معجزة، كل ما فى الأمر أننا وجهنا جزءا كبيرا من الميزانية العامة للتعليم والبعثات الأكاديمية.. وقبل شهرين أو ثلاثة، زارنى أستاذ يابانى متخصص فى الأدب العربى وأعطانى نسخة من مقالة نشرها عنى فى واحدة من أشهر الجرائد اليابانية. كنا جالسين فى مقهى قاهرى، وجاء أحد الظرفاء وسلم عليه وسأله: أنت من كوكب اليابان؟ فضحك. سألته: فى منتصف القرن العشرين كانت أحوال مصر أفضل من أحوال اليابان، فكيف تقدموا بسرعة وأحدثوا هذه المعجزة؟ قال: لا توجد معجزة، كل ما فى الأمر أننا وجهنا جزءاً كبيراً من الميزانية العامة للتعليم والبعثات.. سأترك بقية ما أريد قوله، لفطنة القارئ! فاللبيب بالإشارة يفهم.

■ ■ ■

أما «الجاهلية» فهى ليست نقيض الإسلام، مثلما يتوهم كثيرون، وقول بعضهم «الجاهلية والإسلام»، قاصدين المرحلة الزمنية، هو خطأ دلالى. فالجاهلية هى الحدة وال***، بدليل أن النبى قال لأحد كبار الصحابة، حين احتد على أحد كبار الصحابة: يا أبا ذر تقول لبلال «يا بن السوداء» إنك امرؤ فيك جاهلية.. وعندما احتد النبى على مشركى قريش الذين ضايقوه، وقال لهم «جئتكم بال***» قال له عمرو بن هشام، الملقب عند المسلمين بأبى جهل: يا محمد، ما كنت جهولاً «يعنى: لم نعهدك عنيفاً».. وفى قصيدة عمرو بن كلثوم، المعلقة الشهيرة: ألا لا يجهلن أحد علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا «يعنى نواجه السفاهة وال*** بما هو أكثر سفاهة و***اً» وقد استقصيت الكلام فــى معنى الجاهلية فـــى كتابى: كلمـــــــات، التقاط الألماس من كلام الناس. أما هنا فإن مرادى هو تأكيد أن هذه الجاهلية التى يزخر بها واقعنا، هى أحد أكبر العوائق التى تقف فى وجه التقدم.. فعمليات الاغتيالات التى بدأت مع *** الإخوان المسلمين للنقراشى وأحمد باشا ماهر والخازندار، و*** الجماعات الإسلامية للشيخ الذهبى وفرج فودة، ومحاولة عوام وجهال المتدينين *** نجيب محفوظ، وهجوم الرعاع من العوام على الشيعة و***هم فى «أبوالنمرس وعلى المسيحيين و***هم فى كل حين.. هى أعمال جاهلية، وهــى دليل على ابتعاد الواقع العام والعقلية الجمعية، عن التهيؤ للتقدم والتحضر واللحاق بركب العالم المتقدم.

ولا أريد هنا أن أخوض فيما تحدثت فيه سابقاً عن معاداة الجماعات الدينية «الجاهلية» للتراث الصوفى الراقى، والفنون، والآداب. والفلسفة، والتفكير الحر.. يعنى: معاداة كل الوسائل والسبل التى تؤدى إلى تقدم المجتمعات.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-07-2017, 11:20 AM
hebaa esmael hebaa esmael غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jul 2017
المشاركات: 7
معدل تقييم المستوى: 0
hebaa esmael is on a distinguished road
افتراضي

موضوع رائع ومفيد جدا بكل معني الكلمه .. حقيقي برافوو
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-07-2017, 01:43 PM
shimaa elashry shimaa elashry غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jul 2017
المشاركات: 5
معدل تقييم المستوى: 0
shimaa elashry is on a distinguished road
افتراضي

موضوع رائع سلمت
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-07-2017, 02:17 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hebaa esmael مشاهدة المشاركة
موضوع رائع ومفيد جدا بكل معني الكلمه .. حقيقي برافوو
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shimaa elashry مشاهدة المشاركة
موضوع رائع سلمت

تشرفت بمروركم الكريم

تقبلوا خالص احترامى و تقديرى

جزاكم الله خيرا و بارك الله فيكم

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12-07-2017, 02:21 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

موانع التقدم 2: إشهار السيوف ورفع الأسنَّة بحجة نصرة مذهب السنة!



يوسف زيدان

فى معرض الرصد المتأنى للعوائق والموانع التى حالت، وتحول، دون السير فى طريق التقدم والترقى فى مسيرة التحضر، تحدثنا الأسبوع الماضى عن «الجهل والجاهلية»، ونتحدث اليوم عن المذهبية الدينية التى تُعد عند التعصب لها مانعاً عن بلوغ الناس درجة الإنسانية، ناهيك عن كونها عائقاً يمنع البلاد والعباد عن التحضر والتقدم.

والملحدون المعاصرون يخطئون حين يظنون أن «الدين» هو سبب بلاء الناس لأنه يفرِّق بينهم، ويجعل كل فريق منهم يتوهم أنه وحده الذى يملك الحقيقة المطلقة، والآخرون الذين يختلفون عنه دينياً هم: الكفار، المشركون، الهراطقة، المنحرفون.. وغير ذلك من صفات السلب والشجب، التى تعد مقدمة لعمليات الإقصاء ونفى الآخر والتمييز على أساس دينى، ثم تتطور إلى الحروب الدينية وال*** باسم الإله والبطش بالمخالف «الضال» الذى لا يستحق الحياة!.

ومن وجهة نظرى، وقد أكون مخطئاً أو على صواب، فإن هؤلاء الملاحدة الجدد «مخطئون» لأن الدين فى عمومه، أعنى بمفهومه الأساسى والكلى بصرف النظر عن اختلاف أنماطه، هو صلة بين الأرض والسماء وبين الإنسان المحدود والإله اللامتناهى. وهذا فى حد ذاته لا يتضمن بالضرورة الإقصاء، وإنما هو على العكس: اقتراب الفانى من الباقى، واتصال الزمانى بالمطلق، وتسامى الحيوانى إلى الروح الكلى المحتجب خلف المحسوسات.

والأديان على تنوعها واختلافها فيما بينها، لها نمطان أساسيان هما الرسالية والغنوصية «العرفانية»، فالنمط الرسالى يقوم على قاعدة النبوة التى تعنى فى أصلها اللغوى «العربى، العبرى، السريانى» العلو والارتفاع، فكل ما نبا عن الأرض هو ما ارتفع عنها. وتعنى اصطلاحاً اجتباء الله لبعض البشر، ليكونوا رُسلاً يوحى إليهم من السماء: مباشرة مثل كلام الله مع موسى، أو عبر وسيط مثل جبريل عند المسلمين وروح القدوس عند المسيحيين.. والرسالية، هى الصفة المحورية لليهودية والمسيحية والإسلام، وهى الديانات التى يعدها الناس ثلاثة، لكننى أراها ديانة واحدة تعددت تجلياتها، فاختلفت بحسب اختلاف الزمان والمكان، ومن الديانات الرسالية: المزدكية، الديصانية، المانوية، البهائية.. وغيرها.

أما الديانات العرفانية «الغنوصية» فهى نمط مقابل لما سبق ومضاد له، إذ تقوم على القدرة الروحية لبعض الأفراد، حين يتخلصون من سيطرة المحسوسات عليهم، فتشرق على مرايا نفوسهم الحقائق الإلهية بنوع من الإدراك التام المباشر، والمعرفة الكلية «كلمة (غنوص) يونانية الأصل ومعناها: المعرفة المباشرة» ولهذا النمط من الديانات انحياز لفكرة المساواة بين البشر واعتقاد بأن الاصطفاء والاجتباء والانتقاء هى أمور لا تصح من حيث العدل الإلهى فى حق مبدع الوجود الذى خلق البشر سواسية، فكيف له أن يختار منهم للنبوة شخصاً دون آخر. وطريق السماء مفتوح أمام كل إنسان ترقى عن المادية وتخلص من الحسية، فأشرقت عليه الأنوار العلوية لأنه نجح فى تصفية مراة ذاته حتى انعكست عليها المعانى العلوية «الإلهية» وهو ما نراه فى ديانات مثل: البوذية، الزرادشتية، الفيثاغورية.. ومن قبل هذه كلها، الديانة المصرية القديمة «عبادة آمون».

وهناك من يتطرف فى الأمر، فينظر إلى المعتقدات الفلسفية الميتافيزيقية مثل قول أفلاطون بالصانع «المهندس الأعظم» وقول أرسطو بالمحرك الأول للكون، على اعتبار أنها ديانات عقلية.. وهذا لا يجوز، فالدين شرطه الأول هو الإيمان القلبى وليس الدليل العقلى، وحرارة الوجدان وليس صرامة المنطق. والأصح أن نقول عن هذه المعتقدات إنها «فلسفات» لا «أديان» لأن المفهوم الدقيق للدين لا ينطبق عليها.

■ ■ ■

وبصرف النظر عن التصنيفات الأخرى للأديان، انطلاقاً من أنها إما «سماوية أو وثنية، قويمة أو منحرفة، حقة أو باطلة»، وهى تصنيفات فضفاضة لا تصمد أمام النقد والتدقيق. نقول: لم تكن الديانات نفسها أداة تفرقة أو حجة للحرب! فقد تجاورت ديانات كثيرة لفترات زمنية طويلة، فى مصر القديمة والهند وفارس واليونان والإسكندرية البطلمية، ولم تنشب أية خلافات بين أهلها بسبب اختلاف المعتقد.

وفى الديانات غير الرسالية، ليس هناك فرصة للتمذهب أصلاً، بحيث يجوز التعصب لمذهب. فالديانة واحدة وتتجدد دوماً فى مسار واحد مع خبرات ورؤى الزهاد والكهان والروحانيين، دون تعديل للمسار العام للفيثاغورية، أو البوذية أو غيرهما. أما الديانات الرسالية فهى تنوء بالمذاهب، ففى اليهودية هناك: السامرية، اليهودية الأسينية، اليهودية التلمودية، الحسيديون، الفريسيون، القبالة... إلخ، وفى المسيحية: الآريوسية، الأرثوذكسية المصرية، الأرثوذكسية اليونانية، النسطورية الكاثوليكية، البروتستانتية، المورمون، شهود يهوه.. إلخ، وفى الإسلام: الخوارج، الشيعة، أهل السنة! ومن مذاهب الخوارج «إباضية = أباظية، نجدات، أزارقة». ومن المذاهب الشيعية «اثنا عشرية، إسماعيلية، زيود» ولدى أهل السنة مذاهب عقائدية «معتزلة، أشعرية، ماتريدية» ومذاهب فقهية: مالكية، حنبلية، شافعية، حنفية...

ولأن البشر فيهم ميل فطرى للاستعلاء والتفاخر على الآخرين وتمجيد الذات «وبالتالى تحقير الآخر» وكلما ساد فيهم الجهل والجهالة، كان ميلهم هذا أشد. فقد افتخر البعض منهم وتفاخر على الآخرين بأصوله العرقية ونَسَـبه الأسرى ومحل سكناه! فأهل المدن يتعالون على سكان القرى، وهؤلاء يتعالون على سكان النجوع والكفور.. ومن وجوه التفاخر الذى لا يلبث أن يصير تعصباً مقيتاً، الاستعلاء بالمذهب الدينى على غير المعتقدين به.

العلة إذن، والبلاء، ليس فى الأديان وإنما فى التعصب المذهبى داخل الدين الواحد، ولهذا نجد ال*** المذهبى أشد ضراوة من ال*** الواقع بين ديانتين.. فالديانة الإبراهيمية بمجموعها اليهودى/ المسيحى/ الإسلامى، لم يشن أصحابها حروباً عقائدية على الديانات غير الرسالية، فلم نعرف أنهم أضرموا نيران حرب مقدسة على أتباع عبادة آمون المصرية، أو على البوذية، باسم الرب. لكننا عرفنا تاريخياً *** أهل المسيحية ضد اليهود، والمذابح التى قاموا بها ضدهم والتى كان من أبشعها تلك الم***ة الهائلة التى امتدت عدة سنين عقب طرد الإمبراطور المسيحى «هرقل» للفرس من مصر والشام، وإعادته قطعة الخشب المسماة «صليب الصلبوت» إلى مدينة إيليا التى كانت تعرف سابقاً وسوف تعرف لاحقاً باسم «بيت المقدس»، وكان ذلك سنة 628 ميلادية، وقد تزامن مع غزوة النبى لبنى قريظة، حيث *** المسلمون من اليهود ما بين ستمائة وثمانمائة شخص فى يوم واحد وحفرة واحدة، بشهادة مؤرخى الإسلام وإقرار علمائه. أما م***ة اليهود آنذاك على يد المسيحيين، فقد راح ضحيتها ما لا حصر لهم من الناس.. يقول القس العلامة «د. ألفريد بتلر» فى كتابه القيم «فتح العرب لمصر» صفحة 100 وما بعدها، ما نصه:

جاء ذكر العداوة الفظيعة التى يحملها اليهود للمسيحيين فى كتاب «قيدرينوس» وهو يروى أن فى السنة الأخيرة من حكم فوكاس «الإمبراطور الذى خلعه هرقل وجلس على عرشه» أوقع اليهود بالمسيحيين فى أنطاكية، فأرسل إليهم فوكاس قائده «بونوسوس» فأنزل بهم انتقاماً وبيلاً تحدوه قسوة تقشعر من وصفها الأبدان.. وهناك براهين أخرى على أن كراهة اليهود للمسيحيين لا هوادة فيها. وما هى إلا شهور قليلة بعد ذلك، حتى وثب المسيحيون على الفرس ف***وا قادتهم وملكوا الأمر وأغلقوا أبواب المدينة «بيت هميقداش، إيليا، بيت المقدس» فجاء الفرس وساعدهم اليهود على هدم الأسوار، وأعقب ذلك مشاهد مروعة من التقتيل والنهب والتدمير، فكان عدد ال***ى سبعة وخمسين ألفاً «وقيل تسعين ألف شخص» من بينهم آلاف الرهبان والقديسين والراهبات.. واشترى اليهود كثيراً من الأسرى المسيحيين ليمتعوا أنفسهم بتقتيلهم!.

