اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > رمضان كريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-06-2015, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي احداث تاريخية وفتوحات اسلامية فى رمضان-----متجددة إن شاء الله




الفتوحات الاسلامية فى رمضان

(فتح القرم)
د. خالد فهمي

من آفات العقل العربي والإسلامي المعاصر الوقوع في فخ النسيان، وفي فخ الاختزال، وهو ما أدعو القارئ الكريم إلى التسليم معي به؛ مما يدعونا إلى أن نقرر أننا في حاجةٍ ماسةٍ إلى التذكر.

أقول هذا من قسوته على مسامع القارئين، وعندي دليل مبدئي موجز هنا على صحة دعواي، وهي أن محمدًا الفاتح يختزل في العقل المسلم إلى فاتح القسطنطينية، وحسبك بهذا فخرًا وشرفًا ومجدًا، لكنه ليس كل الأمر في تقدير وزن الفاتح رضي الله عنه، وهو الأمر الذي يوشك مع تكرار والإلحاح عليه أن يكون مملولاً، مستهانًا به مع استمرار الاحتفاء به وحده، معزولاً عن كبريات الإنجازات التي أجراها الله -سبحانه وتعالى- على يد هذا الفاتح العادل العظيم.
والقرم شبه جزيرة داخلة في نطاق جغرافية روسيا، وهو ما يلفت النظر إلى أن الإسلام امتدَّ سلطانه حتى يسيطر على عدد ضخم من مدن أوربا من جهة روسيا والمجر وبولندا، وهو ما ينبغي تفهمه في إطار صناعة العلاقات على الجمهوريات الروسية المختلفة، باعتبار أن الإسلام ظلَّ واحدًا من الروافد المهمة التي شكلت ثقافة هذه البلاد حتى مشارف العصر الحديث.
وقد شكلت القرم التي فُتحت في (رمضان 889هـ/ 1474م) بما عاش فيها من شعوب أسلمت على أثر فتحها جزءًا من العالم الإسلامي، ما يتضح من كتاب بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية".
ومن هذا الذي نذكره من فتح القرم وتحويل شعبها إلى الإسلام بأثر ما وجدوه من عظمة الدين نلاحظ ما يلي:
أولاً: حاجة العقل المعاصر فتح الملف المتعلق بتاريخ الدولة العثمانية، وتصحيح الصور الشائهة التي روَّج لها الغرب بعد صراعه الطويل معها، وخسارة الرهيبة من ضرباتها وفتوحها، فما تزال أوربا المسلمة -إن صح هذا التعبير- في ألبانيا وكوسوفا وروسيا وبولندا والمجر وغيرها بعضًا من منح الدولة العثمانية، وهو بعض المفهوم من كتاب المنح الرحمانية في الدولة العثمانية وذيله لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي.
ثانيًا: ضرورة إعادة النظر في المناهج الدعوية والتربوية المتعاطية مع أعلام الإسلام العظام لتغذية الوجدان الإسلامي المعاصر، بعد أن اتضح أن منجز محمد الفاتح ليس مقصورًا على فتح القسطنطينية على جلال قدرها هذا الفتح، وإنما ينبغي أن تجاوزه إلى قراءة المنجز الحضاري والحربي الذي حققه للإسلام لما فتحه من بلدان روسيا وأوربا معًا، فقد رصد الدكتور سالم الرشيد -في كتابه المهم عن المهم عن محمد الفاتح (طبعة الحلبي 1956م)- له الفتوحات التالية: صربيا، والبوسنة والهرسك، فتح أثينا، والمورة، وغيرها.
ثالثًا: ضرورة تقديم نماذج بجوار النماذج الأولى محمد الفاتح وغيره من قيادات العالم الإسلامي المتأخرين لا يصح أن يغيبوا لمصلحة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وغيرهم؛ لأن الإسلام صاحب حضارة ولود منتجة.
رابعًا: تأمل تفاصيل فتح القرم والتعامل مع ثقافة التتار المسلمين، وطبيعة الجغرافية والأرض المجاورة للدولة العثمانية، قائد إلى أمور مهمة جدًّا تصب في ضرورة إعادة فتح ملف التعليم في العالم العربي والإسلامي؛ لأن واحدًا من الأسباب التي عزاها المؤرخون للمقدرة والعبقرية الحربية التي أظهرها محمد الفاتح راجع إلى الثقافة الممتازة التي حصلها محمد الفاتح في نطاق نسق تعليمي متقدم جدًّا، وهو ما يؤكده الدكتور سالم الرشيدي عندما يقرر أن عناية محمد الفاتح بالعلم والعلماء هو السبب الخطير في تقدمه الحربي والحضاري.
خامسًا: برز الإسلام عاملاً مهمًّا في قيادة حركة الفتوحات التي قادها محمد الفاتح وهو الأمر الذي حاول ولم يزل بعض أنصار القومية التركية بعد مد أتاتورك العلماني أن يعزو التقدم العثماني بتفسير خصائص القومية التركية، وهو الأمر الذي يكذبه المؤرخون، يقول سالم الرشيدي ص280: "وإذا صح أن يقال: إن العرب إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين، صح أن يقال: إن العثمانيين إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين".
هذا الصوت الأخير هو الأمر المستقر في أدبيات الذين عرفوا تاريخ الدولة العثمانية من قبل محمد عنان، ونادية مصطفى، والصلابي، وعبد الرزاق بركات، ومحمد حرب، وغيرهم.
باسم الإسلام وباسم الثقافة الإسلامية الممتازة، وباسم التربية على تقدير جلال العلم والعلماء، امتد سلطان محمد الفاتح فحرر وفتح ما لم يتم فتحه خلال تاريخ ممتد مع توافر المحاولات؛ ليقوم الدليل مجددًا على أن مواهب الله -سبحانه وتعالى- ليست حكرًا على عصر بعينه، وأن عطاءاته تتنزل دومًا بحسبان الإسلام هو الدين الخاتم.



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-06-2015, 02:58 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفتوحات الاسلامية فى رمضان
فتح سرقوسة

د. خالد فهمي

عرفت الأدبيات المعنية بالتأريخ للتشريع الإسلامي وفلسفته؛ أن واحدًا من دلالات الأمر الإلهي بصيام رمضان كان منصرفًا إلى كونه إعدادًا حقيقيًّا، وتمهيدًا بديعًا للتوصل إلى الأمر بالقتال، وهو ما يدعمه توالي الأمرين معًا في تاريخ التشريع؛ إذ نزل الأمر بصيام شهر رمضان، ثم أعقبه التشريع بالإذن بالقتال.

ومنذ هذا التاريخ والوعي الجمعي الإسلامي يربط بين هذا الشهر وبين تجليات النصر فيه، باعتبارهما من متلازمات القضايا في التصور الشعبي والثقافي عند المسلمين.
وهو الأمر الذي نحتاج إلى ترسيخه؛ لأن الانطلاق نحو تجديد وعي الأمة بمكانتها إذا انطلق من هذه الأجواء المنبثقة من شهر رمضان كان وعيًّا جديرًا بأن يختزل المسافات وتقترب بالأمة الإسلامية من المثال الذي طالما عُرِفَ عنها في تاريخ الحضارة قديمًا من أنها وهبت الإنسانية ما لم تستطع حضارة أخرى أن تهبه لها.
وشهر رمضان في هذا العام يأتي في أجواء تحتاج فيها الأمة إلى التذكير بعالمية رسالتها، وبأن اختلال التراتب في قوائم القيادة، والسيادة بين الدول مما انعكاسه سيئ على عالمنا الإسلامي، لا يصح أن يهزمنا نفسيًّا، ولا يصح أن ينسينا أننا أصحاب رسالة تتجاوز حدودها المحلية والإقليمية؛ ذلك أن الإسلام في التصور القرآني والتاريخي دين عالمي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس كافة!
ولقد فهمت الأمة كلها على امتداد جغرافيتها ذلك الأمر، واستمر حاضرًا في حركة نشره في العالم من خلال الفتوحات الإسلامية التي استمرت حتى هجوم الغرب على ديارنا مع حركة الاستعمار الأوربية لبلادنا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
ومن أجل ذلك فإن التوقف أمام فتوحات المسلمين للبلدان الغربية ربما يُسهم في دعم التذكير بعالمية هذا الدين من جانب، ومقاومة لطوفان اليأس الذي يغمر قطاعات كثيرة من أبناء عالمنا العربي والإسلامي تحت ضغط التفوق الأمريكي والأوربي معًا.
ولقد كان هذا الوعي بعالمية الرسالة ظاهرًا جدًّا مع بواكير الدعوة الإسلامية، ومن أمثلته الباكرة فتح سرقوسة التي فُتحت في رمضان (264هـ/ 878م).
وسرقوسة في الجغرافية العربية القديمة: "أكبر مدينة بجزيرة صقلية" على ما يقدره ياقوت الحموي في معجم البلدان (3/214)، وقد رصد لها الجغرافيون القدامى ما يعكس تقدمها وعمرانها.
ومن المهم أن نذكر أن فتح سرقوسة كان مرحلة شبه مستقلة من حركة الحروب التي استهدفت فتح جزيرة صقلية كلها.
وفي هذا السياق ينبغي أن نتأمل مجموعةً من العلامات الدالة على خط حركة الفتوحات الإسلامية وما قدمته للإنسانية في النقاط التالية:
أولاً: برهن المسلمون عن وعيهم بعالمية رسالتهم في الأقطار كافة، وهو ما نلمحه من خلال معرفتنا بأن الذي تم له فتح سرقوسة كان هم الأغالبة، بمعنى أن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن حكرًا على مسمى المشرق الإسلامي في يومٍ من الأيام، كما يحلو لبعض الدارسين أن يتصوروا أن حركة الفتوحات كانت حركة عربية قومية، على ما يشيع في كثير من كتابات المؤرخين المعاصرين الذين تشكلت أفكارهم في أثناء المد القومي!
ثانيًا: اعتراف مؤرخي الحضارات بالأثر الجبار الذي خلَّفه المسلمون في المدينة برمتها، وفي مدة وجيزة جدًّا على ما يقرره مثلاً كارل بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"؛ حيث يقرر ص249: "وفي الحق أن سنوات السلام التي قُدِّر العرب أن ينعموا بها في صقلية (سرقوسة) منذ ذلك الحين كانت كافيةً لنشر حضارتهم، والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين (خلفوا العرب في حكم هذه البلاد) على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية والعينية أيضًا". ففي هذه الشهادة التي يشهد بها واحد من أساطين الاستشراق الغربي كافية في هذا السياق لإعادة التمكين لجلال الفكرة الإسلامية التي حركت الفتوحات بدافع ديني وحضاري معًا يستهدف الخير للبشرية.
وهذا الوجه المضيء هو الوجه الذي ينبغي أن نواجه به أوربا والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهاتها للعالم الإسلامي.
ثالثًا: إن القدرة الحربية المبكرة التي مكنت دولة الأغالبة (من المغرب العربي) من فتح هذه الجزيرة بما فيها سرقوسة بحصونها الطبيعية والصناعية تعيد فتح ملف التقدم العلمي في أواخر القرن الثالث الهجري، أي بعد ما يقرب من مائتي سنة فقط من عمر الدين الجديد باسم المعرفة الحديثة التي حازتها من فتح بلدان في عمق بحار عريقة جدًّا.
وهذه النقطة تعيينًا تفتح ملفًا مهمًّا ومهملاً معًا من جانب المعاصرين يتعلق بضرورة استثمار تخصص أصيل عُرِفَ في الأدبيات التاريخية والجغرافية باسم السفن الإسلامية، وهو تخصص له تاريخه ومصطلحاته للدرجة التي صنفت فيها كثير من المعاجم التي تعترف بما كان للعرب من تقدم هائل في مجال صناعة السفن والبحار.
هذه ثلاث نقاط فقط تبعث على التأمل والعمل معًا من أجل إيجاد آلية لدعم ما يُسمَّى به سقور الوحدة الثقافية بين أبناء العالم الإسلامية على امتداد بقاعه الجغرافية، وهو الأمر الذي كان موجودًا في ظل غياب ما هو قائم الآن من ثورة في الاتصالات غير مسبوقة، وهذه الوحدة قد تجلت أبعادها في أن حركة الفتوحات الإسلامية صنعها المسلمون جميعًا، من المشرق العربي ومن المغرب العربي، من المسلمين ذوي الأصول العربية ومن المسلمين ذوي الأصول غير العربية معًا.
باسم الإسلام وحضارته ووحدة شعوبه تقدم الفتح لينعم العالم تحت ظلاله، وفي أجواء رمضان الذي هو شهر الله تعالى تمت هذه الفصول البيضاء الرائعة.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-06-2015, 02:18 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفتوحات الاسلامية فى رمضان
(فتح شذونة)

د. خالد فهمي


هل ثمة فاروق يمكن أن نتلمسه في حركة الفتوحات الإسلامية التي فتحت المشرق العربي الذي صار إسلاميًّا بما ضم إليه من العراق وما وراءها والشام إلى مصر عن أختها حركة الفتوحات التي توجَّهت إلى الأندلس وبلدان أوربا؟!

ٍهل كانت أجيال الفاتحين في عهد الخلافة الراشدة مختلفة عن أجيال الفاتحين في عهد الخلافة الأموية؟ وهل ثمة اختلاف في ثقافة كلٍّ من الجيلين؟
إني أريد أن أسعى إلى توجيه سؤال يريد أن يتوارى خلف هذه المقدمات، وهو: لماذا سقطت الأندلس بعد هذا العمر الطويل من سيطرة العرب عليها؟!
أحسب أن الاحتكام إلى مقولة احتواء الإسلام لأبناء الشرق والتعاطي مع ما بقي ثقافتهم غير المخاصمة للإسلام، كان هو كلمة السر في بقائه "هنا"، ورحيل المسلمين عن "هناك"!
لم تفرد الأدبيات التاريخية مساحة واسعة لفتح شذونة (رمضان 92هـ)، وهي من البلدان الحدودية المطلة على البحر المتوسط من جنوب الأندلس، كما حدث مع القادسية باب فارس في الجاهلية، وهو أول فارق في فلسفة الفتح يفاجئك في قراءة التعاطي مع بلدان الحدود في فتوحات جيل الدولة الراشدة وفتوحات جيل الدولة الأموية، وهو ما انعكس بدوره على تعامل الأدبيات التاريخية العربية مع كلا الفتحين.
كانت آثار المعرفة الجغرافية والتاريخية ببلدان فارس وتقدير خطرها عاملاً حاسمًا في حماية مكاسب فتح فارس الذي تجلَّى في تمصير مدن عربية كاملة من العدم تكون عمقًا استراتيجيًّا يمنع من استرداد فارس لبلدان إمبراطوريتها الذاهبة.
كان قرب جيوش الفتح من عصر النبوة بما استقر في نفوسهم من فعل الهجرة ذا أثر حاسم في الهجرة إلى بلدان جديدة سلكها العرب في البصرة والكوفة في الطريق إلى القادسية وفارس، لقد كان مسكن القبائل العربية في الطريق إلى الأمم المفتوحة عاملاً حاسمًا في تغيير الخريطة الديمغرافية السكانية التي حمت مكتسبات الفتح الراشد؛ لأنها ذوبت العناصر الثقافية عن طريق الاحتواء السكاني، وهو ما لم يحدث في فتوحات دولة بني أمية للأندلس.
وربما كان البربر -وهم أغلبية في جيش فتح الأندلس- سببًا آخر في عدم استدامة الفتح وانهياره بعد ثمانية قرون!
هل فَتُرَت ثقافة الهجرة فغاب الأندلس؟!.. ربما!
أمر آخر نلمسه في قراءة أحداث فتح شذونة (أول ما يقابل من بلاد الأندلس من جهة البحر قادمًا من بلدان المغرب)؛ هو أن حركة الجيوش كان أبعد عمق لها هو القبائل المتأخرة لمضيق جيل طارق من بلاد المغرب، وهي مسافة بعيدة جدًّا عن مقر الحكم المركزي في الشام لدولة بني أمية؛ مما يوحي بغياب أو خفوت الصوت العربي من أبناء الصحابة والتابعين، وهو أمرٌ له أثار سلبية على توجيه حركة الإعمار الفكري في داخل الأندلس نفسها..
وهو ما ظهر في بقاء عدد ضخم من النصارى يعملون بما يسمى استرداد الأندلس، ولو أن العنصر العربي الإسلامي الذي ظهر في فتوحات أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- كان بارزًا في حركة فتوحات الأندلس بما يميزه من تقديرٍ لقيمة المَعْلم، وبما يميزه من القدرة على التغير باسم المعايشة، لربما تغير أمر الأندلس، ولربما لم تنجح حركة ما يسمى باستيرادها.
ثمة أمر آخر لا أحب أن أقف أمامه طويلاً، وهو: هل كان لحظ النفس أثر في البدايات انعكست على نهايات الوجود المسلم في الأندلس؟!
تقول الأدبيات التاريخية: إن طارق بن زياد بدأ فتح الأندلس وبدأ فتح شذونة، ثم حسده سيده موسى بن نصير فأسرع ليتم الفتح معه، وهو ما ظهر في غير مصدر تاريخي قديم وحديث في تعبيره!! وأتم موسى بن نصير فتح شذونة.
وأنا بطبيعة الحال أقلق من مثل هذه التفاسير مع إمكان وجودها، لكن المهم هو أن التعامل مع الأندلس في لحظة من اللحظات تمَّ على اعتبارها جزءًا معزولاً عن جسد الخلافة في المشرق، وربما دعم هذا قيام الدولة الأموية في الأندلس بعد سقوطها في المشرق، واستمرت إلى أوائل القرن الخامس الهجري (403هـ) على التعيين.
فتح شذونة (رمضان 92هـ) وما أثير حوله من كتابات قليلة يفتح الباب إلى أن نتعلم من أخطاء ما كان ينبغي أن تقع.
باسم الإسلام فُتحت الأندلس، وفُتحت أولى محطاتها في شذونة، وباسمه تم تعميرها زمانًا طويلاً، لكن الفتح لم يَدُمْ سوى ثمانية قرون، وهو أمر ندعو إلى قراءة أبعاده وتجلِّياته.
ثمة فارق بين فتوح القارئين وفتوح المقاتلين، وهو ما أدعو المتخصصين في حركة الفتوح الإسلامية إلى أن يولوه فضل عناية.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20-06-2015, 04:58 AM
الصورة الرمزية مستر محمد سلام
مستر محمد سلام مستر محمد سلام غير متواجد حالياً
مشرف اللغة الانجليزية الاعدادية سابقا
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
المشاركات: 7,598
معدل تقييم المستوى: 20
مستر محمد سلام is on a distinguished road
افتراضي

جزاكم الله خيرا وجعلها فى ميزان حسناتكم



رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20-06-2015, 05:14 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

جزاكم الله خيرا واحسن الله اليكم
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21-06-2015, 07:00 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

احداث رمضانية
(تكليف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة)


التاريخ الهجري السنة الأولى من البعثة
قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة‏.‏ فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 8‏)‏‏.‏ فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي، وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل‏.‏ وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال‏:‏ وحديث عائشة لا ينافي هذا، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا‏.‏ ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجاً له وتمريناً إلى أن جاءه جبريل، فعلَّمه بعدما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصاراً للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشراً، وبالمدينة عشراً‏.‏ ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهكذا روى يحيى بن سعيد، وسعيد بن المسيب‏.‏ ثم روى أحمد، عن غندر، ويزيد بن هارون، كلاهما عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُنزل عليه القرآن، وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين‏.‏ ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال‏:‏ أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة‏:‏ سبع سنين يرى الضوء، ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين‏.‏ قال أبو شامة‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك‏:‏ ما في صحيح مسلم‏:‏ عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن‏)‏‏)‏‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من عبادة الأوثان، والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه‏‏.‏ وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة - قال‏:‏ وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهراً من السنة يتنسك فيه‏.‏ وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته وقضائه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة‏.‏ وهكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش، أنهم يجاورون في حراء للعبادة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة‏:‏ وثورٍ ومَن أرْسَى ثبيراً مَكانه وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازِلِ هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي، وأبو شامة، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه‏:‏ وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم‏.‏ وحراء‏:‏ يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج‏:‏ فَلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّن وربِّ رُكنٍ من حِراءَ مُنْحني وقوله في الحديث‏:‏ والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البِنْيَة فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث، ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء‏.‏ كحنث‏:‏ أي خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج، وتأثم، وتهجد هو ترك الهجود وهو‏:‏ النوم للصلاة، وتنجس وتقذر، أوردها أبو شامة‏.‏ وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد‏.‏ فقال‏:‏ لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا‏:‏ جدف وجذف كما قال رؤبة بن العجاج‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏ 3/10‏)‏‏.‏ لو كان أحجاري مع الأحذاف * يريد الأجداث‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول‏:‏ فُمَّ في موضع ثمَّ‏.‏ قلت‏:‏ ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها‏.‏ وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا‏؟‏ وما ذلك الشرع‏؟‏ فقيل‏:‏ شرع نوح، وقيل‏:‏ شرع إبراهيم، وهو الأشبه الأقوى‏.‏ وقيل‏:‏ موسى، وقيل‏:‏ عيسى، وقيل‏:‏ كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه، وعمل به‏.‏ ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ حتى فجئه الحق وهو بغار حراء‏:‏ أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى‏:‏ ‏( ‏وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ )‏ الآية ‏[‏سورة القصص‏:‏ 86‏]‏‏.‏ وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي‏:‏ ‏( ‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏ )‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏ وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير، وكما سيأتي أيضاً في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سئل عن صوم يوم الاثنين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه‏)‏‏)‏ وقال ابن عباس‏:‏ ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين‏.‏ وهكذا قال عبيد بن عمير، وأبو جعفر الباقر، وغير واحد من العلماء‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /11‏)‏ ثم قيل‏:‏ كان ذلك في شهر ربيع الأول، كما تقدم عن ابن عباس وجابر، أنه ولد عليه السلام، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، كما نصَّ على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما‏.‏ قال ابن إسحاق مستدلاً على ذلك بما قال الله تعالى‏:‏ ‏( ‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ‏ )‏ ‏[‏البقرة‏:185]‏‏.‏ فقيل في عشره‏.‏ وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال‏:‏ كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل في الرابع والعشرين منه‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان‏)‏‏)‏‏.‏ وروى ابن مردويه في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن جابر بن عبد الله مرفوعاً نحوه، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين‏.‏ وأما قول جبريل‏:‏ اقرأ‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏‏)‏ فالصحيح أن قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏‏)‏ نفي‏:‏ أي لست ممن يحسن القراءة‏.‏ وممن رجحه النووي، وقبله الشيخ أبو شامة، ومن قال‏:‏ إنها استفهامية فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات‏.‏ ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو خائف يرعد - ‏(‏‏(‏ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ‏)‏‏)‏ فأخذه جبريل فغتَّه غتاً شديداً‏.‏ ثم تركه‏.‏ فقال له‏:‏ اقرأ‏.‏ فقال محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أرى شيئاً أقرأه، و ما أقرأ، وما أكتب‏)‏‏)‏‏.‏ يروى ‏"‏فغطني‏"‏ كما في ‏(‏الصحيحين‏)‏، و‏"‏غتني‏"‏، ويروى ‏"‏قد غتني‏"‏‏:‏ أي خنقني حتى بلغ مني الجهد، يروى بضم الجيم، وفتحها، وبالنصب، وبالرفع، وفعل به ذلك ثلاثاً‏.‏ قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه الرحضاء‏:‏ أي البهر والعرق‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنما فعل ذلك لأمور‏:‏ منها‏:‏ أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏ )‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمرُّ وجهه، ويغطّ كما يغطّ البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:3/12‏)‏ وقوله فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده‏.‏ وفي رواية‏:‏ بوادره، جمع بادرة‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وهي لحمة بين المنكب والعنق‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو عروق تضطرب عند الفزع، وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة‏.‏ وقيل‏:‏ بادل، وهو ما بين العنق والترقوة، وقيل‏:‏ أصل الثدي، وقيل‏:‏ لحم الثديين، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏زملوني، زملوني‏)‏‏)‏ فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي‏؟‏ أي شيء عرض لي‏؟‏‏)‏‏)‏ وأخبرها ما كان من الأمر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد خشيت على نفسي‏)‏‏)‏‏.‏ وذلك لأنه شاهد أمراً لم يعهده قبل ذلك‏.‏ ولا كان في خلده‏.‏ ولهذا قالت خديجة‏:‏ ابشر، كلا والله لا يخزيك الله أبداً‏.‏ قيل‏:‏ من الخزي، وقيل‏:‏ من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفاً بصفات الخير لا يخزى في الدنيا، ولا في الآخرة، ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة‏.‏ فقالت‏:‏ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث - وقد كان مشهوراً بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكلّ‏.‏ أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله‏.‏ وتكسب المعدوم‏:‏ أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوماً؛ لأن حياته ناقصة‏.‏ فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم‏:‏ ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء وقال أبو الحسن التهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم‏:‏ عدَّ ذا الفقر ميتاً وكساهُ كفناً بالياً ومأواه قـبرا وقال الخطابي‏:‏ الصواب وتكسب المعدم، أي‏:‏ تبذل إليه، أو يكون تلبس العدم بعطيته مالاً يعيش به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/13‏)‏‏.‏ واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى‏:‏ أي يعطى المال لمن هو عادمه‏.‏ ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له به علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالباً، وقد ضعَّف هذا القول عياض، والنووي وغيرهما، والله أعلم‏.‏ وتقري الضيف‏:‏ أي تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه‏.‏ وتعين على نوائب الحق، ويروي الخير‏:‏ أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سداداً من عيش أو قواماً من عيش‏.‏ وقوله‏:‏ ثم أخذتْه فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي‏.‏ وقد قدَّمنا طرفاً من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله‏.‏ وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية، ففارقهم وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، فتنصروا كلهم؛ لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرو بن نفيل؛ فإنه رأى فيه دخلاً، وتخبيطاً، وتبديلاً، وتحريفاً، وتأويلاً، فأبت فطرته الدخول فيه أيضاً‏.‏ وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي، قد أزف زمانه، واقترب أوانه، فرجع يتطلب ذلك، واستمر على فطرته، وتوحيده‏.‏ لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية‏.‏ وأدركها ورقة بن نوفل، وكان يتوسمها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة، وما ظهر عليه من الدلائل، والآيات‏.‏ ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت به إليه فوقفت به عليه، وقالت‏:‏ ابن عم اسمع من ابن أخيك‏.‏ فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى قال ورقة‏:‏ سبُّوح سبُّوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ولم يذكر عيسى، وإن كان متأخراً بعد موسى؛ لأنه كانت شريعته متممة، ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام، ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء‏.‏ كما قال‏:‏ ‏)‏ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وقول ورقة هذا كما قالت الجن‏:‏ ‏( ‏يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ )‏‏.‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ثم قال ورقة‏:‏ يا ليتني فيها جذعاً أي يا ليتني أكون اليوم شاباً متمكناً من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك‏:‏ يعني حتى أخرج معك وأنصرك‏؟‏ فعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أو مخرجي هم‏؟‏‏)‏‏)‏ قال السهيلي‏:‏ وإنما قال ذلك؛ لأن فراق الوطن شديد على النفوس، فقال‏:‏ نعم ‏!‏إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /14‏)‏‏.‏ وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً‏:‏ أي أنصرك نصراً عزيزاً أبداً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم لم ينشب ورقة أن توفي‏)‏‏)‏‏:‏ أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل‏.‏ وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، عن ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة‏.‏ أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار، لم يكن عليه ثياب بياض‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري، وهشام، عن عروة مرسلاً فالله أعلم‏.‏ وروى الحافظ أبو يعلى، عن شريح بن يونس، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة، وعليه السندس‏)‏‏)‏‏.‏ وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يبعث يوم القيامة أمة وحده‏)‏‏)‏‏.‏ وسئل عن أبي طالب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها‏)‏‏)‏‏.‏ وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب، لا صخب فيه، ولا، نصب‏)‏‏)‏‏.‏ إسناد حسن، ولبعضه شواهد في ‏(‏الصحيح‏)‏، والله أعلم‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة، أو جنتين‏)‏‏)‏‏.‏ وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة‏.‏ وهذا إسناد جيد، وروي مرسلاً وهو أشبه‏.‏ روى الحافظان البيهقي، وأبو نعيم، في كتابيهما ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من حديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة‏:‏ ‏(‏‏(‏إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر‏)‏‏)‏‏.‏ قالت‏:‏ معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك‏.‏ فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 15‏)‏‏.‏ فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت له خديجة حديثه له فقالت‏:‏ يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده أبو بكر‏.‏ فقال انطلق بنا إلى ورقة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أخبرك‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ خديجة‏.‏ فانطلقا إليه فقصا عليه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي‏:‏ يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض‏)‏‏)‏‏.‏ فقال له لا تفعل‏.‏ إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني‏.‏ فلما خلا ناداه يا محمد قل‏:‏ ‏( ‏بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين )‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏ولا الضالين‏}‏ قل لا إله إلا الله‏.‏ فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة‏:‏ ابشر ثم ابشر‏.‏ فأنا أشهد أنك الذي بشَّر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا‏.‏ ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك‏.‏ فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني‏)‏‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ ورقة‏.‏ هذا لفظ البيهقي‏.‏ وهو مرسل وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل‏.‏ وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان، وعقده عليه، وتأكده عنده‏.‏ وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة، وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ‏.‏ فقال ورقة في ذلك أشعاراً قدمناها قبل هذا، منها قوله‏:‏ لججت وكنت في الذكرى لجوجاً لأمرٍ طالما بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصفٍ فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكَّتين على رجائي حديثك أن أرى منه خروجا بما أخبرتنا من قول قس من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمداً سيسود قوماً ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية أن تعوجا فيلقى من يحاربه خساراً ويلقى من يسالمه فلوجا فياليتي إذا ما كان ذاكم شهدت وكنت أولهم ولوجا ولو كان الذي كرهت قريش ولو عجت بمكتها عجيجا أرجّي بالذي كرهوا جميعاً إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا فإن يبقوا وأبق تكن أمور يضج الكافرون لها ضجيجا ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/16‏)‏‏.‏ وقال أيضاً في قصيدته الأخرى‏:‏ وأخبار صدق خبرت عن محمدٍ يخِّبرها عنه إذا غاب ناصح بأن ابن عبد الله أحمد مرسلٌ إلى كل من ضمت عليه الأباطح وظني به ٌأن سوف يبعث صادقاً كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له بهاء ومنشور من الحق واضح ويتبعه حياً لؤي بن غالبٍ شبابهم والأشيبون الجحاجح فإن ابق حتى يدرك الناس دهره فإني به مستبشر الودِّ فارح وإلا فإني يا خديجة فاعلمي عن أرضك في الأرض العريضة سائح وقال يونس عن بكير، عن ابن إسحاق قال ورقة‏:‏ فان يكُ حقاً يا خديجة فاعلمي حديثك إيانا فأحمد مرسل وجبريل يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل يفوز به من فاز فيها بتوبةٍ ويشقى به العاني الغرير المضلَّل فريقان منهم فرقة في جنانه وأخرى بأحواز الجحيم تعلَّل إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت مقامع في هاماتهم ثم تشعل فسبحان من يهوي الرياح بأمره ومن هو في الأيام ما شاء يفعل ومن عرشه فوق السموات كلها واقضاؤه في خلقه لا تبدل وقال ورقة أيضاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/17‏)‏ يا للرجال وصَرْف الدهر والقدر وما لشيءٍ قضاه الله من غير حتى خديجة تدعوني لأخبرها أمراً أراه سيأتي الناس من أخر وخبرتني بأمر قد سمعت به فيما مضى من قديم الدهر والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره جبريل أنك مبعوث إلى البشر فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه لك الإله فرجِّي الخير وانتظري وأرسليه إلينا كي نسائله عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين أتانا منطقاً عجباً يقف منه أعالي الجلد والشعر إني رأيت أمين الله واجهني في صورة أكملت من أعظم الصور ثم استمر فكاد الخوف يذعرني مما يسلِّم من حولي من الشجر فقلت ظني وما أدري أيصدقني أن سوف يبعث يتلو مُنزل السور وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم من الجهاد بلا منّ ولا كدر هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل، وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية -عن بعض أهل العلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر البيوب عنه، ويفضي إلى شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر إلا قال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /18‏)‏ قال فيلتفت حوله عن يمينه، وعن شماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة‏.‏ فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال‏:‏ سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي‏:‏ حدثنا يا عبيد، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين جاءه جبريل قال‏:‏ فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس -‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهراً يتحنث قال‏:‏ وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية، والتحنث‏:‏ التبرز‏.‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها‏.‏ وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب‏.‏ فقال اقرأ، قلت ما أقرأ‏؟‏ قال‏:‏ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏.‏ فقال‏:‏ اقرأ؛ قال‏:‏ قلت ما أقرأ‏؟‏ قال‏:‏ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏.‏ فقال اقرأ، قلت ما أقرأ‏؟‏ قال‏:‏ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏.‏ فقال اقرأ، قلت‏:‏ ماذا أقرأ‏؟‏ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي‏.‏ فقال‏:‏ ‏)‏ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏ قال‏:‏ فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاباً‏.‏ قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول‏:‏ يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل‏.‏ قال‏:‏ فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول‏:‏ يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل‏.‏ فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم، وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك‏.‏ فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني‏.‏ وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /19‏)‏ فقالت‏:‏ يا أبا القاسم أين كنت‏؟‏ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة، ورجعوا إليّ‏.‏ ثم حدثتها بالذي رأيت‏.‏ فقالت‏:‏ أبشر يا ابن العم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة‏.‏ ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال ورقة‏:‏ قدوس، قدوس، والذي نفس ورقة بيده؛ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، وقولي له‏:‏ فليثبت‏.‏ فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة‏.‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره‏.‏ فقال له ورقة‏:‏ والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه‏.‏ ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله‏.‏ وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة، والله أعلم‏.‏ وقال موسى بن عقبة‏:‏ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال‏:‏ وكان فيما بلغنا أول ما رأى - يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب، وشرح صدرها للتصديق‏.‏ فقالت‏:‏ أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيراً، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر، ثم أعيد كما كان‏.‏ قالت‏:‏ هذا والله خير فأبشر‏.‏ ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت، واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عز وجل، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏‏.‏ فقال له جبريل‏:‏ اقرأ، فقال‏:‏ كيف اقرأ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏( ‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏ )‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1- 5‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ويزعم ناس أن ‏( ‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏ )‏ أول سورة نزلت عليه، والله أعلم‏.‏ قال فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله، فلما انصرف منقلباً إلى بيته، جعل لا يمرُّ على شجر، ولا حجر، إلا سلَّم عليه، فرجع إلى أهله مسروراً موقناً أنه قد رأى أمراً عظيماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /20‏)‏ فلما دخل على خديجة قال‏:‏ أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن إليّ، أرسله إليّ ربي عزَّ وجل، وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه‏.‏ فقالت‏:‏ أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيراً، وأقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك رسول الله حقاً‏.‏ ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاماً لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانياً من أهل نينوى يقال له‏:‏ عداس، فقالت له‏:‏ يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل‏؟‏ فقال‏:‏ قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان‏؟‏ فقالت‏:‏ أخبرني بعلمك فيه‏.‏ قال‏:‏ فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام‏.‏ فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه جبريل‏.‏ فقال لها ورقة‏:‏ يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه، ثم أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر‏.‏ فمات ورقة رحمه الله‏.‏ قال الزهري‏:‏ فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه‏:‏ والذي ذكر فيه من شق بطنه، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعني‏:‏ شق بطنه عند حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم‏.‏ وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي‏.‏ قال‏:‏ بلغنا أن الله تعالى بعث محمداً رسولاً على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة، والكرامة رؤيا كان يراها، فقصَّ ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد، فقالت له‏:‏ ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيراً‏.‏ فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره، ومن خلفه بين كتفيه‏.‏ فقال‏:‏ اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر ‏!‏فإنك نبي هذه الأمة‏.‏ اقرأ، فقال له نبي الله‏:‏ - وهو خائف يرعد - ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ‏.‏ فأخذه جبريل فغته غتاً شديداً، ثم تركه، ثم قال له‏:‏ اقرأ، فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك، فرأى فيه من صفاءه، وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت، وقال له‏:‏ )‏ اقرأ باسم ربك الذي خلق‏ ‏‏)‏ الآيات‏.‏ ثم قال له‏:‏ لا تخف يا محمد إنك رسول الله، ثم انصرف وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه فقال كيف أصنع‏؟‏ وكيف أقول لقومي‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 21‏)‏ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عظيماً ملأ صدره‏.‏ فقال له جبريل‏:‏ لا تخف يا محمد‏:‏ جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله، فإنك رسول الله‏.‏ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا هو ساجد يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏.‏ فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول‏:‏ لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم‏.‏ فقال‏:‏ يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة، وأهال منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني وأقرأني كلاماً فزعت منه ثم عاد إليّ فأخبرني أني نبي هذه الأمة، فأقبلت راجعاً فأقبلت على شجر، وحجارة، فقلن السلام عليك يا رسول الله‏.‏ فقالت خديجة‏:‏ أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيراً وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيرى الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة‏.‏ فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك، ثم خرجت إلى الراهب، وكان قريباً من مكة، فلما دنت منه وعرفها‏.‏ قال‏:‏ مالك يا سيدة نساء قريش‏؟‏ فقالت‏:‏ أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل‏؟‏ فقال‏:‏ سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان‏؟‏ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله، وهو صاحب موسى، وعيسى، فعرفت كرامة الله لمحمد‏.‏ ثم أتت عبداً لعتبة بن ربيعة يقال له‏:‏ عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد‏.‏ قال‏:‏ جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به‏.‏ ثم قامت من عنده، فأتت ورقة بن نوفل، فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك، ثم سألها ما الخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها‏.‏ فقالت له‏:‏ إن ابن عبد الله ذكر لي، وهو صادق، أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة، وأقرأه آيات أرسل بها‏.‏ قال‏:‏ فذعر ورقة لذلك، وقال‏:‏ لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا على نبي، وهو صاحب الأنبياء والرسل، يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله، وأسمع من قوله، وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلهاً مجنوناً‏.‏ فقامت من عنده، وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيراً، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏)‏ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )‏ الآيات ‏[‏القلم‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏ فقال لها‏:‏ كلا والله إنه لجبريل‏.‏ فقالت له‏:‏ أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة‏:‏ هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة جبريل، وما رآه من عظمته، وما أوحاه إليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 22‏)‏ فقال ورقة‏:‏ أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وأنه لأمر نبوة فإن أُدرك زمانك أتبعك، ثم قال‏:‏ أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به‏.‏ قال‏:‏ وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على الملأ من قومه، قال وفتر الوحي‏.‏ فقالوا‏:‏ لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه فأنزل الله ‏(‏ والضحى ‏)‏ و ‏( ‏ألم نشرح ‏)‏ بكمالهما‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بيّنه مما أكرمه الله به من نبوته‏:‏ يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك‏.‏ فقال‏:‏ نعم ‏!‏ فقالت‏:‏ إذا جاءك فأخبرني‏.‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ يا خديجة ‏!‏ هذا جبريل‏.‏ فقالت‏:‏ أتراه الآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ قالت‏:‏ فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت‏:‏ أتراه الآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ قالت‏:‏ فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها فقالت‏:‏ هل تراه الآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ فتحسرت رأسها فشالت خمارها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها فقالت‏:‏ هل تراه الآن‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال‏:‏ قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول‏:‏ أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام‏.‏ قال البيهقي‏:‏ وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطاً لدينها وتصديقاً‏.‏ فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان قد وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر، والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليماً‏.‏ وقد قال مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه‏.‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأعرف حجراً بمكة، كان يسلم عليَّ قبل أن بعث، إني لأعرفه الآن‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /23‏)‏ وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن بمكة لحجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه‏)‏‏)‏‏.‏ وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل، إلا قال السلام عليك يا رسول الله‏.‏ وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه - يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم - الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال‏:‏ السلام عليكم يا رسول الله‏.‏ وأنا أسمعه‏. في غار حراء ( 610 م ) كما في الرحيق المختوم لما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيق والماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه‏.‏ وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ‏.‏‏.‏‏.‏ دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله‏.‏ جبريل ينزل بالوحي ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل‏:‏ ولها تبعث الرسل ـ بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أن حجرًا بمكة كان يسلم عليه، ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن‏.‏ وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، وقد وافق 10 أغسطس سنة610 م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا‏.‏ ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذه الواقعة التي كانت نقطة بداية النبوة، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي الله عنها‏.‏ أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال‏:‏ اقرأ‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال‏:‏ اقرأ، قلت‏:‏ مـا أنـا بقـارئ، قـال‏:‏ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏ اقرأ، فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثـم أرسلـني فـقـال‏:‏ ‏( ‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ) ‏العلق‏:‏1‏:‏ 3‏ ‏)‏، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‏:‏ ‏(‏زَمِّلُونى زملونى‏)‏، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة‏:‏ ‏(‏ما لي‏؟‏‏)‏ فأخبرها الخبر، ‏(‏لقد خشيت على نفسي‏)‏، فقالت خديجة‏:‏ كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة‏:‏ يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة‏:‏ يابن أخي، ماذا ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأي، فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو مخرجيّ هم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحى‏.‏ فَتْرَة الوحى أما مدة فترة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال‏.‏ والصحيح أنها كانت أيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك‏.‏ وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفًا فليس بصحيح‏.‏ وقد ظهر لى شىء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم‏.‏ ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا ـ أي لأول يوم من شهر شوال ـ ويعود إلى البيت‏.‏ وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحى الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر‏.‏ أقول‏:‏ فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحى؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحى كان في ليلة الاثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فترة الوحى كانت لعشرة أيام فقط‏.‏ وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة‏.‏ ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف، وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم‏.‏ وقد بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبًا محزونًا تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه‏:‏ وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوْفي بذِرْوَة جبل لكى يلقى نفسه منه تَبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفي بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك‏.‏ جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية قال ابن حجر‏:‏ وكان ذلك ‏[‏أي انقطاع الوحي أيامًا‏]‏؛ ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه الله بالوحي مرة ثانية‏.‏ قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جاورت بحراء شهرًا فلما قضيت جوارى هبطت ‏[‏فلما استبطنت الوادي‏]‏ فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أرشيئًا، فرفعت رأسى فرأيت شيئًا، ‏[‏فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجُئِثْتُ منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض‏]‏ فأتيت خديجة فقلت‏:‏ ‏[‏زملوني، زملوني‏]‏، دثرونى، وصبوا على ماء باردًا‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏فدثرونى وصبوا على ماء باردًا، فنزلت‏:‏ ‏) يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏ )‏ ‏‏المدثر‏:‏ 1‏:‏ 5‏ ‏‏)‏ وذلك قبل أن تفرض الصلاة، ثم حمى الوحى بعد وتتابع‏.‏ وهذه الآيات هي مبدأ رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحى‏.‏ وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه‏:‏ النوع الأول‏:‏ تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏( ‏قُمْ فَأَنذِرْ‏ )‏ فإن معناه‏:‏ حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلال وعبادة غير الله المتعال، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق و الأفعال‏.‏ النوع الثاني‏:‏ تكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى على ذاته، والالتزام بها في نفسه؛ ليحرز بذلك مرضاة الله، ويصير أسوة حسنة لمن آمن بالله وذلك في بقية الآيات‏.‏ فقوله‏:‏ ‏( ‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏ )‏ معناه‏:‏ خصه بالتعظيم، ولا تشرك به في ذلك أحدًا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏( ‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏ )‏ المقصود الظاهر منه‏:‏ تطهير الثياب والجسد، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجسًا مستقذرًا‏.‏ وإذا كان هذا التطهر مطلوبًا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس الأعمال والأخـلاق أولـى بالطـلب، وقولــه‏:‏ ‏( ‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ )‏ معناه‏:‏ ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه، وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏( ‏وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ‏)‏ أي‏:‏ لا تحسن إحسانًا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل في هذه الدنيا‏.‏ أما الآية الأخيرة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه، فقال‏:‏ ‏( ‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏ )‏، ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوى ـ في صوت الكبير المتعال ـ بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة‏:‏ ‏( ‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ‏ )‏، كأنه قيل‏:‏ إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم‏؟‏ وما لك والراحة‏؟‏ وما لك والفراش الدافئ‏؟‏ والعيش الهادئ‏؟‏ والمتاع المريح‏!‏ قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب، والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد‏.‏ إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء‏.‏ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا؛ لم يسترح ولم يسكن، ولم يعـش لنفسه ولا لأهله‏.‏ قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عامًا؛ لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوى الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب‏.‏‏.‏‏.‏ جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء‏.‏
اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23-06-2015, 06:07 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفتوحات الاسلامية فى رمضان
(فتح السند والهند)

