اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > علوم القرآن الكريم

علوم القرآن الكريم هنا أن شاء الله كل حاجة عن القرآن الكريم من مسموع ومرئي

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 11-08-2017, 09:58 AM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
مشرف سوبر ركن مسك الكلام فى الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,696
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
Impp تأملات في سورة المائدة

الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُنْزِلِ الْأَحْكَامِ، وَمُفَصِّلِ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى أهْلِ الْأرْضِ وَالسَّمَاءِ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ، ويُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، فَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مَانِعَ لِعَطَائِهِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ.. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ وَطِئَتِ الْأرْضَ قَدَمَاهُ وَعَبَدَ اللهَ مَوْلَاهُ فَرَضِيَ عَنْهُ رَبُّهُ وَأَرْضَاهُ... أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]... أمَّا بَعدُ:
أيُّهَا المسْلِمونَ.. مَا زِلْنَا نَسِيرُ متُأَمِّلينَ فِي سُوَرِ القرآنِ سُورةً سُورةً، وقَدِ انْتهَى بِنَا الحَدِيثُ عِنَدَ سُورةِ النِّسَاءِ.
والْيَوْمَ نتَحَدَّثُ عنْ سُورةٍ مُلِئَتْ بالأَحكَامِ والتَّعَالِيمِ الشَّرعِيَّةِ، هِيَ سُورةٌ مَدَنِيَّةٌ احْتَوَتْ عَلَى آيَاتٍ حُقَّ للمسْلِمِينَ أنْ يَحْتَفِلُوا بِهَا وأَنْ يَشْكُرُوا اللهَ تعَالَى عَلَيْهَا، إنَّهَا سُورةُ الْمَائِدَةِ، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِذِكْرِ قِصَّةِ الْمَائِدَةِ فِيهَا.

ابْتَدَأَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ يُبَيِّنُ لَنَا عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ أَلَا وَهُوَ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ، سَواءٌ فِي ذَلِكَ الْعُقُودُ الْفَرْدِيَّةُ، أَوِ الْمَوَاثِيقُ الْجَمَاعِيَّةُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] وَلَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أَوْ عَهْدَهُ أَوْ عَقْدَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ أَهْلِ النِّفَاقِ.

ثُمَّ تَنْتَقِلُ الآيَاتِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، يُبَيِّنُ رَحْمَةَ اللهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ وَهُوَ أَنَّ بَهِيمَةَ الأَنْعَامِ لَنَا حَلالٌ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَتِهِ؛ فَيَقُولُ تَعَالَى: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 1].
وإنَّ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ ﴿ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [المائدة: 3]وَجُمَاعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ اللهُ بعْدَ هذِهِ الآيَةِ بِآيَاتٍ: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ [المائدة: 4] فَكُلُّ طَيِّبٍ فَهُو حَلاَلٌ، وكُلُّ خَبِيثٍ فَهُوَ حَرَامٌ.

وَفِي هذِهِ السُّورةِ أيضًا وُضِعَتْ قَواعِدُ التَّعَاوُنِ بَينَ الْمسْلِمينَ فقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] فَحَرِيٌّ بِمَنْ يُطِيعُ أَوَامِرَ اللهِ أَنْ يُعِينَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْخَيْرِ وَأَنْ يَحْجُبَ عَنْهُمُ الشَّرَّ.
وَلَقَدْ أَصْبَحَ التَّعَاوُنُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مُقْتَصِرًا عَلَى الشَّرِّ، فَبِنَظْرَةٍ إِلَى الْقَنَوَاتِ الْمَاجِنَةِ الَّتِي لَا تَبُثُّ لِلنَّاسِ إلَّا كُلَّ رَدِيءٍ وَحَقِيرٍ تَعْلَمُ صِدْقَ قَوْلِ اللهِ ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].

وَإِلَى كُلِّ مَنْ فَتَحَ أَبْوَابَ الشَّرِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُتَغَافِلاً عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ وَأَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى هذه الْآيَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
ولَعَلَّكُمْ -يَا عِبَادَ اللهِ- تَعْرِفُونَ خَبرَ الْيَهُودِيِّ الذِي تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ فِي دِينِهِمْ آيَةً مِنَ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وهِيَ آيَةٌ تَدُلُّ علَى تَمَامِ دِينِنَا وَكَمَالِهِ؛ فَقَدْ جَاءَ عِندَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: "قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".