ويقول فى صفحة 170 وما بعدها: استجاب هرقل إلى رغبة المسيحيين فى الانتقام من اليهود، فوقعت فى اليهود م***ة تشبه أن تكون عامة «فى جميع أنحاء الأرض» حتى لم يبق منهم أحد فى دولة الروم ومصر والشام، إلا من هرب واختفى.

.. ومن المعروف تاريخياً، أنه بعد م***ة اليهود على يد عموم المسيحيين «أبناء الرب الداعى للمحبة» جرت م***ة عظيمة فى مصر بسبب تعصب الأرثوذكس المصريين لمذهبهم، وعدم موافقتهم على المذهب الجديد الذى جاء به «قيرس» المعروف بالعربية باسم «المقوقس» وهو واحد من أحقر الشخصيات فى التاريخ، أيضاً، إذ *** من المسيحيين المصريين باسم المسيحية ثمانية عشر ألف شخص فى الإسكندرية وحدها، حسبما ذكرت المصادر التاريخية المسيحية.. ناهيك عن ***اه فى عموم النواحى المصرية، وهى المأساة التى لم يتخلص منها «الأقباط» إلا بمجىء عمرو بن العاص، اللاعب السياسى البديع.

وما بين المسلمين بعامة وعموم المسيحيين، جرت الحروب المعروفة لدى العوام والخواص باسم الحروب الصليبية «مع أن (الصليب) مظلوم فيها)» وقد امتدت عدة قرون، حتى استطاع المملوك الحاكم «العاقل» المنصور قلاوون وأبناؤه تحرير البلاد من حكم ملوك أوروبا واسترداد بيت المقدس.. وخلال تلك الحرب الطويلة، كان الصليبيون ينظرون إلى «الأقباط» باعتبارهم أعداء الصليب! وكان بعض الشيعة يتحالف مع الصليبيين ضد المسلمين.. بسبب اختلاف المذهب.

■ ■ ■

وبسبب اختلاف المذاهب والتعصب لها، *** المسيحيون الكاثوليك مئات الآلاف من المسيحيين البروتستانت. و*** المسلمون السنة من المسلمين الشيعة الملايين! نعم، مات الملايين من المسلمين فى الحروب الإسلامية/ الإسلامية التى ابتدأت منذ فجر الإسلام فى موقعة «صفين» بين الإمام على بن أبى طالب، ومعاوية، الذى يقول أهل السنة: رضى الله عنه! باعتباره مؤسس دولة الإسلام السنى، وهى التى أطاحت بها دولة الإسلام السنى «العباسية»، وأسرفت فى *** الأمويين والشيعة معاً.

وما لبث شعار «نصرة مذهب السنة» أن صار راية يرفعها حقراء الحكام الطامحين إلى توسيع رقعة ملكهم، وهو ما فعله محمود بن سبكتكين الغزنوى الذى يعده بعضنا بطلاً وأراه واحداً من أحقر الشخصيات فى التاريخ، إذ *** فى سبيل عرشه عشرات الآلاف من المسلمين، ومئات الآلاف من الهندوس، وأعدم الشيعة والمعتزلة بلا هوادة، وكاد ي*** العلامة نادر المثال: أبوالريحان البيرونى «أحد أعظم الشخصيات فى التاريخ» ثم اكتفى باعتقاله بقلعة «غزنين» بعد وساطة «أبى نصر مشكان» ثم أطلقه واستعمله وأخذه معه فى حروبه التخريبية ببلاد الهند، حيث *** فى يوم واحد خمسين ألف شخص هندوسى، ***اً، لأنهم حاولوا الحيلولة بين الغزنوى الذى كان يفتخر بأنه حامل لواء السنة ومحطم الأصنام! وبين هدمه لأكبر نصب مقدس فى الهند «سونمات».. ***هم الحقير وهدم المعبد الهندوسى وحطم صنم سونمات. والآن، يستغرب المعاصرون من كراهية الهندوس للمسلمين. والآن، ينتطع بعض الذين يظنون أنفسهم باحثين ومؤرخين ومفكرين، فيقولون إن فظائع الغزنوى ومذابحه كانت بسبب طبيعة العصر الذى عاش فيه.. ويتجاهلون أن هذا العصر، ذاته، هو الذى أهدى للإنسانية جمعاء: عمر الخيام «عبقرى الرياضيات» والبيرونى «عبقرى الطبيعيات» وابن سينا «عبقرى الطب والفلسفة» وكان ثلاثتهم متعاصرين ومعاصرين لمحمود الغزنوى.

وفى عصر تالٍ، بعد قرابة قرن ونصف من الزمان، وفى الجهة الأخرى من العالم الإسلامى، سوف يسير صلاح الدين الأيوبى على درب محمود الغزنوى، فيرفع راية «نصرة مذهب السنة» مع أنه كان انكشارياً شركسياً سكيراً، ويعطى لنفسه لأول مرة فى التاريخ لقب «خادم الحرمين الشريفين» مع أنه لم يحج قط! في*** وي*** وينهب ويفتك بالشيعة وبالسنة وبالأكراد «المسلمين السنة» ولا يرتدع إلا من تهديد الإسماعيلية الذين ارتعب من قائدهم «شيخ الجبل» فهرب من وجهه.. ولن أتوقف بأكثر من ذلك عند هذا الرجل، لأن وجهة نظرى فيه معروفة.

وفى عصر تالٍ، فى القرنين الثامن والتاسع الهجريين، بالشام، تندلع نيران التعصب المذهبى بين السنة «الأحناف» والسنة «الشافعية» فتقع بين القرى وقائع القتال، ويحرم الزواج بين الشافعية والأحناف. مع أن كليهما مسلمون، والزواج فى الإسلام مباح بين المسلم والمسيحية واليهودية التى تعجبه «العكس غير مسموح به»..

وفى عصرنا الحالى، وبسبب الصراع على السلطة والسيادة فى المنطقة بين إيران والسعودية، تنشب حرب اليمن تحت زعم نصرة مذهب السنة «تانى» فينتشر الخراب وتتفشى الكوليرا فى ربوع اليمن التعيس «السعيد» لأن مذهب السنة، فيما يزعمون، يحتاج من ينصره! ولن أطيل أيضاً فى هذه النقطة الواضحة الفاضحة، تحاشياً لإحراج الذين يجب عليهم الحرج.. وسوف أكتفى هنا بإشارة ختامية. أسوقها على جهة الإلماح لا التفصيل: عندما كنا على طريق التقدم والنهضة الحضارية، ظهر فى بلادنا التسامح المذهبى ونشطت محاولات الجمع والتقريب بين السنة والشيعة.. واليوم اختفت هذه المحاولات، بل صارت تلاحقها الاتهامات!.

■ ■ ■

وهكذا كانت «الحرب» التى هى قرين الدمار والتخريب وال***، تقع تحت هذا الزعم العريض السلطوى فى جوهره، العقائدى فى شعاراته: نصرة السنة.. فتكون المهالك والمذابح ليس باسم الإنسانية، ولا باسم الدين، وإنما باسم المذهب الذى يؤدى التعصب له والاحتقان بحجته، إلى قطع الطريق على التقدم والتحضر والإبداع. فالحرب كما قال الشاعر البديع «زهير» لا تأتى أبداً بخير، فمتى تبعثوها تبعثوها ذميمة، وتضرم، فتولد لكم أطفال أشأم كلهم.

اللهم ارحمنا برحمتك من المتاجرين بالدين، ومن الحقراء المتقاتلين تحت حجة: رفع راية المذهب العقائدى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 02-08-2017, 11:38 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

موانع التقدم: اعتقاد اللاجدوى



يوسف زيدان

لم أستطع الأسبوع الماضى كتابة مقالة يوم الأربعاء هذه، لسببين، الأول منهما استغراقى التام مع الشيخ الرئيس «ابن سينا» وانغماسى فى تفاصيل روايتى القادمة التى تدور حول فترة اعتقاله، وقد عز علىَّ الانسلاخ عن ذلك فلم أستطعه.. والسبب الآخر، وربما الأهم، ملاحظتى أن موضوع هذه السلسلة من المقالات «موانع التقدم وعوائق التحضر» لا صدى له فى بلادنا، فأهل مصر مشغولو البال بالغلاء والارتفاع المتسارع للأسعار، وبالعجيب من الأمور التى تطفر بسرعة وبسرعة تختفى كأنها لم تكن: ياللهول، مدرسة جامعية ترقص فى بيتها! يا للهول، الممثلة المعروفة انكشف زر ثديها الأيمن! يا للهول، ابنة حارس عمارة تفوقت فى امتحان الثانوية العامة! ومن مثل ذلك كثير. والمصريون وعموم العرب منهمكون فى متابعة المآسى والمهازل العربية التى يدل مجموعها على أن معظم البلاد العربية تعانى الأمرين، وبعضها مهدد بالانقراض والتقسيم والزوال.

وبالتالى، رأيت أن موضوع هذه المقالات لا يتناسب إطلاقاً مع المُناخ والمَناخ العام «الكلمة الأولى بضم الميم تعنى الطقس والجو العام، والأخرى بالفتح وتعنى: موضع قعود الإبل»، وليس من المنطقى أن يهتم الناس والحال كذلك، بمسألة التقدم وموانعه أو التحضر والعوائق التى تحول دون حدوثه.. بعبارة أخرى: رأيت أنه لا جدوى من طرح موضوع كهذا، لا يلتفت إليه معظم الناس الذين أكتب لهم، وهذه «اللاجدوى» تمنع الرغبة فى الكلام عن مواقع الارتقاء والتقدم، وقد تمنع عن أى كلام من أى نوع.

وقد ظهر لى بعد قليل من النظر فى أحوالنا العامة منذ منتصف القرن الماضى، وتحديداً خلال الستين عاماً المنصرمة، أن الشعور باللاجدوى كان من أهم عوامل التثبيط العام الذى أدى للتدهور الشديد فى بلادنا.. وتذكرت الواقعة التالية التى حدثت عام 1998 أثناء معرض أبوظبى للكتاب:

كان من ضيوف المعرض مجموعة كبيرة من الكتاب والمثقفين العرب، وخصوصاً المصريين، فبدا للأمين العام للمجمع الثقافى آنذاك «الشاعر محمد السويدى» أن يصور حلقات تليفزيونية ذات طابع توثيقى، مع الضيوف الحاضرين. واستقدم لذلك مقدمة البرامج التليفزيونية، الكويتية «أمل العبدالله» وعقدت معى لقاءً امتد قرابة ساعتين.. فى اليوم التالى، جاءنى فى الفندق الصديق محمود خضر الذى كان المستشار القانونى للمجمع الثقافى، ليقول لى إن المثقف المصرى الكبير د. ثروت عكاشة «الفارس النبيل» رفض إجراء المقابلة، ولما ألحوا عليه قال إنه سيوافق فقط فى حالة واحدة، هى أن أقوم بمحاورته! اندهشت من الكلام وأكبرته، وكانت تربطنى بالدكتور ثروت عكاشة صلة مودة مع اختلاف المقام وميل الكفة طبعاً لصالحه، فهو المفكر والفنان ووزير الثقافة القديم، والكاتب الذى أثرى فكرنا المعاصر بكتبه المشهورة عن فنون: عصر النهضة «الرنيسانس»، الباروك، الركوكو، فن الواسطى، الفن الإغريقى، الفن الرومانى، ترجمة كتاب أوفيد: مسخ الكائنات «ميتامورفوزوس».. وغيرها من الكتب القيمة، ناهيك عن دوره المشهود فى حشد التأييد الدولى لمشروع «إنقاذ معبد أبوسمبل» الذى أقنع به اليونسكو آنذاك، ولولا ذلك لكان المعبد قد اندفن تحت ماء بحيرة «الناصر» خلف السد العالى، مع ما لا حصر له من الآثار التى انطمرت تحت الطين بقاع البحيرة.. «لماذا لم يعودوا بالسد جنوباً، أو يجدوا حلاً هندسياً لاحتجاز الماء بعيدا عن أرض النوب المليئة بالآثار المكتشفة آنذاك وغير المكتشفة! ما علينا».