د. خالد فهمي

قراءة التاريخ لا يصح فيها- لا سيما في باب التقييم لأعمال أحد أو لأعمال دولة- أن تكون قاصرة النظر، مجتزأة الصورة.. أقول هذا الكلام لما شاع واشتهر في الكتابة عن دولة بني أمية، والإسهاب في عدّ مثالب رجالها العظام، ومثالب نظامها الحاكم.

كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح كذلك، أنَّ هذه الدولة المغبونة في تقييمها هي أعظم دولة قادت حركة الفتوحات الإسلامية، وانتشلت مساحات شاسعة من الكفر إلى الإسلام.
يقول ابن كثير -في البداية والنهاية (12/460) في أحداث سنة أربع وتسعين-: "وفيها فتح الله على الإسلام فتوحات عظيمة في دولة الوليد بن عبد الملك على يدي أولاده وأقربائه وأمرائه، حتى عاد الجهاد شبيهًا بأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
هذه شهادة واحد من كبار مؤرخي الإسلام، وليس فيها شبهة ممالاة؛ لأنه لم يكتب ما كتب إلا وبينه وبين دولة بني أمية ما يربو على ستمائة سنة!
والنص السابق يهز وينال من الصورة التي طالما عرضت للنيل من أبناء هذه الدولة ورجالها، فلم يكن رجالها غارقين في النعيم كما تصورهم الأعمال الدرامية، بل كانوا يقودون حركة جهادية وصفها المؤرخ الكبير بأنها شبيهة بأيام عمر!
وفي هذه السنة افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند، ومن الأمور التي يجب الوقوف أمامها في أحداث هذا الفتح ما يلي:
أنه لما رأى أهل المدن الهندية تقدم محمد بن القاسم وقدرته على دحر مدن "راور"، "برهمناباذ"، وسقط من ال***ى الآلاف، قابله أهل "ساوندري" طالبين الأمان فأعطاهم إياه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ومثل ذلك حدث مع "بسمد" في صلحه معهم.
وهذا الذي قاله البلاذري في فتوح البلدان يعكس مدى التزام المجاهد المسلم بأوامر الله سبحانه، فلم يكن المجاهدون المسلمون يُحركهم اشتهاء الدم، أو الظفر بالأرض، أو جمع الكنوز والغنائم، لقد خرج المجاهد المسلم يملؤه الشوق الجارف لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
والعجيب أن يشترط محمد بن القاسم في مصالحته لأهالي هذه المدن أن يضيفوا المسلمين، الرجل يطلب ضيافة المسلمين مع أنه صاحب البلد الأعلى، ولو سلب أو نهب ما رده أحد، لكن الجيش المسلم يريد أن يمكث ضيفًا في إقامته، وضيفًا في مطعمه ومشربه، إنه لا يريد أن يُقيم إقامةً أبديةً مستبدًّا طاغيةً يسير فيهم بمنطق الغالب القاهر.
شروط الصلح تُوحي بأن الفتح هو لتوصيل كلمة الله، والمجاهدون بعدما تمت عملية البلاغ لا مجالَ لمكثهم، هذا هو المفهوم من الضيافة؛ ولذلك تقول الأدبيات التي أرَّخت لهذا الفتح إن أهلها انقلبوا مسلمين.
مسألة أخرى جديرةٌ بأن نقف أمامها وهي: أنه لما تقدَّم المسلمون إلى السند لإتمام فتحها وصلوا إلى مدينة الراور فحوصرت، ثم فتحها المسلمون صلحًا على شرطين: هما عدم ***هم، وعدم خراب بدهم (والبد: بيوتهم التي يتعبدون فيها).
هذا الشرطان يقدمان صورة بالغة النصاعة في تأمين معتقدات أصحاب البلاد المفتوحة، لقد كان شغل المسلم الشاغل هو بناء مسجد وتمكينه من إبلاغ دعوة الله، من غير قهرٍ للآخرين أو محو هوياتهم.
إن ترك هذه المعابد التي يقول عنها البلاذري إنها كنائس النصارى واليهود وبيوت النار التي للمجوس، يدل على أن هذه الأمة تجاهد وهي تحترم معتقدات الآخرين، ولو كان معتقدهم التعبد للأصنام!
أمر أخير هو أن جند المسلمين كانوا يتحركون بأخلاق الإسلام من الرحمة والعفة والبذل، ودليل ذلك أن محمد بن القاسم لما مات الوليد بن عبد الملك وتولى سليمان عزل محمد وتولى غيره، فحُمِل القائد الفاتح مقيدًا، فبكاه أهل الهند؛ يقول البلاذري: "فبكى أهل الهند على محمد".
فأي شيء حرَّك عاطفة هؤلاء نحو قائدٍ بلَّغ كلمة الله؟! إننا لم نسمع ولن نسمع عن غازٍ قاهرٍ يُبكيه مَن غزاهم وقهرهم، إنَّ بكاء بلاد الهند والسند (التي فُتحت في رمضان 94هـ/ 713م) على محمد بن القاسم أكبر دليل على رحمة الفاتح المسلم وبذله وكريم خلقه، بل إنَّ أدبيات ذلك الفتح تقرر أنهم صوروه وصنعوا له ما يُشبه التمثال.
هذه بعض عظمة الفتح الإسلامي وجدت طريقها إلى أنفس شعوب الأرض، فعانقت دين الله.


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-06-2015, 01:07 AM
الصورة الرمزية أبو عمار 2010
أبو عمار 2010 أبو عمار 2010 غير متواجد حالياً
عضو ذهبي
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 539
معدل تقييم المستوى: 14
أبو عمار 2010 is on a distinguished road
افتراضي

رائع وبارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 25-06-2015, 06:12 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

احداث رمضانية
( وفاة أبي طالب وأم المؤمنين خديجة)


التاريخ الهجري 10 من النبوة
ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام‏.‏ وفي الصحيح عن المسيب‏:‏ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال‏:‏ ‏(‏أي عم، قل‏:‏ لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله‏)‏ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به‏:‏ على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأستغفرن لك ما لم أنه عنـه‏)‏، فـنزلت‏:‏‏ (‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏ )‏ ‏[‏التوبة‏:‏113‏]‏ ونزلت‏:‏ ‏( ‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقى على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح‏.‏ ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏ وعن أبي سعيد الخدرى أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال‏:‏ ‏(‏لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه‏)‏ وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام ـ على اختلاف القولين ـ توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره‏.‏ إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر،وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آمنت بى حين كفر بى الناس، وصدقتنى حين كذبني الناس، وأشركتنى في مالها حين حرمنى الناس، ورزقنى الله ولدها وحرم ولد غيرها‏)‏ وفي الصحيح عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ يا رسول الله، هـذه خديجة قـد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ‏.‏ تراكم الأحزان وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه‏.‏ فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه، أو يؤووه وينصـروه على قومــه، فلم يـر مـن يؤوى ولم يـر ناصرًا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومـه‏.‏ وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ بَرْك الغِمَاد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدُّغُنَّة في جواره‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها‏:‏ ‏(‏لا تبكى يابنية، فإن الله مانع أباك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ويقول بين ذلك‏:‏ ‏(‏ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب‏)‏‏.‏ ولأجل توالى مثل هذه الآلام في هذا العام سمى بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ‏.‏
اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 29-06-2015, 06:19 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفتوحات الاسلامية فى رمضان
معركة النوبة .. فتح من الفتوحات الرمضانية

مجدي داود


من ضمن المعارك والفتوحات العظيمة التي حفل بها شهر رمضان المبارك معركة فتح النوبة التي حدثت في العام الحادي والثلاثين من الهجرة النبوية المباركة، والتي كان من أهم آثارها معاهدة القبط التي كانت فاتحة خير على المسلمين في البلاد الإفريقية.

لما قام عمرو بن العاص بفتح في مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل عمرو بن العاص حملة عسكرية بقيادة عقبة بن نافع لفتح بلاد النوبة التي تقع في جنوب مصر، لكن المسلمين فوجئوا في هذه المعركة بأن النوبيين يجيدون رمي السهام، فقد أصاب النوبيون من المسلمين عددًا كبيرًا بتلك السهام، وأصيب كثير من المسلمين في حدق عينهم من جرَّاء النبل، فسموا (رماة الحدق).
وكان من نتيجة هذه الحملة أن تم التوافق على هدنة بين المسلمين والنوبيين، واستمر الصلح حتى كان عصر خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وكان قد عزل عمرو بن العاص عن مصر وولّى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر، فما كان من ابن أبي سرح إلا أن خرج في جيش تعداده عشرون ألف مقاتل، وسار إلى دنقلة عاصمة النوبيين وحاصرها وضربها بالمنجنيق حتى استسلموا وطلبوا الصلح.
وتصالح المسلمون والنوبيون في شهر رمضان من العام الحادي والثلاثين بعد الهجرة على بنود من أهمها:
1- حفظ من نزل بلادهم من مسلم أو معاهد حتى يخرج منها.
2- رد من لجأ إليهم من مسلم محارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم.
3- حفظ المسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة وألاّ يمنعوا منه مسلمًا.
4- أن يدفعوا للمسلمين كل عام ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيق بلادهم، وكان القوم مشهورين بكثرة الرقيق عندهم.
5- في مقابل ذلك لهم عند المسلمين أمان فلا يحاربونهم ولا يغزونهم.
وقد قيل إنه في مقابل الرقيق الذي يأخذه المسلمون منهم يعدونهم بدلاً منه قمحًا وعدسًا، هذا كان العهد الذي تم بين المسلمين وأهل النوبة، وقد رفع هذا الصلح إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقره.
وإن هذا لعهد -إن أمعنَّا النظر فيه وتأملناه جيدًا- نرى في بنوده معالم للسياسة الشرعية في الإسلامية، ومعالم واضحة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.
فنرى أن رد النوبيين المسلم المحارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم يعد أمرًا مهمًّا جدًّا، فهو يمنع من تكتل وتجمع الخارجين عن النظام الشرعي للدولة الإسلامية وعلى ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي لا تكون هذه الجهة مركزًا للاعتداء على الدولة الإسلامية من بعض الأفراد الخارجين على ولاة الأمر، وبالتالي حماية الدولة الإسلامية والتأكيد على وحدتها.
ونرى أن حفظهم للمسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة هو الأثر الأهم والنتيجة العظمى لهذا الصلح الطيب؛ فوجود المسجد وعدم التعرض للمسلمين في المدينة يعني انتشار الإسلام بين الناس، ولأن المسجد في الإسلام مكانته عظيمة وهو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول شيء يقوم به المسلمون في أي مكان يدخلونه هو بناء المسجد؛ اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي بنى مسجدًا بالمدينة بمجرد وصوله إليها. ومع اشتراط حفظهم لمن يدخل بلادهم من المسلمين فهذا يعني انتشار الإسلام بسهولة ويسر؛ حيث إن تجار المسلمين والمسافرين الذي لا يتوقفون عن الحركة على مدار العام سيعملون على دعوة الناس إلى الإسلام، في حين أن هؤلاء الدعاة من التجار وغيرهم يكونون في مأمن، طالما كانوا في أرض النوبة فلا يتعرض لهم أحد.
وهنا شبهة يرددها الصليبيون الحاقدون على الإسلام وأهله، يجب أن نفندها ونبيِّن كذبهم وافتراءهم فيها، فهم يدعون أن هذه الاتفاقية كانت تجبر أهل النوبة -وهم نصارى على حد زعمهم- على بيع أولادهم للمسلمين كي يتقوا شرهم، فيحاولون إيهام الناس أن ذلك العدد من الرقيق الذي يجب على النوبيين إرساله للمسلمين سنويًّا، كانوا أبناء النصارى، وهذا كذبٌ وافتراء؛ فالاتفاقية تنص على تسليم ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيقهم، ولا تنص على ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط فتيانهم أو شبابهم. والمعنى واضح والفرق شاسع بين اللفظين، فشتان شتان بين الرقيق والفتى أو الشاب.
لقد كان لهذا الصلح أثر عظيم في انتشار الإسلام في بلاد السودان وجنوبها، لقد استغل المسلمون الأوائل هذه المعاهدة في نشر الإسلام في تلك البلاد، وكان المسجد الذي بناه المسلمون في فناء دنقلة مركزًا لنشر الإسلام في بلاد النوبة وجنوبها، وإن هذا الصلح ليؤكد كذب الذين يدعون بأن انتشر بحد السيف! فليخبرونا إذن كيف أسلم أهل النوبة والسودان وتلك البلاد النائية في إفريقيا التي لم تصلها جيوش المسلمين في أي عصر من العصور؟!
إن هذا الصلح ليؤكد براعة وذكاء وفهم المسلمين الأوائل للواقع الذي يعيشونه وكيفية التعامل مع هذا الواقع بشكلٍ يخدم مصالح الأمة الإسلامية ويعمل على نشر الدين الإسلامي ولا يتعارض مع أحكام شريعة رب السماء جل في علاه، ولا سُنَّة نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه هي السياسة التي يجب أن نتعامل بها ويجب أن نتعلمها؛ فلن يعود للإسلام عزه ومجده ولن تعود للأمة كلها القيادة والريادة في هذا العالم إلا باتباع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنظر في أفعال سلفنا الصالح الصحابة والتابعين.
المراجع:
- من معارك المسلمين في رمضان للعبيدي.
- الكامل في التاريخ لابن الأثير.
- فتوح البلدان للبلاذري.


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 02-07-2015, 12:50 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفتوحات الاسلامية فى رمضان
فتح مكة.. لحظة فارقة في التاريخ

د. راغب السرجاني




يعد فتح مكة لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين بل في تاريخ الأرض والعالم، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفًا انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا، غير أن ما قبْل فتح مكة شيء وما بعده شيء آخر، حتى إن الرسول كان يقول: "لا هجرة بعد الفتح". ويقول رب العالمين: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

فتح مكة وسنن التغيير
وهذا الفتح تميز بسنن التغيير والنصر والتمكين في الأرض، ونستخلصها في التالي:
السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده
منذ واحد وعشرين عامًا من أصل ثلاثة وعشرين هي عمر البعثة النبوية واللات والعزى ومناة وهبل تُعبد من دون الله داخل مكة المكرمة!
والبعض تمنى أن تفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسول الدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين وهو ممكَّن في الأرض؛ لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسُّنَّة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].. والانتظار الطويل حتى يعلِّمنا جميعًا أنه I لا يعجل بعجلة عباده.
السنة الثانية: التغيير والنصر والتمكين يأتي من حيث لا نحتسب
أي أن المسلمين لو أرادوا أن يفتحوا مكة فلا شكَّ أنهم سيضعون أكثر من احتمال أو تصور لهذا الفتح، ولو أنهم وضعوا ألفًا من هذه الاحتمالات لجاء التغيير من طريق آخر.. وما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين.
وقد يتساءل المرء: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصة البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضمَّ إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول ، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، فكانت القصة بين المسلمين وقريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر دخلٌ فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي أدى إلى الفتح كما سنرى.
بنو بكر وقريش وخيانة العهد
بتحليل منطقي فإنه إذا حدثت هذه المخالفة وأغارت بنو بكر على خزاعة قبل الحديبية، فما كان يحدث أيُّ نفع للمسلمين، إذ الحالة أن قبيلة مشركة اعتدت على قبيلة أخرى مشركة.
وقد تكون هي نفس النتيجة أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة؛ فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.. وما حدث هو أن قريش أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهوُّر عجيب.. وهذا هو تدبير رب العالمين {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].
هجمت بنو بكر على خزاعة تلك التي لم تكن مستعدة للقتال، خاصة أن هناك صلح الحديبية، وفيه هدنة عشر سنوات، و***تْ من خزاعة الكثير من الرجال.. لم تجد خزاعة إلا أن تفرَّ إلى أقرب مكان آمن وهو الحرم المكي ومساكنها قريبة جدًّا منه، فخرجت رجالاً ونساءً وصبيانًا إلى مكة المكرمة، ودخلت بالفعل داخل الحرم، ومن ورائها بنو بكر تطاردها بالسلاح.. ووقع القتال داخل الحرم، أو قُلْ إنه داخل قريش، التي كثيرًا ما كانت تتشدق بأنها حامية الحُجَّاج والمعتمرين وحامية المنطقة بكاملها، وأنها التي توفِّر الأمان فيها.
وقامت قريش في تهور عجيب وأعانت بني بكر وأمدَّتهم بالسلاح لحرب خزاعة، وهذا غير مبرَّر بالمرة لقريش، وليس هناك أي علاقة للمسلمين بالقصة؛ فهو تصرف غير مفهوم لكنه يضع أعيننا على شيء في غاية الأهمية، وهو أن الخيانة أمر متوقع من المشركين، قال تعالى في كتابه الكريم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].
والعجب أن هذه الخيانة وقعت منهم والرسول ما زال على وفائه لهم بالعهد الذي بينه وبينهم، حتى إنه ردَّ من جاء من المدينة المنورة مؤمنًا من مكة إلى قريش وفاءً ببنود المعاهدة، كما أعاد أبا بصير إلى مكة رغم خطورة هذه الإعادة على إيمان أبي بصير، وهو الأمر الذي لم تفعله قريش.. والمشكلة الكبيرة الأخرى هي أن بني بكر كانت تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر وتقبله، بل يقبله الجميع؛ فالقتال داخل مكة البلد الحرام، في داخل البيت الحرام، وهو أمر خطير؛ إذ الجميع كان يؤمِّن كل زائري هذه المنطقة.. ودخلت بنو بكر مكة المكرمة لت*** خزاعة في داخل الحرم، الأمر الذي أدهش جيش بني بكر نفسه من استمرار ال*** في داخل الحرم، حتى نادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر، نادوا عليه وقالوا: يا نوفل، إلهك إلهك.. يعنون قوانين (اللات والعزى وهبل وغيرها) لم تشرع القتال داخل البيت الحرام.. هنا ردَّ عليهم قائدهم هذا بكلمة فاجرة، قال: لا إله اليوم، لا إله اليوم! ثم قال: يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟!
فشجعهم على استمرار عملية ال***؛ لتحدث الجريمة الكبرى، وقريش لا تشاهد هذا الأمر فقط، بل تساعد عليه، فكان هذا خرقًا واضحًا للبند الثالث من بنود صلح الحديبية.
خزاعة تستنجد بالرسول
أسرعت خزاعة إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول ، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، وكان رد فعل الرسول عندما سمع منه ما حدث قوله: "نصرت يا عمرو بن سالم".
ولم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بغض النظر عن ملة قبيلة خزاعة مسلمة أو مشركة؛ فهناك حلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أي اعتداء.
السنة الثالثة: النصر يأتي من حيث يكره المسلمون

أمر غريب جدًّا لكنه متكرر إلى الدرجة التي تجعله سُنَّة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، إنما يأتي من حيث يكره المسلمون.. كره المسلمون لقاء المشركين في بدر فجعل الله I في باطنه النصر، يقول تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]. وكره المسلمون صلح الحديبية وقالوا: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! وكان في باطنه الخير كله الخير.