فَالدِّينُ كَامِلٌ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ -كَائِنًا مَنْ كَانَ- أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ أَوْ يَزِيدَ فِيهِ، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].
وَالدِّينُ -يَا عِبَادَ اللهِ- هُوَ مِيثَاقٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، مِيثَاقٌ شَرْطُهُ الْأَوَّلُ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَشَرْطُهُ الْأَخِيرُ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، قَالَ رَبُّكُمْ مُذَكِّرًا عِبَادَهُ بِهَذَا: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [المائدة: 7]فَاعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا شِئْتُمْ، وتَظَاهَرُوا بِمَا أَرَدْتُمْ؛ لَكِنِ اعْلَمْوا أَنَّ السِّرَّ عِندَ اللهِ عَلانِيةٌ، وأَنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا فِي صُدُورِكُمْ؛ ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ﴾ [الإسراء: 25].

أَيُّهَا المسْلِمُونَ.. إِنَّ الْعَدْلَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، بِهِ تَقُومُ الْأُمَمُ وَتَحْيَا الشُّعُوبُ، وَتَزْدَهِرُ الْحَضَارَاتُ، وَقَدْ حَثَّ الْإِسْلامُ عَلَيْهِ، بَلْ حَثَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَعَ الْمُخَالِفِ...
فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
وَمِنْ مُنْجِيَاتِ الْعَبْدِ الْعَدْلُ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ؛ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: الْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَاقَةِ، وَمَخَافَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ".

عِبَادَ اللهِ... إِنَّ مِنْ غَايَاتِ الْمُسْلِمِ الْكُبْرَى أَنْ يَكُونَ فِي مَعِيَّةِ اللهِ؛ اللهُ يَحْفَظُهُ وَيَرْعَاهُ وَيَكْلَؤُهُ؛ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ اللهُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى بَنِيِ إِسْرَائِيلَ كَمَا بَيَّنَ جَزَاءَهُمْ إِنْ هُمُ وَفَّوْا بِهِ؛ وَهُوَ مِيثَاقٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...
قَالَ سُبْحَانَهُ ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12].

أَيها الْمُسْلِمُونَ... ذَكَرَ اللهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِدَّةَ قِصَصٍ؛ ذَلِكَ أَنَّ التَّرْبِيَةَ بِالْقِصَّةِ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهَا، فَفِيهَا الْعِبْرَةُ وَالْعِظَةُ، وَإِنَّ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّوَرةِ قِصَّةَ الْمَسِيحِ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ، كَذَلِكَ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ، فَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ كُفْرَ مَنْ أَلَّهَهُ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 17]...

ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ كُفْرَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى؛ لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، وَمَعَ هَذَا فَرَحْمَةُ اللهِ لَا سِعَةَ لَهَا، وَبَابُهُ لاَ يُغْلَقُ أَبَدًا، بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ لِهَؤُلاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ ادَّعَوْا لَهُ الْوَلَدَ والشَّرِيكَ: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74].
وأَمَّا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ أَمَرَ قَوْمَهُ أَنْ يَدْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ لَكِنَّهُمْ أَبَوْا ورَفَضُوا وخَافُوا مِنْ جَبَّارِيهَا فَحَرَّمَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ وَتَاهُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ بَدَأَتْ قِصَّتُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 20، 21] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ ﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: 26].

وَيَعْقُبُ هَذِهِ القِصَّةَ فِي الذِّكْرِ، خَبَرُ ابْنَيْ آدَمَ قَابِيلَ وهَابِيلَ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، فقَالَ الَّذِي لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ: لَأَقْتُلَنَّكَ، ومَعَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ ذَلِكَ قَتَلَ أَخِيهِ حَقًّا، فَبَاءَ بِإِثْمِهِ وإِثْمِ كُلِّ قَاتِلٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا يُوَضِّحُ لَنَا جَلِيًّا أَنَّ دُعَاةَ الضَّلاَلِ كُلَّمَا سَنُّوا سُنَّةً سَيِّئَةً لِلنَّاسِ، أَوْ فَتَحُوا قَنَاةً لِلْمَعْصِيَةِ، أَوْ بَابًا لِلْفُجُورِ، أَوْ سَبِيلًا إِلَى الطُّغْيَانِ، إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَحَمَّلُوا أوْزَارَهُمْ وَأوْزَارَ مَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا صَرِيحًا فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".

ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ لِعِبَادِهِ حُرْمَةَ النَّفْسِ، وَعِقَابَ مَنْ أَتْلَفَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّ مَنْ أَحْيَاهَا فَلَهُ الأَجْرُ الْعَظِيمُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]..

وَلَقَدْ رَأَيْنَا بِالأَمْسِ أَحَدَ أَبْنَاءِ (الْمَجْمَعَةِ) وَهُوَ يَضْرِبُ لَنَا مَثَلاً فِي الْعَفْوِ والصَّفْحِ عَنْ قَاتِلِ ابْنِهِ فِي سَاحَةِ الْقِصَاصِ مُتَمَثِّلاً بِقَوْلِ اللهِ: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، وَلَعَلَّ اللهَ يَكْتُبُ لَهُ بِهَذَا أَجْرَ مَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، فَقَدَ عَفَا وَاللهُ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، ولَقَدْ كَانَ كَرِيمًا حِينَمَا تَصَدَّقَ عَلَى قَاتِلِ وَلَدِهِ بِرَقَبَتِهِ واللهُ أَكْرمُ مِنْهُ، واللهَ نَسْأَلُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَتَهُ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً بِمَا فَعَلَ، وأَنْ يَخْلُفَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَلاَّ يَحْرِمَنَا عَفْوَهُ عَنَّا وَعَنْ وَالِدِينَا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ، وأَنْ يَهْدِيَنَا لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ والصَّلاَحُ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ.
*
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ كَمَا أَمَرَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيْرِ الْبَشَرِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اقْتَفَى الْأَثَرَ.. أَمَّا بَعْدُ:
فأُوصِي نَفْسِي وإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا الْمَخْرَجُ والنَّجَاةُ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

أَيُّهَا المسْلِمونَ... لقَدْ حَذَّرَتِ الآيَاتُ فِي هذِهِ السُّورَةِ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ والانْحِرَافِ عَنْ طَرِيقِ اللهِ؛ فقالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 36] فَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمُ الأَمْوَالُ ولاَ العَقَارَاتُ ولاَ الدُّورُ ولاَ الْقُصُورُ، لَنْ يَكُونَ هَمُّهُمْ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ والتَّحَلُّلُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [المائدة: 37].

عِبَادَ اللهِ... إِنَّ الإِنْسَانَ مَا خَلَقَهُ اللهُ إِلاَّ لِلْعَمَلِ فِي مَرْضَاتِهِ؛ لِذَا جَدِيرٌ بِالْعَبْدِ أَنْ يُحْسِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَنْ يَتَسَارَعَ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَنْ يَغْتَنِمَ حَيَاتَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 48] فَجَدِيرٌ بِالْمُسْلِمِينَ -لاَ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ- أَنْ يُسَارِعُوا وَأَنْ يَتَسَابَقُوا لِلْخَيْرَاتِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لَمَرْضَاتِهِ، وأَنْ يُيَسِّرَ لَنَا الْهِدَايَةَ، إِنَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

اللَّهُمَّ انْصُرِ الإِسْلامَ وأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلِ بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ والدِّينِ، وَمَكِّنْ لِعِبَادِكَ الْمُوَحِّدِينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والأَمْوَاتِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ.. اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ.. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ وَعَافِهِمْ واعْفُ عَنْهُم.
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا رَمَضَانَ، وارْزُقْنَا فِيهِ الأَجْرَ والثَّوَابَ والْعِتْقَ مِنَ النِّيرَانَ.. إِنَّكَ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وتَرْضَى، وخُذْ بِنَواصِيهِمْ لِلبِرِّ وَالتَّقْوى، واجْعَلْ وِلايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ واتَّقَاكَ.
اللهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا فِي الحَدِّ الجّنُوبِيِّ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ علَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، وَرُدَّهُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وبالإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وأَنْتَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

د. سعود بن غندور الميموني
__________________
رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:23 AM.