تحرجت من رفض طلب د. ثروت عكاشة، وأجريت معه المقابلة التليفزيونية.. فجاء يومها إلى الاستديو بكامل أناقته المعهودة، مع أنه كان قد اقترب من سن الثمانين «ولد ثروت عكاشة سنة 1921 وتوفى بعد عمر مديد سنة 2012» وقبل تصوير الحلقة تعهدت له بما طلبه منى: ألا نتحدث عن الرئيس جمال عبدالناصر من قريب أو بعيد.. وبدأنا بالكلام عن تراسل الحواس فى عنوان مجموعة مجلداته الفنية البديعة، العين تسمع والأذن ترى.

وجرى بيننا نهر الكلام متدفقاً حتى قلت له إن معظم أصدقائى المقربين يكبروننى سناً بخمسة عشر عاماً أو يزيد، وبالتالى فقد فاتنى زمانهم المسمى «الستينيات» بحكم فارق السن، لكننى لاحظت أنهم جميعاً تم اعتقالهم سياسياً فى الفترة التى كان يشغل فيها منصب وزير الثقافة! وذكرت له بعض الأسماء: جمال الغيطانى، سامى خشبة، محمود أمين العالم.. فما تفسير ذلك؟ فأجابنى بعد لحظة صمت، إجابة لم أتوقعها. قال:

عرفت باختيارى وزيراً للثقافة من الجرائد المصرية التى كانت تصل إلى «باريس» حيث يعيش آنذاك، فى اليوم التالى، فاتصلت بمصر تليفونياً فقيل لى: تعال فوراً على أول طائرة.. فجاء، وطلب أن نستعين فى وزارته بالدكتور «لويس عوض» الذى كان وقتها قد استقر بسوريا وطاب له المقام هناك. وافقوا على طلبه فألح على «لويس عوض» حتى ارتضى وكف عن تمنعه وجاء إلى مصر للعمل معه بالوزارة. وبعد فترة أيقظوه من نومه فجراً ليخبروه بأن «لويس عوض» تم اعتقاله وأهله فى حالة جزع عليه وهلع.. قال: ارتديت على عجل ملابسى وذهبت إلى وزارة الداخلية فوصلت إليها قبل وصول وزير الداخلية بنصف ساعة «أظنه قال: انتظرته فى غرفة مدير مكتبه حتى وصل» فلما رآه قادماً قام ودخل معه المكتب وقبل أن يجلسا قال الوزير للوزير إن «لويس عوض» اعتقل، فرد عليه وزير الداخلية بعبارة حاسمة: الريس «يقصد جمال عبدالناصر» قال «محدش يتكلم فى الموضوع ده أبداً».

قال لى د. ثروت عكاشة، بالحرف: يومها خرجت من وزارة الداخلية وأثناء نزولى السلم العريض شعرت بالمهانة الشديدة وباللاجدوى.. كان ذلك سنة 1959 وبقى بعدها «لويس عوض» معتقلاً لمدة عامين.

■ ■ ■

اللاجدوى، شعور طاحن يعوق العوام من الناس والخواص، عن العمل والإبداع ومواصلة العطاء، وبالتالى فهو مانع رئيسى من موانع التقدم وعائق أساسى من عوائق التطوير والتحضر.. وقد استقر فى نفوس مفكرى مصر وعلمائها ومثقفيها، منذ منتصف الخمسينيات، أنه لا جدوى من أى جهد حضارى فى زمن تكتظ فيه المعتقلات بأصحاب الرأى، ويهيمن على الحكم فيه ضباط صغار السن جداً، وأحرار جداً، ومتهورون جداً.. وأيامها بدأ الهجاج المصرى إلى الخارج، لمن استطاع إليه سبيلاً. فكثير من أصحاب العقول النيرة هربوا من النير والظلم إلى أوروبا واستقروا فيها بلا نية فى العودة. وما لا حصر لهم من القادرين على العطاء اضطروا للذهاب إلى العمل بالبلاد الخليجية، ولم يجدوا سبيلاً للعودة أو عادوا بأرواح وأجنحة متكسرة، ونسوا ما كانوا يحلمون به من التحليق بمصر إلى سماء العالم المتقدم. وعديد من المبدعين انزوى ومال إلى الظل وقد أيقن أن كل عمل إبداعى وجهد فكرى أو فنى، مهدد بالاستهانة ومآله إلى عدم الجدوى.. هل نذكر أسماء بعض الأعلام الذين تنوعت مصائرهم بين ما ذكرته؟ حسناً، من الذين هجوا إلى الغرب استنقاذاً لأنفسهم، أساتذة كبار مثل عبدالحميد صبرة ورشدى راشد. ومن الذين ذهبوا إلى الخليج ولم يستطيعوا العودة أو عادوا وكأنهم لم يعودوا: عبدالرحمن بدوى «المتوفى فى باريس» على سامى النشار «المتوفى فى المغرب، فيما أظن».. ومن الذين انزووا: طه حسين، محمد ثابت الفندى.

هؤلاء جميعاً ينتمون إلى مجال تخصص واحد، هو الفلسفة! فما بالك ببقية التخصصات وبقية الذين كانوا فى غير ذلك من المجالات، كانوا ثم بانوا.. «بان، فى فصيح اللغة لا تعنى الظهور حسبما يظن العوام، وإنما تعنى: الابتعاد».

وأعتقد جازماً، ولا أظننى مخطئاً، أن النهضة والتقدم والرقى الحضارى والارتقاء بالمجتمعات، هى مهام لا تقوم بها «الجماهير» وإنما هى مهمة ملقاة على عاتق الصفوة من المفكرين والمبدعين والرواد فى الميادين والمجالات المختلفة، وهؤلاء بطبيعة الحال قلة معدودة. أما «الجماهير» التى يراهن عليها ويستعملها ويتودد إليها كل جبار عتيد من الحكام ذوى النزعة التسلطية والميول الديكتاتورية.. هذه الجماهير بطبعها العام ولكونها مؤلفة من متوسطى العقول، والمتخلفين «وهم الأكثرية» لا تصنع حضارة ولا تقود مجتمعاتها إلى التقدم. فهى تحب الخرافات المريحة، والشعارات الطنانة، والمتدنى من متطلبات الحياة، ولا انشغال عندهم بإبداع راقٍ أو فكر مستنير أو رؤى إنسانية متقدمة.. وهم بمنأى عن ذلك الشعور باللاجدوى.

وقد دلت تجارب الأمم وخبرات البشرية، على أن عمليات التحضر والتحولات الكبرى فى المجتمعات التى تطورت وتتالت متعاقبة زمناً فصنعت «تراث الإنسانية» كانت نتاجاً لجهود أفراد معدودين، وليس جمهور العوام.. الفلسفة والعلم اليونانى القديم منذ النشأة على يد «طاليس» حتى فاجعة النهاية يوم م*** «هيباتيا» لا يكاد يضم من الأسماء أكثر من عشرين إلى ثلاثين اسماً، أهمهم: فيثاغورس، أبقراط، أفلاطون، أرسطو، أفلوطين، كلوديوس بطليموس، جالينوس، أريستارخوس.. وثلة من الأثينيين والإسكندرانيين. وتراثنا العربى الذى أضاء العالم زمناً ثم خبا، لم يصنعه عوام الناس والجمهور العريض وإنما أفراد من أمثال: الكندى، الفارابى، الرازى «أبوبكر محمد بن زكريا» البيرونى، ابن سينا، عمر الخيام «عالم الرياضيات الذى نُسبت له الرباعيات زوراً، فصار اسماً للملاهى الليلية!» وابن النفيس.. وجماعة لا يزيد عددها على العشرين أو الثلاثين.

وكذلك الحال فى عصر النهضة الأوروبية، وفى الزمن الحالى، وسيكون الحال كذلك مستقبلاً.. مادام صناع الحضارة لا يحوطهم ويحتاط على جهدهم الإبداعى، ذاك الشعور باللاجدوى.

■ ■ ■

قادنى كل ما سبق، إلى إمعان النظر فى معنى «الجدوى» وسر الفائدة التى تعود على المشتغل والمنشغل بالإبداع والكتابة والعمل المعرفى.. هل هى جدوى فردية وفائدة شخصية، أم هى عطاءً غير مشروط؟ بعبارة أخرى: هل كان صانعو الحضارة ومحركو المجتمعات يستهدفون خيرهم الشخصى أم يأملون فى صياغة واقع أفضل قد لا يرونه.. وهنا، تذكرت عبارة أن النفيس «رئيس أطباء مصر والشام، المتوفى سنة 687 هجرية» حيث يقول واثقاً: لو لم أعلم أن تصانيفى تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما كتبتها!

وطبعاً، ما كان ابن النفيس يتوهم أنه سيعيش مثل كتبه، فيمتد به العمر عشرة آلاف سنة، يعنى أنه كان مؤقناً بأن إنتاجه المعرفى «الذى أرى أن اكتشافه للدورة الدموية، هو مجرد واحد من إسهاماته العلمية المبهرة» سيبقى طويلاً بعد وفاته، وبالتالى فإن جدواه لا تتوقف على وقت المؤلف وفترة حياته، وإنما هى مرتبطة بالمطلق المعبر عنه مجازاً بعشرة آلاف سنة.. فماذا لو عرفنا أن ابن النفيس عاش زمناً مريعاً لا تقل بشاعته عن زماننا المعاصر، وقد تزيد. فقد ولد سنة 607 هجرية قرب دمشق، وجاء إلى مصر وهو فى حدود العشرين من عمره وبقى بها حتى وفاته سنة 687 هجرية، مما يعنى أنه عاصر: المجاعات الفتاكة التى أكل فيها المصريون الكلاب والقطط والجثث البشرية، سيطرة الصليبيين على سواحل الشام وفلسطين وحصولهم على القدس كهدية من الملك الكامل، اغتيالات المماليك بعضهم البعض وفوضى النظام السياسى: أقطاى وقلاوون وبيبرس ي***ون تورانشاه، شجرة الدر ت*** عزالدين أيبك، مماليك أيبك وأرملته ي***ون شجرة الدر، هجوم المغول، بيبرس ي*** قطز ويحكم مكانه وفقاً للقاعدة الأيوبية المملوكية «الحكم لمن غلب».. التى تعنى فى الواقع: الحكم لمن غدر وخان وسفك الدماء.

بل الأكثر مما سبق، أن ابن النفيس بحكم عمله رئيساً للأطباء، كان هو الطبيب الخاص لبيبرس أثناء حكمه لمصر، وقد حكى ابن النفيس بشكل غير مباشر عن صفات هذا الحاكم فى الجزء الأخير من كتابه «فاضل بن ناطق» الذى عارض فيه قصة «حى بن يقظان» لابن سينا، فقال ابن النفيس عن بيبرس أشياء كثيرة، منها أنه كان أحمر الشعر، وذو عيب فى عينيه، ويتفزع فى نومه ويستهين بسفك الدماء وعنيف جداً يثور لأتفه الأسباب! فكيف كانت حياة ابن النفيس، الهادئ الوديع المتواضع، مع حاكم كهذا؟

ومع ذلك كله، أبدع ابن النفيس وكتب فى الطب وأصول علم الحديث النبوى واللغة والأدب، من دون أن يربط جهده بالجدوى العائدة على شخصه.. بعبارة أخرى، كان يكتب للزمن الآتى والأجيال القادمة وللإنسانية على إطلاقها، وتلك هى «جدوى» الإبداع عنده.

ولم ينفرد ابن النفيس بهذه الروح العلمية ذات الطابع الإنسانى، فهو على الأقل لم يضطهد ويعتقل مثلما حدث مع البيرونى وابن سينا! البيرونى اعتقله محمود الغزنوى فى قلعة «غزنين» ستة أشهر، ثم استعان به لمعرفته الواسعة وأخذه معه فى حروبه القذرة مع الهنود «وهذا حديث ذو شجون، ويفسر كثيراً مما يجرى إلى اليوم من أنهار الكراهية بين الهندوس والمسلمين» وبعد خروجه من المعتقل، عاد أبوالريحان البيرونى للتأليف والإبداع العلمى، فكتب لنا «الآثار الباقية عن القرون الخالية» و«الجماهر فى معرفة الجواهر» وقاس محيط الكرة الأرضية بدقة عالية.. يعنى، كان مفهومه للجدوى غير مرتبط بشخصه أو زمنه.