تُرى لماذا هذه السنة؟ ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب؟ أو بالطريقة التي نريد؟ أو بالطريقة التي نخطِّط لها؟ هذا الكلام يتكرر كثيرًا في مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألا نُفتن بنصرنا، ونعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا.. يجب ألا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ وليعترف الجميع أن الناصر هو الله، لذلك يقول الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1].. النصرُ نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين.
كل الظروف مهيأة لفتح مكة
عدة عوامل ساعدت المسلمين في القيام بهذا الفتح العظيم لمكة المكرمة؛ وهي:
1- الوضع السياسي والعسكري للمسلمين قبل فتح مكة
كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين قبل فتح مكة قويًّا فعلاً، فأعداد المسلمين تتزايد والجيش الإسلامي مدرب تدريبًا جيدًا، وليس تدريبًا في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل مع الرومان في مؤتة، وكانت معنويات الجيش الإسلامي في السماء كما رأينا، فقد رُفعت معنويات الجيش الإسلامي، وارتفعت سمعة المسلمين على مستوى الجزيرة العربية، بل على مستوى العالم كله.
2- الوضع العسكري والسياسي لقريش قبل فتح مكة
على الجانب الآخر كان الوضع العسكري لقريش ضعيفًا، ويزداد ضعفًا مع مرور الوقت، والرسول كان يرى هذا من عامين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: "إن قريشًا قد وهنتهم الحرب وأضرت بهم". وبعد رجوع الأحزاب إلى قبائلهم قال الرسول : "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم"؛ لأن الرسول يرى الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح..
والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في مصلحة قريش؛ إذ رأينا المسلمين يتزايدون، وكل رجل أو امرأة يتحول من الكفر إلى الإيمان هو إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت نقص في الدولة الكافرة.. فهذا خالد بن الوليد t الذي كان سببًا في انتصار غزوة أحد، انضمَّ إلى المعسكر الإسلامي، وكان مكسبًا كبيرًا جدًّا، وإضافة هائلة للدولة الإسلامية.. وعمرو بن العاص وهو من أعظم دهاة العرب، فقدت قريش قوته وأضيفت قوته للمسلمين، وكذلك عثمان بن طلحة ليس من الفرسان الأشداء فقط، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة، وإضافته للدولة الإسلامية إضافة في غاية القوة.
3- واجب المسلمين الأخلاقي والديني والسياسي في القيام فتح مكة
كان هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين في أن يقوموا بفتح مكة، هناك واجب أخلاقي برفع الظلم عن المظلومين؛ فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تترك هكذا، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقيًّا فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني؛ أي فُرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة، لأنه التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية.
وعلى الفور اختارت قريش أبا سفيان ليذهب إلى المدينة المنورة ويطلب العفو من النبي ، وأبو سفيان هو سيد مكة وزعيمها، وهو ليس مجرد سفير ترسله مكة، ولكنه زعيم مكة، وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل وحروب متتالية مع المسلمين. وهنا يتنازل أبو سفيان عن كبريائه، وعن كرامته، ويذهب إلى المدينة المنورة، ويطلب من الرسول أن يطيل الهدنة مع قريش.
خروج الجيش الإسلامي وظهور بشريات النصر
ولكن مجيء أبي سفيان لم يغير من الأمر شيئًا.. خرج المسلمون بالفعل من المدينة المنورة، وكان هذا الخروج في العاشر من رمضان سنة 8هـ، واتجهوا مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت بشريات النصر تهبُّ على المسلمين؛ إذ لقي المسلمون العباس بن عبد المطلب عم الرسول ومن أحب الناس إلى قلبه مهاجرًا قبل أن يصل الرسول إلى مكة المكرمة؛ وذلك أسعد الرسول، وسُرَّ سرورًا عظيمًا برؤية العباس، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسوف يكون له دور إيجابي في فتح مكة المكرمة.
وأكمل الرسول الطريق فوجد المسلمون أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية، أحدهما ابن عم رسول الله، والثاني ابن عمة الرسول، وكانا من أشد الناس على رسول الله، وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي رسول الله .. ومن شدة إيذائهما للرسول رفض في البداية أن يقابلهما، ولولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وكانت مصاحبة لرسول الله في الفتح- قد توسطت لهما، فقابلهما وأعلنا التوبة الكاملة بين يديه.. وهذه كانت بشريات لفتح مكة.
وصل الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- إلى مر الظهران، ومر الظهران تبعد عن مكة المكرمة حوالي اثنين وعشرين كيلو مترًا، وهناك التقت القبائل المختلفة من قبائل فزارة، ومن قبائل بني سليم، ومن غطفان، ومن مزينة، ومن جهينة، ومن كل مكان عشرة آلاف جندي.. فالوضع عند مر الظهران هو نفس الوضع في غزوة الأحزاب، ولكن بصورة معكوسة، وتلك الأيام نداولها بين الناس؛ فمنذ ثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو نفس العدد، ولكن شتَّان بين الفريقين.
دخول مكة وعفو الرسول
ثم دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا عند منطقة في جنوب شرق مكة اسمها منطقة الخندمة، وتزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش، وقاتلوا في هذه المنطقة خالد بن الوليد t بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد t صديقًا قديمًا وحميمًا لعكرمة بن أبي جهل ولصفوان، إلا أنه كان متجردًا تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديدًا رائعًا تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى سارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفارٍّ، وهرب صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة المكرمة، وخمدت المقاومة تمامًا، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر -عليه الصلاة والسلام- يدخلها آمنًا مطمئنًا عزيزًا، ويضرب الرسول للعالم مثلاً إسلاميًّا في الصفح يبقى إلى يوم القيامة، قال : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".
ومن عبقرية الرسول إعلاء شأن أبي سفيان عند فتح مكة؛ إذ خص الرسول -عليه الصلاة والسلام- أبا سفيان بخصيصة تجعله متميزًا على أقرانه من أهل مكة، وأعطاه رسول الله شيئًا بلا خسارة، ويكسب قلب أبي سفيان بإعطائه شيئًا يفخر به، وهو شيء ينفع ولا يضر.
ولعل هذه هي لحظات السيرة النبوية التي مسحت آثار رحلة طويلة من المعاناة والألم، وهي اللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة.. وسار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة؛ ليبدأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة، وربانية التشريع، وليرسِّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57].

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 03-07-2015, 12:00 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

احداث رمضانية
(غزوة بدر الكبرى)






رمضانُ شهر الانتصارات

انتصارات الأمة الإسلامية في رمضان من غزوة بدر الكبرى إلى حرب العاشر من رمضان:
معركة بدر الكبرى (2هـ ـ 623)
وقعت هذه المعركة الحاسمة في رمضان من العام الثاني للهجرة، عندما انتصر المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين في غزوة بدر الكبرى، التي تُعتبر بمثابة الفيصل الحاسم بين انحسار الكفر البوَّاح، وبداية غلبة الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وقد تجسَّدت أبعاد الانتصار الحربي لأمتنا في هذه الغزوة عبر انتصار الإيمان الذي كان في طور التكوين، وهذا راجع إلى تلك القوة الهائلة التي غرسها القرآن في نفوس أتباعه، ولذا فإن هذا الانتصار الحاسم في غزوة بدر، يُعتبر سنة من سنن الله في كونه الرحيب، حيث إن النور يطرد الظلمة والهُدى يطرد الضلال، فلقد تدخَّل قدر الله تبارك وتعالى في رسم مسار المعركة، فقاد الجماعة المسلمة الوليدة في عالم الواقع الحضاري إلى النصر الظافر، من حيث أراد المسلمون لأنفسهم من معركة صغيرة في سبيل الغلبة المادية على متاع الأرض، إلى المعركة الحقيقية الكبرى العميقة في كيان الوجود، إنها معركة العقيدة ومعركة الفرقان بين الحق والباطل إلى آخر الزمان، فانتصروا من حيث لا يشعرون على معنى الشرك كله ومعنى الضلال كله، وتقررت حقيقة العقيدة الإسلامية السمحة في هذه الأرض ناصعة· وارتفع الإنسان المسلم على نفسه، على عالمه المباشر الذي يعيشه بحواسه إلى العالم الأكبر الذي يعيشه بروحه الإيمانية الوثَّابة (3) · وفي هذا يقول الله جل ثناؤه: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقَّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحقَّ الحقَّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الأنفال: 7 ـ 8·
ومعنى ذلك أن معركة بدر الكبرى التي نتج منها تقرير مصير الدعوة الإسلامية، وبالتالي أصبح لها كيانها الإيماني والحضاري الملموس في دنيا الواقع المحسوس قد وقعت في رمضان، وما كان ذلك إلا إفرازاً شهياً لهذا الانتصار الحاسم للمسلمين على الكفار في أول لقاء حربي بينهم على أرض المعركة، والمواجهة وجهاً لوجه·
غزوة الخندق (5هـ ـ 626م)
في الأيام التالية لرمضان مباشرة، من العام الخامس للهجرة، أي في شوال الشهر الذي يعقب رمضان مباشرة، أي أنه يحمل في إهابة البصمات الإيمانية الحية والمناخ العقدي الصافي لرمضان، وقعت غزوة الخندق التي انتصر فيها المؤمنون، على معاقل الشرك العربي واليهود >الأعداء التاريخيين للأمة<· وذلك عندما تجمعوا في تشكيل حربي أطلق عليه مصطلح >الأحزاب< وفقاً للوصف القرآني· لذا لم يخطئ أحد الباحثين، عندما ذهب إلى أن هذه الغزوة، تعتبر بمثابة الانبثاق الحقيقي للحضارة الإسلامية ـ كحاضرة كونية متفردّة في سماتها الربانية والبشرية ـ من رحم التاريخ، وهذا يعني أن الالتزام بمعطياتها يمثّل ضرورة إيمانية· ولعل أهم ملمح بارز يُجسّد أبعاد الانتصار الحربي في هذه المعركة، هو أن مستقبل الأمة الإسلامية جغرافياً وتاريخياً، بل وحتى حضارياً، قد تقرر في غزوة الخندق، وذلك من خلال استشراف الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب بصره ـ على ضوء هدي السماء ـ لما ينتظر هذه الأمة فيما يستقبلها من أيام، وذلك عندما لاحت له معالم هذا المستقبل المشرق، أثناء تفتيت الصخرة الصلدة التي اعترضت الصحابي الجليل سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ صاحب فكرة الخندق التي كانت جديدة على العقل العربي ـ بيده الشريفة، فبدت أمامه كل الأراضي التي فتحها المسلمون بعد انتقاله للرفيق الأعلى كالعراق والشام ومصر··· إلى آخره، بل إنه صلى الله عليه وسلم قد بشَّر أمته بفتح القسطنطينية وفتح روما ـ إن شاء الله ـ ومن هنا نرى أن هذا الانتصار الإيماني والحربي لأمتنا الإسلامية على أعدائها، قد وقع في تلك الأيام المباركة التي أسهمت إشعاعات رمضان الروحية في تكوينها وإضفاء طابع من الدينامية المتفجرة والحيوية الحضارية عليها·
فتح مكة (8هـ ـ 629هـ)
أما في رمضان من العام الثامن للهجرة، فقد وقعت غزوة فتح مكة، التي استطاع فيها المسلمون تحت قيادة النبوّة الخالدة، أن يكتبوا ـ لأول وآخر مرة في التاريخ ـ شهادة وفاة للوثنية العربية، وعبادة الأصنام والأوثان، التي عششت في أدمغة العرب منذ القدم، وقد حدث هذا بالفعل عندما حطّم الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة الأصنام >الثلاثمائة والستين< التي كانت موجودة حول الكعبة المشرَّفة، ففي رمضان المعظم إذاً استطاعت الحضارة الإسلامية تحت قيادة رائدها الأول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن تنتصر انتصارها الإيماني والحربي هذا ـ دون إراقة الدماء ـ على أكبر معاقل الشرك في العالم القديم· وإذا كان فتح مكة هو آخر ملحمة بطولية تمَّت في عصر الرسالة إبان رمضان، فإن دراسة وتحليل الملامح الحضارية والحربية التي نتجت عن تلك المعارك الحاسمة التي انتصرت فيها حضارتنا، وبالتالي أسهمت إسهاماً حيوياً في تكوين القسمات البارزة للأصالة الحضارية الإسلامية، تشي بأن جُلَّها إن لم يكن كلها، قد وقعت في رمضان، وفي هذا دلالة على أن رمضان كان بالفعل شهر الانتصارات الإيمانية والحربية للأمة الإسلامية·
معركة القادسية (16هـ ـ 637م)
لعل أبرز المعارك التي انتصرت فيها أمتنا إبان العصر الراشدي، هي معركة القادسية، التي وقعت في رمضان سنة (16هـ) بين المسلمين والفرس· وكان قائد المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وبلغ جيش المسلمين فيها نحو عشرة آلاف، وكان قائد الفرس رستم ذا الحاجب، ويتكون جيشه من مئة وعشرين ألف مقاتل، وقد مات المثنى بن حارثة قبل المعركة، ومن القادة الذين كانوا يساعدون سعد بن أبي وقاص، المغيرة بن شعبة، وقيس بن هبيرة، وطليحة بن خويلد، الذي كان قد ادَّعى النبوة ثم تاب وأناب، وقبيل المعركة تم اتصال بين المسلمين والفرس بغية الوصول إلى اتفاق بمنع الحرب، ولكن هذا الاتصال لم يسفر عن نتيجة، فقامت المعركة، وهي من المعاركة الهامة في تاريخ الحروب بين المسلمين والفرس فرَّ فيها رستم وعشرات الآلاف من جنوده، وغنم فيها المسلمون مغانم كثيرة، وقد استمرت المعركة عدة أيام· (4)
إن معركة القادسية كانت بمثابة المعركة الحربية الحاسمة، التي ساعدت الأمة الإسلامية الفتية ـ آنذاك ـ على أن تنعطف انعطافة جديدة في مسيرتها التاريخية، وذلك كانعكاس طبيعي لانتصارها الظافر هذا على الحضارة الفارسية، التي كانت تهيمن هيمنة كاملة على الجناح الشرقي للوجود البشري آنذاك، وبالتالي تسنَّى لأمتنا في هذه الموقعة الحاسمة تغيير ملامح التاريخ البشري، وذلك بعد أن استطاع المسلمون في هذه المعركة أن ينهوا الوجود الفارسي وسيطرته على تلك المناطق الهامة من العالم حينئذ، وفي موقعة القادسية تبلوَر أيضاً مدى الإعجاز الفريد للجانب العقدي الذي فجَّر ينابيعه الثرَّة الفيّاضة الإيمان الصادق في نفسية أمتنا الإسلامية، وذلك عبر الحوار الذي دار بين ابن من أبناء الحضارة البازغة >الإسلامية<، وممثل لتلك الحضارة الغاربة >الفارسية<، وهذان المتحاوران هما: الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه، ورستم قائد الفرس، وذلك عندما دخل ربعي بن عامر على رستم، ودار بينهما الحوار التالي:
>قال رستم لربعي بن عامر: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟! قال: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة<·
ولقد تبلورت في سياق هذا الحوار الأهداف السامية التي حملها روَّاد هذه الحضارة، بعد أن صيغت الصياغة الإيمانية الكاملة وانصهرت في البوتقة الإيمانية لرمضان· وبناء على هذا، يحق لنا أن نقول إن رمضان المبارك هو شهر الانتصارات الإيمانية والحربية لحضارتنا الإسلامية·

فتح الأندلس (92هـ ـ 711)
استكملت الحضارة الإسلامية رسم ملامح خريطتها الجغرافية الكبرى، بعدما تمَّ فتح الأندلس في (رمضان 92هـ ـ يوليو 711م) في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، إذ استطاع قائده الفذّ طارق بن زياد فتح تلك البلاد ـ التي كانت تسمى بشبه الجزيرة الإيبيرية ـ وضمها إلى كيان الدولة الإسلامية، وتكمن في الفتح الإسلامي للأندلس معجزة الإسلام، فالإسلام كدين وحضارة يحقق به الإنسان المسلم ـ وبقدرة الله ـ المعجزات· وفي الواقع أن هذا التقدم في فتح الأندلس، لا يعني بأي حال من الأحوال أنه كان فتحاً سهلاً، بل لقد تمَّ ـ بهذا الشكل ـ بذلك النوع المتميز من الأجناد، أجناد العقيدة الإسلامية ـ في أجواء رمضان العابقة بشذى الإيمان والمضمَّخة بندى الإسلام· فبدا سهلاً، إلى حد أن وصفه نفر من الإسبان بأنه كان نزهة عسكرية، كله أو بعض مراحله Militar Mero Paseo كان هو كذلك أمام هذا النوع من الجند أصحاب العقيدة الإسلامية، فهم قد استهانوا بالصعاب وبذلوا النفوس رخيصة من أجل رفع شأن الإسلام وحضارته الحقة، ومن هنا نرى أن الفتح نفسه لم يكن يحتوي على نزهة أو ما يماثل شكلها، وإذا كان هذا الوصف مقبولاً، فأمام هذا النوع من الجند، كانت التضحيات كثيرة والجهد كبير، والدروب شاقة، والمناخ شديد، والجو غريب، والأرض صخرية عنيفة، وكان مستوى العقيدة أعلى من ذلك وأكبر، فانساب الفاتحون في شوطهم بهذه السرعة، فبدت للآخرين كأنها نزهة، لكنها روحية من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، وهي مجلبة لراحة المؤمن وفرحته بنصر الله إن عاش وبجنته إن استشهد (5) · وفي هذا يقول عز من قائل: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) التوبة:52· ولقد نتج من هذا الفتح المبين، أن انطلقت أمتنا الإسلامية انطلاقتها الحضارية في رمضان، ووصل إشعاعها إلى أوروبا المظلمة آنذاك، فبدَّد حنادس ليلها الدامس الظلام· وبعد فتح الأندلس واصل المد الحضاري الإسلامي امتداده فامتدت حدود الدولة الإسلامية من الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً، ففي رمضان إذاً استطاعت الأمة الإسلامية أن تثبت هذه الوثبة الحضارية، وبالتالي انتقلت وثباتها التالية إلى مناطق شتى من العالم، وصل إليها الإسلام بفضل الفتوحات الإسلامية التي تمت إبان العصر الأموي·
معركة عين جالوت (658هـ ـ 1260م)
في بداية العصر المملوكي >البحري< الذي يُعدُّ من عصور التألق الحضاري في عالم الإسلام، استطاعت الأمة الإسلامية في معركة عين جالوت (15 رمضان 658هـ ـ 3 سبتمبر 1260م) أن تتصدَّى للخطر المغولي الداهم، الذي هدد الوجود الحضاري الإسلامي، فشلَّت ديناميكية هذا المد الهمجي، وذلك بعدما لمَّت شتاتها المبعثر وأعادت نظم حبَّات عقدها ـ في بلد واحد هو مصر الإسلامية ـ قلب الإسلام النابض ـ ومعها الشام العمق التاريخي لمصر، فانتصرت على المغول الذين تراجع مشروعهم التدميري أمام الجيش الإسلامي بقيادة سيف الدين قطز الذي رفع شعار >وا إسلاماه<· فما أحوَجنا اليوم إلى رفع هذا الشعار، وذلك لكي نعيد فلسطين السليبة، والأقصى الأسير إلى حوزة المسلمين من جديد، إن ذلك أمل وما هذا على الله بعزيز·
ولهذا السبب، تُعتبر موقعة عين جالوت بحق إحدى الوقائع الهامة ليس في تاريخ مصر والشام فحسب، ولا في تاريخ الأمة الإسلامية، بل في تاريخ العالم بأسره· ونحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن هذه الموقعة تفوق في أهميتها كل الوقائع الحربية الحاسمة في العصور الحديثة، لا لأنها لم تكن حرباً ضد شعوب راقية متحضّرة، تحكمها قواعد وقوانين متعارف عليها، تخفِّف بعض الشيء من ويلات الإنسانية، وإنما كانت إيقافاً لحرب همجية، شنَّتها قبائل بربرية متوحشة سفَّاكة للدماء، مخرِّبة للعمران البشري ضد سكان المدن في كل مكان، فانتصار هذه القبائل ـ أي قبائل المغول ـ كان معناه القضاء المبرم على حضارة العالم الشرقية والغربية، ومن هذه الزاوية تكون موقعة عين جالوت قد تركت في تاريخ البشرية قاطبة أثراً أشد وأقوى مما تركته كل هذه المعارك· (6)
هكذا استطاعت أمتنا أن تحافظ على التراث الحضاري الإنساني من الانهيار والضياع في رمضان، عندما تصدَّت بعزيمتها الفولاذية التي كوَّنها لديها الإشعاع الإيماني للصيام، وأثره الفعَّال في تربية النفوس وصياغة الرجال الأقوياء، كأحسن ما تكون الصياغة على ضوء نسق إيماني معجز، ما كان له أن يكون حقيقة ملموسة لولا الصيام ولمساته الإيمانية الحيّة·
معركة العاشر من رمضان (1393هـ ـ 1973م)
في عصرنا الحديث، وحيث واقعنا الراهن وحالة الوهن >عصر القصعة< الذي نعيش فيه، وعلى الرغم من تحوّل شهر رمضان المبارك من شهر القرآن والاعتكاف والجهاد في سبيل الله، إلى شهر ملذَّات وإشباع نهم للجانب المادي من حياة المسلم المعاصر، يُضاف إلى ذلك الغثاء الإعلامي الذي لا يُسْمِنْ ولا يُغني من جوع، مما جعل الجانب الروحي من حياة هذا الإنسان في خواء، إلا أن الأمة ـ ورغم كل هذا ـ عندما عادت وبصدق إلى إحياء وميض من روح رمضان، استطاعت أن تحقق شيئاً من الانتصار الإيماني والحربي على عدوِّها التاريخي >اليهود<، في تلك المعركة الحاسمة التي خاضت غمارها ضد الكيان الصهيوني المزعوم، في العاشر من رمضان 1393هـ ـ السادس من أكتوبر 1973م، إنها روح العقيدة القادرة على تحقيق النصر المظفر في كل زمان ومكان بإذن الله·
الخلاصة
من كل ما سبق، وبالرغم من أنه عرض مدخلي ومؤشرات حضارية بسيطة، حاولنا من خلالها تجسيد أبعاد الانتصار الإيماني والحربي لحضارتنا الإسلامية والذي أحرزته في رمضان، على مدار التاريخ· لذا يمكننا القول: إن رمضان كان ولا يزال ـ وينبغي أن يكون فيما يستقبل أمتنا وحضارتها المعاصرة من أيام قادمة من ضمير الغيب ـ بمثابة تلك البوتقة الإيمانية التي أُحسِنَ صياغتها ـ وهذه الصياغة هي صياغة إلهية ـ ولله المثل الأعلى ـ وذلك من أجل استغلالها كأحسن ما يكون الاستغلال حتى يتسنَّى لهذه الأمة إعادة بناء المسلم المعاصر، على ضوء المعطيات الإيمانية والاستيعاب الموضوعي للمعطيات الحضارية للعصر· وكما يؤكد الواقع التاريخي لهذه الأمة، بأن ارتقاءها إلى مستوى استيعاب تلك المعطيات الإيمانية ـ أي الملامح التكوينية لرمضان ـ قد ساعدها على الانتصار الإيماني والحربي، وفي المقابل انهزمت الأمة هزيمة نكراء في أكثر من ميدان من ميادين المواجهة مع أعدائها، عندما تنكَّرت لروح رمضان· ويا ليت الأمة الإسلامية تفيق من سُباتها الحضاري العميق، كلما أهلَّ عليها هلال رمضان الميمون، وتعود إلى رشدها الإيماني، وتعيد إلى هذا الشهر المبارك ألق روحه الإيمانية، وطابعه الجهادي، وذلك حتى يتسنَّى للمسلم المعاصر، أن ينتصر على أعدائه، وخصوصاً الصهاينة ـ وينهض نهوضه الحضاري المنشود عبر إقلاعه من جديد، وعندئذ سيصدق علينا القول المأثور: >لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها<· هذا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل·



خمسة عشر عاماً من الإعداد لغزوة بدرٍ الكبرى

شهر رمضان شهر النصر , وشهر الصبر , حقق المسلمون فيه النصر المؤزر على أعدائهم وقهروهم في معارك عديدة في بدر وفتح مكة وحطين وعين جالوت وغيرها.
لكن لغزوة بدر خصوصية مطلقة حيث كانت أول تجربة نصر للمسلمين وأول طعم للغنائم للمسلمين سماها الله سبحانه يوم الفرقان لأنه فرق بين الحق والباطل وبانت لأول مرة في تاريخ الإسلام بوارق الحق بصورتها الجديدة.
ومن المعلوم أن أول تجربة ناجحة للإنسان هي أهم تجاربه وهي التي ترسم له طريقه وتحدد له ملامح حياته فهو دائما يفخر بها ويحاول أن يتمثلها ويقلدها.
ومن المعلوم أن أول تجربة ناجحة في حياة الأمة هي أهم تجاربها وهي التي ترسم لها طريقها وتحدد لها معالمها وهي دائما تذكرها بفخر واعتزاز.
وغزوة بدر أول تجربة ناجحة في حياة هذه الأمة ما زلنا نذكرها بفخر واعتزاز بل إن الله جعل حيثياتها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
وغزوة بدر هذه وكونها أول تجربة ناجحة لا بد من دراستها من كل أطرافها وكل أبعادها وكل مفاصلها حتى يتسنى للمسلمين تكرار هذه التجربة مرة أخرى.
في الحقيقة كلنا يعرف قصة غزوة بدر من خروج المسلمين لاسترداد بعض من حقوقهم من قافلة تجارة لقريش إلى خروج قريش لتحمي تجارتها إلى التقاء المسلمين والمشركين في عين تسمى بدرا إلى أن نصر الله المسلمين وأخذوا الغنائم وقيدوا الأسرى.
لكن الذي يجب أن نقف عنده نقاط عدة:
من المعروف أن الغزوة وقعت في السنة الثانية للهجرة أي بعد خمسة عشر عاما من ابتعاث النبي عليه الصلاة والسلام.
فلا بد أن نعرف خلال هذه الفترة التي سبقت هذا النصر بماذا قضاها النبي عليه السلام حتى قطف المسلمون النصر وبماذا قضاها أصحابه الكرام , فالفترة التحضيرية مهمة جدا لأن النصر يحتاج إلى تحضير جيد واستعداد متميز , ويحتاج إلى رجال تستحق النصر وتحميه
فلو رحنا نستعرض أهم الأعمال التي قام بها النبي عليه السلام خلال هذه الأعوام التي سبقت هذه الغزوة لوجدنا متمثلة في نقاط أساسية:
أ - تصحيح عقيدة الناس: فالنبي عليه السلام لبث في مكة ثلاثة عشر عاما كان يركز فيها على تصحيح عقيدة الناس وتوجيههم إلى عبادة الله الواحد الأحد , وأنه هو القادر وهو القاهر وهو المقصود وهو الغني , لا واسطة بينه وبين عباده , يبعث الخلائق يوم القيامة فيدخل من أطاعه الجنة ومن أشرك به النار ومن عصاه هو في مشيئته إن شاء غفر له فيدخله الجنة وإن شاء أدخله النار. ولبث على ذلك الفترة المكية كاملة وكانت الآيات القرآنية تنزل على قلبه المبارك مؤيدة لموضوع تصحيح العقيدة فنزلت " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " ونزلت سورة المدثر وسور اقرأ و غيرها من السور التي تركز على وحدانية الله الواحد الأحد وتتكلم عن صفاء العقيدة ونقائها.
وكان لذلك الأثر الواضح في حياة الصحابة فانتقلوا من ذل الوثنية إلى عز الوحدانية ,ومن تعدد الآلهة إلى وحدانية الإله الواحد , فارتقوا وسموا وحلقوا وجهزوا أنفسهم لتلقي أوامر الله سبحانه.
ب - إحياء دور المسجد: حيث أن المسجد هو القلب النابض للأمة وعصب حياتها ,يدخله الإنسان وفي قلبه خشية لله , ويتعلم فيه المتعلم وعنده رقابة لله , يجمع الفقير والغني والرئيس والمرؤوس , والحر والعبد , فيربط القلوب ببعضها ,وتستوي الصفوف فيه فتتآلف القلوب.
فكان من أول أعمال النبي عليه السلام بناء هذا الصرح الإسلامي العظيم على بساطة بنائه وقلة امكاناته ولكنه كان العمود الفقري لأمة الإسلام فهو مكان العبادة والعلم والقيادة والتوجيه , تسمو فيه الروح , ويتأدب فيه الجسد , وتشحذ فيه الهمة, فينطلق الفكر محلقا يبحث عن حلول لهذه الأمة.
جـ - تجسيد الأخوة في الله تطبيقا على أرض الواقع: حيث آخى الإسلام بين المهاجرين والأنصار وتحققت كلمة المدح التي امتدح الله بها المؤمنين بقوله " إنما المؤمنون إخوة "
ولم تكن مجرد شعار يرفع , وطبول تقرع , بل كانت أخوة لا مثيل لها في تاريخ البشرية جمعاء.
هذه هي الأمور الأساسية والتمهيدية لتجربة النصر الأولى في حياة المسلمين.
والمسلمون اليوم إذا أرادوا أن يكرروا هذه التجربة لا بد من تحقيق هذه الأمور الثلاثة
فلا بد من تصحيح للعقيدة فلا وساطة بيننا وبينه سبحانه , ولا قادر غيره ولا حاكم غيره ولا مقصود غيره ولا بد أن يتوجه المسلمون إلى هذا الأمر ولا سيما الدعاة حتى تتضح للناس العقيدة السليمة والصحيحة
إن هناك الكثير الكثير من المسلمين ما زلوا يأوون إلى القبور ويلتجؤون إليها , والكثير منهم مازال يأنس إلى الأبراج ويرى طلعه فيها.
إننا في الحقيقة لن ننتصر إلا بعقيدة الإسلام الصحيحة التي كان عليها رسول الله وصحابته الكرام.
ولا بد من إحياء دور المساجد لأنها الطريق المعبدة لنصر لا خيانة فيه ولا حسد فيه ولا محسوبيات فيه فهو نصر لله ونصر من أجل الله ونصر في سبيل الله
ولا بد من زيادة الترابط بين أفراد المسلمين حتى يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
إنّ مسيرة الدعوة الإسلامية، خلال الخمسة عشر عاماً السابقة لغزوة بدرٍ الكبرى، أدَّت إلى أن يكون للمسلمين رؤية وهدفٌ واضحٌ من وراء خوضهم لهذه المعركة، وعندما تكون الأهداف واضحة يجد الإنسان السبل للوصول لها وعندما تكون الأهداف طائشة يتشتت الإنسان في وسائله فيضيع ويضل.
فالمسلمون كان لهم هدف قريب هو استرداد بعض من حقوقهم ,ولما لم يفلحوا وفر أبو سفيان بالعير تحول الهدف للدفاع عن عقيدتهم ودينهم ونبيهم لما سمعوا قدوم قرش إليهم.
أما قريش فكانت أهدافها مجرد إظهار القوة ومجرد استعراض لها حتى إن النبي قال " لقد رمتكم قرش بفلذات أكبادها " وهذا الهدف الطائش عبر عنه زعيم الجهل أبو جهل عندما قيل له تعال نرجع فقد نجت العير والتجارة فقال: " و اللات و العزى لا نرجع حتى ننحر الجزور ونطعم الطعام وتغني لنا القيان فتسمع العرب بنا فلا يزالون يهابوننا "
هذه أهداف المسمين وهذه أهداف المشركين
واليوم لابد أن تكون أهداف المسلمين ضمن هذه الأهداف الواضحة حتى يكرروا تجربة النصر بإذن الله وحوله.
إن غزوة بدر تمثل تجربة النصر الأولى لدى المسلمين وهي تجربة فريدة من نوعها ,متميزة بتحضيرها ونتائجها وحتى الآن مازالت إشراقاتها في مكامن التاريخ فلا بد من دراستها الدراسة المتأنية والدقيقة حتى نكرر تجربة النصر بعون الله.



غزوة بدر الكبرى: مواقف دالَّةٌ على فضل الصحابة رضي الله عنهم

لما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم، في خوض المعركة: "قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: "يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا علي أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال:: «أجل». قال فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله" [البداية والنهاية (3/ 321)].
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية _ حليف بني عدي بن النجار _ وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فاقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد. قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير!

ها هو عبد الرحمن بن أبي بكر بعدما أسلم، يقول لأبيه أبي بكر رضي الله عنه: لو رأيتني وأنا أُعرِض عنك في بدر حتى لا أ***َك، فقال أبو بكر: أما إني لو رأيتك وقتئذٍ ل***تك. ويقابل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه في المعركة في***َه. ويمر مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة ورجل من الأنصار يأسِرُ أخاه أبا عزيز، فيقول مصعب: شدَّ وثاقه فإن أمَّه ذاتُ مال، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي؟! فيقول مصعب: هو ـ أي: الأنصاري ـ أخي دونك.

وهذا عمير بن أبي وقاص أخو سعد، حضر غزوة بدر وعمره ستة عشر عاماً .. وكان قبل المعركة يتخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه فيردَّه بسبب صغره .. وسرعان ما اكتشف هذا البطل الصغير .. فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فلما رآه صغيراً رده عن المشاركة في المعركة .. فتولى وهو يبكى .. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بكاءه وإصراره أجازه، فدخل المعركة، فقاتل حتى *** ..
رضي الله عنهم أجمعين.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعَه بالخد أجراه لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
وأسدغاب إذالاح الجهاد بهم هبواإلى الموت يستجدون

وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي، فأتى رسول الله r فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: (قاتل بهذا يا عكاشة)، فلما أخذه من رسول الله r هزه، فعاد سيفًا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى *** في حروب الردة وهو عنده. رواه ابن إسحاق في سيرته.

ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله r في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: (يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟) فقال: لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك. فدعا له رسول الله r بخير، وقال له خيرًا.



عوامل النصر في غزوة بدر

إن المسلم في مواجهته للباطل يحشد ما استطاع من قوة، ولا يدَّخر في ذلك وُسعًا، ثم هو بعد ذلك لا يرهب قوة الأعداء، وإن كانت تفوقه عددًا وعتادًا؛ لأنه على يقين من أنه ليس في الميدان وحده، وإنما معه جند الله الذي لا يعلمها إلا هو، وفي بدر يتجلى ذلك في مواقف عدة؛ حيث تنتصر القلة المؤمنة على الكثرة المشركة وذلك بفضل ما سخر الله للمسلمين من جند السماء والأرض والتي كان منها:
أ- الملائكة مدد من السماء: حين استغاث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بربهم أمدهم بالملائكة: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ? [الأنفال:9]، والمتأمل يرى أن عدة الملائكة بعدة المشركين، وبذلك يتحقق ما أخبر به الله من البشرى والطمأنينة للمؤمنين: ?وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [الأنفال:10].
ب- النوم والمطر: قبل المعركة كان المسلمون في حالة من التعب والإعياء والخوف يحتاجون معها إلى قسط من الراحة قبل المواجهة، كما أن ساحة المعركة كانت في حاجة إلى تجهيز وإعداد بما يمكِّن المسلمين من الحركة في الميدان وفي المقابل يعوق حركة المشركين؛ فأنزل الله عليهم النعاس والمطر .. ?إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ? [الأنفال:11].
يقول الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أن قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أن أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: الأمنُ مُنِيم، والخوف مُسْهِر ، وعن علي- رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائمٌ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح" ، وعن عروة بن الزبير- رضي الله عنه - قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسًا، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَد الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشًا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، وروي أنهم كانوا على جنابة وظمأ، وأن الشيطان ألقى في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيًّا، وأنكم أولياء الله، وتصلون مجنبين محدثين؟! فأنزل الله من السماء ماءً فسال عليهم الوادي ماءً؛ فشرب المسلمون وتطهَّروا وثبت أقدامهم وذهبت وسوسته.
ج- سلاح الرعب: إن سلاح الرعب من أقوى الأسلحة التي يتحقق بها الغلبة على الأعداء، وهذا السلاح إذا سرى في أقوى الجيوش وأعتاها، فإنه ينهار ولا يغني عنه لا عدد ولا عتاد، وهذا السلاح لا يملك خزائنه إلا من يقدر على الوصول إلى القلب الذي هو محلّ التثبيت والخوف والهلع، وتأمل قول رب القلوب: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ? [الأنفال:12].
ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وخصائص الأمة الإسلامية النصر بالرعب مسيرة شهر؛ فعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة".
إن الرعب سلاح يفتك بالمشركين والكافرين قبل المواجهة، قال الله تعالى: ?سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا? [آل عمران: 151]، وفي حق يهود يقول: ?وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار? [الحشر: 2]، وفي حق الأحزاب: ?وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا? [الأحزاب: 26]؛ فسلاح الرعب سلاح ينفذ إلى أعماق القلوب، فيسلب من أصحابها العقلَ والحسَّ، ويجعلها في حالة من الذهول واللا وعي ?لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ? [البقرة:264].




إمداد الله للمسلمين بالملائكة في غزوة بدر

ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين؛ أن الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب, قال تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12]. وقال تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾.
وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عددًا من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، وقيامهم بضرب المشركين و***هم([1]) .
فعن ابن عباس t قال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم.([2]) فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيًا فنظر إليه فإذا هو خُطِم أنفه([3])، وشُقَّ وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: «صدقت, ذلك مدد من السماء الثالثة»([4]) ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: إن النبي r قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»([5]). ومن حديث علي بن أبي طالب t قال: (فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني, لقد أسرني رجل أجلح([6]) من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق([7]) ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم»([8]). ومن حديث أبي داود المازني قال: (إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه ***ه غيري)([9]).
إن إمداد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة أمر قطعي ثابت لا شك فيه، وأن الحكمة من هذا الإمداد تحصيل ما يكون سببًا لانتصار المسلمين، وهذا ما حصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل ما يمكن أن يكون سببا لنصر المسلمين: من بشارتهم بالنصر، ومن تثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل في نصرهم، والنشاط في قتالهم، وبما أظهروه لهم من أنهم معانون من الله تعالى، وأيضا بما قام به بعضهم من الاشتراك الفعلي في القتال، ولا شك أن هذا الاشتراك الفعلي في القتال قوى قلوبهم وثبتهم في القتال، وهذا ما دلت عليه الآيات وصرحت به الأحاديث النبوية([10]).
وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة مع أن واحدًا من الملائكة كجبريل عليه السلام قادر بتوفيق الله على إبادة الكفار؟
وقد أجاب الأستاذ عبد الكريم زيدان على ذلك فقال: لقد مضت سنة الله بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، وأن الغلبة تكون وفقًا لسنن الله في الغلبة والانتصار، وأن هذا التدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحق والباطل، ومن ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته أن يحصلوا على عون وتأييد من الله تعالى، بأشكال وأنواع متعددة من التأييد والعون، ولكن تبقى المدافعة والتدافع يجريان وفقًا لسنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التدافع فالجهة الأقوى بكل معاني القول اللازمة للغلبة هي التي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة، ذلك الإمداد الذي تحقق به ما يستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقوفة على ما قدمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرضهم لل***، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معانٍ جعلها الله حسب سننه في الحياة أسبابًا للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه... إلخ. ولهذا فإن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يباشروا بأنفسهم إزهاق الباطل وقتال المبطلين، وأن يهيئوا الأسباب المادية والإيمانية للغلبة والانتصار، وبأيديهم إن شاء الله تعالى ينال المبطلون ما يستحقونه من العقاب([11]), قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 14، 15].
إن نزول الملائكة عليهم السلام من السماوات العلى إلى الأرض لنصر المؤمنين حدث عظيم.
إنه قوة عظمى، وثبات راسخ للمؤمنين حينما يوقنون بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأنهم إذا حققوا أسباب النصر واجتنبوا موانعه, فإنهم أهل لمدد السماء، وهذا الشعور يعطيهم جرأة في مقابلة الأعداء، وإن كان ذلك على سبيل المغامرة، لبعد التكافؤ المادي بين جيش الكفار الكبير عددًا القوي إعدادًا وجيش المؤمنين القليل عددًا الضعيف إعدادًا.
وهو في نفس الوقت عامل قوي في تحطيم معنوية الكفار وزعزعة يقينهم، وذلك حينما يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة الذين شاهدهم بعضهم عيانًا، إنهم مهما قدروا قوة المسلمين وعددهم فإنه سيبقى في وجدانهم رعب مزلزل من احتمال مشاركة قوى غير منظورة لا يعلمون عددها ولا يقدرون مدى قوتها، وقد رافق هذا الشعور المؤمنين في كل حروبهم التي خاضها الصحابة y في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين, كما رافق بعض المؤمنين بعد ذلك فكان عاملاً قويًا في انتصاراتهم المتكررة الحاسمة مع أعدائهم([12]).



دور الدُّعاء في تحقيق النصر في غزوة بدر!

كيف انتصر المسلمون في غزوة بدرٍ وهم قلة؟ ما السِّر الذي جعل من انتصار المسلمين في غزوة بدر العمود الفقري لانتصارات المسلمين؟ بل ما السِّر الذي جعل من هذه الغزوة المنْطَلَق الذي أقلعت منه أو ابتدأت منه سلسلة الانتصارات الإسلامية في تاريخ المسلمين؟ هذا ما ينبغي أن نتساءل عنه، ثم هذا ما ينبغي أن نحققه في حياتنا الإسلامية اليوم.
يجيب بيان الله عز وجل عن هذا السؤال إذ يقول: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 8/9] ، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَما النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 3/125-126]. السِّر في ذلك النصر الذي لم يكن متوقعاً من حيث المنظور المادي والمقياس الكمي السِّر هو استغاثة المسلمين بالله عز وجل، وإعلانهم عن عبوديتهم الضارعة لله سبحانه وتعالى، وتجديد البيعة معه عز وجل، وكان في مقدمة من حقق وتحقق بهذا كله، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولعلكم جميعاً تعلمون أنه أمضى ليلة الجمعة بطولها يجأر إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع يستنزل به النصر الذي وعده الله عز وجل إياه، حتى أشفق عليه من كان حوله من أصحابه رضوان الله عليهم. هذا هو السِّر الكامن في نصر الله عز وجل للمسلمين آنذاك، وهذا هو السِّر الذي فقدناه اليوم، ومن ثَم فقدنا النصر الذي وعد الله عز وجل به عباده المؤمنين، وأكده أكثر من مرة في محكم تبيانه، ولعل من المهم أن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مرتاباً في أن الله عز وجل مُنْفذ له ما وعد، والدليل على ذلك أنه بشر أصحابه بالنصر، وأنه أشار كما ورد في الصحيح إلى أماكن معينة من الأرض يقول: ((هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان)) من صناديد المشركين، فما أخطأ واحد منهم فيما بعد هذا المكان الذي عينه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولعل فيكم من يتساءل: إذن فيم كان ذلك التضرع؟ زفيم كان ذلك الدعاء الواجف ما دام المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم على علم بأن الله ناصره؟ والجواب يا عباد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن ثمن هذا النصر الذي سيأتيه هو هذه الاستغاثة التي كان قد عزم عليها، والتي كان قد أصر على أن ينجزها وأن يؤديها طوال تلك الليلة، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم علم بنصر الله عز وجل إياه، وعلم أنه سيدفع ثمن ذاك النصر، وعلم أن ثمن النصر إنما هو تلك الضراعة والتحقق بذل العبودية لله سبحانه وتعالى ومعه أصحابه البررة الكرام. هذا هو الجواب عن مثل هذا السؤال. وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أيقن بنصر الله عز وجل له، ولكن يقينه هذا ما حال دون وقوفه ضارعاً متذللاً متبتلاً يجأر إلى الله عز وجل بالشكوى والدعاء، فكيف تكون حال من هو منغمس في الموبقات، منغمس في الملهيات والمنسيات ولا يعلم ما المصير الذي قيضه الله سبحانه وتعالى له؟ أليس من المفروض أن يكون هؤلاء الناس أكثر تضرعاً؟ أكثر التجاءً إلى الله عز وجل؟ أكثر تبتلاً. أكثر استغفاراً وإنابة إلى الله عز وجل؟ هذا هو الدواء الكامن في تضاعيف قصة بدر الكبرى، وهو الدواء الذي ينقصنا اليوم، وهو الذي يتحقق به شفاء هذه الأمة من أدوائها وأمراضها كلها، مصيبتنا - يا عباد الله - لا تكمن في قلة في العَدد، ولا تكمن في ضعف في العُدد، ولا تكمن في تراجع في التقنية والعلوم المستحدثة، لا تكمن في شيء من ذلك قط، وإن تسلى بالحديث عنها من شاء أن يتسلى ويحجب نفسه عن الخزي وأسبابه، وإنما تكمن مصيبتنا - مصيبة العالم الإسلامي - في أنه محجوب عن مولاه وخالقه، في أنه محجوب بأهوائه، بشهواته، بملاذِّه، بدنياه التي كاد أن يعبدها من دون الله سبحانه وتعالى، هذا هو الداء الذي تعاني منه أمتنا اليوم، أمة مُعرِضة عن الله عز وجل، ولا تبالي بنداء الله سبحانه وتعالى لها، أمة منغمسة في الملهيات والمنسيات، منغمسة في الرؤى المختلفة الباطلة الخرافية التي تحجبها عن الرجوع إلى الله عز وجل، وتصدها عن تبين صراط الله سبحانه وتعالى والسير عليه، أمة نفضت يديها بعد أن نفضت قلبها من مشاعر التذلل لله، من مشاعر العبودية لله، من معاني الالتزام بأوامر الله عز وجل، هذه الأمة ما الذي بقي لها عند الله عز وجل حتى تنتظر منه النصر، وحتى تنتظر منه العزة، وتنتظر منه القوة؟
تلك هي مصيبتنا، وهذا هو داؤنا!

في الحديث عن غزوة بدر، والتعقيب عليها في سورة الأنفال يقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [الأنفال:45] أمر الله تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستغيثوا به ويتوكلوا عليه أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم؛ قال الله تعالى: ?وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? [البقرة:250]، وقال الله تعالى: ?وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? [آل عمران: 147]
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه وكثرة تضرعه في هذه الغزوة وفي غيرها دليل على مسألتين:
الأولى: أن الدعاء عامل رئيس من عوامل النصر على الأعداء، فهو السلاح الفتّاك المهمل.
الثانية: أنّ العبادة لا ينبغي أن تكون إلا لله، فالكل فقير إلى ربه، والله هو الغني الحميد الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فكيف يُلجأ إلى غيره وخير خلق الله كان يلجأ إليه؟!



غزوة بدر وراية الجهاد في سبيل الله!
الجهاد ذروة سنام الدين، وسبيل عز المؤمنين، وهو أفضل عملٍ يتقرب به العبد لربه بعد الإيمان به، ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)).
إن منزلة الجهاد منزلة عظيمة لا يصل إليها إلاَ مَن عظمت الآخرة في نفسه، وهانت الدنيا عنده، ورسخت محبة الله في سويداء قلبه، فعاش بالله ولله ومع الله.
بهذه العقيدة الصحيحة ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فتسابقوا للجهاد، وواجهوا أعداء الله بثبات وإيمان، وحرصوا على الموت حرص غيرهم على الحياة، فنصر الله بهم الدين، وجعلهم أحياءً في الدارين، فهم أحياءٌ فوق الأرض بالعزةٍ والتمكين، وهم أحياءٌ تحت الأرض عند ربهم يرزقون.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة عزّها في الجهاد، متى ما رفعت راية الجهاد كانت عاقبتها النصر والعزة والتمكين، ومتى ما استكانت ورضيت بالقعود وتركت الجهاد ضربت بالذلة، وتسلط عليها أعداؤها.
قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). رواه أحمد وأبوداود عن ابن عمر وصححه الألباني.
وإذا عرفنا فضل الجهاد والاستشهاد .. فإن الجهاد لا بد له من إعداد واستعداد.
إن غزوة بدر لم تكن مقطوعة الصلة بما سبقها من تربية طويلة بمكة ثم بالمدينة، حتى إذا قويت شوكة النبي صلى الله عليه وسلم وقوي عود أصحابه شرع الله لهم الجهاد.
ليس الجهاد بأعمال طائشة، يقوم بها بعض المتهورين، دون علم راسخ، ونظر في المصالح والمفاسد.
ولهذا قرر أهل العلم أن الأمة متى ما ضعفت أو كانت المصلحة في ترك الجهاد فإن الأمة تؤخر الجهاد أعني جهاد الطلب، ويبقى جهاد الدفع واجباً بقدر الاستطاعة إذا دهم العدو بلاد المسلمين.

من مهمات الفوائد في هذه الغزوة: أنّه لا عز ولا مجد ولا سيادة ولا ظهور إلا بإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله، بها علت راية لا إله إلا الله، وبها كتب الله الظهور لدينه، والله تعالى وعد في القرآن الكريم بإظهار دينه في ثلاثة مواضع، وفي كل موضع منها يذكر الله الجهاد قبلها وبعدها، وهي رسالة تقول لنا: إنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بالتمسك بديني وإقامة شعيرة الجهاد في سبيلي. وهل أدل على ذلك من حديث نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» [أبو داود].





غزوة بدر الكبرى ودرس في طبيعة العلاقة بين القائد وجنوده
ستظل معركة بدر الكبرى مرجعًا مهماً لتجلية العلاقة بين القائد وجنده، والأمير وجيشه، والحق أن مسألة " العلاقة بين القائد وجنده " .. تحتاج دومًا للتأصيل والتوضيح، والتبيين والتمثيل، فهل يتبسط القائد مع جنده إلى حد المجون؟ وهل يتشدد القائد مع جنده إلى حد الغرور؟ ما هي يا ترى طبيعة العلاقة بين القائد وجنده من الناحية الإنسانية ومن الناحية العسكرية ومن الناحية السياسية؟
غزوة بدر الكبرى، من خلال طبيعة العلاقة فيها ما بين القيادة والقاعدة، عبر مختلف مراحلها تُلقي ضوءاً كاشفاً على هذه القضية، فيما يلي نقف عند أبرز المعالم المبيّنة لطبيعة هذه العلاقة:
أولاً: مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا: نحن نمشي عنك قال: " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما " [ابن هشام 2/ 389 وحسنه الألباني في تحقيق فقه السيرة 167].
فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويكابد معهم الآكام والشعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقر. والقائد إذا ركن إلى لذة المهاد الوثير؛ حُرم لذة المشاهد والمواقف. وبعض الرجال في الحروب غثاء!
ثانياً: استشارة الجنود:
في وداي ذَفِرَانَ [وهو يبعد عن المدينة المنورة نحو مائة كيلو متر]، وكان في هذا الوادي المجلس الاستشاري الشهير لمعركة بدر- بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم- نجاة القافلة، وتأكد من حتمية المواجهة، فإما القتال وإما الفرار .. فاستشار، فجمع الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن، وقال لجنوده:"أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ! " .. ورددها مرارًا، وما زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر فقال وأحسن. ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن .. حتى قام القيادي الأنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري، قائًلا:
" لَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْت بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودِنَا وَمَوَاثِيقِنَا، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ .. فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ. لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ " [السهيلي 3/ 57]
فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه .. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي، كنسي مستبد خرافي، يُقيدُ فيه الجنود بالسلاسل - في المعارك - حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن - في تصوراتهم - لفكر.
وصدق حافظ إبراهيم - رحمه الله - حين قال:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به **** رغم الخلاف و رأي الفرد يشقيها
إن الشورى، من فرائض شرعتنا، ومن مفاخر دعوتنا، ومن معالم حضارتنا، ومن يعمل على تنحيتها، وهدمها وعزلها، أو الالتفاف حولها، فإنما يهدم الفرض، ويفسد في الأرض، ويُمكنُ لذلك للغرب، ويُحارب بذلك الرب.
وليعلم المتبصر، أن الشورى مُعلمةٌ للإمام الصالح غير مُلزمة، وهذا في شأن الحُكم والدولة. كذلك بالنسبة للقائد العسكري في ساح الوغي، فالقتال دائر والقلب حائر، بيد أن الشورى في العمل الجماعي الدعوي أو التوعوي أو الخيري مُلزمة، نعم مُلزمة، إذ يجب على قائد العمل الدعوي ومسؤول النشاط التوعوي أن ينزل على رأي إخوانه في الدعوة، وأتباعه في الحركة، ولا يجوز له - ولا يليق به - أن يُلزم الآخرين برأيه الذي لم يُجمع عليه، ولم تتفق الآراء حوله. وخاب من أصدر قرارًا - في غير نص - بغير شورى، وبئس القائد الذي قرّب الغاش وأقصى الناصح.
فإذا عزمتَ، وجمعت فريقك على مائدة الشورى، فاصدق الله في قصدك، وأسأله أن يصفي ذهنك، وأن ينقح فكرك، وأن يثقف عقلك، وأن يهذب خُلقك، وأن يهديك إلى خير الأفكار، وخير الأحوال، وخير الحلول، وأن يكفيك الشواغل العارضة، والقوى المتقسمة، والمصائب الباغتة، واستعذ به من استوحاش الفكرة، وجمود العقل، وصعوبة الحسم، وضعف العزم.
وعلى مائدة الشورى، إياك والجلوس رئاء الناس، واحذر السُّمعة، وحب الشهرة، والنَّفج والاستطالة، والتكبر على إخوانك والمغالبة، والغرور بالرأي والمجاذبة، وعليك على ذلك بالمجاهدة، والانبتات إلى الله والمسارعة، وإياك وقولة: قد قلتُ لكم رأي، ونصحتُ لكم، فخالفتموني فحفتم وفشلتم، فذوقوا وبال أمركم!!! فما تمخضت عنه الشورى خير، هو من اختيار الله، ومن اختلف في الفروع لم يُؤثَّم، ومن اختلف في الأصول - لا شك - يُحَوَّب. والرجل الحائر البائر المقبوح المشقوح، هو الذي يشير على أهل الرأي! ولا يقبل منهم رأي، فدومًا يرى أن رأيه هو الرأي، وما عداه فساد محض!
ثالثاً: الثقة في القيادة .. (امض لما أمرك الله!)
وتأمل القولة التاريخية لسعد بن معاذ، والتي قال فيها:
" فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ. لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ " [السهيلي 3/ 57] ..
فامض يا رسول الله لما أردتَ، فنحن معك ...
فسر بنا على بركة الله ..
إنها ثقة الجندي في قائده، وثقة الأخ في نقيبه، والثقة الحقة، هي "اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه .. اطمئنانًا عميقًا؛ يُنتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة" [مجموعة الرسائل 283] ..
قال الله تعالى في شأن الشاكين في كفاءة القيادة الإسلامية وإخلاصها:
"أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " [النور:50].
فإذا انتشر الشك في صفوف الجماعة؛ انتشر على إثر ذلك الخوار والتصدع في بنيان الدعوة، فقوة التنظيمات تكون على قدر الثقة بين القائد وجنده، ومتانة الجماعات مرتبطة بمتانة الثقة بين النقيب وإخوانه، والثقة المتبادلة بين القائد وجنده هي الوِجاء الواقي في الخطط الدعوية، والأعمال التنظيمية، وتحقيق الأهداف الكبرى والمرحلية.
إن الجماعة المؤمنة هي تلك الجماعة التي لاتسمح ولاتمكّن لأعدائها أن يشقوا غبار أخوتها بالوشاية، ولا أن يصدّعوا وحدتها بالدعاية.
والمؤمن الصادق لا يشك في أخيه، ولا يشكك في نزاهته وأمانته، وإخلاصه وكفائته، فإذا تسلل الشيطان إلى النفس بنفث الشك في كفاءة القائد، تابت النفس المؤمنة، وقالت كما قال الله:
"لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ " [النور12].
فلا إيمان لنا حتى نُحّكم الشرع فيما شجر بيننا، ولا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضى الله ورسوله وأولو الأمر من المؤمنين، أو ما تمخضت عنه مجالس شورى المتقين، ونسلم بذلك تسليما، و نقول بالقلب واللسان: سمعنا وأطعنا.
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً " [النساء:65].
ومن تمام التسليم، أن يكون لدى المؤمن الاستعداد التام، لأن يفترض في رأيه الخطأ وفي رأي القيادة الصواب، وهذا في حدود الخلاف السائغ، حيث لا خلاف أصلاً - بين القائد وجنده - مع وجود النص.
رابعاً: تبشير الجنود وبثُّ الثقة فيهم:
سُرّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ! وَاَللّهِ لَكَأَنّي الآن أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ!! " [السهيلي 3/ 57]
وفي اليوم السابق ليوم بدر مشى - صلى الله عليه و سلم - في أرض المعركة وجعل يُري جنوده مصارع رؤوس المشركين واحدًا واحدًا.
وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ: هَذَا مَصْرَعُ فلان- ووضع يده بالأرض -، وَهَذَا مَصْرَعُ فلان، وَهَذَا مَصْرَعُ فلان - إنْ شَاءَ اللّهُ -، فَمَا تَعَدّى أَحَد مِنْهُمْ مَوْضِعَ إشَارَتِهِ [ابن القيم: زاد المعاد 3/ 15]. فَعَلِمَ الْقَوْمُ أَنّهُمْ يلاقُونَ الْقِتَالَ، وَأَنّ الْعِيرَ تُفْلِتُ وَرَجَوْا النّصْرَ لِقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [الواقدي 49]
قال أنس: "ويضع يده على الأرض هاهنا هاهنا. فما ماطَ أحدهم عن موضع يد رسول الله" [البيهقي: دلائل النبوة (21)]
وقال عمر: " فوالذي بعثه بالحق! ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله " [مسلم (2873)].
وقوله - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لعقبة بن أبي معيط - المجرم المعروف -: "إن وجدتك خارج جبال مكة ***تك صبرا" [الصالحي 4/ 18]، فحقق الله تعالى ذلك.
وأخبر ب*** المسلمين لأمية بن خلف، ولذلك قال سعد بن معاذ لأمية عندما ذهب إلى مكة قبيل بدر: يا أمية، فوالله لقد سمعت رسول الله يقول: "إنهم قاتلوك" ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً [البيهقي: دلائل النبوة: 21].
ما أعظم القائد الصامد المبشر! وما أكرمه هو يبث روح الثقة في جنده، وينشر روح التفائل في جيشه، ويصب جوامع الكلم الطيب في القلوب، كالمطر الهاطل على السيول، فيذكرهم بشارة الله لعباده، وجنة الله لأوليائه، والمجاهدون أعظم الأولياء، رفقاء الرسل والأنبياء!
فإذا بالجنود - على أثر تثبيت قائدهم -؛ قد ثبت الله أقدامهم، وربط الله على قلوبهم، وسدد الله رميتهم، وأثقل بأسهم، وجعل الدائرة لهم.
خامساً: احترام آراء الخبراء والجنود:
فقد قال عبد الله بن رواحة - في موقف من مواقف بدر -: " يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك" [الطبراني في الكبير 4/ 210] فأنصت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول ابن رواحة وقال له قولاً حسنًا ..
ولما تحرك رسول الله إلى موقع ماء بدر، في موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع قائًلا:
يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: " بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ" .. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [أي ندفن] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ ..
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مشجعًا -:" لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ".
وبادر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه برغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء، فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدُنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمّ أَمَرَ بالآبار فخُربت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْبئر الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ [ابن هشام - 1/ 620].
إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة، وتتبنى الابتكارات، وتحفز الاختراعات ..
أيها القائد، أيها المسؤول، لن تعدم في جنودك من فاقك في العلم، وراقك في الفهم، فامتلِكْ عقول الجميع - في عقلك -، بالشورى، فأنت بغير الشورى عقل واحد، وبالشورى عقول! وإذا احترمتَ عقلاً ملكته، وإذا وقّرتَ خبيرًا ظفرته، وإذا عرفتَ شرفَ الحاذقِ كان سهمًا في كنانتك، وخنجرًا في جعبتك.
سادساً: حماية القائد و تأمين مقر القيادة:
فقد قال القائد الإسلامي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - مبينًا أهمية تأمين سلامة القائد والقيادة-: " يَا نَبِيّ اللّهِ، أَلا نَبْنِي لَك عَرِيشًا [من جريد] َتكُونُ فِيهِ نُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك [أو رواحلك]، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا، فَإِنْ أَعَزّنَا اللّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى، جَلَسَتْ عَلَى رَكَائِبِك، فَلَحِقَتْ بِمَنْ وَرَاءَنَا، فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ - يَا نَبِيّ اللّهِ - مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ! وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك، يَمْنَعُك اللّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك" [السهيلي 3/ 63].
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ.
وقال مبشرًا: "أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد! " [الواقدي 1/ 17]
ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَرِيشًا على تل مرتفع يشرف على ساحة القتال استجابة لمطلب سعد - رضي الله عنه -.
وكان فيه أبو بكر، ما معهما غيرهما [ابن الأثير: أسد الغابة 2/ 143].
كما تم انتخاب فرقة من جنود الأنصار بقيادة سعد بن معاذ لحراسة مقر قيادة حضرة النبي- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [انظر: ابن هشام 2/ 233].
لا خير في جنود لا يهتمون بسلامة قائدهم، ومقر قيادتهم، لا خير فيهم إلا لم يتهالكوا في حفظه و يتضامنوا في حمايته، بترسيخ الحواجز والموانع التي تحول بين العدو والقيادة الإسلامية، فإذا خلص العدو إلى مقر القيادة، ملك العدو زمام المعركة، وقيل: من انهزم، قالوا: من لا قائد لهم.
سابعاً: حُسن الظن بالإخوان:
وذلك في قول سعد بن معاذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما اقترح عليه فكرة العريش، قال سعد - في رواية -:
إنّا قَدْ خَلَفْنَا مِنْ قَوْمِنَا قَوْمًا مَا نَحْنُ بِأَشَدّ حُبّا لَك مِنْهُمْ. وَلا أَطْوَعَ لَك مِنْهُمْ، لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ وَنِيّةٌ، وَلَوْ ظَنّوا - يَا رَسُولَ اللّهِ أَنّك - مُلاقٍ عَدُوّا مَا تَخَلّفُوا، وَلَكِنْ إنّمَا ظَنّوا أَنّهَا الْعِيرُ [الواقدي 1/ 49].
وهكذا الإخوان في الله، في ميادين المجتمع إخوانٌ، في ميادين الدعوة إخوانٌ، في ميادين الجهاد إخوانٌ، عظماء أخلاق، أحاسن خلال، أكارم شيم، أفاضل قيم .. إخوانٌ لا مكان للظَّنة بينهم، ولا وجود للتُّهمة بينهم، يُحسنون الظن بأنفسهم، أي بإخوانهم، فالأخ بمنزلة الإنسان من نفسه، والجسم من روحه. وإن بعض الظن إثم - أي في غالب الناس-، أما بين الإخوان فكله إثم!
ثامناً: عدل وتنظيم وطاعة:
قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بيت القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود .. أما محمد صلى الله عليه وسلم فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده لَيَقتص الجندي منه .. أما الجندي فهو ِسَوَادِ بْنِ غَزِيّةَ، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي - صلى الله عليه وسلم - غمزة خفيفة في بَطْنِهِ - بالسهم الذي لا نصل له - وقال: "اسْتَوِ يَا سَوّادُ! " .. قال: يا رسول الله! أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي! فكشف رسول اللّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: "اسْتَقِدْ" .. فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ! فَقَالَ النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ؟ "، قال: حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير [ابن هشام 1/ 626].
وفي هذا الموقف؛ نرى - أيضًا - عظَمَ أهمية التنظيم، وتنسيق الصفوف، وتقسيم الكتائب، وتأمير الأمراء، فلا نجاح لتنظيم دون تنظيم، ولا فلاح لجماعة فوضوية!
"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ " [الصف:4]
وفي هذا الموقف، نرى - أيضًا - أهمية الطاعة، والالتزام بتعليمات القادة، وتنبيهات أولي الأمر من المسلمين، فلا قيادة إلا بطاعة، ولا بيعة إلا بطاعة، ولا قوام لجيش لا يطيع أميره، ويعصي الله ورسوله، فعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي " [البخاري: 6604].
تاسعاً: دعاء القائد لجنده:
لما عَدّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الصّفُوفَ وَرَجَعَ إلَى مقر القيادة، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، إذا بَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسلام لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ!! " [مسلم (3309)]
وبالغ في الابتهال، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ" ... ثُمّ انْتَبَهَ فَقَالَ " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَتَاك نَصْرُ اللّهِ! هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ" [السهيلي 3/ 68]
وكان من دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - ما ذكره علي بن أبي طالب، حيث قال: "لما كان يوم بدر قاتلتُ شيئًا من قتال، ثم جئتُ مسرعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -لأنظر ما فعل، فإذا هو ساجد يقول: " يا حي يا قيوم "، لا يزيد عليهما، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال. ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك. " [الصالحي 4/ 37].
و نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين، وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صلاته: " اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم أنشدك ما وعدتني " [الصالحي 4/ 38]
وكان من دعائه كذلك لجنوده: " اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم " [أبو داود: (2747)، وحسنه الألباني]. قال عبد الله بن عمرو: ففتح الله له يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا.
فالقائد كالأب يحنو على أولاده، كالظليم يظلل على أفراخه، يرفع يديه ضارعًا، خاشعًا، داعيًا، بأدعية خاشعة تستنزل لجند الله الرحمات والبركات. يستغفر لهم، يصلي عليهم، يدعو لهم، فالقائد ليس كالترس القائد - في صندوق التروس - لا حس فيه ولا حراك، ولا شعور فيه ولا إحساس، يقود تروسه بشكل ميكانيكي جامد جاف، بل القائد روح بين جنوده تحييهم، ورباط وثيق يجمعهم، وهو القلب الكبير وهم أعضائه، وهو الأصل الأصيل وهم فروعه وأفنانه، وهو أرحم الناس بهم."وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ " [التوبة:103].
وأخيرًا ..
العلاقة بين القائد وجنده، والنقيب وإخوانه، علاقةٌُ أساسها الإيمان، وعمادها الإخوة، وأركانها الشورى والطاعة والمشاركة والثقة.
بقلم: محمد مسعد ياقوت.
بتصرف يسير!