وكذلك كان حال ابن سينا الذى أبدع المؤلفات التى أثرت تراث الإنسانية، قبل اعتقاله وأثناء اعتقاله وبعد اعتقاله! مما يدل على أنه مثل سابقيه ولاحقيه من علمائنا ومبدعينا، قاوم شعوره باللاجدوى وجعل مفهوم «الجدوى» غير شخصى، وغير محدود بمدة حياته.. وهؤلاء يا قوم، إن كنتم تعقلون، هم أبطالنا الحقيقيون الذين يحق لنا أن نفخر بهم، بدلاً من هؤلاء السفاحين وسفاكى الدماء من أجل الحكم، فتدبروا!

■ ■ ■

وهكذا، عدتُ للكتابة واستكمال هذه السلسلة من المقالات، وسأظل أكتب حتى لو قلّ القراء وانصرف معظم الناس إلى تلك التوافه التى ذكرتها فى بداية هذه المقالة.

وبالله التوفيق.


آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 02-08-2017 الساعة 12:05 PM
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 02-08-2017, 12:00 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

موانع التقدم: وهم الواحدية

يوسف زيدان

من أشهر العادات الشعبية المصرية وأكثرها مرحاً، الاحتفال بمرور أسبوع على المولود بإقامة جلسة الابتهاج المسائية المرحة التى نسميها «السبوع»، وقد شهدها معظمنا سواءً بالحضور أو فى الأفلام القديمة، أيام كانت صناعة السينما فى مصر رشيدة وغير مبتذلة مثلما صارت مؤخراً.. وهذا الاحتفال اللطيف يرتبط بعدة عناصر وأمور موروثة من الأزمنة القديمة، منها: الابتهاج ببقاء المولود حياً إذ كان الواقع القديم يشهد وفيات المواليد بكثرة نظراً لنقص الوعى والرعاية الطبية.. ومنها أيضاً: مرور أيام تكفى لاستعادة الأم الوالدة عافيتها من بعد وهن الولادة، والاعتياد العمومى لأمر يصير بحكم دوام تكراره بديهياً لا يحتاج لأى تبرير، ومكانة الرقم «سبعة» فى نفوس الناس منذ الزمن المصرى واليونانى القديم. وقد اهتممت هنا بذكر هذه العناصر والعوامل التى تآزرت وتساندت من أجل إبراز ظاهرة اجتماعية بسيطة، لأننا سنعود بعد قليل للكلام عن تآزر العناصر وتساندها من أجل إيجاد الظواهر الاجتماعية، بل والوقائع الفردية أيضاً.. كما سنرى لاحقاً.

ومن طقوس الاحتفال بالسبوع، مع توزيع الحلوى والحمص على الحاضرين ومشروب «المغات» المشهور، المغذى: علو الضحك وبلوغ المرح غايته مع الدقات الرنانة بالهاون النحاسى، حيث تصخب قريبات الأم بقولهن للمولود الذى لا يسمع بعد ولا يعى أصلاً ما يقال: اسمع كلام أمك! فترد قريبات الأب: اسمع كلام أبوك.. وتتوالى العبارتان ممزوجتين بجو من المرح والبهجة، من دون اكتراث أو التفات إلى أن ذلك ينطوى ضمناً على اعتقاد راسخ بأن الإنسان يجب أن يسمع كلام «واحد» بعينه، بس. بالمناسبة كلمة «بس» فصيحة وليست عامية كما يتوهم كثيرون!.

كنت فى العاشرة من عمرى، أو أقل قليلاً، عندما حضرت احتفالاً من هذا النوع «السبوع» وتجرأت على أمر فكان ما لم تحمد عقباه. فمع أننى كنت خجولاً بطبعى، إلا أننى لا أدرى ما الذى دهانى فدعانى لاقتحام حلقة التنافس الصاخب بين «اسمع كلام أمك، اسمع كلام أبوك» وصحت: اسمع كلام أمك وأبوك! سكتت دقات الهاون، وقبل أن يغمرنى الخجل ويطردنى من الجمع القهر، قلت: اسمع كلامهم هم الاتنين! فزعقت فىَّ إحدى الحاضرات «كان اسمها (ظريفة) وهى امرأة بيضاء، كنت أراها آنذاك ضخمة جداً وعبلة البلدن» قائلة:

- بس يا ولد، وامشى من هنا..

- أنا عايز أقعد معاكم

- لأ، هنا ستات وبنات، إنت كبرت خلاص.

انصعت لأمرها وخرجت صاغراً من غرفة الاحتفال، يعتصرنى ألم شديد وتحوطنى الحيرة والسؤال: لماذا لا يسمع المولود حين يكبر كلام أمه وأبيه، كليهما.. وبكيت بعيداً عن الأنظار فى مكان خال من الناس، خشية أن ترانى عمتى «الصعيدية جداً» التى كانت قد قالت لى سابقاً، محذرة، إنه لا يجوز أن يبكى الرجال.. فالبكاء للنساء، فقط! ومرت الأيام، ولاحظت مثلما لاحظ جميع المصريين أو معظمهم، أن الولد اليافع إذا فعل شيئاً محموداً قيل له على سبيل المدح إنه: ابن أبيه.. وفى المقابل، يقال لمن كان ضعيف الشخصية وخانعا بالطبع إنه «ابن أمه» وهو أمر لم أفهم مجازه لحداثة سنى، ولذلك كنت آنذاك أندهش منه ليقينى بأن كل إنسان هو ابن أبيه وأمه، معاً.

ثم توالت عمليات التنشئة الاجتماعية فى ثقافتنا المعاصرة، مؤكدة على «الواحدية» عبر تقنيات غير مباشرة، ومؤثرة، منها مفهوم الكتاب الدراسى «المقرر» الذى لا يحق لأحد أن يسأل أو يستفسر عن السبب فى أن اللفظة مبنية للمجهول، فهو مقرر بصرف النظر عمن قرره. ثم تطور الأمر فلم يعد «المقرر» هو الكتاب المدرسى فحسب، فحتى الجامعة صار فيها: الكتاب المقرر، المدعوم سعره! مع أن هذا يخالف الأساس المعرفى المفتوح، الواجب وجوده فى التعليم الجامعى.

وفى المجال السياسى، انعدم اللاعبون واختفت الأسماء الكبيرة من المشهد عقب حركة الضباط الأحرار جداً، فصار هناك الحاكم الأوحد الذى لا يدانيه أحد فى المكانة، ولا يحلم أحد بمزاحمته أو إزاحته.. فهو واحد بل أوحد، حتى يموت «خالد الذكر» أو ي*** غيلة «السادات» أو يُخلع عنوة بعدما تثور عليه الجماهير مدعومة برغبة المجلس العسكرى «مبارك».. فتحدث كل مرة هزة عنيفة، لأن الواحد منهم كان منفرداً، وحيداً، متوحداً بالسلطة متأبداً على كرسيه.. وليس هناك أى تفكير فى تداول السلطة، وكيف يتم تداولها والحاكم واحد ولا أحد يطاوله أو يقاربه أو يحل محله وهو حى، إلا بثورة قد تقود إلى فوضى قد تؤدى إلى الدمار التام.

ثم يدعم رجال الدين هذه «الواحدية» السياسية، لتتأكد فى النفوس وترسخ، بعد عمليات التنشئة الاجتماعية المؤكدة لها والمرسخة.. فيطرحون الحديث العجيب القائل: الحاكم ظل الإله فى الأرض! ومادام هو ظل الله الواحد، فلابد أن يكون شخصاً واحداً، لأن الله له ظل واحد. وحين حاول الصوفية الكبار الأوائل، الخروج من هذا المأزق بقولهم إن تجليات الله متعددة ولا تنقطع، تم اضطهادهم وتهميش كلامهم لصالح رؤى عقائدية فى أصول الدين، منها: جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل! وجوب الطاعة للمتغلب بالسيف! السمع والطاعة ولو لعبد حبشى!.. وهكذا تم تحريك دلالة «الإمامة» لتجمع بين أمور الدين وشؤون الدنيا، وتصير بنوع من المراوغة الخادعة مؤكدة لواحدية الحاكم ومبررة لانفراده بالرأى والرؤية، بل مهددة للمخالف وممهدة لقبول قول الحاكم، وما كان يقال للمولود فى يومه السابع: تن، تن، تن، اسمع كلام أمك، اسمع كلام أبوك، اسمعوا كلامى أنا بس.. إلزم حدود الأدب.. مش عاوز حد يتكلم تانى فى الموضوع ده.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة... إلخ.

هذا على صعيد الواقع السياسى، حيث الحاكم الواحد والكلام الواحد والقرار الواحد.. وعلى صعيد الفكر الدينى الذى يطمح الحالمون اليوم إلى تطوير رؤاه ومنطلقاته، تم تحريك دلالات المفردات كى تتطابق أو تختلط مفاهيم: الوحدة، التوحيد، الواحدية، الأحدية.. وقبل كل شىء، لابد هنا من تبيين أن «الأحدية» هى الصفة الإلهية التى لا تشترك بين البشر والإله، ويلحق بها بنص القرآن الكريم صفة «الصمدية» وما عداهما فإن معظم الصفات مشتركة، حتى صفة «الربوبية» التى يجوز إطلاقها على الناس، كما فى قولنا: ربة البيت، رب العمل.. وكذلك الحال فى الرحمة والقهر والكرم والبطش والعفو، إلخ، فهذه كلها يمكن وصف البشر بها. بل يمكن وصف الإنسان بالصفات السبع الذاتية لله، عند الأشاعرة: الحياة، العلم، السمع، البصر، الكلام، الإرادة، القدرة.

وبنوع من المخايلة اللفظية والمغالطة المنطقية، يجرى دمج معانى الأحدية والواحدية والتوحيد والوحدة، ويتم إعلاء شعار «الإسلام دين التوحيد» وهو ما يتضمن الإشارة إلى أن غيره من الأديان ليس توحيدياً، ومن هنا تكون «الإزاحة» كمقدمة للإدانة، فتكون العقيدة الأرثوذكسية مثلاً هى عقيدة وتثليث، مع أن الشعار الأرثوذكسى «لاهوته لم يفارق ناسوته ولا طرفة عين» يشير إلى الوحدة والتوحيد بين اللاهوت والناسوت! ناهيك عن أن المسيحية ترتقى من الثالوث إلى الإله الواحد، الأول «آمين، آمون» بقولها: بسم الآب والابن وروح القدس، إله واحد، آمين.

ثم لا يتوقف الفكر الدينى عن الإزاحة العامة والفصم والوصم والإدانة لأى دين آخر، على اعتبار أن الدين الحق لابد أن يكون واحداً. وإنما تهيمن «الواحدية» على الأوهام داخل الدين الواحد، انطلاقاً من أن المذهب الدينى لابد له أن يكون هو الآخر «واحداً» وليس لغيره إلا الإزاحة والفصم والوصم والإدانة.. فالمذهب السنى هو وحده الحق، ولا عبرة ولا اعتبار ولا اعتراف بغيره من مذاهب الإسلاميين. وهنا تتم الاستعانة بأصول نقلية لا عقلية، مثل الحديث المشهور: تتفرق أمتى على بضع وسبعين فرقة، كلهم فى النار، عدا أهل السنة!

ثم يتمادى الفكر الدينى المعتل، فلا يتوقف عند إزاحة وإدانة الديانات الأخرى، والمذاهب العقائدية الأخرى، وإنما يصل إلى المدارس الفقهية داخل المذهب ذاته. فيستعلى الشافعية مثلاً على الأحناف، ويرى المالكية أنهم المذهب الحق وغيرهم على الباطل.. ولقد حكى لنا التاريخ عن الويلات التى جرت بين أتباع المذاهب، وعراك المالكية مع الحنابلة بل الحروب التى اندلعت فى الشام إبان القرن الثامن الهجرى، بين القرى والبلدات التى تدين بالمذهب الحنفى والأخرى التى تدين بالمذهب الشافعى، ومات من أجل هذا الصراع كثيرون وخربت بسببه النواحى. حتى جاء العثمانيون وفرضوا مذهبهم الحنفى، حتى فى مصر التى كان أهلها دوماً من الشافعية.. ومن المضحكات المبكيات فى هذا الصدد، إصرار فقهائنا عند عقد النكاح «الزواج، كتب الكتاب» على إقرار الزوج بأنه تزوج: على سُـنة الله ورسوله وعلى مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان.. ومعظم المصريين المعاصرين تزوجوا على هذا الشرط، وكثير منهم طلق زوجته واستفتى فرد إليه زوجته بفتوى على المذهب الحنبلى لأنه متوسع فى هذه الفروع «ومتشدد فقط فى أصول الدين» وهو ما يجعل العودة باطلة شرعاً، لأن العقد الأول اشترط ما لا ضرورة له، أصلاً.