قيم حضارية في غزوة بدر!
كثيرة هي تلك القيم الحضارية التي ظهرت في غزوة بدر [الجمعة 17 رمضان 2هـ - 13مارس624م] كأحداث رئيسية في هذه المعركة .. تلك المعركة التي لم تكن في حسبان جيش المسلمين الذين خرجوا لمطاردة ثفقة تجارية لقريش قادمة من الشام يقودها أبو سفيان بن حرب، كمحاولة جديدة لاسترداد بعض أموال المسلمين التي صادرتها قريش!
ولكن قضى الله أمرًا غير الذي أراده المسلمون، فقد استطاع أبو سفيان أن يفلت بالقافلة، بعدما أرسل الى مكة من يخبر قريشاً بالخبر غير الذي أراده المسلمون، فغضب المشركون في مكة، فتجهزوا سراعاً، وخرجوا في ألف مقاتل .. أما أبو سفيان فقد أرسل إلى قيادات مكة، من يخبرهم بأن القافلة قد نجت، وأنه لا داعي للقتال، وحينئذ رفض أبو جهل إلا المواجهة العسكرية ..
وفيما يلي نقف - سريعًا - على بعض القيم الحضارية المستفادة من هذه الغزوة:
المطلب الأول: لا نستعين بمشرك على مشرك:
لما خرج رسول الله r ، إلى بدر، أدركه خبيب بن إساف، وكان ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج منجدًا لقومه من الخزرج طالبًا للغنيمة، وكانت تُذكر منه جرأة وشجاعة، ففرح أصحاب النبي r حين رأوه، فلما أدركه قال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي r" أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: لا، قال: "فارجع فلن نستعين بمشرك" " فلم يزل خبيب يلح على النبي، والنبي يرفض، حتى أسلم خبيب، فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ r بِذَلِكَ، وَقَالَ: " انطلق" ..
وعلى النقيض من هذا الموقف، جاء أبو قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ، يطلب القتال مع المسلمين وقد كان مشركًا، فلما رفض الإسلام، رده رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَعَ الرجل إلَى المدينة، وأسلم بعد ذلك.
نرى القائد الإسلامي في هذا الموقف، يرفض أشد الرفض أن يستعين بمشرك على قتال مشرك، وأقل ما نُعَنون به هذا الموقف الحضاري المتكرر في السيرة الغراء، هو عنوان الحرب الشريفة النظيفة، التي تكون من أجل العقائد والمثل، لا من أجل القهر والظفر بالمغانم .. ففي هذا الموقف دلالة على أن الحرب في الإسلام لا تكون إلا من أجل العقيدة، فلا يصح إذن - إذا كنا نقاتل من أجل العقيدة - أن نستعين بأعداء هذه العقيدة في الحرب ..
وتخيل معي شعور الجيش المشرك، عندما تأتيه أنباء رفض القائد الإسلامي الاستعانة عليهم بغير المسلمين .. بيد أن الحروب الجاهلية في الماضي والحاضر يستعين فيها الخصم على خصمه بشتى الملل والنحل، الصالحة والطالحة، المهم أن يظفر الخصم بخصمه، فينهب ويسلب ويغدر .. دون الالتفات إلى قيم أو مثل!
أما القيادة الإسلامية الكريمة ترسخ هذا الأصل الأصيل في أخلاقيات الحروب، بحيث تُظهر عقيدتها السمحة، وتستميل نفوس الجنود الذين جاءوا لحرب المسلمين، ناهيك عن البعد الإعلامي، الذي يسحب القائد الإسلامي بساطه من تحت خصمه، الذي جاء بطرًا ورئاء الناس، فيظهر الخصم المشرك أمام الرأي العام العالمي والإقليمي بمظهر المتعجرف .. أما الجيش الإسلامي فيظهر بمظهر جيش الخير، الذي يحترم العقيدة، إلى الدرجة التي يرفض فيها أن يستعين في قتاله بمن يخالف عقيدته!
المطلب الثاني: مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: نحن نمشي عنك قال: " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما "
فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقر.
المطلب الثالث: الشورى:
ففي وداي ذَفِرَانَ بلغ النبي نجاة القافلة وتأكد من حتمية المواجهة العسكرية مع العدو .. فاستشار الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن إما ملاقاة العدو وإما الهروب إلى المدينة .. فقال لجنوده: " أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ"، ولا زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر فقال وأحسن. ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن .. حتى قام القيادي الإنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري.
فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه .. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي كنسي مستبد، يقيد الجنود بالسلاسل - في المعارك - حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن - في تصوراتهم - لفكر!
المطلب الرابع: النهي عن استجلاب المعلومات بال***:
وهذا مظهر آخر من المظاهر الحضارية في السيرة، فقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم من انتزاع المعلومات بالقوة من الناس، ففي ليلة المعركة بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلِيّ بْنَ أَبِي طالب فِي مفرزة إلَى مَاءِ بَدْرٍ في مهمة استخباراتية لجمع المعلومات، فوجدوا غلامين يستقيان للمشركين، فأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي، فقالا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ. فطفق الصحابة يضربوهما، حتى اضطر الغلامان لتغيير أقوالهما. فلما أتم رسول الله صلاته؛ قال لهما مستنكرًا: "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونهما إذا صدقا و تتركونهما إذا كذبا .. إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا؟!، صَدَقَا، وَاَللّهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ".
هكذا كانت معاملة القيادة الإسلامية لمن وقع في قبض المخابرات الإسلامية للاستجواب، فنهى القائد عن ***** المستجوَب، أو انتزاع المعلومات منه بالقوة، فسبق اتفاقية جينيف الثالثة لعام 1949 التي تحظر إجبار الأسير على الإدلاء بمعلومات سوى معلومات تتيح التعرف عليه مثل اسمه وتاريخ ميلاده ورتبته العسكرية،، وجرّم رسول الله كل أعمال ال***** أو الإيذاء أوالضغط النفسي والجسدي التي تمارس على الأسير ليفصح عن معلومات حربية.
وثمة تقدم إسلامي على هذه الاتفاقات الأخيرة، فرسول الله قد طبق هذه التعاليم التي تحترم حقوق الأسير، بيد أن دول الغرب في العصر الحديث لم تعير اهتمامًا لهذه الاتفاقات ولم تحترمها، والدليل على ذلك ما يفعله الجنود الأمريكيون في الشعب العراقي والأفغاني .. وما يفعله الصهاينة في الشعب الفلسطيني.
المطلب الخامس: احترام آراء الجنود:
فلما تحرك رسول الله إلى موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع، وهو عند أقرب ماء من العدو، فَقَالَ له رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم - مشجعًا -:" لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ".وبادر النبي بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه رغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء!
إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة.
المطلب السادس: العدل بين القائد والجندي:
قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بيت القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود .. أما محمد فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده ليّقتص الجندي منه .. أما الجندي فهو ِسَوَادِ بْنِ غَزِيّةَ، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي غمزة خفيفة في بَطْنِهِ - بالسهم الذي لا نصل له - وقال: " اسْتَوِ يَا سَوّادُ! " .. قال: يا رسول الله! أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي! فكشف رسول اللّهِ r عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: " اسْتَقِدْ" .. فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ! فَقَالَ النبي r : " مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ؟ "، قال: حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير
المطلب السابع: الحوار قبل الصدام:
أراد النبي أن يستنفذ كل وسائل الصلح والسلام قبل أن يخوض المعركة، فما أُرسل إلا رحمة للعالمين، فأراد أن يبادر بمبادرة للسلام ليرجع الجيشان إلى ديارهما، فتُحقن الدماء، أو ليقيم الحجة على المشركين، فلما نَزَلَ الجيش الوثني أرض بدر أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ إلَى قُرَيْشٍ، وقد كان سفيرهم في الجاهلية، فنصحهم عمر بالرجوع إلى ديارهم حقنًا للدماء .. فتلقفها حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أحد عقلاء المشركين، فقال: قد عَرَضَ نِصْفًا، فَاقْبَلُوهُ، والله لا تُنْصَرُونَ عليه بعد ما عرض من النّصْفِ. فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم. فانظر حرص الرسول على حقن الدماء وحرص أبي جهل على سفك الدماء، وانظر إلى هذه القيمة الحضارية التي يسجلها نبي الرحمة في هذه المعركة: الحوار قبل الصدام.
المطلب الثامن: الوفاء مع المشركين:
فقد قال النَّبِي في أُسَارَى بدر: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"!!
وذلك لأن المطعم قد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في جواره فور رجوعه من الطائف إلى مكة، وفي الوقت الذي تخلى فيه الناس عن حماية النبي خوفًا من بطش أبي جهل، قال المطعم: "يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم " .. وقد حفظ النبي r للمطعم هذا الصنيع وهذه الشهامة.
وقال النّبِيّ r في هذا اليوم أيضًا: "مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنّهُ إنّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا." وقد كان العباس في مكة بمثابة قلم المخابرات للدولة الإسلامية، وقد كان مسلمًا يكتم إيمانه .. أما أبو الْبَخْتَرِيّ فقد كان أكف المشركين عن المسلمين، بل ساند المسلمين في محنتهم أيام اعتقالهم في الشِعب، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، ومن ثم كانت له يد على المسلمين، فأرد النبي يوم بدر أن يكرمه. فالقيادة الإسلامية تحفظ الجميل لإصحاب الشهامة وإن كانوا من فسطاط المشركين.
المطلب التاسع: حفظ العهود:
قال حذيفة بن اليمان: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم ، لما جاوزناهم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم فيما ترى؟ قال: "نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم"!!.
وهذا الموقف من رسول الله يعد من مفاخر أخلاقيات الحروب في تاريخ الإنسانية، فلم ير المؤرخون في تاريخ الحروب قاطبة موقفًا يناظر هذا الموقف المبهر، ذلك الموقف الذي نرى فيه القيادة الإسلامية تحترم العهود والعقود لأقصى درجة، حتى العهود التي أخذها المشركون على ضعفاء المسلمين أيام الاضهاد، رغم ما يعلو هذه العقود من شبه الإكراه.
المطلب العاشر: النهي عن المثلة بالأسير:
لما أُسر سهيل بن عمرو أحد صناديد مكة فيمن أُسر، قال عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِرَسُولِ اللّهِ r: يَا رَسُولَ اللّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيّتَيْ سهيل بن عمرو، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا! وقد كان خطيبًا مفوهًا، يهجو الإسلام. فقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم - في سماحة وسمو -: " لا أُمَثّلُ بِهِ، فَيُمَثّلُ اللّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيّا!! ". فلم يمثل به كما يمثل الهمجيون في ***ى وأسرى الجيش المهزوم، وسن بذلك سنة حسنة في الحروب، ويبقى له الفضل والسبق في تحريم إهانة الأسرى أو إيذائهم.
هكذا كان نبي الرحمة في ميدان القتال، لا يستعين بمشرك على مشرك، يشارك جنوده، ويستشيرهم، ويعدل بينهم، ويحترم آرائهم، ويحاور أعدائه، ويكون وفيًا كريمًا لأهل الفضل منهم، ويكرم االأسرى، وينهى عن إيذائهم



لا نقول: أين نصر الله؟ بل أين المسلمون؟
في غزوة بدرٍ درس في نصر الله تعالى لأوليائه. حيث استجاب الله دعاء رسوله وأصحابه، ونصر حزبه، وأنجز وعده، مع وجود الفارق في العدد والعدة.
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)، لقد أراد الله سبحانه أن يعرف المسلمون على مدى التاريخ أن النصر سنةٌ من سنن الله، وهو سبحانه إنما ينصر من ينصره، فليس النصر بالعدد والعدة فقط، وإنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله (وما النصر إلا من عند الله).
ونحن اليوم قبل أن نقول: أين نصر الله؟ نقول: أين المسلمون؟
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونَ
وآلَمني وآلم كلَّ حر سؤال الدهر: أين المسلمونَ؟
أين المسلمون، واليهود يدنسون المسجد الأقصى وينتهكون الحرمات في الأرض المباركة؟! أين المسلمون وديار الإسلام تضيع الواحدة تلو الأخرى؟!.
لقد أصبح المسلمون اليوم مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا أراد المسلمون نصر الله فلينصروا الله بالتمسك بدينه أولاً، ثم بالأخذ بأسباب النصر من قوةٍ وعُدة، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
يا قدس مهما الليل طال *** فلن يدوم الاحتلال
الكفر ولّى لن يعود *** ولست في هذا مغال
الفجر آت لا محال *** والظلام إلى زوال
لاحت تباشير الصباح *** وجاء دورك يا بلالف

كيف انتصر المسلمون في غزوة بدرٍ الكبرى؟
(هذا الدين منهجٌ كامل)
هذا الدين العظيم الذي كان سبب فتوحات المسلمين، هذا الدين العظيم الذي نقل المسلمين من رعاة للغنم إلى قادة للأمم، منهج كامل تفصيلي، لا أدري كيف مُسخ هذا الدينُ في آخر الزمان إلى عبادات شعائرية تؤدَّى أداء أجوف ليس غير، من منا يظن أن الدين ينتهي إذا أُديت الصلوات الخمس؟ وصمت رمضان، وحججت بيت الله الحرام، ولم يكن استقامة لا في حديث ولا في تعامل ولم يكن هناك جهاد لا في نفس ولا في دعوة ولا في قتال، كيف أن هذا الدين أصبح عبادات شعائرية، مع أن العبادات الشعائرية في الدين هي معللة بمصالح الخلق أولاً، وعبادات معللة بسعادة الإنسان ثانياً.
(الأمر يقتضي الوجوب، ما لم تكن قرينة على خلاف ذلك)
النقطة الدقيقة: أن كل ما في القرآن الكريم من أمر يقتضي الوجوبَ، ما لم تكن قرينة على خلاف ذلك، حينما قال الله عز وجل:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (سورة الأنفال)
هذا أمر إلهي، نحن لماذا نصلي ؟ لأن الصلاة فرض، وهذا واجب على كل مسلم، وهذا أيضاً يجب أن يعد لعدوه ما ينتصر به على عدوه، لكن الإعداد واسع جداً.
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (كيف يُعدُّ كلُّ مسلمٍ صادقٍ العُدّة لأعدائه؟)
حينما يحتل الإنسان موقعاً في الحياة، ويتقن عمله ويوظف هذا الموقع لخدمة المسلمين، هو قد أعد للعدو عدة، فهذه الانتصارات الحاسمة التي كانت عبر التاريخ، لم تكن وليدة صدفة، ولا وليدة عشية أو ضحاها، بل وليدة إعداد نفسي وسلوكي كبير، ونحن نكون سذّج حينما نطمح أن ننتصر على عدو قوي متغطرس ماكر مخادع بأسباب بسيطة تافهة، لابد من أن نعد للأعداء قوة.
النقطة التي ينبغي أن تكون واضحة عند كل الإخوة المواطنين هو أن النصر هو أمنية كل مسلم و عربي ‍! النصر الذي تتوق أنفسنا إليه له شرطان أساسيان، كل من هذين الشرطين لازم غير كاف.
التعامل مع الله عز وجل تعامل وفق قواعد، ليس هناك تعامل مزاجي، هذا دين عظيم من عند خالق الأكوان، كل قوانين الأرض قننها الله عز وجل، ودينه في قوانين، قضية أن ننتصر بدعاء أجوف، أو ننتصر بمعجزة إلهية تأتينا ونحن لم نفعل شيئاً هذا مستحيل، لابد من تحقيق أسباب النصر ! من خلال القرآن الكريم، ومن خلال السنة الصحيحة، يتضح لنا أن أول أسباب النصر هو الإيمان بالله اليقيني، أنه لا ناصر إلا الله، وأن النصر بيد الله ومن عنده، والله وحده هو الذي يقرر من المنتصر، لقوله تعالى:
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ﴾ (سورة الأنفال)
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ (سورة آل عمران)
(معيار الإيمان: أن يحملك على طاعة الله)
أما حينما نعتقد أو نتوهم أن النصر من عند زيد أو عبيد، إن كنت مع هذه القوة الطاغية تنتصر، إن كنت على وئام مع هذه القوة القوية تنتصر، إن عقدت معاهدة مع هذه القوة تنتصر، حينما نبحث عن أقوياء في الأرض وننسى خالق السماوات والأرض لا يمكن أن ننتصر، لأننا أشركنا بالله عز وجل، إن الله لا يغفر أن يشرك به، حينما أؤمن أن الله مستحيل وألف ألف مستحيل أن يسلمنا لأعدائنا لأن الله عز وجل بيده كل شيء.
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (سورة هود)
حينما أؤمن الإيمان الذي يحملني على طاعة الله، والإيمان الذي لا يحملني على طاعة الله إيمان لا ينجي، بل إن إبليس مؤمن بهذا المقياس.
كل من اعتقد أن الله خلق السماوات والأرض يتوهم أنه مؤمن إبليس، قال: ربي فبعزتك آمن به رباً وآمن به عزيزاً وقال: خلقتني آمن به خالقاً وقال أنظرني إلى يوم يبعثون ومع ذلك هو إبليس وهو لعنه الله عز وجل واستحق جهنم لأبد الآبدين، فأن أؤمن فقط أن الله خلق السماوات والأرض دون أن أتحرك ودون أن يحملني إيماني على طاعته والتوكل عليه والاستقامة على أمره، هذا إيمان لا يقدم ولا يؤخر، لابد من الإيمان المقبول عند الله، فهو الإيمان الذي يحملني على طاعته.
فالإيمان شرط لازم غير كاف، لابد من إعداد العدة.
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾
(إلى أيِّ مدىً يكونُ إعداد العُدّة؟)
وقد يقول قائل: هناك فرق كبير بين إمكانات المسلم الآن، وبين إمكانات الطرف الآخر، نقول: لست مكلفاً أن تعد القوة المكافئة، بل أن تعد القوة المتاحة، حينما تؤمن الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، وحينما تعد العدة المتاحة أنت حققت أسباب النصر.
﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾ (سورة الروم)
﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾ (سورة النساء)
إذا كان لهم علينا ألف سبيل وسبيل، ففي إيماننا خلل.
﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾ (سورة الصافات)
آيات كثيرة تعد المؤمنين بالنصر.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ (سورة النور)
فالإيمان شرط لازم غير كاف، والإعداد شرط لازم غير كاف، يجب أن نعد لأعدائنا كل ما نستطيع من قوة مادية وبشرية وعتاد وعدة ومعلومات وتفوق علمي، إن أردنا النصر فله ثمن ليس باليسير، أما أن نتمنى على الله الأماني ونحن قاعدون، أو ننتظر من الله أن يحدث معجزة ونحن لا يمكن أن نغير شيئاً في حياتنا وعلاقاتنا وكسب أموالنا وإنفاق أموالنا هذا نوع من التمنيات التي لا يتعامل الله معها أبداً.
" ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب، من يعمل سوء يجزى به"
فنحن نتعامل مع الله بقوانين، وحينما تركنا من منهج الله بعض الأوامر والنواهي، وعطلنا بعض الأوامر الإلهية، دفعنا الثمن الباهظ، أنا باعتقادي أنه مرت سنون وسنون وعشرات السنين ونحن نعطل بعض الأورام الدينية فالنتيجة أننا دفعنا الآن الثمن الباهظ، أما لو أننا طبقنا منهج الله كله.
منهج الله كل لا يتجزأ، لا يمكن أن نقطف ثمار الدين إلا إذا أخذناه كله!
(خطورة المنهج الانتقائي في التعامل مع الدين)
أما الشيء الخطير الآن أن الإنسان ينتقي، يوجد مذهب اسمه انتقائي، أنا آخذ من الدين ما هو مريح وما يعجبني وأدع مالا يعجبني، فحينما آخذ بعض الأمر، وأدع بعضه الآخر أنا عندئذ لا أستحق النصر، وقد نهى الله على بني إسرائيل أنهم يؤمنون ببعض الكاب ويكفرون ببعض، ونحن نأخذ ما يعجبنا وندع مالا يعجبنا ‍! هذا ليس هو الدين، أن تنتقي مالا يعجبك وتترك مالا يعجبك، لابد من أن نأخذ الدين كله كمنهج، ومن أبرز مناهج الدين الجهاد في سبيل الله والإنسان إن لم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على ثلمة من النفاق.



غزوة بدرٍ الكبرى وثورات الشباب في العالم العربي!
يروي بعض الناس عن رسول الله صلًَّى الله عليه وسلَّم: (نصرت بالشباب)، وإن كان هنالك من إشارة لذوي الخبرة والجدارة، فإني أنبِّه على أنَّ هذا الحديث موضوع لا أصل له عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يصح روايته عن رسول الله إلا تنبيهاً على أنَّه موضوع مكذوب عليه الصلاة والسلام.
إلاَّ أنَّ معناه صحيح، فلقد كان أول مَن ناصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الشباب، وكان معهم كذلك بعض الغلمان الصغار، وكان منهم العشرة المبشرون بالجنة، مثل: أبي بكر الصديق أسلم وكان عمره (38) عاماً، وعلي بن أبي طالب وكان عمره (10) سنين، والزبير بن العوام وكان عمره(8) سنوات، وعمر بن الخطَّاب وكان عمره(26) عاماً، وسعد بن أبي وقاص وكان عمره (17) عاماً، وطلحة بن عبيد الله وعمره (17) عامًا، وعبد الرحمن بن عوف وكان عمره (30)عاماً، وأبو عبيدة عامر بن الجرَّاح وكان عمره (32) عامًا، وكل هؤلاء من العشرة المبشرين بالجنَّة وكانوا جميعاً شبابا، فهنيئاً لهم ولشبابهم ولصباهم.
ثم مَن ينسى مَن كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مساندته بهجرته من مكَّة إلى المدينة إلاَّ الشباب ونحن نستذكر تلك الأسماء العظيمة (علي بن أبي طالب، أسماء بنت أبي بكر، عبد الله بن أبي بكر)؟
ومن الذي استقبل رسول الله في المدينة وكانوا أشدَّ المحتفين به سوى الشباب؟
ومن نصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في معركة بدر إلاَّ الشباب؟
وهل ننسى أسامة بن زيد حيث استخلفه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على قيادة جيش كان فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، إلاَّ أحد الشباب وكان عمره دون العشرين؟!
أليس هذا كلَّه يُعبِّر عن مدى نصرة الشباب للدعوة الإسلامية، واحتفاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بهم ورضاه عنهم.
وهكذا في جميع الحروب والمعارك التي خاضها الإسلام مع دعاة الكفر والضلال، والزندقة والردة، ما كان مَن حارب فيه إلاَّ شباباً، ولا ننسى موقف محمد بن القاسم بن محمد الذي قاد الجيوش لفتح بلاد الهند والسند، حتَّى قال الشاعر فيه:
إنَّ السماحة والمروءة والندى * لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجَّة * يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
فغدت بهم أهواؤهم وسـمت به * همم الملوك وسورة الأبطال
إنَّ الخيرية في الأمَّة معدنها الأساس في الشباب، والفضل في الأمَّة والإصلاح والبناء لن يتم إلاَّ بسواعد الشباب، وهممهم ونشاطهم وجدهم واجتهادهم، ولماذا نبعد عن تراث سلفنا الصالح الذي أولى الشباب أهميَّة عظمى، فهذا الإمام محمد بن شهاب الزهري يقول: "لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، واستشارهم يبتغي حدة عقولهم".
ومَن منَّا لا يعرف الصحابي الجليل ابن عبَّاس، الذي كان شاباً ودعا له الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يفقّهه الله في الدين، وأن يعلمه التأويل، وتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ثمَّ جد واجتهد في طلب العلم فصار عالماً من كبار العلماء، وحينما كان في العشرينيات من عمره كان يجمعه عمر بن الخطَّاب مع كبار مستشاريه من الصحابة، ولربما سأله أحدهم عن سبب جمع ابن عبَّاس معهم مع أنَّهم من شيوخ الصحابة، وكثير منهم حضر معركة بدر؟! فيقول رضي الله عنهم: (ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول) هذا الصحابي الجليل والمفسر العبقري ابن عباس الذي تربَّى في مدرسة النبوَّة يقول: " ما آتى الله عز وجل عبدا علما إلا شابا، والخير كله في الشباب"، ثمَّ استدلَّ على كلامه بما في كتاب الله حيث تلا قوله عز وجل: { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }، وقوله تعالى: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }، وقوله تعالى: { وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا }.
وهكذا كانت حفصة بنت سيرين ترشد الشباب وتقول لهم: "يا معشر الشباب اعملوا، فإنما العمل في الشباب"، وقال الأحنف بن قيس: "السؤدد مع السواد". (أي: مَن لم يسد في شبابه لم يسد في شيخوخته).
خبّاب الحمد! موقع المسلم!
بعد معاناة من الظلم والقهر والتشريد والتغريب والتشويه وضياع الحقوق ومصادرة المستقبل والمحاولات الشريرة المستميتة لزرع اليأس في النفوس والتسليم الكامل لأهل الطغيان في تصريف الأمور وبعد استفحال قوة الشر، وبعد أن ظنوا أنهم قادرون على أن يستمر قهرهم لأمتهم. قيض الله لهذه الأمة شبابًا وأسبابًا وأقدارًا وجنودًا لا يعلمها إلا هو، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (المدثر: من الآية 31)، فانقهر الطغاة وزالت دولة الظلم وافتضحت خبايا الفساد واستعاد الناس دولتهم المخطوفة وإمكاناتهم المسلوبة، وأصبح الناس أمام أنفال متعددة مادية ومعنوية، وانطلقت الحريات لتفجر إبداعات وقدرات وطاقات يتصور الجميع أن حمايتها، وصيانتها وتعهدها هو واجب الوقت حتى يظل العطاء يغذي التنمية والنهوض بهذه الأمة حتى تتعافى من آثار ما عانته سنين طوال. ومن السيرة النبوية عظة ودروس.
فبعد معركة بدر نزلت سورة الأنفال، ويقول عنها عبادة ابن الصامت رضي الله عنه ".. ساءت أخلاقنا في الأنفال فنزلت..." يعني السورة. فعندما اختلف الصحابة على الأنفال بعد الغزوة، وقال الشباب نحن أصحاب الجهد الأكبر والقوة التي أدَّت... إلخ، وقال المهاجرون نحن أصحاب السبق، وقال الأنصار نحن الذين آوينا ونصرنا... وكل يطالب بمكاسب ونصيب أكبر من الأنفال.. كما يرى بعض شبابنا اليوم أن لهم الفضل والسبق والبذل.. و.. و.. و.. إلخ والجميع مُحقُّون فيما يقولون وما يتصورون بعد هذا الأداء الرائع وهذا النصر الذي منَّ به الله علينا..... ولكن...!!! ولكن لا ننسى آيات نزلت نعبد الله بتلاوتها ونتدبرها ونتعلم منها وتتعلم البشرية إلى يوم الدين، ونحفظ قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)﴾ (آل عمران). فمهما توافرت الأسباب بكل قوتها، ومنها أن تنزل الملائكة لتقاتل مع البدريين فما هي إلا بشرى ولتطمئن القلوب وما النصر إلا من عند الله بعزته وبكيفية وتوقيت وملابسات تأتي على حكمة الله ومراده سبحانه.
وبنظرة إلى الآيات ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)﴾ (الأنفال)، فإذا كان الخطاب موجهًا للبدريين فهو يشمل الأمة كلها- وفي الحديث "... لعل الله اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم"- وأين نحن منهم وتطالبهم الآية بـ: 1- اتقوا الله. 2- وأصلحوا ذات بينكم.
3- وأطيعوا الله ورسوله وبرد استجابتهم لهذه الأوامر إلى إيمانهم ويستحثُهم ويستنهض حفيظتهم بـ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. فتقوى الله في هذا الموقف تفرض عليهم إصلاح ذات البين طاعة لله ورسوله.
ولا يخفى أهمية إصلاح ذات البين فبها تصطف الجماعة وتصطف الأمَة كالبنيان المرصوص وتنعم بسلامة الصدر ويقوي بعضها بعضًا.
قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم فساد ذات البين بأنها الحالقة التي تحلق الدين، وترد الآية هذه الأعمال إلى شرط توفر الإيمان ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وتبين الآيات من هم المؤمنون ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)﴾ (الأنفال) فقدمت الآيات الأعمال القلبية في صفات المؤمنين قبل إقامة الصلاة والإنفاق. فإصلاح القلوب حتى توجل عند ذكر الله ويزداد إيمانها كلما تليت آيات الله فهو الذي عليه توكلهم... فالله هو الغاية... شعارك (الله غايتنا)، وتأتي أعمال الجوارح بإقامة الصلاة والإنفاق والتربية السلوكية التي تحقق للقلب غايته.
تنطلق الآيات تربي الأمة على ضوابط العمل والتأكيد على أن العمل لله لا ضامن له إلا الله العزيز السميع العليم، وأن الله يوهن كيد أعدائه وأن منهج الله هو الحياة وأن من يتق الله يجعل له فرقانًا، وأن... وأن.... وأن.... دروس تربوية إيمانية وسلوكية تمتد عبر أربعين آية من السورة العظيمة قبل أن تتحدث في آية واحدة عن كيفية تقسيم الغنائم ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)﴾ (الأنفال)، في آية واحدة من مسيرة الآيات التي تستمر لتضع منهج حياة الأمة وميثاقها في السلم والحرب في جوانب متعددة. ويظل إخلاص العمل لله ونشر دعوته وإعلاء كلمته والحفاظ على ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، وبتأكيد على أن هذا الأمر يعمل به الكافرون ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)﴾ (الأنفال).
فيا شباب 25 يناير كونوا شباب الأنفال الذين تربوا على دستورهم الذي سطرته آيات الرحمن، والله ناصركم ما دمتم بحبله مستمسكين.

إن ما يقوم به الشباب العربي الثائر هو الدين نفسه وليس من الفتنة في شيء، لافتا إلى أن "السلفية المتعصبة" والصوفية اتفقتا على تسفيه الثورات العربية عبر الترويج لما سماها "ثقافة سامة تربط الفتنة بالخروج على الحكام".
و "علاقة الحاكم بالمحكوم في ظل متطلبات الشرع والعصر"، أن الاسلام يأمر بمجاهدة الظالمين وإزالة "الظلم الذي يمارسه الحكام في أبشع صفاته".


وكثير ممّن ينتمون لمنهج السلف يجهلونه ولذلك اختلفوا بينهم ، كلٌّ يزعم أن الصواب معه ، فحصلت بينهم صراعات مريرة ، بل وصل الأمر ببعضهم إلى التكفير لغيرهم أو التفسيق والتبديع نتيجة للجهل بمنهج السلف ، فلم يتبعوه بإحسان ، بينما فِرق أخرى من الحزبيين تُزهد بمنهج السلف ، وتتبع رموزاً من حركيين ومنظرين أبعدوهم عن منهج السلف ، فاعتنقوا أفكاراً غريبة عن منهج السلف ، وكلا الفريقين من هؤلاء وهؤلاء على طرفي نقيض وفي صراع مرير ، أفرحوا به أعداء الإسلام ، ولا ينجي من هذا الصراع والاختلاف بين صفوف شباب الأمة إلا الرجوع الصادق إلى الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته ، وهذا لا يحصل ولا يتحقق إلا بتعلم العقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها ، وهذا - ولله الحمد - مضمَّن في مناهج الدراسة وكتب العقيدة المقررة في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا!


([1]) انظر: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/291).

([2]) حيزوم: اسم الفرس الذي يركبه الملك.
(3) خطم: الخطم: الأثر على الأنف



([4]) مسلم -الجهاد، باب الإمداد بالملائكة رقم (1763).

([5]) البخاري -المغازي، باب فضل من شهد بدرًا، رقم (3995).

([6]) الأجلح: الذي انحسر شعره على جانبي رأسه. (6) الأبلق: ارتفع التحجيل إلى فخذيه.



([8]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص247. (8) نفس المصدر، ص247.



([10]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131، 132).

([11]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131، 132)

([12]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/145).


اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 04-07-2015, 06:22 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفتوحات الاسلامية فى رمضان
(الجسر والبويب.. من الانكسار إلى الانتصار)


د. راغب السرجاني


ترتبط البدايات الأولى لتلك الفتوحات بعد انتهاء حروب الردة، فقد وجد المسلمون أن عليهم أن ينشروا الإسلام في تلك البلاد، وبدأ ذلك عندما طارد المثنى بن حارثة بعض المرتدين حتى دخل جنوب العراق، فاستأذن أبا بكر t.

كان مع الفرس عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّا أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظارًا لهجوم الأفيال وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، لكن أبا عبيد است*** وقال: لأقاتلَنَّ حتى النهاية. وأمر أبو عبيد أن يتخلى المسلمون عن الخيول، ويحاربوا الفرس جميعًا وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول، وأصبحوا جميعًا مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال.
ولم يتوانَ المسلمون عن القتال وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي t وقال: دلوني على م*** الفيل. كما قال من قبل المثنى بن حارثة t، فقيل له: ي*** من خرطومه. فتقدم t ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: يا أبا عبيد، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير. فقال والله لا أتركه، إما ي***ني وإما أ***ه. وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل و***ه أبو عبيد بن مسعود، ولكن الفيل لا يزال حيًّا وهو مُدرَّب تدريبًا جيدًا على القتال، وأخذ أبو عبيد يقاتل هذا الفيل العظيم، ويقف الفيل على قدميه الخلفيتين ويرفع قدميه الأماميتين في وجه أبي عبيد، ولكنَّ أبا عبيد لا يتوانى عن محاربته ومحاولة ***ه، وعندما يشعر بصعوبة الأمر يوصي من حوله: إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش ثم لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدِّد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش.
وهذا أيضًا من أخطاء أبي عبيد؛ لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه ليس حبًّا في الحياة ولكن حرصًا على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب؛ ولأنه بم*** الأمير تنهار معنويات الجيش وتختل الكثير من موازينه. ومن الأخطاء أيضًا أن أبا عبيد أوصى بإمارة الجيش بعده لسبع من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأولى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب t.
استشهاد أبي عبيد وتولي المثنى

ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقه أشلاء t، وتقبله في الشهداء.. ويتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول السبعة ويحمل على الفرس ويست*** ويُ***، وكذا الثاني والثالث وهكذا، وتأتي الإمرة للمثنى بن حارثة، والأمر كما نرى في غاية الصعوبة، والفرس في شدة هجومهم على المسلمين.. وبدأ المسلمون في الانسحاب.. ويخطئ أحد المسلمين خطأ جسيمًا آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه ويقول: والله لا يفر المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم. ويستأنف الفرس القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟ فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.

انسحاب منظم

بدأ المثنى t وفي هدوء يُحسب له يقود حركة الجيش المسلم المتبقي بعد الهجمات الفارسية القاسية والشديدة، ويقول لجيشه محمِّسًا لهم: يا عباد الله، إما النصر وإما الجنة. ثم نادى على المسلمين في الناحية الأخرى أن يصلحوا الجسر ما استطاعوا، فبدءوا يصلحون الجسر من جديد، وبدأ المثنى t يقود عملية الانسحاب من المكان الضيق أمام القوات الفارسية العنيفة، وأرسل إلى أشجع المسلمين واستنفرهم ولم يستكرههم، وقال: يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته. فتقدَّم لحماية الجسر عاصم بن عمرو التميمي وزيد الخيل وقيس بن سليط صحابي رسول الله وسيدنا المثنى بن حارثة على رأسهم، ووقف كل هؤلاء ليقوموا بحماية الجيش أثناء العبور، ويحموا الجسر؛ لئلا يقطعه أحد من الفرس.

ويقول المثنى بن حارثة للجيش في هدوء غريب: "اعبروا على هيِّنَتكم ولا تفزعوا؛ فإنا نقف من دونكم، والله لا نترك هذا المكان حتى يعبر آخركم". ويبدأ المسلمون في الانسحاب واحدًا تلوا الآخر، ويقاتلون حتى آخر لحظة.. ويكون آخر شهداء المسلمين على الجسر هو سويد بن قيس أحد صحابة النبي ، وآخر من عبر الجسر هو المثنى بن حارثة t. وبمجرد عبوره الجسر قطعه على الفرس، ولم يستطع الفرس العبور إلى المسلمين، وعاد المسلمون ووصلوا إلى الشاطئ الغربي من نهر الفرات قبل غروب الشمس بقليل، وكما نعرف فالفرس لم يكونوا يقاتلون بالليل؛ لذا تركوا المسلمين، وكانت فرصة للجيش الإسلامي لكي ينجو منسحبًا إلى عمق الصحراء.
كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان.. وخلال عشرين يومًا من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك وهزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ولم يبق مع المثنى t غير ألفين من المقاتلين، وأرسل المثنى بالخبر مع عبد الله بن زيد لعمر بن الخطاب، ويبكي عمر t على المنبر، ويُعلِم المسلمين حتى يستنفرهم للخروج مرة أخرى؛ لمساعدة الجيش الموجود في العراق.
عودة الروح
بعد أن انسحب المثنى بقواته من الجسر، فعل شيئًا غريبًا، فقد وصل إلى منطقة الحفير، وتابعتهم بعض قوات الفرس في اليوم الثاني للمعركة 24 من شعبان.. يأخذ المثنى مجموعة من الجيش ويقرر الهجوم على الجيش الفارسي لسحب فرحة النصر منهم، وتقدم t صوب أُلَيِّس, ووجد حامية صغيرة من الفرس تسير على نهر الفرات، فيحاصرها وي*** من فيها.. ورغم صغر حجم هذه الموقعة إلا أنها أحدثت هزّة عنيفة في الفرس, فلم يكن الفرس يتوقعون على الإطلاق أنه ما زالت لدى المسلمين قوة تمكنهم من الدخول في أي قتال أو معارك بعد الجسر، كما أحدثت هذه الموقعة الصغيرة رفعًا لمعنويات الجيش الإسلامي.
معركة البويب رمضان 13هـ

توجه الجيش الفارسي من المدائن في طريقه إلى الحيرة، وذلك لمقابلة المثنى بن حارثة الذي يعسكر بجوار الحيرة، وعلمت المخابرات الإسلامية بهذا الأمر واستفاد المثنى t من الأخطاء السابقة ومن خبراته مع خالد بن الوليد t، فقرر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى البُوَيْب، وأرسل رسائل إلى أمراء القوات الإسلامية القادمة من المدينة بأن يتوجهوا إلى هناك، وكان المكان الذي اختاره في غرب نهر الفرات.. فهذا النهر يفصل بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، وجاء المدد الإسلامي وانضم إلى جيش المثنى t، وأصبح قوام الجيش ثمانية آلاف، والجيش الفارسي ما بين الستين والسبعين ألفًا على الضفة الأخرى لنهر الفرات.

وأرسل الجيش الفارسي -كالعادة- رسالة إلى المثنى t، فيها: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فأجاب المثنى t الفرس بأن يعبروا هم إلى المسلمين.. كان المثنى t قد نظم جيشه جيدًا، فجعل على الميمنة بشير بن الخصاصية t، وعلى الميسرة بُسر بن أبي رُهم، وكان المثنى t في مقدمة الجيش، وجعل فرقة في الجيش باسم فرقة الاحتياط كانت في المؤخرة لا تشترك في القتال، وعلى رأس هذه الفرقة مذعور بن عدي، وفرقة للخيول على رأسها أخوه مسعود بن حارثة، وعلى فرقة المشاه المُعَنَّى بن حارثة، وبدأ يحفِّز الجيش للقتال، ويمر على كل قبيلة بمفردها قائلاً لأهلها: والله لا نحب أن نُؤتى من قبلكم اليوم، ولا أكره شيئًا لي إلا أكرهه لكم. وأصبح الجيش المسلم مهيأ للقتال جيدًا، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيق إلى أرض حاصرها المسلمون في كل مكان، ويتكرر المشهد.
فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة، وفي شمالهم نهر البويب، والجيش الإسلامي يحاصر المنطقة بأكملها، وتدخل القوات الفارسية في المنطقة الضيقة ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأن المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيقة، ويقف جيشهم بكامله صفوفًا بعضهم خلف بعض، ويقابل صفهم الأول فقط صف المسلمين الأول، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة في الصف الأول من كلا الجيشين، فلا قيمة لعدد الجيش إذن، وإنما يُبنى النصر أو الهزيمة على مدى قوة الصف المحارب من كلا الفريقين، وإن كان على المسلمين أن يحاربوا وقتًا طويلاً؛ نظرًا لكثرة الجيش الفارسي -وكان هذا اختيارًا موفقًا من المثنى t- وتعويضًا لما حدث في معركة الجسر من اختيار سيئ لأرض المعركة.
كانت فرسان الجيش الإسلامي في المقدمة وفي مقدمة الفرس ثلاثة أفيال، وأوصى المثنى جنده بالصبر في القتال، وبالفعل صبروا كثيرًا؛ ونظرًا للتدافع الشديد من قبل الفرس بدأ الفرس يهجمون على ميمنة الجيش الإسلامي بقيادة بشير بن الخصاصية t، وكان المثنى t وهو في المقدمة قد رأى اعوجاجًا في صف البشير، فأشار إلى أحد الرسل أن يذهب إليهم ويقول لهم: الأمير يُقرِئكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.
وفكر المثنى t بعد أن رأى صفوف الفرس الكثيرة متلاحمة تلاحمًا قويًّا ويصعب السيطرة عليها وهي بهذا الوضع، فقرر أن يفرِّقها لينتصر عليها، فنادى t على جرير بن عبد الله t وقبيلته بجيلة، وبدأ يضاعف الضربات على وسط الجيش الفارسي، واستطاع الجيش الإسلامي فصل الجيش الفارسي عن بعضه تمامًا، ووفَّق الله جرير بن عبد الله البجلي ف*** مهران بن باذان قائد الفرس، وبدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي.
وبدأ الفرس يفكرون في الهرب، وذهب المثنى t بنفسه وقطع الجسر على الفرس الذين يريدون الهروب، وانحصر الفرس في هذا المكان وليس لهم إلا أن يقاتلوا، وبدأ المسلمون في معركة تصفية مع الجيش الفارسي.. انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا، وقُتل أكثر من خمسين ألفًا من أهل فارس.
ومع أن قطع المثنى t كان أحد أسباب النصر للمسلمين والهزيمة للفرس إلا أن المثنى t حزن لهذا الأمر؛ لأنه أكرههم على القتال، وكان يجب ألا يُقطع خط الرجعة على الفرس، وندم المثنى t وأوصى جيشه بعدم تكرار هذا الأمر في المعارك الأخرى. ولأنه ظن أنه أخطأ، جمع جيشه وعلّمه الصواب، معترفًا بخطئه غير متعالٍ على جنده.
تتبع الفارين وفتح السواد
بعد هذا الانتصار ارتفعت المعنويات الإسلامية إلى درجة عالية.. لذا لم يكتف المثنى t بما تم، وأرسل قواته لتتبع الفارِّين، ولفتح الأراضي التي كانوا قد تركوها منذ فترة قصيرة، وأرسل مجموعة من القواد مع جيوشهم إلى منطقة السواد ما بين دجلة والفرات، وانتشرت القوات الإسلامية تفتح هذه الأراضي التي كانت قد عاهدت المسلمين من قبل ثم نقضت عهودها معهم، واستخلف المثنى tt على الحيرة، وظل هو في البويب يدير الموقف. بشير بن الخصاصية
وقد تم للقوات الخمس التي أرسلها المثنى فتح الجزيرة، وكانت في منطقة ساباط قلعة يوجد بداخلها مجموعة من الفرس قد رفضوا الاستسلام، فأرسل عصمة وعاصم وجرير بن عبد الله إلى المثنى يطلبون رأيه في هذا الأمر، فأذن لهم بحصارها وقتالها، وحاصرت القوات الإسلامية الثلاث هذه المنطقة وتم فتح قلعة ساباط في هذه الموقعة (ساباط)، وبهذا سيطر المسلمون على هذه المنطقة كلها ما بين الأبلة وحتى المدائن.. كان هذا شيئًا عظيمًا للمسلمين بعد الهزيمة الكبيرة في معركة الجسر، وبعد أن ظن الفرس أنه لا قيام للجيش الإسلامي، لكن أراد الله أن يستكمل المسلمون النصر في هذه الموقعة.


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 05-07-2015, 07:46 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

احداث رمضانية
(رمضانُ و فتح مكَّة)

أهمِّيَّةُ فتح مكة وخصائصه!

فتح مكة: رسم ملامح مرحلة التّمكين:
إذا كانت ثمة مميزات خاصة لغزوة بدر، ومنها أنها أول ظهور عسكري للمسلمين، فيه الكثير من المغامرة والمخاطرة، نظرا لتفاوت ميزان القوة بين المسلمين الذين كانوا في مرحلة البناء والإعداد لكيانهم الجديد، وبين قريش التي رأت في المناوشة فرصة لاستئصال المسلمين والقضاء عليهم نهائيا؛ لكن العناية الإلهية تدخلت، وساقت للمسلمين القلة عددا وعدة نصرا تاريخيا، كانت الدعوة في أمس الحاجة إليه، لتكتسب موقعا وهيبة في الساحة الإقليمية ـ كما يعبر عنه بلسان العصر ـ يضمن لها البقاء والاستمرار. من جهة أخرى تتجلى خصائص غزوة بدر الكبرى في الأسس التربوية والتعبوية التي تلخص شروط النصر، كما تفصلها سورة "الأنفال".
من هنا تعتبر غزوة بدر مدرسة تربوية وتعبوية للمسلمين وهم في مرحلة الإعداد، وتأتي غزوة فتح مكة لترسم لنا معالم مرحلة التمكين وكيفية التعامل مع الخصوم والأعداء، وتسمو بالمسلمين -وهم أصحاب رسالة ودعوة للعالمين- عن الحسابات الضيقة، والزج بالعباد والبلاد في متاهات تبذر الجهود والطاقات والوقت، عوض صرفها في البناء، وتهيء الظروف لتدخل الأجنبي.
فتح مكة مطلب حيويّ إستراتيجيّ:
أما على المستوى الدعوي والسياسي والعسكري، ففتح مكة كان مطلبا حيويا، لما لقريش من وزن إقليمي: دينيا باعتبارها محج القبائل العربية، وصدها للإسلام يجعل دخول العديد من القبائل متعذرا بحكم علاقاتها مع قريش، واقتصاديا باعتبار مكة محوراً تجاريا، وممرا أساسيا بين شمال شبه الجزيرة والشام، لهذه العوامل ظلت قريش"وفية" لموقفها العدائي للإسلام، وكانت الطرف الأقوى في جميع المخططات للنيل منه.
إذن ففتح مكة معناه: القضاء على العدو التاريخي للإسلام، وتحرير شبه الجزيرة العربية من الوصاية القرشية، ولا عجب إذا تسارعت وتيرة اعتناق الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا بعيد الفتح، يقول ابن القيم: "هو الفتح الأعظم الذي أعزَّ الله به دينهُ ورسولهُ وجنده وحزبه الأمين، ... وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا .. "(2)
إضافةً إلى ذلك: هناك اعتبارات رمزية لا تقل أهميةً: كونُ مكةَ قبلةَ المسلمين، ومنطلق الدعوة التي يحنُّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، عوامل كلها تجعل فتح مكة في الاستراتيجية النبوية مسألة وقت وتهيؤ ظروف ذاتية وموضوعية.

كان الوضع الإسلاميُّ بعد جمادى الثانية من سنة ثمان من الهجرة وأوائل رجب من نفس العام في غاية الاستقرار؛ إذ إن هناك رهبة وهَيْبة للدولة الإسلامية، وهناك انتصارات متكررة في صورة جديدة لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.
وهذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة قد انقضت، ومن بعدها مباشرة ستبدأ فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي مقدمات فتح مكة.
وحين نتكلم على فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة كان لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذكر الفتح معرَّفًا هكذا (الفتح)، انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا؛ فكان انتصار المسلمين في خيبر فتحًا، وعلى الرومان في مؤتة فتحًا، وعلى المشركين في بدر فتحًا. فكل هذه فتوحات، إلا أنه إذا ذُكر الفتح فقط، عُرف أنه فتح مكة.
وهذا الفتح كان ما قبله شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر، حتى إن الرسول كان يقول: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ" [1].
ويقول رب العالمين I: { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
أي: إن ما قبل الفتح كان شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر؛ فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر، فكان الفتح بالفعل لحظةً فارقة حقيقية؛ إذ معناه التمكين لدين رب العالمين I، وكان معناه النصر، ومعناه السيادة.



فتح مكّة: الخلفيّة الأساسيّة

الموقف العام في الجزيرة العربية:
1. المسلمون:
كانت هناك هدنة الحديبية خيراً على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.
ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضاً، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.
2. المشركون:
أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.

يتفق الدارسون على أن مواجهة عسكرية حاسمة ومعركة فاصلة باتت وشيكة بين قريش التي نفذ صبرها بعد تنامي قوة المسلمين التي غدت تطوق نفود قريش، وجاء قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء العمرة في السنة السادسة للهجرة ليضع قريش في حرج كبير، لا سيما والمسلمون لم يخرجوا لقتال، فهم في شهر ذي القعدة الحرام، يسوقون الهدي، ولا يحملون السلاح؛ الأمر الذي انتهى بتوقيع معاهدة صلح الحديبية، اعتبره القرآن فتحا مبينا كما سماها في سورة "الفتح"، وقد وفرت معاهدة صلح الحديبية أسباب فتح مكة بشكل غير مباشر من خلال البند الثالث الذي يقول: " من أحب أن يدخل في عقد محمد (نقول صلى الله عليه وسلم) وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق."
بمقتضى هذا البند دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش، وكان بين القبيلتين عداوة وثأر كبيرين، فأمنت كل منهما نفسها بهذا التحالف، لكن بني بكر استقوت على خزاعة بقريش ومكانتها بين العرب فأصابت منها ثأرا قديما، و***ت منهم رجالا، وتورطت قريش في العدوان بسلاحها ومقاتليها؛ فسارعت خزاعة تستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالب بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك.
هكذا تكون قريش قد جنت على نفسها، وهي تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يتأخر في نصرة خزاعة، فسارع أبو سفيان لإنقاذ الموقف، في محاولة لاستغفال المسلمين، وتجديد معاهدة الصلح، مثلما سارع الرسول صلى الله عليه وسلم لتأديب قريش على غدرها، فالعدوان على خزاعة عدوان صريح على المسلمين، ولم تنجح محاولة أبي سفيان وعاد إلى مكة موقنا بمواجهة عسكرية مع المسلمين الذي نمت قوتهم بشكل سريع خلال سنتي الصلح.

بنود صلح الحديبية: للتَّذكير:
البند الأول: إيقاف الحرب بين الفريقين مدة عشر سنوات من تاريخ الصلح.
البند الثاني: من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش ومن معهم في عهد الصلح مسلمًا بغير إذن وليه فعلى الرسول أن يرده إليهم.
البند الثالث: من أتى قريشًا ومن معهم في عهد الصلح مرتدًّا عن الإسلام لم يردوه إلى المسلمين.
البند الرابع: أن بين الفريقين المتعاهدين عيبة مكفوفة.
العيبة في اللغة: وعاء من جلد يكون فيها المتاع، وجمعُها عياب، وعيب. والعيبة ما يجعل فيه الثياب، والعيبة: زنبيل من جلد يُنقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين في لغة همدان. مكفوفة؛ أي: مشرجة مشدودة. والتشريج الخياطة المتباعدة. ويقال لغة: كففت الثوب، أي: خطت حاشيته، وهي الخياطة الثانية بعد الشل؛ والتعبير بالعيبة المكفوفة كناية عن حفظ ما بين الفريقين وعدم إظهاره.
فهل المراد طيّ القلوب ما تعاقدوا عليه واتَّفقوا عليه من الصلح دون إخلال به، وتنقية الصدور من الغلّ والغشّ، أو كفّ مسبّبات الشَّرّ، وعدم إخراج شيء منها؟
احتمالان أوردهما أهل اللغة، ويظهر لي ترجيح المعنى الثاني، أي: ما بيْنَنَا من عداء وخلاف وخصام نكفُّه بعهد الصلح هذا، ونُبْقِيه داخل الصدور، لا نَجعل شيئا منه يندفع إلى الظاهر بقول أو عمل، كشتائم أو شعر هجاء، أو أي شيء آخر ينم عن عداء، كما يقول الخصمان إذا اصطلحا على المهادنة: ونطوي صفحة الماضي.
البند الخامس: أنه لا إسلال ولا إغلال.
لا إسلال: الإسلال في اللغة السرقة الخفية، وانتزاع البعير وغيره في جوف الليل من بين الإبل، أو من بين ما هو من نوعه. وإعانة الإنسان غيره على ذلك. والإسلال الغارة الظاهرة. ولا إغلال: الإغلال في اللغة الخيانة، والسرقة.
فتضمَّن هذا البند المصالحة على منع الخيانة، والسرقة الظَّاهرة، والخفيَّة التي تكون إسلالا، ومنع الغارة الظاهرة، ومنع الإعانة على شيء من ذلك.
البند السادس: مَنْ أحبَّ من قبائل العرب أن يدخُل في عهد محمَّد وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه.
ولمَّا علم النَّاس بهذا البند من بنود الصلح أسرعتْ خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وقد كانوا في الجاهلية مع بني هاشم في حلفِهم، وكانوا أهل نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وأسرع بنو بكر فقالوا: ونحن في عقد قريش وعهدهم.
وكان بين خزاعة وبين بكر إحن وضغائن وتِرات ودماء قديمة، فشملهما عقد الصلح، وصار واجبًا على المسلمين نصرة خزاعة إذا عدا عليهم بنو بكر أو قريش، وواجبًا على قريش نصرة بني بكر إذا عدت عليهم خزاعة أو المسلمون؛ لأنَّ على كل فريق أن ينصر من دخل معه في العقد والعهد، بموجب هذا البند.
البند السابع: أن يرجع محمد ومن معه من المسلمين عامهم هذا دون أن يؤدُّوا عمرتهم، فلا يدخلوا مكة ولا يطوفوا بالبيت، فإذا كان العام القابل خرجت قريش عن مكة، وأخلتها فدخلها محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، فأدوا عمرتهم، وأقاموا بمكَّة ثلاثًا، ليس معهم من السلاح إلا سلاح الراكب، وهي السيوف مغمدة في قربها.



أسباب فتح مكة
السَّبب الأساسيُّ، هو: خيانة قريش لصلح الحديبية!
تحالفت قريش مع قبيلة بني بكر، و***وا عددًا من رجال قبيلة خزاعة، وبذلك خانت قريش العهد الذي بينها وبين رسول الله، ومن ثَمَّ اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، والاستعداد لعملية كبرى من العمليات العسكرية، أو أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة!
وفيما يلي مزيد من التّفصيل:
أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرَّضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سراً بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر بالأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريش وبكر.
خزاعة تستنجد بالرسول
ما حدث بعد ذلك هو أن خزاعة أسرعت إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، في أربعين من قومه، يستنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستَنْجِزُه الوفاء بِمُوجبات العقد والعهد، وقد أنشد عنده بعضًا من أبيات الشعر، يعبر فيها عن المأساة التي تعرضت لها قبيلته، فكان مما قاله:
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا *** حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدًا *** ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا *** وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا *** إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا *** إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكَّدَا *** وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدًا *** وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا *** وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
وقد كان واضحًا في هذه الأبيات أن عمرو بن سالم كان قد أسلم عند قول هذه الأبيات، إلا أن معظم بني خزاعة لم يكونوا قد أسلموا بعدُ، وكان ***ى خزاعة من المشركين ومن المسلمين.
وكان ردُّ فعل الرسول عندما استمع إلى هذه الأبيات أنه لم يتردد لحظة واحدة، إنما قال في غاية الحزم والثبات: "نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ" [4].
نَعَمْ هو لم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بصرف النظر عن مِلَّة قبيلة خزاعة، مسلمة كانت أو مشركة، فإن كان معظم قبيلة خزاعة من المشركين فإن الحلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أيِّ اعتداء.
وقد أخذ الرسول هذا القرار بمنتهى الجدية، ولا شك أن هذا يعطي ثقة للمتحالفين، ويبين للحلفاء المشركين أخلاق المسلمين، وأنهم يدافعون عن الحليف (المعتدَى عليه) إذا ما أصابه مكروه، حتى ولو كان هذا الدفاع سيصيبهم بأذًى كبير.
بعد عمرو بن سالم قَدِم أيضًا بُدَيل بن ورقاء الخزاعي، وهو الذي كانت ترسله قريش ليقوم بالمعاهدات والمفاوضات بينها وبين المسلمين أيام صلح الحديبية؛ أي أن بُدَيلاً هذا رجل صديق لقريش، ومع أنه كان يعيش في مكة إلا أن قبيلته هي التي أصيبت داخل الحرم.
الآن يتجه بُديل ليشكو إلى رسول الله، وهو أمر غريب حقًّا؛ إذ إنه في ذلك الوقت كان مشركًا ولم يسلم إلا بعد فتح مكة، وفي ذلك الوقت أيضًا كان ما زال يعيش داخل مكة المكرمة، وتجارته وعلاقاته ومصالحه بكاملها كانت في داخل مكة المكرمة، بل إن بُديلاً هذا كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان زعيم مكة، ومع ذلك فحين أصيب لم يذهب إليه ليجعله يردُّ له ولقبيلته الاعتبار، أو أن يدفع لهم ديات ***اهم، إنما ذهب ليشكو لمن لا تضيع عنده الحقوق، ذهب إلى رسول الله.
وإني على أتم يقين أنه حين ذهب بُديل إلى رسول الله كان أقصى أحلامه أن يأخذ الرسول الفداء لخزاعة، أو ي*** من بني بكر ما يوازي ما قُتل من خزاعة، لكنه لم يخطر بباله أن الرسول سيفكر في فتح مكة، إلا أنه دُفِع إلى هناك ليكون سببًا من أسباب فتحها.
ويظهر أنَّ الوَحْيَ أبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان من قريش من نقض العهد، فعزم على غزْوِها، دون أن يخبر الناس، حتَّى أقرب الناس إليه، فأمر عائشة أمَّ المؤمنين أن تجهزه، ولا يعلم أحدٌ بالأمر.
فدخل عليها أبو بكر، فقال لها: ما هذا الجهاز؟
فقالت: والله لا أدري.
قال: والله ما هذا زمانُ غزوِ بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟
قالت: والله لا أعلم.
وكان هذا قبل أن يصِلَ إلى المدينة خبرُ نقض قريش عهدَها بنحو ثلاثة أيام.
ويبدو أنَّ أمَّ المؤمنين عائشة أنبأت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بِما جرى بينها وبين أبيها، فأعلمها بالأمر، وأذِنَ لها بأن تُخْبِر أباها، وذلك جمعًا بين الروايات وهو ما ذكره الزرقاني.
وروى الواقديُّ أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: ((لقد حدث يا عائشة في خزاعة أمر)).
قالت: أترى قريشًا تَجترئُ على نقض العهد الذي بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟
قال: ((ينقضُون العهد لأمر أراده الله)).
قالت: يا رسول الله، خير؟
قال: ((خير)).
وجاء في حديث ابن عمر عند ابن عائذ، أنَّ ركب خُزاعة لما أخبروا الرسول بِما كان من بني بكر وقريش قال لهم: ((فمَن تهمتكم وظِنَّتُكم؟)) أي: على من تُوقِعون تُهْمَتَكم وظنَّتَكم.
قالوا: بني بكر.
قال: ((أكلها؟)).
قالوا: لا، ولكن بنو نفاثة، ورأسهم نوفل.
قال: ((هذا بطنٌ من بني بكر، وأنا باعثٌ إلى أهل مكَّة فسائِلُهم عن هذا الأمر، ومُخيِّرُهم في خصال ثلاث)).
فبعث إليهم يُخيِّرُهم بين:
1 - أن يدُوا قتْلى خزاعة. (أي: يدفعوا دية ***ى خزاعة).
2 - أو يبْرَؤُوا من حِلْفِ بني نُفاثة.
3 - أو ينبذ إليهم عهدَهُم على سواء. (أي: فيتحلَّل كلّ فريق من الالتزام بعقده وعهده).
فاجتمعتْ رؤوس قريشٍ للتَّشاوُر فيما عرض عليْهِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فتعجَّل "قرظة بن عمرو" من بين القَوْمِ، فقال: "لا ندي، ولا نبرأن ولكن ننبِذُ إليه على سواء". ورجع مبعوثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِما سمع منهم، فأخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ ندِمَتْ قريشٌ على ما كان منها، إذ تَخوَّفَتْ من الانتِقام وغزْوِ الرسول لها في بلدها، وأرادتْ أن تتدارَك الأمر مع الرسول، فاتَّفق كبراؤُها على أن يرسلوا زعيمَهُم "أبا سفيان بن حرب" إلى الرَّسول في المدينة، فيوثِّق معه عقد الهدنة، ويستزيد في مدَّتِها.



جهود المشركين من أجل تثبيت صلح الحديبية وإطالة أمده
قريش تدرك الخطأ الذي وقعت فيه:
عُقد مجلس استشاري كبير، جلس فيه أبو سفيان مع قادة مكة؛ مع عكرمة بن أبي جهل، ومع صفوان بن أمية، ومع سهيل بن عمرو، ومع غيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة نقض المعاهدة، لوجود انطباع عند قريش وخاصةً عند أبي سفيان أن المسلمين وصلوا إلى مرحلة كبيرة من القوة، وكان من الواضح في صلح الحديبية نفسه أن الغلبة للمسلمين، والقوة والبأس لصالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صالح قريش، التي ما كنت تسلِّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية.
ثم إن أبا سفيان قد سافر إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء العجيب، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بانطباع هائل عن رسول الله، لدرجة أنه خرج يضرب يدًا بيد ويقول: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة [1]، إنه يخافه ملكُ بني الأصفر (هرقل) [2].
ثم إن أبا سفيان ومن معه من قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية هنا وهناك في خيبر، وكانت انتصارات كبيرة وضخمة، ولا يتخيلها أهل قريش. ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة؛ فقد أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عُمان، وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك انطباعًا بالرهبة والهلع عند قريش من مقابلة المسلمين.
أضف إلى ذلك أن قريشًا أصبحت تبحث عن الفوائد المحققة من مساعدتها لبني بكر وخيانتهم لصلح الحديبية، و*** مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد قريش أي نوع من الفائدة تحققت، فكانت هذه المساعدة تهورًا ملحوظًا، وكان هناك آثارٌ ضخمة سوف تتلو هذا الحدث دون فائدة لقريش تذكر، إضافةً إلى خلفية عمرة القضاء؛ فإنه منذ أقل من سنة واحدة قَبِل أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرجل الذي طردوه وعذبوه وأساءوا إلى سمعته وحاربوه بكل طاقاتهم، وقَبِلوا أن يدخل مكة ومعه ألفان من أتباعه لأداء العمرة، بينما هم يخلون له مكة تمامًا، فهذا -لا شك- قد ترك انطباعًا نفسيًّا قاسيًا عند أهل قريش.
ولا ننسى أيضًا مظاهر القوة التي حرص أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين، وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين في عمرة القضاء؛ فهذه الأشياء كانت تمهيدًا نفسيًّا إيجابيًّا للمسلمين، وكانت تمهيدًا نفسيًّا سلبيًّا للمشركين، وهذا كله من تدبير الله. وقد أدركت قريش في اجتماعهم أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة أمر محتمل، وبناءً على هذا الاجتماع أخذت قريش قرارًا صعبًا، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة.
أبو سفيان يذهب لطلب العفو من النَّبي صلى الله عليه وسلم:
اختارت قريش أبا سفيان وهو سيد مكة وزعيمها، وهو ليس مجرد سفير ترسله مكة، ولكنه زعيم مكة بكاملها، وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل وحروب متتالية مع المسلمين. وهنا يتنازل أبو سفيان عن كبريائه، وعن كرامته، ويذهب إلى المدينة المنورة، ويطلب من الرسول أن يطيل الهدنة مع قريش، وهذا شيء كبير! ولعلها المرة الأولى في تاريخ قريش التي تقدِّم فيها تنازلاً بهذه الصورة، ولكن أبا سفيان ذهب بالفعل إلى المدينة المنورة، وحاول قدر المستطاع أن يمنع الرسول من الانتقام لخزاعة، والثأر لكرامة الأمة الإسلامية، وأن يطيل المدة بأيِّ ثمن.
وهنا نأخذ قاعدة مهمة في حياتنا الآن وإلى يوم القيامة، وهي أنه إذا كان عدوك حريصًا على السلام، وحريصًا على تجنُّب الصدام بكل ما أوتي من قوة، ويدفعك إليه دفعًا، فاعلم أنه ضعيف، أو على الأقل يخشى قوتك، فلا تضعف ولا تجبن. وهنا يحاول أبو سفيان قدر المستطاع أن يتجنب الصدام مع المسلمين.
ولما وصل أبو سفيان» عُسفان «في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيداً، إلا أن بديلاً نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيه نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.
والجميع في المدينة يعلم أن هناك نقضًا للمعاهدة التي تمت بين المسلمين وقريش، وأنه قد جاء إلى المدينة المنورة لكي يطيل المدة، وخاصةً أن الرسول أنبأهم بقدوم أبي سفيان قبل أن يأتي في معجزة نبوية ظاهرة، قال: "كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ يَشُدُّ فِي الْعَقْدِ، وَيَزِيدُ فِي الْمُدَّةِ" [4].
((كأنَّكُمْ بأبِي سفيان قد جاء يقول: جدِّد العهد، وزد في المدَّة. وهو راجع بسخطة)).
وصل أبو سفيان إلى المدينة المنورة وذهب إلى ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رضوان الله عليها، وهي بنت أبي سفيان، وما إن اقترب أبو سفيان من الفراش ليتحادث مع ابنته، فإذا بها تطوي الفراش، وتمنعه من الجلوس عليه، فتعجب أبو سفيان وقال لها: يا بُنَيَّةُ، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟!
أرادت أم حبيبة -رضي الله عنها- أن تقف هذه الوقفة الصلبة الجريئة القوية مع أبيها؛ ليعلم أبو سفيان أن المسلمين جميعًا صفٌّ واحدٌ، وأنهم جميعًا على قلب رجل واحد!
واتجه أبو سفيان بعد ذلك إلى الرسول؛ ليحاول أن يُطيل المدة، وتحدث مع الرسول عن رغبته في إطالة مدة الصلح!
ولكن الرسول رفض تمامًا أن يردَّ عليه، ولم يكن هذا هو التصرف المعتاد من رسول الله؛ لأننا نعلم أن رسول الله كان دائمًا يحسن استقبال الضيوف، ويكرم الضيوف، وخاصةً أن هذا الرجل زعيم من زعماء قريش، وكان الرسول يستمع منه ويتحاور معه قبل ذلك، ولكن هذا لم يحدث في هذا الموقف؛ ليُشعِر أبا سفيان بمدى الجرم الذي أقبلت عليه قريش؛ ولأن الرسول يريد أن يفتح مكة وأن يستغل هذه الفرصة السانحة، ولا يريد لكلمات أبي سفيان أن تؤثر فيه بأيِّ صورة من الصور، ومع ذلك هو لم ينفعل على أبي سفيان، ولم يقل له فعلتم كذا وكذا، ولم يذكر كلامًا شديدًا لأبي سفيان؛ وذلك لكي لا يلفت نظر أبي سفيان إلى أن المسلمين يفكرون في فتح مكة، وأن الهجوم على مكة أصبح وشيكًا، فآثر أن يسكت، ولم يرد على أبي سفيان بكلمة واحدة، وكانت هذه إهانة كبيرة لكرامة أبي سفيان، وذلك بأن يأتي إلى رسول الله ثم لا يقبل الرسول أن يرد عليه.
أبو سفيان يذهب إلى أبي بكر وعمر وعليٍّ:
خرج أبو سفيان بهذه الهزيمة النفسية الكبيرة إلى أبي بكر الوزير الأول لرسول الله، وكنا نتوقع من أبي سفيان أن يرجع أدراجه إلى مكة المكرمة. وأبو سفيان لم يغضب غضبًا شديدًا، ولم يحدث ثورة كبيرة، ولم ينقلب بجيشه على المدينة المنورة، وهذا لم يحدث؛ لأنه في موقف الضعيف، ويعلم أنه أمام هذه الصلابة الإسلامية الواضحة؛ ومن ثَمَّ ذهب أبو سفيان إلى أبي بكر، وطلب منه أن يتوسط له عند الرسول، وأن يجدد المسلمون العهد مع قريش، ولكن الصِّدِّيق t قال له في صرامة واضحة: ما أنا بفاعل، فلن أتوسط بينك وبين الرسول.
فخرج أبو سفيان من عند أبي بكر بالصدمة الثالثة، ومع ذلك لم ييئس أبو سفيان واتجه إلى الوزير الثاني في الدولة الإسلامية، إلى عمر بن الخطاب t، وليته ما فعل، فعندما ذهب وطلب منه أن يتوسط له عند الرسول، ليجدد العهد بين قريش وبين المسلمين، قال عمر بن الخطاب بمنتهى القوة: أنا أشفع لكم عند رسول الله! فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.
أي لو معي جيش من النمل لأقاتلنَّكم به! ولننظر إلى قوة وصلابة عمر بن الخطاب t. وخرج أبو سفيان من عند عمر بن الخطاب، واتجه إلى علي بن أبي طالب t، وعلي t متزوج من السيدة فاطمة بنت الرسول، فدخل عندهما، وكان عندهما الحسن t يلعب بينهما، فقال: يا علي، إنك أَمَسُّ القوم بي رَحِمًا، وأقربهم مني قرابة، وقد جئتُ في حاجة، فلا أرجعَنَّ كما جئت خائبًا -ولننظر إلى الذل الذي وصلت إليه قريش- فاشفعْ لي إلى رسول الله.
فقال علي بن أبي طالب: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه. أي أن الرسول وصل إلى درجة من الغضب عندما سمع بخيانة بني بكر وقريش و*** رجال من خزاعة، ولا نعلم ما سيفعل، فلا أستطيع أن أكلمه أبدًا. فقال أبو سفيان للسيدة فاطمة رضي الله عنها: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بُنَيّك هذا -ولننظر إلى أيِّ درجة من المهانة والذل حينما يطلب أبو سفيان من السيدة فاطمة أن تأمر ابنها الحسن، وكان وقتها طفلاً صغيرًا يلعب بينها وبين علي بن أبي طالب- فَيُجِيرَ بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟
أي يخرج الغلام الطفل الصغير الحسن بن علي -رضي الله عنهما- ليجير أبا سفيان وقريشًا. فقالت السيدة فاطمة لتعطيه الضربة السادسة: والله ما بلغ بُنَيّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على النبي.
فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني.
فقال له عليٌّ: والله لا أعلم شيئًا يُغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فَأَجِرْ بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. أي قم وسط الناس واطلب الإجارة، ولعل أحد الناس يتشفع لك عند رسول الله.
فقال أبو سفيان: أوَترى ذلك مُغْنِيًا عني شيئًا؟
قال علي بن أبي طالب في وضوح: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك [6].
ومع هذا الإحباط الذي أصاب أبا سفيان إلا أنه قام في المسجد، وقال: يا أيها الناس، إني قد أَجَرْتُ بين الناس. فلم يقم أحد من المسلمين، إنها سبع ضربات متتالية لأبي سفيان زعيم قريش.
أبو سفيان يفشل في مهمته:
ركب أبو سفيان بعيره راجعًا إلى مكة، فمر على سلمان وصهيب وبلال y، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
وبدأ يتكلم سلمان وصهيب وبلال، وكانوا جميعًا من الذين يباعون ويشترون في مكة قبل الهجرة، وكان أبو بكر الصديق t يمر بجوارهم، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟!
أي أن أبا بكر نفسه تأثر بأزمة أبي سفيان، وذهب إلى الرسول يشكو له ما قال سلمان وصهيب وبلال، فما كان رد فعل الرسول؟ قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ".
ولم يقف الرسول مع أبي بكر الصديق في رأفته ورحمته بأبي سفيان، وإنما وقف مع سلمان وصهيب وبلال يقدِّر موقفهم، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ".
فأتاهم أبو بكر، وقال لهم: يا إخوتاه، أغضبتكم؟
قالوا: لا، يغفرُ الله لك يا أُخَيَّ [7].
إن الموقف الآن ليس موقف دعوة، ولكنه موقف تجهيز للحرب، وإن الأموال والديار والحقوق المسلوبة آن لها أن ترجع، وإن كنا قد قَبِلنا في الحديبية أن نقرَّ الهدنة دون عودة كامل الحقوق، فإن ذلك كان لظروف المرحلة السابقة، وتقديرنا لقواتنا وقوة عدونا في ذلك الوقت، أما الآن فالظروف قد تغيرت، ولن نقبل بما قبلنا به قبل ذلك أيام الحديبية؛ لذلك كان رد الفعل القوي من الرسول والصحابة y!
ورجع أبو سفيان إلى مكة، وفشلت المهمة التي قام بها فشلاً ذريعًا، وعاد إلى مكة، فقال له زعماء قريش: ما وراءك؟
فقال أبو سفيان: جئت محمدًا فكلمته، فوالله ما ردَّ عليَّ شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فوالله ما وجدتُ فيه خيرًا، ثم جئت عمر فوجدته أدنى العدو [8]، ثم جئت عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئًا أم لا؟
فقالوا: فبماذا أمرك؟
فقال: أمرني أن أُجِيرَ بين الناس، ففعلت.
قالوا: فهل أجاز ذلك محمدٌ؟
قال: لا.
قالوا: ويحك! ما زادك الرجل على أن لعب بك.
فقال أبو سفيان: لا والله ما وجدتُ غير ذلك [9].
وهكذا وُضعت قريش في مأزق خطير، وعلمت قريش أن هناك احتمالاً كبيرًا لغزو مكة، وبدأت قريش تترقب قدوم المسلمين، وهي لا تعرف ماذا تصنع؛ فلم يبقَ من أعوانها إلا بني بكر، ولم يعُدْ أمامها إلا الانتظار.