ثم يتمادى الفكر الدينى فى هذا الغى وتلك المتاهة الحلزونية، فلا يكتفى بنفى المختلف معه فى الدين، وفى المذهب العقائدى، وفى الاجتهاد الفقهى.. فيقع فى جب الإعلاء الوهمى للذات المفردة، حتى داخل المحيط الفقهى والمذهبى والدينى، فنجد جماعة مثل داعش ت*** جماعة مثل النصرة، مع أن كليهما مسلم سُـنى شافعى أو حنفى أو لا يدرى طبيعة مذهبه الفقهى أصلاً، ومع ذلك ي*** بعضهم البعض الآخر انطلاقاً من أنه «آخر» مختلف، والحق فى أوهامهم واحد لا يجوز الاختلاف فيه أو الاختلاف عنه.

وهكذا تتوالى الحلقات المتداخلة لتلك الدائرة الجهنمية «الواحدية» فتحرق الأخضر واليابس، إذا وجدت الفرصة، وينشر الناس حولهم الخراب وهم يظنون أنهم الأحق، الذين يحسنون صنعاً.. وهذا بلاء ما بعده بلاء.

■ ■ ■

وبعد.. فإن كل ما سبق هو مجرد مقدمة لموضوع مقالتنا اليوم، فى معرض تشخيص وتحديد معوقات النهضة وموانع التقدم. وهو موضوع مهم وبسيط فى آن واحد، ويمكن بعد ما سبق من تمهيدات أن نلخصه بعبارات موجزة نصها الآتى:

التحضر والتقدم والارتقاء بالمجتمعات هو عملية مركبة تشترك لإظهارها عوامل متعددة وعناصر مختلفة.. متعددة ومختلفة.. متعددة ومختلفة! والواحدية بأوهامها التى لا تنتهى وخرابها الذى لا آخر له، هى عائق أساسى يحول دون أى فعل حضارى راق، ويطيح بكل الرؤى الإنسانية السامية/ المتسامية، التى تصنع التقدم والرقى إذا تآزرت وتفاعلت فيما بينها على نحو رشيد.. والأهم: إذا تعددت فياليت قومى يعلمون.

موانع التقدم: وهم الواحدية
















رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09-08-2017, 12:15 AM
emadfawzy emadfawzy غير متواجد حالياً
معلم اللغة الانجليزية
مؤلف كتاب Gem
 
تاريخ التسجيل: Apr 2009
المشاركات: 154
معدل تقييم المستوى: 16
emadfawzy is on a distinguished road
افتراضي

استاذنا العزيز / أيمن نور

مع كامل الاحترام لك و للكاتب يوسف زيدان الا انني متابع له و أري أن الكثير من ارائه تحمل الكثير من المغالطات مثل الموجودة في المشاركة عن صلاح الدين الأيوبي الملئ بالمغالطات عن صلاح الدين و رد عليه الكثيرين من الكتاب واري أن ارائه عن فلسطين و المسجد الأقصي هي من الآراء الشاذة و الغريبة لذا يجب التنويه للكثير من الشباب الذين يستخدمون المنتدي و دعوتهم الي أن هناك ردودا علمية من جانب متخصصين علي كل ما ينشره يوسف زيدان
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 09-08-2017, 08:08 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة emadfawzy مشاهدة المشاركة
استاذنا العزيز / أيمن نور

مع كامل الاحترام لك و للكاتب يوسف زيدان الا انني متابع له و أري أن الكثير من ارائه تحمل الكثير من المغالطات مثل الموجودة في المشاركة عن صلاح الدين الأيوبي الملئ بالمغالطات عن صلاح الدين و رد عليه الكثيرين من الكتاب واري أن ارائه عن فلسطين و المسجد الأقصي هي من الآراء الشاذة و الغريبة لذا يجب التنويه للكثير من الشباب الذين يستخدمون المنتدي و دعوتهم الي أن هناك ردودا علمية من جانب متخصصين علي كل ما ينشره يوسف زيدان
رائع جدا مستر عماد فوزى

سعيد جدا لمتابعتك لكتابات الدكتور يوسف زيدان و انتقادك لبعض آرائه

و كم أتمنى أن تتابع سلسلة مقالات ( موانع التقدم ) و تسجل وجهة نظرك فيها و تضيف أيضا ردود العلماء الآخرين و انتقاداتهم عليه ليستفيد الشباب الذى يتابع المقالات

فحجب الفكر يخلق مجتمعا جاهلا ، أما عرض الفكر مع اختلافه و تنوعه يخلق جيلا مثقفا وواعيا

تقبل خالص احترامى و تقديرى لحضرتك

جزاك الله خيرا و بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 09-08-2017, 08:13 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

موانع التقدم: الهجرة



يوسف زيدان

للهجرة معان متعددة، لكنها تدور كلها حول محور المكان أو بالأحرى كون المكان محلاً للاستقرار، وهو المسمى «الوطن» أو كونه محلاً لأحد الموضعين والموضوعين المتناقضين: الطرد، الجذب.. فلا هجرة إلا من مكان طارد، ولا هجرة إلا لمكان جاذب. وقد يكون الموضع منطقة أو ناحية أو بلداً كبيراً، لكنه وبصرف النظر عن مساحته وطبيعته صار موضع طرد يهاجر منه، أو موضع جذب يهاجر إليه.

ولمواضع الطرد سمات سلبية تتصف بها، منها: الجدب، الكآبة، استحالة العيش، الكوارث الطبيعية، الاستبداد السلطوى، وقوع المآسى العامة والخاصة.. وبالعكس من ذلك، وليس على النقيض منه، تكون مواضع الجذب! إذ ليس من شروطها أن تكون الحياة فيها رغدة ومبهجة، وإنما يكفى أن تكون فيها الحياة محتملة، وممكنة.

وهناك أشكال عديدة للهجرة، منها من حيث الامتداد الزمنى: الهجرة الدائمة، الهجرة المؤقتة. أو بعبارة أخرى: الهجرة بلا نية فى العودة، الهجرة إلى حين.. وبالطبع لا تدخل فى ذلك الزيارات والرحلات والعمرات «كلمة عمرة تعنى فى فصيح اللغة: زيارة مكان أو التردد إليه».

ومن حيث العدد، فهناك هجرات جماعية وأخرى فردية، وكلتاهما كثيراً ما حدثت فى الماضى وتحدث فى الحاضر المعاصر، فمن الهجرات الجماعية القديمة، الشهيرة: نزوح العرب من اليمن إلى النواحى الشمالية «الشام، العراق» عقب انهيار سد مأرب فى حدود سنة ألف قبل الميلاد، وهروب الأرمن من بطش الأتراك الغشوم، ونزوح السوريين الهاربين من بلدهم إلى أوروبا لأن البلاد المجاورة ليست وطنهم المزعوم الذى كانوا يكذبون علينا فى الصغر قائلين: بلاد العرب أوطانى! وليست على دينهم لأن الإسلام النفطى غير إسلام الفقراء، وإسلام السنة الوهابية ليس كإسلام الشيعة الاثنى عشرية.. ورفع راية الإسلام فى بلد لا يعنى فعلاً استمساك حكامه به، وإنما هى حيلة معتادة لخداع العوام والجهلاء من أهل هذا البلد أو ذاك.

وفى المقابل من الهجرات الجماعية وعمليات النزوح، هناك هجرات فردية يقوم بها فى الغالب أشخاص متميزون كالنابغين فى العلوم والفنون حين تضيق بهم أوطانهم، أو كهؤلاء الحالمين الذين لا يرحب الواقع بطموحاتهم.

■ ■ ■

وبالإضافة لما سبق، هناك الهجرة الفعلية والهجرة بالنية، وهو ما تناولته فى مقالة قصيرة نشرتها قبل اثنتى عشرة سنة، وقلت فيها: أصابنى فزع حين علمت أن معظم الشباب الأقباط، إناثاً وذكوراً، من سن العشرين إلى الخامسة والثلاثين «تقريباً» تقدموا بطلبات هجرة إلى كندا وأمريكا وأوروبا وإستراليا، بل يقال إنه لا يوجد شاب قبطى أو شابة، خصوصاً خريجى الجامعات، إلا وقد تقدم بطلب هجرة واحد على الأقل! وكثير منهم يتقدمون بأكثر من طلب إلى أكثر من جهة. ولا يقتصر الأمر على شباب الأقباط، فإن كثيرين من أقرانهم المسلمين يتدافعون أيضاً لتقديم هذه الطلبات أو الالتماسات، للجهات المعنية مثل السفارات وإدارات الهجرة ومكاتب «القرعة» التى يسمونها اليوم: اللوتارى.

ولفزعى من هذا الأمر أسباب، أولها ما يرتبط بالهجرة من مفاهيم موحشة مثل الهجر والهجران والهجير والمهجور، وهى مفاهيم استبدت بنفوس مقدمى هذه الطلبات ثم دفعتهم لتقديمها أملاً فى الخلاص من أمور تحيط بهم. وهى أمور لم يهتم أحد منا ببحثها بشكل جاد، وقعودنا عن العناية بأمر كهذا، سبب قوى لإثارة الفزع.

وسبب آخر، خطير، هو أن الملايين ممن ينوون الهجرة، يكونون قد هاجروا نفسياً لحظة تقديمهم الطلب، وهجروا الوطن على المستوى الشعورى. ويظل حالهم على هذا، حتى لو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرحيل. فتكون النتيجة الفعلية أننا نعيش فى بلد فيه ملايين المهاجرين بالنية، أو المهاجرين المؤجلة هجرتهم، أو الذين رحلوا عن هنا بأرواحهم ولاتزال أبدانهم تتحرك وسط الجموع كأبدان الموتى الذين فقدوا روحهم ولم يبق لديهم إلا الحلم الباهت بالرحيل النهائى.

■ ■ ■

وبعيداً عن هذه التمهيدات النظرية، ومن بعدها، نقول إن الهجرة هى معيار عملى يمكن الحكم به على حال المجتمعات من حيث التحضر أو التدهور، والتقدم أو السقوط. إذ إن مواطن الطرد هى بالقطع مواضع تشهد انهياراً وتدهوراً وسقوطاً. وبقدر قوة دفعها ومقدار طردها لأهلها، يكون مقدار تدهورها وقوته، وفى المقابل فإن قوة جذب المكان دليل على معدل تطوره وسرعة تقدمه وتحضره، فكلما كان هذا المعدل أسرع كان المكان أكثر جذباً وأشد جاذبية للمهاجرين.. لاسيما الذين كانت هجرتهم مستديمة وأبدية، كما هو الحال فى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية «بل منذ بداية القرن العشرين» وفى أستراليا وكندا، وغيرهما فى العقود الأخيرة.

وفى النصف الأول من القرن العشرين، كانت مصر تخطو خطوات واسعة نحو التحضر والتقدم فى كافة المجالات الحياتية. فمن عناية «جادة» بالتعليم «الجاد» إلى ارتقاء معمارى وفنى وفكرى، إلى واقع سياسى يسرع الخطى نحو الملكية الدستورية الوقورة، إلى اقتصاد متماسك ينعكس فى قوة الجنيه المصرى وفى اعتقاد عوام الناس أنه لا أحد يموت من الجوع، مع أن المجاعات كانت دوماً، وسوف تظل أبداً، تميت كثيراً من الناس.. وفى تلك الفترة، كانت مصر منطقة جذب للمهاجرين من الشوام والأرمن واليونان والإيطاليين، وغيرهم، بل إن بعضهم كان يأتى فى زيارة لمصر أو عمل، فيهواها ويستقر بها حتى وفاته. ومن الأمثلة المشهورة على ذلك المعمارى الإيطالى المبدع «ماريو روسى» والمستشرق الألمانى الكبير «ماكس ميرهوف» والباحث المرموق «باول كراوس» وفقيه العقائد الفرنسى «رينى جينون» الذى جاء لمصر سنة 1930 فى زيارة لجمع مصادر تتعلق بدراسته للتصوف، فإذا به يرفض مغادرتها ويسكنها ويتزوج مصرية، ويعلن إسلامه، مختاراً لنفسه اسم عبدالواحد يحيى.. ومن رحمة الله به، أنه مات سنة 1951 فلم ير وجوه «الأحرار جداً» ويشهد ما فعلوه بالعباد والبلاد. «كتب عنه د. عبدالحليم محمود، فصلاً بديعاً فى كتابه: المدرسة الشاذلية».

وخلال السنوات القليلة الممتدة من منتصف القرن العشرين إلی عام 1960 تحولت مصر التى كانت رائدة الفكر والتحضر فى المنطقة العربية، من النقيض إلى النقيض.. فصارت منطقة طرد وتهجير الأجانب «للاستيلاء على ما يملكون ولليهود، لأنهم الأعداء الذين وقع عليهم اختيار الساسة الحاكمين الذين سلموهم «الفالوجا» ثم تراجعوا أمامهم منهزمين فاتسعت دولة إسرائيل حتى شملت سيناء والجولان والضفة! والمضحك المبكى، أن الأحرار جداً حين سلبوا يهود مصر أموالهم ومالهم «مع ما سلبوه من أثرياء المصريين» حافظوا على المسميات العبرية لممتلكاتهم، فصارت شركة المنتجات المصرية: بنزايون، عدس، ريفولى.. وكانوا يكتبون فى اللافتات العريضة «بنزايون» من دون أن يدركوا بجهلهم الفاضح أنها تعنى: ابن صهيون.