وقفةٌ عند موقف أم حبيبة:
مثل رائع في حب الرسول!
وصل أبو سفيان إلى المدينة المنورة وذهب إلى ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رضوان الله عليها، وهي بنت أبي سفيان، وزوجة الرسول، والتقى أبو سفيان بأم حبيبة رضي الله عنها، وكان هذا اللقاء بعد غياب ستة عشر عامًا متصلة؛ لأن أم حبيبة -رضي الله عنها- ظلت فترة طويلة من الزمن في الحبشة مهاجرة هناك مع زوجها عبيد الله بن جحش الذي تنصَّر هناك، ومات كافرًا، فتزوجها الرسول، ثم أتت إلى المدينة المنورة، ولم تدخل مكة طوال هذه المدة الطويلة، وكانت العَلاقة بينها وبين أبيها منقطعة، فكان أبو سفيان يظن أن أم حبيبة سوف تستقبله استقبالاً حافلاً. وما إن اقترب أبو سفيان من الفراش ليتحادث مع ابنته، فإذا بها تطوي الفراش، وتمنعه من الجلوس عليه، فتعجب أبو سفيان وقال لها: يا بُنَيَّةُ، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟!
أي: لم تجلسيني على هذا الفراش لأنه مكرَّم عندك أكثر مني، أم لأنك تريني رجلاً عظيمًا لا أقعد على هذا الفراش المتواضع فراش الرسول. فقالت السيدة أم حبيبة في صلابة وفي قوة:
"هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه".
فقال أبو سفيان: يا بنية، والله لقد أصابك بعدي شرٌّ [3]. ثم خرج من عندها.
ونحن نحتاج أن نقف هنا وقفة مع موقف السيدة أم حبيبة رضي الله عنها، والمحلل لهذا الموقف قد يقول: إن هذا الموقف فيه نوعٌ من الغلظة غير المقبولة من السيدة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان. وهذه المعاملة قد تكون غلظة إلا في هذا الظرف؛ لأن أبا سفيان هو زعيم مكة المكرمة،
وقد يُقال: هذا ليس هو السلوك الإسلامي العام مع الرَّحِم المشرك، أو الرحم غير المسلم؛ لأن الله أمر بمصاحبة الآباء والأمهات المشركين بالمعروف، قال الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ويؤكد هذا المعنى ما روته السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، عندما قالت - والحديث في البخاري -: قَدِمتْ عليَّ أمي، وهي مشركة في فترة صلح الحديبية، فاستفتت السيدة أسماء رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نَعَمْ صِلِيهَا" [5].
فهذا هو الأصل في المعاملة، ولكن موقف أبي سفيان حالة خاصة، وموقف مختلف، وكان موقف السيدة أم حبيبة صحيحًا؛ بدليل سكوت الرسول عن هذا التصرف من السيدة أم حبيبة رضي الله عنها، وخرج أبو سفيان من عند السيدة أم حبيبة بهذه الصدمة الكبيرة.



في الطَّريق إلى مكّة
الاستعداد للخروج إلى غزوةٍ ما:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للخروج من أجل الغزو، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم لهذا الخروج أيضاً، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً بنياته الحقيقية ولا باتجاه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من اسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.
ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.
حادثة حاطب بن أبي بلتعة:
ولما اقترب موعد التحرك، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة، وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً يسأله: ما حمله على ذلك؟ قال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم «. وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

الخروج:
* غادر المسلمون المدينة المنورة في العاشر من رمضان من السنة الثامنة الهجرية قاصدين فتح مكة، وكان جيشُ المسلمين مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم .. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوماً لا تعرف قريش عنه شيئاً. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.
* من لطيف ما حدث للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في طريق مكة:
لمّا كان بالجُحفة أنه لقيَ: عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً لله جل وعلا، ففرح النبي بعمه العباس فرحاً شديداً، ولقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وهو يختلف عن أبي سفيان صخر بن حرب زعيم قريش وقائدهم في غزوة أحد والخندق؛ حتى لا يحدث لبس كما سنرى بعد ذلك .. لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ولقيه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لشدة ما لقي منهما من الأذى، ومرير ولاذع الهجاء في مكة المكرمة. فقالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. إلا أن النبي قد أعرض عنهما صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى علي بن أبي طالب واستشاره ماذا يفعل؟ والله ما جاء إلا مسلماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه .. أتدرون ماذا قال علي الذكي العبقري؟ قال له: يا أبا سفيان! اذهب إلى رسول الله من قبل وجهه، من بين يديه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] فإن رسول الله لا يقبل أن يكون أحد أحسن منه قولاً، وأخذ أبو سفيان النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه، وانطلق مسرعاً إلى رسول الله بين يديه من قبل وجهه، وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فنظر إليه النبي قائلاً: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) والحديث رواه ابن جرير الطبري، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي، إلا أن الحديث حسن .......
ثم واصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السير وهو صائم والناس صيام، حتى بلغ "الكُدَيْد" -وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد- فأفطر وأفطر الناس معه، ثم سار حتى نزل بـ مَرِّ الظهران!
في معسكر مرِّ الظهران:
* ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه ناراً، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.
* وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقلُّ وأذلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
جهود العباس رضي الله عنه من أجل أن لا تُفتح مكة عُنوةً:
*وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين بمر الظهران راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليُخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها، والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.
*وأردف العباسُ أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
*وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.
قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولنبي فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن.
عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.

* ماذا فعل أبو سفيان؟
دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلاً جازماً: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمناً.
* وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: ا***وا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.
ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وأصبحت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقى المتطرفون مصرون على القتال.



الفتح: أحداث ومواقف
اليومَ يوم المرحمة:
"اليوم يومُ الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشاً" عبارات رددها سعد وهو حامل اللواء في وجه أبي سفيان، فاشتكى أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بنزع اللواء من سعد وإسناده لابنه قيس، وفيه حكمتان: أولهما أن المسلمين جاؤوا فاتحين حاملين الدعوة لا منتقمين ولا طالبين الثأر، وإبقاء اللواء في آل سعد إجبار لمشاعره التي قد تتأثر. أما رسول صلى الله عليه وسلم فقد علق على كلام سعد قائلا:" بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا."
أجل عظمت الكعبة بدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فاتحين، وأعز الله قريشا بدخولها الإسلام، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لعلى خلق عظيم، خلق وبعد نظر يؤسس لمستقبل الإسلام، ينخرط في بنائه عدو الأمس في إطار أخوة الإسلام.
دخول بلا مقاومةٍ:
ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم بعد أن *** رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إ لى ديارهم وأموالهم.
من المعسكر إلى الحرم:
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخلوا المسجد الحرام، صباحَ أربعاء السابع عشر من رمضان 8هـ، آمنين مطمئنين محلقين رؤوسهم، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم قبل سنتين برؤيا رآها أشارت إليها سورة الفتح: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا" (آية:27).
فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد (ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال:» لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير (. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ «قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:» فإني أقول كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم (، اذهبوا فأنتم الطلقاء. «
تطهيرُ البيت من الأصنام:
* طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.
خمسة عشر يوماً:
* وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.
بلالُ يؤذّن للصّلاة:
ورُوي أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة في بعض أيام الفتح ومعه بلال، وحان وقت صلاة الظهر، فأمر بلالاً أن يؤذن، فأذَّن للصَّلاة.
وكان بفناء الكعبة من قريش: "أبو سفيان بن حرب، وعتَّاب بن أَسِيد، والحارث بن هشام".
فقال عتَّاب بن أَسيد: "لقد أكرم الله أَسيدًا (أي: أباه) ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه" كبر جاهلي عن أن يؤذن حبشي على الكعبة.
فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنَّه مُحِقٌّ لاتَّبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلَّمت لأخبرت عني هذه الحصى.
فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قد علِمْتُ الذي قلتُمْ، ثم ذكر ذلك لهم)).
فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنَّك رسول الله، والله ما اطَّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك.
أمّ هانئ تُجير رجلين:
قالت "أم هانئ هند ابنة أبي طالب" أخت علي - رضي الله عنهما: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، فرَّ إليَّ رجلانِ من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
فدخل عليَّ عليُّ بن أبي طالب أخي، فقال: "والله لأ***نَّهُما".
فأغلقت عليْهِما باب بيتي، ثم جئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إنَّ فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشَّح به، ثُمَّ صلَّى ثَمانيَ ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: ((مرحبًا وأهلاً يا أم هانئ، ما جاء بك؟))
فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي فقال: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا ي***هما)).
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة [17].
عُمير بن وهب يستأمن لصفوان بن أميَّة:
وكان "صفوان بن أمية بن خلف" من رؤوس الذين حملوا أشد العداء للرسول، وكان قد دفع عمير بن وهب ل*** الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد بدر، وكشف الرسول - صلى الله عليه وسلم- لعُمير تآمره مع أمية، مع أنه لم يكن معهما أحد فأسلم.
وكان قد حرَّض أوباش قريش على قتال المسلمين يوم الفتح، فرأى أنه مقتول مهدور الدم.
فخرج فارًّا يُريد جدَّة ليركب منها إلى اليمن.
فقال عمير بن وهب: يا نَبيَّ الله، إنَّ صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك، ليقذف نفسه بالبحر، فأمنه صلّى الله عليك.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو آمن)).
فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمامته التي كان متعممًا بها معتجرًا إذ دخل مكة فاتحًا.
فخرج عمير بها وانطلق حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال له: يا صفوان، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جئتك به.
قال صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فإنَّك كذاب.
قال عمير: فداك أبي وأمي، أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.
قال صفوان: إني أخاف على نفسي.
قال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
فرجع صفوان مع عمير، فلمَّا وقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق)).
قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين.
قال الرسول له: ((أنت بالخيار فيه أربعة أشهر)).
ثم أسلم "صفوان بن أمية" وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتألَّف قلبه، ويعطيه مع مَن يعطي من المؤلفة قلوبهم، وكان نصيبه في العطاء مع الذين بلغ نصيبهم مائة من الإبل.
وكانت زوجته "فاختة بنت الوليد" قد أسلمت، فلمَّا أسلم صفوان أقرَّها الرسول عنده على النكاح الأول.
أمّ حكيم تستأمن لزوجها عكرمة بن أبي جهل:
ولما أهدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دم عكرمة بن أبي جهل، فر قاصدًا اليمن، حتى وصل إليها.
وكانت امرأته "أم حكيم بنت الحارث" قد أسلمت، فطلبت الأمان لزوجها عكرمة بن أبي جهل، من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمنه.
فلحقت به إلى اليمن، فجاءت به، فأسلم، وأقرهما على النكاح الأول.
ورُوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رآه مقبلا عليه، نهض قائما وقال له: مرحبا بمن جاء مسلمًا مهاجرًا.
ثم سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له مما كان منه، فاستغفر له.
فكان من القادة، ومن أبطال الفتوحات الإسلامية.
الرّسول صلى الله عليه وسلم يُبايع أهل مكّة:
ولما رأى أهل مكة ما كان من عفو الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وإكرامه لهم، دخلوا في دين الله أفواجًا، رجالا، ونساء، أحرارًا وعبيدًا، وتتابع الناس بعدهم يدخلون في دين الله أفواجًا، فكان فتح مكة فتحًا للإسلام عظيمًا.
وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ليبايع الناس، فتوافد الناس عليه يبايعونه رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا، أحرارًا وعبيدًا، وبدأ بِمُبايعة الرجال:
فبايعهم على الإسلام والسمع والطاعة لله ورسوله، فيما استطاعوا.
هند بنت عُتبة تُعلن إسلامها وتُبايعُ الرّسولَ صلى الله عليه وسلم:
ولما فرغ من مبايعة الرجال بايع النساء دون أن يصافح أيًّا منهنَّ: وكان من بينهنَّ "هند بن عتبة بن ربيعة، زوجة أبي سفيان بن حرب التي اختفت أيام الفتح الأولى، ثم جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلنت إسلامها، فعفا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها.
فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض أهلُ خباء أحبَّ إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم أصبح اليومَ ما أهل خباءٍ أحب إلي أن يعزُّوا من أهل خبائك.
فبايعه الرّسول صلى الله عليه وسلم النساءَ على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا ي***ن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف.
وكان بين المبايعات "هند بنت عتبة" وكانت مُنْتَقِبة متخفية فلما قال النبي: ((ولا يسرقن)) قالت "هند": يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجُلٌ شحيح، لا يُعطيني ما يكفيني ويكفي بنيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذتُ من ماله بغير علمه؟
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: ((خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف)).
ولما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مبايعته النساء: ((ولا يزنين)) قالت هند: وهل تزني الحرة؟
وعرفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صوتِها فقال لها: ((وإنَّك لهند بنت عتبة؟)).
قالت: نعم، فاعفُ عمَّا سلف عفا الله عنك.
فإنّما أنا ابنُ امرأةٍ من قريشٍ تأكل القديد:
وروى البيهقي عن ابن مسعود أنَّ رجلاً كلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فأخذته الرعدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((هوِّنْ عليْكَ، فإنَّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)).
القديد: هو اللحم المجفف بالشمس مع الملح.
معاذ الله، المَحْيا مَحْياكم، والممات مَمَاتُكم!
جاء في مرسل يحيى بن سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح الله له مكة فتحا مبينا، وهي بلده، وموطنه، ومولده، وأحب بلاد الله إليه، وتم له الأمر، رآه الأنصار ذات يوم قد علا من الصفا حتى يرى الكعبة، فرفع يديه، وجعل يحمد الله ويذكره، ويدعو بما شاء الله له أن يدعو في تضرع وخشوع، وكانوا مجتمعين تحته في سفح الصفا، فقال بعضهم لبعض:
أترون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها، أم يرجع إلينا؟!
فلمَّا فرغ من دعائه أخبره الوحي بما قالوا: فتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم وقال: ((ماذا قلتم؟)).
قالوا: لا شيء يا رسول الله.
فلم يزل يتلطَّف بِهم حتى أخبروه بما قالوا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((معاذ الله، المَحْيا مَحْياكم، والممات مَمَاتُكم)).
وروى الإمام مسلم والإمام أحمد وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت، فرفع يديه وجعل يحمد الله تعالى ويذكره، ويدعو بما شاء الله أن يدعو، والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته.
قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه. فلمَّا قضى الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الأنصار)).
قالوا: لبيك يا رسول الله.
قال صلوات الله عليه: ((قلتم، أمَّا الرجل، فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته)).
قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله.
قال: ((ما اسمي إذا؟. كلا، إنِّي عبدالله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)).
فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله يا رسول الله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضنَّ بالله وبرسوله، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم: ((فإن الله ورسوله يعذرانِكم، ويصدقانِكم)).
وقد تضمَّنَتْ هذه الرواية أنَّهم قالوا: "أمَّا الرجل" وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاتبهم على هذه الكلمة، وقال لهم: ((ما اسمي إذا؟)) وأنَّه زَجَرَهُم على سوء الأدب في الحديث عنه بقوله: "كلا" وأنَّه أبان لهم وصفه الذي كان يجب أن يصفوه به بقوله: ((إني عبدالله ورسوله)) لذلك أقبلوا إليه يبكون ويعتذِرُون عن مقالتهم.
وبعد ذلك طمأنهم فقال لهم: ((هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)).
ورأى الزرقاني الجمع بين الروايتين بأنَّ فريقًا منهم قال المقالة الأولى، وفريقا منهم قال المقالة الثانية. على أنَّ رواية أبي هريرة هي الواردة في الصحيح.

فُضالة بن عمير يريد *** النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
وأراد "فضالة بن عمير بن الملوح الليثي" قتْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالبيت أيَّام الفتح.
فلمَّا دنا منه رسولُ الله قال له: ((أفضالة؟))
قال: نعم فضالة يا رسول الله؟.
قال له: ((ماذا كنت تحدث به نفسك؟))
قال: لا شيء، كنت أذكر الله.
فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: ((استغفر الله)).
ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدر فضالة، فسكن قلبه.
فكان "فضالة" يقول: والله ما رفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يده عن صدري، حتَّى ما من خلق الله شيء أحبّ إليَّ منه.
قال "فضالة": فرجعت إلى أهلي، فمررْتُ بامرأةٍ كنتُ أتحدَّث إليها. فقالت: هلم إلى الحديث.
فقلت: لا.
وانبعث فضالة يقول:
قَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الحَدِيثِ فَقُلْتُ: لا يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ وَالإِسْلامُ
لَوْمَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ بِالفَتْحِ يَوْمَ تُكَسَّرُ الأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ

اللهُ اكبر جاء الفتحُ وابتهجتْ 0000 للمؤمنين نفوسٌ سرَّها وشَفَا
مشى النَّبيُّ يحفُّ النصرُ موكبهُ 0000 مُشيَّعاً بجلالِ الله مكتنفا
أضحى أسامةُ من بين الركاب 0000 له ردفاً فكان أعزَّ الناس مرتدَفا
لم يبقَ اذ سطعت أنوارُ غرَّته 0000 مغنىً بمكة إلا اهتزَّ او وَجَفَا
تحرك البيتُ حتى لو تُطاوِعه 0000 أركانُه خفَّ يلقى ركبه شغفا
العاكفونَ على الأصنامِ أضحكهم 0000 أنَّ الهوانَ على أصنامِهم عكفا
كانوا يظنُّون ألا يُستباحَ لها 0000 حمىً فلا شمَما بدت ولا أنفا
نامت شياطينُها عنها منعَّمةًً 0000 وبات ماردُها بالخزي مُلتحفا



أخلاقيات فَتْح مَكَّةَ
مقدمة:
كان فتح مكة، فتح أخلاق ورحمة، قلما نجد في تاريخ البشر فتحًا يضاهي فتح مكة في روعة أخلاقياته، وسمو العفو في طيات أحداثه.
فهو يوم نُصرة المظلوم، ويوم الوفاء والبر، ويوم عز مكة، ويوم التمكين .......
وقد ازدحمت في هذا اليوم، مشاهد الأخلاق الكريمة، وصور الخلال السجيحة، حتى تيقن الباحثُ في السيرة النبوية؛ أن محاضن التربية التي كانت في دار الأرقم، قد أتت أُكلها، وأينعت ثمارها، وانتفض حية في سلوك الصحابة يوم الفتح؛ تلك الدروس النبوية في العقيدة والأخلاق التي تربى عليها خير جيل.
فلم نسمع يوم الفتح؛ أن رجلاً مسلمًا هتك عرض امرأة، أو سرق شملة، أو هدم بيتًا، أو أفسد زرعًا، أو *** ظلمًا، أو فزّع طفلاً. كانوا - رضي الله عنهم - مصاحف في مساليخ بشر، تتحرك تلك المصاحف بين الشوارع والأزقة، أو يتحرك هؤلاء الرجال الربانيون بين أكناف مكة .. في حكمة، ينشرون العدل والحق، وينتشر الإسلام بفضل أخلاقهم انتشار أشعة الشمس، أو فوحان المسك، وترى الواحد منهم - أي من هؤلاء الصحابة الكرام يوم الفتح - كالليث في السكة، فقد فر منه المجرمون، وأمن به الجالس في كسر بيته، والثاوي في بيت ربه.
نصرة المظلوم:
وأول دروس الأخلاق الجلية في يوم الفتحة، هو درس نصرة المظلوم.
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة - حلفاء المسلمين -، وأعملوا فيها ال***، وخرقوا العقد؛ أرسلت خزاعة عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ يستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنُ سَالِمٍ!!! " [ابن هشام2/ 393]
واستبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفائل؛ فعَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ، فَقَالَ:
" إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ " [ابن هشام 2/ 393].
لقد اعتمل فؤادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيظًا على هذا الظلم الصريح، فلم يقر حتى انتدب لنصرة حلفائه، والتجهز للتنكيل بأعدائه، الذين انتهكوا الحرمات، وسفكوا الدماء.
إنها نصرة المظلوم، وإغاثة المكلوم، تلك الخصلة الإسلامية الكريمة، والخلة العربية الأصيلة، وليس من المسلمين من لم يهتم بأمرهم، فيناصرهم ويذود عنهم .. وملعونٌ ذلك الذي شهد موقفًا يُظلم فيه المظلوم، وانقلب خسيئًا سلبيًا لم ينصر أخاه ببنت شفة - وهو يقدر.
وفي الأثر: لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره. من أُذل عنده مؤمن وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق.
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا [وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ] " [البخاري: 2266]
فالمؤمن لأخيه كالبنيان، يقوّيه ويمنعه من ظلم الظالمين، وبغي الباغين، وغُشم الغاشمين. وقد شبَّك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه، ممثلاً لتلك العلاقة التي تربط بين الإخوان وبعضهم، فهي كالأصابع المتضاغمة، كتلك الشبَكة التي لا غناء لها عن عقدة من عقدها. وقد خاب من حمل ظلمًا.
أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال الظلوم هو الملوم
نبذ الهدنة مع الخونة:
والإبقاء على عهد الخائن الهَوجَل؛ ليس من الخُلق في شيء، بل الأخْلقُ نبذ عهده، وشق موادعته، وخليق بإمام المسلمين ألا يحوْل عهد الغَدرةِ دون نصرة البررة، وحقيقٌ أن بنود صلح الحديبية تسقط فور إخلال أحد الأطراف ببند من البنود.
ولقد استند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نصرته لخزاعة، إلى أصل أصيل، مفاده أن العدو إذا حارب من هم في جوار المسلمين أو في حلفهم أو في ذمتهم، صار العدو بذلك محاربًا لسلطان المسلمين، وبذلك يصبح المسلمون في حِلِّ من أي اتفاقات مبرمة، أو معاهدات سابقة، وذلك لسبب وجيه: أن العدو نفسه نقَضها باعتدائه على حلفاء المسلمين، وما على إمام المسلمين عار إذا باغت العدو حينئذ في عقره، ودخل عليهم بغتة، أما إذا شك إمام المسلمين في كون العدو على العهد أو تحول إلى النقض؛ فلا يجوز للإمام في هذه الحالة مباغتة العدو، إلا بعد إعلامهم بنبذ العهد، وذلك حتى لا يُؤثر عن المسلمين الغدر، ودليل ذلك قول الله تعالى:
"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ " [الأنفال58]
العفو عن صاحب السبق إذا ذل
فهذا حاطب، ذل، وتخابر مع العدو، فأرسل إليهم كتابًا يخبرهم فيه بمقدم جيش المسلمين، وأرسل هذا الكتاب إليهم مع " مُطربة " تجوب بين القبائل تغني، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثر هذه المغنية، وتم مصادرة خطاب حاطب، ورُفع الأمر إلى حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفصل في هذه القضية، فدليل التخابر موجود، والمتهم مُعترف، بل قال - مبررًا -:
" يَا رَسُولَ اللَّهِ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ .. كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ " [البخاري: (3939)]
وكانت مبررات حاطب هذه كلها، محض شَعْبذة وهراء ..
وكان حُكم رسول الله العفو!
وذلك لسبب استثنائي دامغ:
أن حاطبًا قد شهد بدرًا، وأن الله قد تاب على حاطب، فقال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وحاشا أن يُكذب الله، وأن عملية التخابر لم تتم ولم تنجح ..
ولقد أَكلتْ هذه الفعلة الشنعاء قلبَ عمر - فأراد أن يستئذن رسول الله في *** حاطب -فقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ".
فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا! وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا .. فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ! " ..
فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " [البخاري: (3939)].
وفي عفوه - صلى الله عليه وسلم - عن حاطب، يدل على أهمية العفو عن أصحاب السبق والفضل في الإسلام إذا ما وقعوا في خطيئة أو ذلت أقدامهم في مصيبة ..
وفي هذا الموقف - أيضًا - دلالة على عدم جواز التخابر لصالح العدو، ولا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من أعداء الله أولياء يلقون إليهم بالمودة ..
حظر الشعارات والهتافات غير الأخلاقية:
وفي نشوة الفتح، وشذى النصر الفواح، صاح قائد الأنصار سعد بن عبادة: " الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ! "
فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " [صحيح البخاري (3944)]
وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال: إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد. [ابن كثير: 3/ 559].
وفيه، دلالة على حظر فحش القول وهُجره في الشعارات والهتافات، خاصة في المؤتمرات والتظاهرات، فليس من أخلاقنا، أن نتخلق بأخلاق الغوغاء ممن يتهفون بأفظع الهجاء. فإذا هتفنا أو شعِرنا أو نَظَمْنا الشعارات، أو نثرنا الأسجاع؛ في تظاهرة أو مؤتمر، فإنما يكون بأطايب الكلام، وبأحاسن الألفاظ، فديننا دين مكارم الأخلاق. والله يكره الفاحش البذيء، واللعان الطعان.
تواضع الفاتحين الإسلاميين:
كأنه وهو فرد من جلالته *** في عسكر حين تلقاه وفي حشم
ودخل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، شاخص الطرف، باسط الكف، شاكرًا حامدًا ربه، خفيض الرأس، معتمًا بعمامة سوداء، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل ..
ويلهج صوته بالقرآن، قارئَا سورة الفتح.
يتراءى للناس رويدًا رويدًا، كالكوكب المشبوب رونقًا وبهاءً.
يَشقُ بجحافله البيداءَ شقًا، شامخَا باذخًا، في جَلْجَلة وصَلْصَلة، يحفه خير أجناد الله، عليهم وَقَار البطولة، ومَخَايل الظفر .. كلهم، كلهم في انتظار إشارة منه لتتحول مكة إلى حمام دم، وم***ة يشيبُ لها الأمْرَد، وخسف وهدم، ليدمدموا مكة على رءوس المشركين، فهم الذين عذّبوا المسلمين أيام عهد مكة، وسجنوهم وحصروهم وأخرجوهم.
ولكن ما حدث ليس ذلك، بل أصدر العفو العام.
العفو العام عند المقدرة:
وماذا عن العفو العام، الذي أطنب فيه المفكرون عبر حقب التاريخ؟
بعدما أمنَّ الجميع، في بيوتهم ومساجدهم، وقال:: "كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً" [الترمذي: 3054]، وقال: " لا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [مسلم: (3334)].
يقول "واشنجتون ايرفنج"، في كتابه (حياة محمد)، معلقًا على قرار العفو العام:
"كانت تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" [واشنجتون ايرفنج: حياة محمد 72.].
ويقول: إميل درمنغم:
"فقد برهن [محمد ?] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء! " [انظر: بشرى زخاري ميخائيل: محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50].
إن أخلاقيات العفو العام، هي أخلاقيات تمخضت عن نفوس أُشربت الربانية، وشربت من كأس التربية ثمالتها، وإن أمثال هؤلاء ممن تربوا على التراحم فيما بينهم والتآخي والتغافر، لخليق بهم أن يحملوا راية التمكين في الأرض، فما أعظم هذه النفوس التي ذاقت ويلات ال***** في رمضاء مكة، حتى إذا أمكنهم الله من رقاب أعداءهم، أَعطوا العفو، وجنَّبوا القود، فمسألة التمكين عند هؤلاء الإسلاميين ليست حكاية تصفية حسابات، وليست حكاية غرس أعواد المشانق لمن شنقوهم، فشنقًا بشنق وتنكيلاً بتنكيل، وليست قضيتهم قضية مطالَبات وتِرات، وثارات ودِيَّات، بل يعتبرون الإيذاء ضريبة التمكين، ووسام على صدور المؤمنين .. فهؤلاء الإسلاميون لا يحملون بين جنباتهم جذوة الثأر، إنما يحملون بميامنهم شعلة القرآن، وبميامنهم الآخرى شعلة السُنة، وبين ذلك يحملون قلبًا خالصًا للرب، صادقًا في الغاية.
انتماء القائد لأنصاره:
ويكأن الناظر ظنَّ أن رسول الله ضن بأهله المكيين، فأصدر عفوه، وأمنَّ عدوه، فقال: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " [مسلم: (3332)].
فقال بعض الأنصار: أَمَّا الرَّجُلُ [يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم] فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ!
فنبَّأه العليمُ الخبير ..
فجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، وقال:
"قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا!؟ أَلا فَمَا اسْمِي إِذًا!؟ أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا!؟ أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ!! "
فبكوا، وأرسلوا عبرات الحب، وزفرات الضن بقائدهم، قائلين:
" وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلا ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ! " ..
وتفَّهمَ القائد هذه المشاعر النبيلة، وكأنه لامس مشاعرهم الصادقة في سيوداء قلوبهم، فقال:
"فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ" [مسلم: (3332)].
يا صاحب الفتح! صلى الله عليك!
لقد قيض الله لك أنصارًا لا يطمعون في شيء بين الخافقين إلا في رضاك عنهم وقربك منهم. ولا يبغون لعاعة من الدنيا، إنما يأملون أن يعودا إلى ديارهم في المدينة المنورة - وقد رجعوا بك في رحالهم.
يوم بِرٍ ووفاء:
وجاء علي بن أبي طالب، يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع له شرف الحجابة مع السقاية، وقد كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، وقد طلب النبي منه تسليم المفتاح ليصلي في جوف الكعبة، ثم رده إليه قائلاً:
" هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ " [ابن هشام 2/ 412]
ولم يكن يوم ظلم وعدوان. أو مكر وخُتل.
وقد كان في استطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يضع مفتاح الكعبة في بني هاشم أو في يد زعيم من زعماء الصحابة. فقد كان إعلاء قيم البر الوفاء أولى من الاستئثار بمفتاح الكعبة، ولم يكن من شيم الفاتحين الإسلاميين سلب الأملاك وكرائم الأموال ونفائس الآثار؛ إن ذلك من شأن الإنقلابيين الفاسدين الذي إذا وصلوا إلى سُدة الحُكم - جَبريةً -، أكلوا كل شيء عنوة، قصور ومجوهرات، ومال وعقارات- كما فعل أصحاب الثورات النكدة السوداء، حيث يتحول فريق الإنقلاب من أبطال كفاح ونضال، إلى لصوص كبار، ومعربدين فجار، وخونة غَّدار، فلا يتركون صادحًا ولا باغمًا، ولاخفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوْ عليه، حتى لعاعة الفقير اللابط بالأرض، الذي يبيت طاويًا، لا يجد أكسار بقرة .. يشتهي ظِلفَا يمسك رمقه، أو عرقوبًا يُطفىء لوعته، ولا يجده.
***
هذه دروس في أخلاقيات الفتح؛ تشي بأحقية الناشيء الصابر في الظفر والتمكين والسؤدد، فأقرب الدعاة إلى التمكين أحاسنهم أخلاقًا، وأحق الدعوات بالنجاح أكارمها أخلاقًا، وكذلك الحال في الجماعات والدول والحضارات، فالأخلاق عماد الحضارات، وكم من حضارة زالت بشؤم ظالم فاسد، وعربيد خليع، ومرقص لعوب!
وكم من أناس عاشوا يزفون الفتوحات إلى الأمة، ولم يغنموا من غنائم النصر عقال بعير، أو سلاح غفير، فقضوا نحبهم دون أن تتمرغ أجسامهم في ريش النصر وفراش النعيم والوثير؛ وكانت القبور مساكنهم. فلهم ثواب الله. فأنعم به وأكرم من ثواب!
وآخرون قطفوا ثمرة الفتح سهلة، وقد تعبَ وجاهدَ في سبيلها غيرهم، ونسوا حظًا من تعاليم الإسلام، وطال عليهم الأمد، وقست قلوبهم، وتلَّهوا بالنساء والبنين والمال والأنعام والحرث، وشغلتهم أموالهم وأهلوهم عن منهج الله، واستوردوا دساتير اليهود والنصارى، واتَّبعوهم في ثقافاتهم حذو القذة بالقذة، وتصعلكوا لأعداء الأمة، وجلبوا للمسلمين كل مَضَرَّة ومَعَرَّة .. وأوليئك هم الرُّقعاء السفهاء، الذين أضاعوا المجد، وباعوا العِرض، وهم لصوص الأمة، وإن اعتلوا ذُؤابة منبر المجد، الذي بناه الفاتحون الصادقون.
فعسى الله أن يأتي بفتح جديد، وفاتح مجيد، فيعود المجد التليد!