وأعقب ذلك، منذ نهايات الخمسينيات، مغامرات عسكرية لإلهاء الناس بالداخل. على غرار «تأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية»، وذلك قبل سنوات قليلة من انتهاء عقد امتياز القناة وعودتها سلمياً إلى ملكية مصر، فقامت الحرب العبثية.. وبالمناسبة، حصلت الشركة الفرنسية على حكم دولى بتغريم مصر «عشرة ملايين جنيه، مصرى» وتسلمته واستثمرت فى مجال الغاز والطاقة، وهى اليوم تمد فرنسا بالغاز تحت اسم «سويس فرانس جاس» وهى الشركة التى بلغت ميزانيتها سنة 2007 اثنين وخمسين مليون يورو.

وكان من تلك المغامرات العسكرية، حرب اليمن «التعيس» التى أودت بحياة عشرات الآلاف من الجنود المصريين، الذين لا يوجد إحصاء دقيق بعددهم الذى تتراوح تقديراته ما بين أربعة عشر وسبعين ألف جندى مصرى.. والله وحده يعلم عدد ضحايانا المصريين والضحايا اليمنيين، بدقة، لكننا نعلم جميعاً أن نتيجة هذه الحرب كانت: عبدالله السلال، الذى ورثه بالانقلاب عليه عبدالله صالح.

ولما وقعت الفاجعة الكبرى بسبب تمركز القوات المسلحة المصرية على جزيرتى تيران وصنافير، وإغلاق البحر الأحمر أمام سفن إسرائيل، فقامت الحرب ولم يصدق قول القائل: سنلقى بإسرائيل ومن وراء إسرائيل فى البحر! وإنما لحقت بالبلاد هزيمة 1967 الفادحة، المسماة عندنا تخفيفاً وخداعاً للعوام «النكسة».

وتقطعت صلات مصر بالعالم المتقدم، وجرى التراجع الحضارى وتزايد التدهور فى المجالات جميعها. فنشطت بل تسارعت عمليات الهجاج المصرى إلى خارج البلاد، متمثلة فى هجرات نهائية دائمة إلى الدول الأوروبية، وفى الهجرات الحولية المتكررة إلى بلاد النفط لجلب فتات المال الممزوج بالفكر الوهابى، فظهرت الجماعات المتطرفة وسكنت العشوائيات التى تكاثرت بالبلاد.

وفى فترة التدهور الحضارى التى امتدت بمصر عقوداً من الزمان بدأت سنة 1952 ولن تنتهى فى المدى المنظور، ظهرت صورة أخرى من صور الهجرة هى التهجير القسرى: مدن القناة، من أجل الحرب.. والنوبة من أجل السد العالى وبحيرة ناصر «ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية، يا روح الأمة العربية، يا ناصر! صورة صورة صورة، كلنا كده عايزين صورة، صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة»، وكانت الهزائم تتوالى عسكرية وحضارية، ونحن نغنى للانتصارات الخيالية. واليوم، لم يعد التهجير القسرى مستغرباً لأنه صار كثير الحدوث. فكلما نشب خلاف بين المسلمين المتعصبين والأقباط المستكينين بها، كان أسرع الحلول: تهجير الأسر القبطية!

وعلى هذا النحو صارت مصر منطقة طاردة لأهلها، وصار حلم معظم المصريين هو الهجرة التامة النهائية إلى أوروبا أو أمريكا أو كندا أو أستراليا، والهجرة الحولية التى تمتد سنوات وصلت إلى الثلاثين عند بعض المحظوظين الذين حصلوا على عقود عبودية مؤقتة، مختارة، لدى الأشقاء النفطيين.

■ ■ ■

«لا يُهاجر إلا القادر».. كدت أجعل هذه العبارة هى عنوان تلك المقالة، ثم رأيت أن أترك العنوان محايداً. والحياد عند الحب والحسرة عسير. ولشرح هذه العبارة أقول: إذا كانت هناك أسرة متعددة الأجيال، مكونة من جد وجدة وأولادهم الأربعة وزوجاتهم وأطفالهم الأحفاد، فكان الأربعة «جيل الوسط» متعلم، وجاهل، وقوى، وضعيف. فمن من هؤلاء لديه الفرصة الأوفر للهجرة؟ طبعاً، المتعلم والقوى لأن كليهما قادر على العطاء فى منطقة الجذب التى يهاجر إليها. وهذا يعنى أن الباقين بمنطقة الطرد هم: الشيخ الفانى، العجوز التى فى الغابرين، النسوة اللواتى لا حيلة لهن، الأطفال.. فمن من هؤلاء يمكنه العمل لرفع مستوى منطقة الطرد؟ منطقة البؤس والتدهور الذى لا يبشر أبداً بخير أو تطور حقيقى؟!

ودون هذا التخييل والتمثيل، نقول: كيف كان من الممكن لمصر تحريك عجلات التقدم قدماً، ودفعها إلى مصاف الأمم المحترمة فى العالم، إلا بتلك الطاقات البشرية التى هاجرت فأعطت ثمرة جهدها فى منطقة الجذب؟ ومع غياب هؤلاء بالهجرة، وبعد أن طردت العملة الرديئة الجيدة، بقى فى البلاد الأقل عطاءً وعلماً وقدرة على الارتقاء. فانتشر الجهل ونُشرت رايات التأخر وتفرقت بالناس السبل المتناقضة، فمن اجتياح للتدين الشكلى الكاذب إلى عهر رقيع فاجر، ومن جماعات متطرفة إلى مواخير ليلية صاخبة، ومن قبح فى هيئة الأشخاص إلى تشويه فى المبانى الخالية من أى فن معمارى، ومن تعليم يتدهور إلى شعب ينفق على العمرة والحج مبلغاً يزيد على الميزانية العامة للتعليم، ومن اختفاء للذوق الرفيع والآداب العامة واحترام الفكر إلى فنون هابطة هبوط الماشية وقعودها على الأرض السبخة، ومن لحى وجلابيب تطول إلى جهل يصول ويجول.

ومن منفى، إلى منفى

ولمن لم يفهم المعنى

نقول ما قال المعنَّى شى

محمود درويش:

ليس لى منفى،

لأقول لى وطن

الله يا زمن

الله يا زمن

■ ■ ■

وبدلاً من اتخاذ التدابير لإيقاف نزيف الهجرة الذى أخرج من مصر عشرة ملايين شخص، هم الأمهر والأقوى والأعلى تعليماً، أنشأنا فى مصر وزارة للهجرة! باعتبارها أمراً مناسباً للحاكمين.. فهؤلاء المهاجرون يجلبون المال للبلاد، ولا يستهلكون شيئاً! وهى وجهة نظر قاصرة تفتقد أدنى شروط التخطيط للمستقبل، على المستويين القريب والبعيد.

وكما أشرنا مراراً فى المقالات السابقة، فإن موانع التقدم وعناصر التأخر تتآزر فيما بينها وتتساند وتتفاعل تفاعلات داخلية لا حصر لها.. تماماً. مثلما تتآزر وتتساند وتتفاعل العوامل والعناصر المؤدية إلى التحضر والنهوض بالمجتمعات. ومن هنا نلمح العلاقة الخفية بين الهجرة والواحدية والشعور باللاجدوى والنزاع المذهبى.. وغيرها من موانع التقدم التى سوف نتوقف عندها فى المقالات المقبلة من هذه السلسلة التى أرجو أن تتم على خير، وتؤدى إلى خير.


















آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 09-08-2017 الساعة 08:17 PM
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 10-08-2017, 04:59 PM
ماهر فتاكه ماهر فتاكه غير متواجد حالياً
عضو ممتاز
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
المشاركات: 263
معدل تقييم المستوى: 10
ماهر فتاكه is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aymaan noor مشاهدة المشاركة
رائع جدا مستر عماد فوزى

سعيد جدا لمتابعتك لكتابات الدكتور يوسف زيدان و انتقادك لبعض آرائه

و كم أتمنى أن تتابع سلسلة مقالات ( موانع التقدم ) و تسجل وجهة نظرك فيها و تضيف أيضا ردود العلماء الآخرين و انتقاداتهم عليه ليستفيد الشباب الذى يتابع المقالات

فحجب الفكر يخلق مجتمعا جاهلا ، أما عرض الفكر مع اختلافه و تنوعه يخلق جيلا مثقفا وواعيا

تقبل خالص احترامى و تقديرى لحضرتك

جزاك الله خيرا و بارك الله فيك
دا رجل علماني ومش مجرد رأي بيعرضو وخلاص
دي سموم بينشرها ليضل الناس
وكتير يعرفوه كويس جدا ويعرفو ارائه ضد الدين
فيا ريت متعرضوش حاجه له هنا في الموقع علشان ميتأسرش بفكره حد
وشكرا
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 22-08-2017, 11:44 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ruqazico مشاهدة المشاركة
دا رجل علماني ومش مجرد رأي بيعرضو وخلاص
دي سموم بينشرها ليضل الناس
وكتير يعرفوه كويس جدا ويعرفو ارائه ضد الدين
فيا ريت متعرضوش حاجه له هنا في الموقع علشان ميتأسرش بفكره حد
وشكرا
موانع التقدم: البنية الاحتقارية




يوسف زيدان

تذكيراً بما ذكرته مختصراً فى خاتمة مقالتى السابقة، وتأسيساً عليه، فإنه من الخطأ الفادح أن نرد الوقائع والأحداث إلى سبب واحد، أو علة، وحيدة لأن كل واقعة كبرى أو صغرى، فردية أو قومية، تشترك عناصر عديدة وتتآزر فيما بينها لإحداث هذه الظاهرة أو تلك، وإبرازها إلى حيز الوجود..

وبالتالى، فإن تبسيط الوقائع والأحداث وتسطيحها بردها إلى عنصر وحيد من العناصر التى تساندت فيما بينها فأظهرتها أو سمحت بوجودها، هو نوع من الفهم القاصر والتفسير السطحى الذى يؤدى إلى وعى ناقص وإدراك معطوب للوقائع.. لأنه مهما كان هذا العنصر الوحيد مهماً، فلابد من تفاعله مع عناصر أخرى عديدة، أدت إلى حدوث هذا الحدث أو تلك الواقعة. فعندما نقول، مثلاً، إن النهضة المصرية الحديثة فى القرن التاسع عشر تعود إلى رغبة «محمد على» فى تأسيس إمبراطورية يحكمها هو وأسرته من بعده، فهذا تبسيط مخل يهدر إمكانية فهم هذا التحول الكبير الذى حدث، وتفسيره على نحو صحيح. صحيح أن هذه الرغبة قد تكون عنصراً من عناصر تشكيل هذه الظاهرة المركبة «التحضر الحديث» لكنها ليست كافية للتفسير بمفردها، ولا يمكن الاعتداد بها إلا فى تساندها وتفاعلها الداخلى مع العناصر الأخرى التى أسهمت بنسب متفاوتة فى حدوث هذه النهضة الحضارية فى مصر بالذات، دون بقية البلدان المجاورة. عناصر مثل: الحالة المترنحة للخلافة العثمانية التى كانت قد آلت آنذاك للسقوط، وظلت تتزايد حتى صار إلغاؤها محتوماً، فقام «أتاتورك» بذلك سنة 1923 بعد عمليات التداعى والترنح والهزال، التى استمرت لأكثر من مائة سنة.. حالة النشاط الاستعمارى الأوروبى، والتفاهمات التوسعية التى صاغتها سياسة «المؤتمرات» بين القوى الاستعمارية الأوروبية ذات النفوذ ..

حالة الإفاقة المصرية من السبات أو الإغماء الحضارى الذى أعقب الغزو العثمانى لمصر لتحويلها هى والشام إلى «حوش» خلفى آمن، وهى الحالة التى ظهرت فى النشاط العلمى والفكرى بمصر قبيل مجىء الحملة الفرنسية وأثناء وجودها القصيرة مدته.. العظيمة آثاره.. الجهود الفردية التى بذلها أمثال: حسن العطار، رفاعة الطهطاوى، كلوت بك، أحمد لطفى السيد، على مبارك، سليمان باشا الفرنساوى، جمال الدين الأفغانى «المتأفغن، حسبما كان يسميه أبوالهدى الصيادى» وغير هؤلاء كثير من الأفراد المتميزين فى مختلف المجالات. ناهيك عن عناصر أخرى غير مباشرة، مثل استفزاز الروح المصرية بالاحتلال الفرنسى القصير والاحتلال الإنجليزى الممتد عقوداً من الزمان عقب «هوجة» عرابى، ومثل الحالة الاقتصادية المستقرة بمصر وكونها خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين «منطقة جذب» على النحو الذى شرحناه فى مقالة الأسبوع الماضى، والحالة العسكرية التى سمحت بقمع عصابات البدو التى كانت تهاجم قوافل الحج، والتى لم تسمح بانقلابات داخلية إلا فى هوجة أحمد عرابى كارثية المآل.

وفى المقابل من ذلك، وفى سياق رصدنا لظاهرة التخلف الحضارى الذى لحق بمصر خلال النصف الأخير من القرن العشرين «ولايزال مستمراً» نقول إن هناك عناصر كثيرة تفاعلت فيما بينها وتآزرت لإبراز هذه الحالة المزرية التى سرنا إليها وصرنا عليها، وقد عرضنا سابقاً لبعض هذه العناصر التى تساندت فيما بينها فأدت إلى ذلك، وسوف نعرض مستقبلاً لعناصر أخرى، أما اليوم فسوف يكون حديثنا عن عنصر وعامل مهم هو: البنية الاحتقارية.. المعوِّقة بطبعها لكل تقدم أو تحضر أو نهوض.

■■■

فى الأسبوع الأول من ثورة يناير، وقبل انحرافها عن المسار بسبب فقدان البوصلة ونقص الوعى العام، كتبت فى هذه الجريدة التى بين أيدينا مقالاً بعنوان «الثورة على الاحتقار» قلت فيه ما نصه:

يبدأ «الاحتقار» فى الاستيطان بالبلاد وفى الغوص بأرضها، مع شعور الحاكم الأعلى بأنه وصل إلى كرسيه مصادفة، أو حسبما يقال بالعامية: فلتة «وهى أيضاً كلمة فصيحة، وصفوا بها وصول بعض الخلفاء إلى الحكم» فإذا استطال زمن استيلاء هذا الحاكم الذى تولى الأمر على نحو فجائى، ترسَّخ عنده الشعور بأنه أقل قيمة من كرسيه، ولكى يتخلص من هذا الشعور المرير، غير المعلن، يسعى بشكل تلقائى غير واع فى معظم الأحيان، إلى التخلص من إحساسه بالاحتقار الذاتى، باحتقار الآخرين، فيحيط نفسه بالأشخاص الذين يبذلون له من تحقير أنفسهم ما يساعده على التخلص من إحساسه باحتقاره لذاته، وتصاغ هذه العلاقة على هيئة كاذبة يوصف فيها المحيطون بالحاكم بأنهم: أهل الثقة، أصحاب الولاء، جماعة المماليك.. إلخ.

وقد ارتضى الناس حرصاً على مصر عقب م*** «السادات» بحكم مبارك الذى اعتلى الكرسى فلتة فوعد الناس بالكثير ولم يفعل إلا القليل، وأكد على الديمقراطية ودولة القانون بينما كان ترزية القوانين ومرقِّعو الدساتير يعبثون سراً وعلانية بنصوص القانون والدستور، بما يضمن بقاء الرئيس رئيساً مدى حياته.

ومع ما سبق، وبالإضافة إلى التهليل الإعلامى الدائم، والإخفاء المتعمد للحقائق، والكذب والتدليس. يتخلص الرئيس من شعوره الدفين بالاحتقار، بأن يحتقر الذين حوله على اعتبار أنهم «خدم» مؤبَّدون ومؤيِّدون له، ولا يحتمل الاحتكاك بوجوه جديدة لا تنظر إليه بالانكسار الذى اعتاده من المحيطين به.. وتلك الحاشية المحيطة بالحاكم، لا يلبث الاحتقار الذاتى أن يتسلل إلى نفوسهم، فيحتاجون إلى دفعه بعيداً عنهم بالطريقة ذاتها التى دفعوا بها الاحتقار الذاتى عن ربهم الأعلى «الرب هنا بالمعنى السياسى والاجتماعى، لا الدينى» فيحيطون أنفسهم بجماعات من أهل الثقة والولاء والتذلل الذى يخفف من شعورهم الذاتى العميق، المؤلم، بالاحتقار. ومن هنا يتسلسل الأمر ويتسلل إلى الجهاز الحكومى كله، بكل ما فيه من مؤسسات، فيغدو المجتمع كله غارقاً فى «البنية الاحتقارية» التى يتم فيها التخلص من وطأة الاحتقار بالاحتقار، ومن مرارة الشعور الذاتى بتحقير الآخرين. وهو الأمر الذى يتجلى فى وقائع يومية مثل: قطع الطرق على الناس بالساعات لمرور الحاكمين بسلام! السخرية العلنية من الجمهور ومن المعارضين، الاستخفاف بعقول الناس عبر أداء إعلامى ساذج، التلويح بأن البلاد مستهدفة ولن ينقذها إلا العسكريون.

وقد استولت على المجتمع المصرى البنية الاحتقارية، مع الانقلاب العسكرى الذى قام به الضباط الأحرار «لاحظ التناقض بين الضبط والتحرر» الذين احترم الملك نفسه معهم وأخلى لهم الساحة، فكان منهم ما كان من تعطيل القوانين والاستعلاء عليها.. «جريدة المصرى اليوم، يوم الأربعاء 9/2/2011».

■■■

وبالإضافة إلى انعكاس «البنية الاحتقارية» على مجمل الواقع العام السياسى، حسبما يظهر مما سبق، تنعكس هذه البنية أو المنظومة على الواقع الاجتماعى وتظهر فى تجليات متعددة مثل التحرش بالنساء فى الطرقات والشوارع. وهو فعل حقير لا يكفى لتفسيره، ما يقال عن التدهور الخلقى وعدم كفاية الردع وملابس النسوة والبنات وتأخر سن الزواج.. إلخ، لأنه بعيداً عن «الاحتقار» لا يمكن فهم هذه الظاهرة التى تبدو بنسب متفاوتة فى معظم المجتمعات، لكنها تصل فى مصر إلى درجة مزرية. فالتحرش يرتبط بنظرة احتقارية للأنثى تنكر عليها إنسانيتها وتحصرها فى كونها «بنتاً كانت أو امرأة» مثيراً جنسياً، ومفهوم الجنس فى ثقافتنا المعاصرة، المريضة، يقترن بسمات احتقارية يستعلى بها الفاعل على المفعول بها، ولا يرتقى إلى مفهوم التكامل بين الفاعلين. ولهذا يفتخر الذكر بمغامراته وتسترها الأنثى وإلا نظر إليها المجتمع باعتبارها خليعة! أما الذكر الذى يشتهر بكثرة غرامياته ومغامراته فهو معبود النساء، الدون جوان.. وبتعبير عامى رخيص: الفتك «بكسر الفاء».

فلا غرابة، والحال كذلك، أن يستعر بالشوارع التحرش بالإناث لأنهن أصلاً فى الأذهان المتخلفة، مجال الغزوات ومحل إشباع الشهوات وحقيرات بالطبيعة ونجسات بحكم الشريعة وليس لهن الحق فى الخروج من بيوتهن التى أمرهن الله أن يقرن فيها. ومن الطبيعى فى تلك الحالة، دفع الاحتقار بالاحتقار! فنجد معظم الإناث يحتقرن معظم الرجال، حتى فى غير التوجهات النسوية. فيصير الأولاد فى ذهن البنات تافهين، والرجال فى أعين النساء أغبياء، لأن التحرر من الحالة الاحتقارية يبدو سهلاً عند مواجهة الاحتقار بالاحتقار المضاد.

كما تنعكس «البنية الاحتقارية» اجتماعياً، فى نظرة سكان المناطق الراقية فى مدينة ما إلى سكان الأحياء الشعبية. وأولئك وهؤلاء يحتقرون سكان العشوائيات! ثم يتنزل الأمر ويزداد فجاجة مع احتقار أهل المدن الكبرى لأهل المدن الريفية الذين يحتقرون بدورهم أهل المراكز الريفية الذين يحتقرون أهل الكفور والنجوع. وفى المقابل، يحتقر المحتقرون المحتقرين، فتصير هذه النزعة عامة ومتغلغلة فى نفوس الآخرين تجاه الآخرين، ويغدو المجتمع غارقاً فى الاحتقارية.

كما يتجلى ذلك أيضاً فكرياً وثقافياً، فتجد الاحتقار هو أساس نظرة المتدين لغير المتدين، والعكس.. وتجد الاستخفاف بالفنون الأرقى كالموسيقى الكلاسيكية تجاه الغناء الهابط وصخب «المهرجانات» وبالعكس.. وتجد الجرأة الجاهلة على النخبة المثقفة واحتقار كل فريق للآخر.. وهكذا إلى ما لا نهاية له من الأمثلة الدالة على هيمنة النزوع الاحتقارى.

وعلى هذا النحو، تسود البنية الاحتقارية وتتجاوز منطلقها السياسى، فتصل إلى كافة الجوانب: الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية... إلخ، فتكون النتيجة النهائية هى إهدار قيمة الإنسانية ونسيان المعانى والمفاهيم الحضارية، لصالح عمليات التنفيس السيكولوجى البائس، فيغوص المجتمع كله فى مستنقع التخلف ويتدهور حاله يوماً من بعد يوم، مع التفاعلات الدائمة بين «الاحتقارية» وبقية المعوقات.

■■■

ورصد معوقات وموانع التقدم هو الخطوة الأولى للخروج من دهاليز التدهور إلى آفاق التقدم.. إذ لا علاج إلا بعد عمل التشخيص الدقيق، ولا نجاة لنا من التخلف إلا بالخلاص من هذا الوباء الاحتقارى، والإعلاء من قيمة الإنسان فى ذاته.. بعبارة أخرى: لا يمكن إحداث تقدم أو تحضر أو ارتقاء، فى مجتمع يشكو التحرش ولا يستطيع القضاء عليه.. وفى مجتمع لا يحترم فيه الجميع الجميع ابتداءً.. وفى مجتمع يستعلى فيه المدركون لحقارتهم الذاتية، فيدفعون عن نفوسهم هذا الإحساس المرير باحتقارهم لغيرهم.

ورصد مستوى ودرجة «الاحتقارية» السائدة بين الطبقات، فى هذا المجتمع أو ذاك، هو وسيلة أساسية لاستكشاف الحالة الحضارية واتجاهات التحضر والتدهور، فمع التسليم بأن أى مجتمع إنسانى لا يخلو تماماً- وبالأحرى: لا يبرأ- من نزوع لإعلاء الذات يترتب عليه قدر ما من «الاحتقارية» للآخر.. إلا أن مقدار ظهور ذلك يُعد من أهم المؤشرات الدالة على طبيعة هذا المجتمع، إذ تحاصر المجتمعات المتقدمة والناهضة حضارياً هذه النزعة، وتحدها وتقيدها بالقانون والعرف وعمليات التثقيف العام «كما هو الحال فى غرب أوروبا، حيث يقاوم العقل الجمعى النزعة الاحتقارية الناجمة عن التمييز العنصرى، مثلاً»، فى الوقت الذى يدل فيه انتشار وتغلغل هذه النزعة على مقدار التدهور والتأهل للتخلف، مثلما هو الحال فى كثير من بلادنا العربية.

أما إذا انفجرت فى النفوس هذه النزعة الاحتقارية وأصبحت هى القاعدة الأساسية التى تحكم العلاقة بين الجماعات فى بلد واحد، فهذا مؤشر على اتجاه هذا البلد نحو السقوط التام والخروج بالكلية من المسار الإنسانى.. لأن ازدياد هذه النزعة يقود إلى توطين ال*** وإلغاء المحتقر للمحتقر، مثلما حدث فى «رواندا» بين الهوتو والتوتسى، وحدث فى سوريا عقب الزلزلة الثورية الأخيرة بين داعش وجبهة النصرة، وحدث فى بعض قرى الصعيد بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية.. وهذه كلها مؤشرات مرعبة.






رد مع اقتباس
  #13  
قديم 23-08-2017, 10:33 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,930
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

موانع التقدم: تشويش الأذهان بمعيار الإيمان




يوسف زيدان

عندما جاء اليابانيون إلى الإسكندرية لبناء مصنع «الدخيلة» للحديد والصلب، وهو المصنع الكبير الشهير الملحق به «كومباوند» سكنى أنيق فاخر لسكنى العاملين، وابتلعه علانية بعد تشغيله رجل الأعمال المعروف. جمعتنى أيامها جلسة غداء مع بعض المهندسين اليابانيين «والغداء عندهم تطول جلسته، ويتخللها نقاش وتدخين واحتساء للشاى!» سألت أحدهم عن اعتقاده الدينى، فمط شفتيه وز كتفيه ثم هز رأسه نافياً. لم أفهمه، فأعدت عليه السؤال مبسطاً، واستفسرت منه عن إيمانه بيوم البعث والقيامة! فاندهش من سؤالى ونفى علمه بالموضوع، كنت آنذاك فى العشرينيات من عمرى، وبعد سنوات استعدت هذه الذكرى فى جلسة تأمل، فوجدتنى كنت سخيفاً مع الرجل وفضولياً بشكل غير لائق.. ولما زرت كوريا الجنوبية قبل عشر سنوات، وأدهشنى التقدم الذى وصلت إليه البلاد، سألت مرافقى الكورى عن الآثار الموجودة فى عاصمتهم «سول» أو حولها، لأزورها. فقال: لا شىء! فقد تحطمت كل المبانى القائمة على الأرض أثناء الحرب الأهلية الكورية التى وقعت سنة 1950 واستمرت ثلاثة أعوام، أودت خلالها بحياة خمسة ملايين كورى دفاعاً عن القائدين اللذين يقولان: هيا

وينتظران الغنائم فى خيمتين

حريرتين، من الجهتين

يموت الجنود، مراراً

ولا يعلمون إلى الآن

من كان، منتصراً.. «محمود درويش»

سألت مرافقى الكورى عن المعابد القديمة، فقال إن كل الأبنية تحطمت! فاستفسرت منه عن الديانة الأوسع انتشاراً؟، فقال باستهانة: لا يوجد إحصاء دقيق، هناك بوذيون وبعض المسيحيين وغير المتدينين! ثم أردف: هذا الموضوع ليس مهماً هنا.

يا للهول، التدين ليس مهماً! قال: البعض يهتم، لكن الأكثرية لهم اهتمامات أخرى.. كيف، ومثل ماذا؟ قال: أهم شىء هنا، العناية بالجسم «فى كل بناية سكنية كبيرة: ناد صحى».. ورفاهية المعيشة والقلق من كوريا الشمالية.. وحياة الآخرة؟ نظر إلىَّ مندهشاً ولم يجب بشىء.

***

فإذا انتقلنا من الجغرافيا إلى التاريخ، وجدنا الفترات التى شهدت تطوراً حضارياً، تخلو من المماحكات الدينية ومحاسبة الناس لبعضهم البعض بمعيار الإيمان العقائدى.. فى الإسكندرية القديمة «البطلمية» كانت المدينة هى عاصمة الدنيا، ولم يكن العلماء يحظون بالتقدير فى أى مكان فى العالم القديم، إلا إذا كان الواحد منهم قد درس بالإسكندرية. وفى ذاك الزمان، كانت الإسكندرية «عاصمة مصر» تعيش أبهى عصور التسامح الدينى والتعايش بين المتصوفة وجماعة الفيثاغوريين والمؤمنين بآلهة كثيرة مختلفة: مثرا، سيرابيس، إيزيس، دينسيوس، ديمتر، بوسيدون، الأم العظيمة، يهوه... إلخ. وكان يتجاوز فى المدينة أتباع «أبيقور» القائل بالمبادئ الأربعة المعروفة: لا يصح أن نخاف من الآلهة، الموتى لا يشعرون بشىء، الوصول إلى الخير ممكن لكل إنسان، احتمال الشر ممكن لكل إنسان.. مع أتباع المسيحية فى صورتها الأولى المستقاة من «إنجيل المصريين» وغيره من الأناجيل «البشارات» التى تم حظرها فيما بعد وملاحقة المحتفظين بنسخ منها.

ثم تغير الحال فى أواخر القرن الرابع الميلادى وأوائل القرن التالى عليه، خصوصاً بعدما قام الأسقف «ثيؤفيلوس» بهدم معبد السرابيون ومكتبته الهائلة، سنة 391 ميلادية. ثم قام ابن أخته الأسقف «كيرلس» الملقب بعمود الدين، بوضع بيان للإيمان كانوا يسمونه: الأناثيما «اللعنات» بحيث يحكم بالكفر على أى شخص لا يوافق عليه، بل تصب عليه اللعنة لعدم إيمانه بمعيار الإيمان «الأناثيما».. وفى أيامه المدلهمة ***ت «هيباتيا»، أهم وأجمل علماء الزمن القديم، سنة 412 ميلادية، وبقى العالم بعد ذلك خمسة قرون فى ظلام معرفى تام، وتدهور حضارى، وتعصب مفرط بالإيمان الأرثوذكسى «القديم! السلفى».

وفى التاريخ المسيحى أيضاً، سيطرت قوانين الإيمان المذهبى «الكاثوليكى» على أوروبا، خلال القرون المسماة اليوم: العصور المظلمة، فازدهرت قوانين الإيمان، وسطوة الكنيسة، ومحاكم التفتيش، والتخلف الحضارى المريع، والحروب الهزلية المسماة الصليبية، وصكوك الغفران الوهمية.. وامتد الظلام حتى أشرف «عصر العقل»، عصر ديكارت الفيلسوف، وفلاسفة العقد الاجتماعى، والعلماء الذين اجتهدوا فى تطوير المعرفة.

وفى تاريخ الإسلام، كانت الفترة الذهبية الممتدة من زمن الخليفة المأمون وبيت الحكمة فى بغداد، إلى نهايات القرن الخامس الهجرى، حيث الحكام الذين لم يلعبوا بالمعتقد الإيمانى فى الميدان السياسى، أو فعلوا ذلك برفق.. فكان من عطايا زمن التسامح المذهبى هذا، نجوم مسلمة لمعت فى سماء الإنسانية وشموس معرفية من أمثال: أبوبكر الرازى، ابن الهيثم، البيرونى، ابن سينا.. وغير هؤلاء من نوابغ العلماء كثيرون، يخرج عددهم عن الحصر وتتنوع إسهاماتهم العلمية على الطب والطبيعيات والمنطق والرياضيات والفلك، بصرف النظر عن مذاهبهم العقائدية وحالتهم الإيمانية وتوجهاتهم الدينية.. ثم انطوى ذلك الزمان المشرق، مع علو نبرة التعصب المذهبى بين السنة والشيعة، ولعب بهذا المعيار مغامرون وطلاب سلطة وسفاحون من أمثال محمود الغزنوى وصلاح الدين الأيوبى «كلاهما سار فى نفس المسار» وأقاموا دولاً على جثث عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، بدعوى نصرة السنة فى وجه الشيعة! فقاموا بأحقر الأعمال: النهب، الغدر، تدمير المكتبات، مطاردة العلماء وسجنهم و***هم، طمس التراث القديم.. على اعتبار أن كل ذلك يهون فى سبيل إعلاء معيار الإيمان، ورفع راية السنة! فماذا كانت النتيجة؟ مرة أخرى، خفت صوت العلم والمعرفة وبدأ التدهور الحضارى وانهارت قوة الأمة وسقطت هذه الدول بعد جيل واحد من مؤسسيها السفاحين، فاجتاح السلاجقة «الأتراك» دولة الغزنوى التى قامت على الباطل المستتر خلف الإيمان، وفتك المماليك «الأتراك» بالأيوبيين الذى بهرجوا على الناس بدعوى نصرة السنة.. ثم نشب الخلاف بين السنة «الأحناف» والسنة «الشافعية» وتقاتلوا فيما بينهم.

***

وبعيداً عن الجغرافيا والتاريخ، نرى واقعنا المعاصر البائس شاهداً على تدمير الحضارة والإنسان والمعرفة، بدعوى رفع معيار «الإيمان» ورايته الخفاقة التى يزعمون.. ونجد الخلاف العتيد بين المسلمين والمسلمين، السنة والشيعة، وعمق العداء بين السعودية وإيران على اعتبار أن كليهما يزعم أنه يملك المعيار الوحيد للإيمان ويحاسب على أساسه الآخرين «ولا يحاسب نفسه قط، بأى معيار»، ناهيك عن البلايا الواقعة علانية، وعسكرياً، فى اليمن وسوريا وجنوب العراق.

هذا هو الحال «الدولى» التعيس للمسلمين، أما الحال الداخلى الأتعس فى مصر، فهو متنوع ما بين التنازع الواقع، بل المحتدم بين الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية بصدد حق الطلاق! ولا أدرى ما دخل ديانة المحبة بتشريعات الزواج وأحوال الدنيا، مع أن المسيح بشهادة الكنيستين: مملكتى ليست من هذا العالم. وبلغ التعصب المذهبى وادعاء ملكية المعيار الوحيد للإيمان، أن كل كنيسة ترى الكنيسة الأخرى مهرطقة.. ضالة.. ملعونة بمقتضى الأناثيما.

وفى القرى والمحافظات الأكثر تخلفاً والأشد تدهوراً، يثور كل حين *** عتيد بين فقراء المسلمين وتعساء المسيحيين، لأن هؤلاء فى نظر أولئك لا يؤمنون الإيمان الصحيح. وفى أنحاء البلاد تقع الحوادث الإرهابية بالغة الخسة والحقارة، انطلاقاً من أن معيار الإيمان مختل فى البلاد، وبالتالى فإن أهلها لا يستحقون العيش فى سلام.. هذا طبعاً، قولهم بألسنتهم! أما فى واقع الحال، فكلها وسائل للوصول إلى السلطة بزعم: نصرة دين الله.

وبدلاً من الاهتمام العام بهذا الواقع المزرى الذى يدفعنا نحو المزيد من التدهور الحضارى، ينصرف اهتمامنا جميعاً من الأزهر الشريف إلى سائقى الميكروباصات، إلى القضايا التى تدعم معيار الإيمان: هل المسيحيون مشركون بالله الواحد، هل الحجاب فرض، هل تجوز رضاعة الكبير ليصير من أهل المرضعة، هل يجوز التداوى بشرب ماء الإبل، هل يجب شرعاً *** الشيعة، هل خرجت «تونس» من دائرة الإسلام بسبب قانون الميراث الأخير الذى تم إقراره هناك، هل يجب أن نغمس الذبابة فى المشروب إذا لمسته لأن فى أحد جناحيها الداء وفى الآخر الدواء، هل يستحب نكاح القاصرات مادامت الأنثى منهن تطيق النكاح حتى لو كانت فى الخامسة من عمرها، هل نعيش فى زمن جاهلى؟.. وطبعاً، لا يمكن تجاوز هذه الأسئلة «الكبرى» والمصيرية، أو التقليل من شأنها، لأنها تنطلق من معيار الإيمان. ولأن الإيمان أهم من كل ماعداه، بدليل قول الشاعر: إذا الإيمان ضاع فلا أمانا، ولا دنيا لمن لم يُحيى دينا.

فماذا عن الدول الأوروبية، يا شاعر!

***

نعود من الجغرافيا والتاريخ والواقع المعاصر التعيس، إلى أصل الإشكال ومعنى «الإيمان» الذى صار معياره هو أحد أهم موانع التقدم وعوائق التحضر.. فنجد تعريفاً للإيمان فى الحديث النبوى الشريف، إذ يقول: الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل. يعنى بعبارة أخرى: الإيمان سر فى قلب المؤمن. يعنى بعبارة أخيرة: الإيمان مسألة خاصة بالمؤمن الذى لا يمكننا أن نشق صدره لنرى ما فى قلبه.

سيقولون: لماذا تركت النصف الأخير من تعريف الإيمان، المتعلق بالأعمال المصدقة للإيمان؟ نقول: لأن الحساب على الأعمال يكون فى الآخرة لا فى هذه الدنيا، وصاحب الحق فى المحاسبة هو الله سبحانه وليس الأدعياء من الناس الذين يوهمون العامة والجهلاء بأنهم نواب الله فى الأرض، بدليل أنهم يطلقون اللحى مثلما كان يفعل النبى وأصحابه الأخيار.

هل كان أبولهب وأبوجهل يحلقان لحيتيهما، وماذا عن لحية كارل ماركس «لعنه الله بمقتضى قانون الإيمان اليهودى، ومعيار الإيمان المسيحى والإسلامى السنى، والشيعى!».

وسيقول قائل أعقل قليلاً من هؤلاء السابقين: وما المانع فى أن يتحقق معيار الإيمان فى المجتمع، ويتحقق أيضاً التقدم الحضارى؟.. ولهذا القائل نقول: لا يوجد أصلاً معيار للإيمان كى يتحقق وتتحقق معه الحضارة. هناك نصوص عقائدية تزعم أنها الحق الوحيد، ومتعصبون يرفعون من شأنها حتى تصبح عندهم أهم من الدين ذاته. وهناك حقراء من الحكام يلعبون بهذه المعايير الإيمانية المزعومة، وي***ون الناس ويستولون على السلطة بدعوى أنهم حراس الإيمان ومعياره الصحيح.. وبالتالى، فإن سؤالك أصلاً صيغته خاطئة، وأى إجابة عليه لابد أن تكون مثله خاطئة.

وسيقول آخر بلسان السماجة: لا فائدة مما تقول، فنحن شعب متدين بطبعه والدين عندنا أهم من الدنيا! ومثل هذا الشخص، لا يصح أساساً أن نرد عليه أو نكترث لهذا الكلام الساذج، الكاذب، الذى يقوله.. فالانهماك فى الجدل الأجوف حماقة، ومسايرة الساذجين سذاجة.

والله يتولى الجميع برحمته.

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 10:39 PM.