فتح مكة وسنن التغيير

وقد أردتُ أن أستغل هذا الحدث لأتحدث عن بعض سنن التغيير، وسنن النصر والتمكين في الأرض، والتي نستخلصها جميعها من فتح مكة.
السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده:
فمنذ أحد عشر عامًا من أصل ثلاثة وعشرين أو ثلاثة وعشرين ونصف هي عمر البعثة النبوية بكاملها؛ منذ هذه السنوات واللات والعزى ومناة وهُبل يُعبدون من دون الله، وفي داخل مكة المكرمة.
فكان يتمنى البعض أن تُفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسول الدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين، وهو ممكَّن في الأرض.
لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسنة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، والله يقول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
فكان رب العالمين I قادرًا على أن ييسر أمر فتح مكة منذ أول لحظة من لحظات هذه الدعوة، أو على الأقل بعد سنة أو سنتين من فتح المدينة المنورة، لكن كان هذا الانتظار الطويل حتى يعلمنا جميعًا أنه I لا يعجل بعجلة عباده.
السنة الثانية: التمكين يأتي من حيث لا يحتسب:
فهناك افتراضات كثيرة متوقعة؛ منها على سبيل المثال أن تغزو قريش المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو أن تحاول قريش *** الرسول، أو أن تعتدي على قافلة إسلامية، أو أن تنتهي سنوات الهدنة العشر، فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة.
افتراضات كثيرة جدًّا لكن -سبحان الله- لم يحدث الفتح نتيجة أيٍّ منها، ولا لغيرها مما يكون قد خَطَر على قلوب المسلمين، لكن حدث ذلك بشيء غريب؛ فما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين.
وإن المرء ليتساءل: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصةً البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخلت بنو بكر في حلف قريش.
فكانت القصة بين المسلمين وبين قريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر أيُّ دخل فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي سيؤدي إلى الفتح كما سنرى.
ومهما يكن من أمر فقد كان ثمة خلاف كبير وثأر قديم بين بني بكر وخزاعة، وقد كان هناك ضحايا من بني بكر ***تهم خزاعة.
وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر، تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة فأرادت أن تنتقم (وهذا بعد صلح الحديبية)، فأغارت على خزاعة و***ت منهم رجالاً، وكانت معاهدة الحديبية تنص على أن من أغار على خزاعة، فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة يُعَدّ نقضًا صريحًا للمعاهدة بينهم وبين المسلمين.
وقد تكون هي النتيجة نفسها أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة، فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.
ولو حدث وضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف ما مُهِّد الطريق للفتح، وأيضًا لو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر، وقدمت الاعتذار للمسلمين لكان الموقف قابلاً للتفاوض والحل السلمي.
السنة الثالثة: النصر يأتي من حيث يكره المسلمون:
أمر غريب جدًّا لكنه متكرر إلى الدرجة التي تجعله سُنَّة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، إنما يأتي من حيث يكره المسلمون.
فطالوت -رحمه الله- ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن الله جعل النصر في هذا اللقاء. وقد كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله في باطنه النصر، يقول I: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5].
وكره المسلمون تحزُّب الأحزاب حول المدينة، وقد صور ذلك I بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].
لكن -سبحان الله- كان فيه من الخير الكثير، وقد قال الرسول بعد الأحزاب: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا" [1]. وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: لِمَ نُعطي الدنية في ديننا؟ وكان في باطنه الخير كل الخير الذي تلا ذلك.
وكره المسلمون *** أخيهم وصاحبهم الحارث بن عمير t سفير الرسول إلى عظيم بُصْرَى، فكان وراء هذا ال*** المكروه انتصار مؤتة. وكذلك كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، إذ لا شك أنهم يريدون أن تمتد الهدنة عشر سنوات وأكثر من ذلك؛ لأنهم رأوا في أقل من سنتين خيرات كثيرة، فكيف إذا امتد الأمر إلى أكثر من ذلك؟
رأوا أعداد المسلمين تتزايد بشدة في زمن الهدنة، وغياب الحرب.
والآن بعد هذا النقض للمعاهدة قد تحدث حرب، وقد يحدث اضطراب، وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، وأكثر من ذلك من الممكن أن يحدث من وراء هذا النقض.
ولكن قد يحدث ما نكره قسرًا ورغمًا عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين بسبب الحدث الذي نكرهه.
ولماذا هذه السُّنَّة؟ ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟
وهذا الكلام يتكرر كثيرًا في كل مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألاّ نُفتن بنصرنا، أو نعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، وذكاء عقولنا، وسرعة تصرفنا.
يجب ألاّ ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي I؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله. ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت، وليس معنى هذا أن نترك التخطيط، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقًا، فلا بد أن نضع ألف خُطَّة جادة لتحقيق النصر، وقد يأتي النصر من غير هذه الخطط كلها، ولكننا نُؤْجَر على أخذنا بالأسباب.
إن وضع الألف خطة شيء ضروري لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب؛ لتكون مستحقًّا لرضا رب العالمين، ومن ثَمَّ تستحق نصر الله، ويأتي النصر بالخطة التي لم تحسب لها حسابًا، حتى تُرْجِع الفضل في النهاية لله؛ لذلك يقول الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصر: 1].
النصر نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} [النَّصر: 2].
ما رد فعل المسلمين عندما يرون الفتح والنصر؟ يوضح الله لنا في هذه السورة القصيرة المعجزة (سورة النصر) ما يجب على المسلمين أن يفعلوه، قال I: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النَّصر: 3].
فسبح بحمد ربك الذي نصرك، والذي أيدك بقوته، والذي مكَّن لك في الأرض، ثم استغفره
ولماذا يأتي الاستغفار بعد النصر والتمكين؟
يأتي الاستغفار حتى لا يكون قد دخل في رُوعِك أنك قد انتصرت بقدرتك وقوتك، وتخطيطك وتدبيرك، وتقول: أنا فعلت كذا، وأنا خططت، وأنا دبرت.
استغفرْ من هذا الأمر؛ لأن الله هو الذي فعل.
وسوف نرى الرسول يدخل مكة وهو في حالة من أشد حالات تواضعه؛ حتى لا يُفهم أنه فعل ذلك بقدرته البشرية، ولكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين، وهو الذي أراد النصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له I.
فيأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدعي مُدّعٍ أنه قد انتصر بقوته، ولكن ينسب الفضل والنصر لله، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].
السنة الرابعة: طول فترة الإعداد أحد أسباب النصر:
وهذه السُّنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، ولكن التدبر في هذه السُّنة سيثبت -إن شاء الله- عكس ذلك، وهذه السُّنة تقول: إن فترة الإعداد تكون طويلة للدولة الإسلامية؛ حتى نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، ولكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة؛ فالإعداد لفتح مكة والتمكين استمر إحدى وعشرين سنة بالتمام والكمال، كانت أول البعثة في رمضان قبل الهجرة بثلاثة عشر عامًا، وكان الفتح في رمضان بعد الهجرة بثماني سنوات، فتكون المدة كلها إحدى وعشرين سنة كاملة.
فنرى أن فترة التمكين سنتين ونصف من فتح مكة إلى وفاة الرسول، وبعد وفاته حدثت الردة وانتهى التمكين، فتكون فترة الإعداد إحدى وعشرين سنة، من أصل ثلاث وعشرين ونصف؛ أي أن 89% من فترة السيرة هي مرحلة (إعداد وعمل)، وفترة (التمكين) 11% فقط.
ولنراجع قصص التمكين في القرآن الكريم، والتي سبقت الرسول، فسيدنا نوح u ظل في فترة الإعداد تسعمائة وخمسين عامًا، ألفًا إلا خمسين، وفترة التمكين قصيرة جدًّا. وكذلك هود وصالح عليهما السلام.
وموسى u ظل في فترة الإعداد مدة طويلة، إعداد له هو شخصيًّا، وإعداد لبني إسرائيل، وفترة ***** وتشريد، واضطهاد طويلة، وبعدها فترة تمكين قصيرة.
وهذا أمر متكرر، سواء قبل الرسول أو بعد الرسول. ولنراجع قصة صلاح الدين الأيوبي، حوالي ثمانين عامًا أو تسعين عامًا في الإعداد، وفترة التمكين خمسة عشر أو عشرون عامًا. وهذا الكلام تكرر في دولة المرابطين؛ فبعد موقعة الزَّلاَّقة 479هـ، وبعد الإعداد الكبير لدولة المرابطين، نجد أن فترة التمكين لدولة المرابطين في الأرض قصيرة جدًّا؛ إعداد طويل جدًّا ما يقرب من ستين سنة، ثم تمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان. إنها سُنَّة الله في كونه {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
ونأتي إلى سؤال مهم: لماذا تستمر فترةُ التمكين وقتًا قصيرًا، في حين يكون الإعداد مدة طويلة؟ وهذا إنما يحدث لسببين:
1 - السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين؛ الاقتصاد يتحسن، والأوضاع الاجتماعية تتحسن، والدنيا تنفتح على المسلمين، فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع بين الناس، وهذا التصارع يكون على شيئين رئيسيين، وهما: المال والسلطان، يتصارعون على المال، ويتصارعون على السلطان، ولنا في التاريخ عِبْرة.
وكان الرسول يخشى على المسلمين من هذا الأمر، قال: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [2].
ففي أثناء فترة الإعداد لا توجد فتنة الدنيا، ولكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعًا، والمعصوم من عصمه الله، والقليل من الأمة هو الذي لا يقع في هذه الفتنة.
2 - السبب الثاني: أن عددًا هائلاً من البشر سيدخل الإسلام لقوة الإسلام، وليس اقتناعًا بمبادئ الإسلام، وهذا يكون في زمن التمكين؛ فالناس يرون دولة قوية ممكَّنة ولها سيادة في الأرض، فيذهب الجميع إلى الانضمام إلى هذه الدولة، سواءٌ أكانوا مقتنعين أم غير مقتنعين بمبادئ الدولة الإسلامية، وهذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت؛ فتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع لتربية كما خضع لها الأولون، وهذه الأعداد المتزايدة تأخذ قسطًا صغيرًا من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعًا، فيختفي التمكين.
لقد ظل المسلمون في فترة الإعداد تسعة عشر عامًا في السيرة النبوية حتى آمن ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر، وبعد صلح الحديبية وفي أقل من سنتين وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف، وهم ذاهبون لفتح مكة المكرمة، ونرى النقلة الهائلة بعد فتح مكة بسنة واحدة؛ فقد خرج الرسول في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، فالعشرة آلاف الذين أسلموا قبل الفتح قد أصبحوا بعد الفتح ثلاثين ألف مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف مقاتل الذين دخلوا مكة كان منهم حوالي خمسة آلاف أو ستة آلاف أتوا قبل الفتح بشهور أو أيام قليلة.
وبعد الفتح نجد نقلة هائلة، فقد دخل في الإسلام عشرون ألفًا، دخلوا الإسلام مرة واحدة! ومن سنة تسع من الهجرة إلى سنة عشر من الهجرة دخل في الإسلام حوالي مائة ألف، وسوف نرى أنه في حجة الوداع كان مع الرسول حوالي مائة وثلاثون ألف مسلم في بعض التقديرات، فنجد أن الزيادة في العام العاشر من الهجرة النبوية مائة ألف من الصحابة y.
ومن ثَمَّ نرى أعدادًا ضخمة قد التحقت بالدولة الإسلامية، وهما في محاضن بعيدة جدًّا عن المدينة المنورة، وليس هناك الطاقة الكاملة لتربية هؤلاء، فلما حدثت أزمة وفاة الرسول وقعت الرِّدَّة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، وحدثت الرِّدة لأن كثيرًا ممن دخلوا الإسلام لم يتربوا على تعاليم الإسلام السمحة، فارتدَّ الناس كلهم ولم يثبتوا على الإسلام، ولكن عموم الناس دخلوا في وقت الفتح (وقت التمكين)، وهؤلاء لم يُعطوا الوقت الكافي من التربية؛ لذلك وقت التمكين عادةً ما يكون قصيرًا، ووقت الإعداد طويلاً.
التمكين وسيلة وليس غاية
فهل هذا الكلام محبط؟ وهل يمكن أن يقول أحد المسلمين: إن بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نُمَكَّن إلا فترة قصيرة فقط؟!
والإجابة على هذا السؤال تكون بسؤال آخر: لماذا نقوم بالإعداد؟
ولماذا نريد التمكين؟
هل التمكين وسيلة أم غاية؟
أليس نريده لكي نرضي الله، ولكي نفوز بجنته I؟ وإذا علمت أن الله يعطي جنته لمن عمل بصرف النظر عن تحقيق النتيجة، وبصرف النظر عن حدوث التمكين أو عدم حدوث التمكين في زمانه، ويعطيه I الأجر على قدر العمل بصرف النظر عن الزمن الذي وجد فيه، أليس ذلك مريحًا للإنسان ومطمئنًا للنفس؟
فعملك في فترة الإعداد أنت مَأْجورٌ عليه، وعملك في فترة التمكين أنت مأجور عليه، المهم هو العمل وليس التمكين. ولنراجع معًا كم من الأمم ممكَّنة في الأرض وهي من أهل النار! {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].
وعلى الناحية الأخرى، كم من غير الممكَّنين في الأرض من أهل الجنة! وهذا هو مصعب بن عمير t مات في غزوة أُحد، ومع ذلك هو من أهل الجنة، وحمزة بن عبد المطلب كذل، بل إن هناك من مات في فترة مكة المكرمة، مثل سمية أم عمار بن ياسر، وزوجها ياسر y، والبراء بن معرور، وأسعد بن زُرارة، فكل هؤلاء قد ماتوا قبل غزوة بدر أصلاً، ولم يشاهدوا أيَّ نصر للدولة الإسلامية، ومع ذلك -إن شاء الله- هم في أعلى عليين.
المهم أن تعمل لله، وليس بالضرورة أن تعمل في زمان التمكين، أو تعمل بالقرب من زمن التمكين؛ لكي تسعد بنتائج العمل، ولكن السعادة الحقيقية أنك بعملك هذا سوف تدخل الجنة، والله يختار بحكمته وقدرته الوقت الذي يُمَكِّنُ فيه المسلمين.
هل العمل أكثر فائدة وأعظم نفعًا في زمان التمكين أم في زمان الإعداد؟
يقول الله: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
وبذلك، وفي ضوء قوله تعالى، نرى أن العمل في هذه الفترة الصعبة (فترة الإعداد)، والتي تسبق فترة التمكين، العمل فيها يكون - ولا شك - أفضل وأعظم أجرًا. ومن مصلحة المسلم أن تطول الفترة التي يحصّل فيها الثواب، وهي فترة الإعداد، ومن مصلحته أيضًا أن يتأخر التمكين، ولكن ليس معنى ذلك أني لا أسعى للتمكين، بل على العكس إننا مطالبون به، ولكن إذا تأخر لا أحزن، ولا أكسل، ولا أفتر، ولا أقعد، وأعلم أن الله أراد لي الخير، وأراد أن أعمل في زمان ليس فيه فتنة؛ لعل الله I أن يثبتني على الحق، ولعله إن مُكِّن في زمانك أن تفتتن بمال أو بكرسيِّ أو بغيره.
ولننظر كيف نحوِّل الأزمة إلى فرصة؟
وهذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما يحدث لك مصيبة كبيرة تخرج من المصيبة، وتحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوِّلها إلى أمر فيه مصلحة، إلى فرصة سانحة، إلى استغلال لهذا الظرف؛ لتحقيق فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر.
الرسول كان يريد أن يفوز من هذا الموقف، فكيف يحقق نجاحًا من هذه الأزمة الكبيرة؟ وكيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لسيادة الأمة؟ ماذا فعل الرسول؟
إن الاستنكار أو الشجب والندب لا فائدة منه، فلن يسمع أحد، ولو ذهب المسلمون لهيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة، فلن تكون هناك نتيجة إيجابية، بل على العكس ربما يحكمون لقريش الدولة الأولى في المنطقة، فما الحل؟!
ا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف. وتعالَوْا نرى الواقع مع الرسول، وحال الجزيرة العربية في ذلك الوقت.




رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة
فتح مكة نقطة فاصلة في تاريخ الدعوة:
د. يوسف القرضاوي:
ولستُ مُحدثكم -أيها الإخوة- عن قصة الفتح وأسبابه وأحداثه، فذلك يقتضي وقتًا أطول، ولكني مُحدثكم عن رسول الله، في يوم الفتح، يوم نصره الله على عدوِّه، وحقَّق له أمله، وأنجز وعده. فها هي مكة العتيدة لعاتية، تسقُط أمام كتائب الرحمن وجنود القرآن .. مكة التي خرج منها الرسول ليلاً، فها هو يعود إليها نهارًا .. وخرج منها خُفية، فها هو يعود إليها جهارًا .. وخرج منها مُضطهدًا، فها هو يعود إليها فاتحًا منتصرًا.
وليس أحب إلى الإنسان المهاجر من أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه، بعد أن أخرج منها إخراجًا .. فلا عجب أن قرت عين رسول الله بالفتح، واستمع في سرور إلى عبد الله بن أم مكتوم، وهو ينشد بين يديه حين دخل مكة:
يا حبذا مكة من وادي *** أرض بها أهلي وعوادي
أرض بها أمشي بلا هادي *** أرض بها ترسخ أوتادي
حينما علم الرجل تبختر بالنعمة والعافية، كما تبختر بالشدة والمحنة .. ومن الناس مَن يثبت في الشدائد والأزمات، ويصبر في البأساء والضراء، حتى إذا انزاحت الغمة، وجاءت النعمة، وأقبل الرخاء والسعة، ركبهم الغرور، وسيطر عليهم العُجب والكِبر، وأعمتهم نشوة الظَّفَر والنصر، وغرَّهم بالله الغَرور.
وهكذا عرفنا كثيرًا من الفاتحين المنتصرين من قديم وحديث .. ولكن موقف رسول الله يوم الفتح الأعظم هو أحد الدلائل على أن الله قد اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، وبعثه ليتمَّ به مكارم الأخلاق .
لقد دخل مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح مُرجِّعًا، وقد حنى رأسه تواضعا لله، حتى قال أنس t: " دخل رسول الله مكة يوم الفتح، وبطنه على راحلته متخشعًا" .
ولأول مرة، ترى الدنيا فاتحًا ينتصر على أعدائه، وتدين له عاصمة بلاده، يدخلها في مثل هذا التواضع والإخبات والخشوع لله رب العالمين.
ونهض رسول الله والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحوله البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، والأصنام تتساقط على وجوهها .. وأمر بـ (هُبل) أعظم هذه الأصنام، فكسر وهو واقف عليه، وأبو سفيان يشهد بعينه نهاية (هُبل) الذي وقف يوم (أُحد) يخاطبه ويقول: أُعل هبل) ؛ ولهذا ذكَّره الزبير بذلك، فقال: يا أبا سفيان، قد كسر (هُبل)، فإنك كنت منه في يوم (أُحد) في غرور.
ولما أكمل النبي، الطواف، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففُتحت فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال: "قاتلهم الله، والله إن استقسما بها قط" ؛ أي: ما استقسما بها قط.
ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده ، ثم أمر بالصور فمحيت ، ثم أغلق عليه الباب، ومعه أسامة وبلال، فاستقبلا الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقف وصلى هناك، ثم دار في البيت وكبّر في نواحيه، ووحّد الله تعالى ، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون، ماذا يصنع محمد؟
إنهم هم الذين طالما آذوه وعذبوا أصحابه، طالما امتزجت سياطهم بدماء المؤمنين ولحومهم.
إنهم الذين أخرجوه من أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليه.
مكة .. هم الذين أخرجوا أصحابه من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
إنهم الذين قاتلوهم في بدر وأُحد، وحاصروهم في الخندق، و***وا العشرات والمئات من جنده المؤمنين.
إنهم هم العُتاة القُساة الطُّغاة، وقد أكنت منهم الفرصة، وحان الموعد للنقمة والقصاص ..
لا بُدَّ أن يُحاكم إذن هؤلاء الخصوم، فتضرب منهم الأعناق، وتطيح الرءوس، أو تعمل السهام في رقابهم دون محاكمة ولا مقاضاة.
هذا ما يتوقعه الناس في مثل هذا الموقف الرهيب، وهذا ما يفعله المنتصرون في القديم والحديث.
ولو انتقم النبي منهم ما كان ظالمًا لهم .. ولكن رسول الله صنع غير هذا، لقد نادى قريشًا وهم ناكسو رءوسهم، ينتظرون الكلمة الفاصلة، تخرج من بين شفتيه فقال: "يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ ".
قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.
هنالك قال: "إني أقول ما قال يوسف لأخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء" .
وهكذا بكلمة واحدة، أطلقهم الرسول، وأصدر هذا العفو العام، وضرب المثل الأعلى في تسامح القادرين على الانتقام والاقتصاص. حتى إن أم هانئ بنت أبي طالب، تجير حموين لها مشركين، فيقرُّ النبي هذا التدخُّل من امرأة في شأن من شئون الدولة، ويعترف بهذا الأمان الخاص، ويقول: "قد أجرنا ما أجرت أم هانئ" .
وصلى -عليه الصلاة والسلام- في المسجد، فقَدِم إليه علي بن أبي طالب بعد أن جلس .. عليٌّ ابن عمه وزوج ابنته، جاء ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. وكانت سقاية الحجاج مع بني هاشم، وهي مكلفة وغُرم لا غُنم فيه، بينما كانت الحجابة مع بني طلحة، وهي غُنم لا غُرم فيه، وكذلك انطلق العباس عمُّ النبي في رجال من بني هاشم أن يختصهم الرسول بمفتاح الكعبة.
ولكن النبي دعا عثمان بن طلحة، الذي كان قد منع النبي يومًا من دخول الكعبة في مكة، وأغلظ له ونال منه، فلم يمنع ذلك النبي أن يناديه ويقول له: "يا عثمان، هاك مفتاحك، اليوم يوم وفاء وبر، يا عثمان، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنك على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف" .
ثم التفت إلى ابن عمه، وعمه وغيرهما من بني هاشم وقال لهم: "إنما أعطيكم ما تُرزءون لا ما تَرزءون" .
فإذا كان المنتصرون الذين يقبضون على أزِمَّة السلطان، يسارعون بتوزيع المغانم والأسلاب على الأقارب والأصحاب والمحاسيب، فها هو يوم الفتح الأعظم يعطي أقرب الناس إليه ما يَزرأهم ويُكلِّفهم، ويعطي البعيدين عنه والمُعادين له، ما يجلب عليهم رزقًا دارًّا، وعيشًا قارًّا.
عرف الناس الفاتحين المنتصرين تشمخ أنوفهم، وتتمايل بنشوة النصر رءوسهم، وينسبون النصر والفضل في نجاحهم لكفايتهم وبراعتهم ومهارتهم وحسن حيلتهم وتدبيرهم؛ ولذلك يُوعزون إلى أتباعهم وأنصارهم أن يهتفوا بأسمائهم، ويُشيدوا بذكرهم، ويرفعوا صورهم في كل مكان.
ولكن النبي نسب الفضل في هذا النصر كله إلى الله وحده، فكان هتافه ونشيده الدائم في هذا اليوم العظيم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ، فهكذا كان.
ودخل دار أم هانئ بنت عمه فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان الوقت ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هي كما قال الحافظ ابن القيم: "صلاة الفتح" . ولهذا قالت أم هانئ: "ما رأيته صلاها قط قبلها ولا بعدها" .
وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا بلدًا أو حصنًا، صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة؛ اقتداءً برسول الله .
وعرَف الناس أصحاب المبادئ، عرَف الناس كثيرًا من أصحاب المبادئ والعقائد يتمسكون بها قبل أن يتمكَّنوا ويحكموا وينتصروا، فإذا حكموا وانتصروا تبخَّرت هذه المبادئ العذبة، وارتدوا على أعقابهم القهقرى، وأصبحت هذه المبادئ حبرًا على ورق، أو كلامًا أجوف.
ولكن الرسول الذي نادى بالعدل والمساواة من أول يوم وهو في مكة، لم يتخلَّ عنها لحظة واحدة، فها هو يأخذ بعِضادتي الكعبة، ويعلن في قريش أهل الحسب والنسب، وأولي العزة والفخار فيقول: "يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس لآدم، وآدم من تراب" ، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
أيها الإخوة، ذلكم هو رسول الله في يوم الفتح.
استمساك بالحق إلى أبعد مدى، وسماحة وعفو، وخشوع وتواضع، وصلاة واستغفار، وإنابة إلى الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الظَّفَر على عدونا، وأن يفتح لنا فتحًا مبينًا، ويهدينا صراطًا مستقيمًا، وينصرنا نصرًا عزيزًا، وأن يجعلنا أهلاً لنصره الذي وعد به المؤمنين.



عبرٌ من فتح مكّة لحاضر المسلمين ومستقبلهم

ونتناولها فيما يلي:
1. الكتمان:
ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتوماً.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص علىألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم الحركة إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.
لم يبح بنياته لأقرب أصحابه عن نفسه: أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.
ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.
بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.
وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.
وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة، حذراً كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.
ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلاً كثيفاً من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالاً لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.
ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعاً عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعاً عن مكة.
وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.
إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.
وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.

2. بعد النظر:
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.
إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين، ولكي لا يتكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تماماً، سبباً لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما تكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلاً اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل لها بالمقاومة.
وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضاً، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.
فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!
3. العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائداً.
لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.
أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني اضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلاً يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.
وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟
إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.
4. المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فراراً بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.
لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.
أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.
لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.
5. السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.
وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح أيضاً، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً:» اذهبوا فأنتم الطلقاء «.
وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع ال*** حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.
فقد ***ت خزاعة حلفاء المسلمين رجلاً من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيباً، ومما قاله:» يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن ال*** فقد كثر إن نفع، لقد ***تم قتيلاً لأدينه، فمن *** بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا قدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله «، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي ***ت خزاعة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ي*** رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة لي***ه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله:» ماذا كنت تحدث به نفسك؟ «قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام:» أين عثمان بن طلحة؟ «فلما جاء عثمان قال له:» يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء «.
وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكراً.
تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.
ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحس، وهي عبر لمن يعتبر.

اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم



رد مع اقتباس
  #15  
قديم 06-07-2015, 07:35 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

احداث رمضانية
(سرية سيف البحر بقيادة حمزة رضي الله عنه) التاريخ الهجري 1 هـ
في رمضان سنة 1 هـ، الموافق مارس سنة 623م، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلاء وهؤلاء حتى جحز بينهم فلم يقتتلوا‏.‏ وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيض، وحمله أبو مرثد كَناز بن حصين الغَنَوي‏.‏


( فصل في فريضة شهر رمضان)

التاريخ الهجري 2 هـ

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة فرض صيام شهر رمضان، وقد قيل‏:‏ إنه فرض في شعبان منها ثم حكى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عنه فقالوا‏:‏ هذا يوم نجى الله فيه موسى وغرق فيه آل فرعون‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نحن أحق بموسى منكم‏)‏‏)‏ فصامه وأمر الناس بصيامه، وهذا الحديث ثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن ابن عباس‏:‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏ )‏ ‏[‏البقرة‏:‏183-185‏]‏ الآية‏.‏ وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه الكفاية من إيراد الأحاديث المتعلقة بذلك والآثار المروية في ذلك والأحكام المستفادة منه ولله الحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/312‏)‏ وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل‏.‏ قال‏:‏ أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة قال‏:‏ وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء ثم أن الله فرض عليه الصيام وأنزل‏:‏ ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ‏إلى قوله ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏ )‏ فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه‏.‏ ثم إن الله أنزل الآية الأخرى‏:‏ ‏( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) ‏إلى قوله‏:‏ ‏( ‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏ )‏ فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حولان‏.‏ قال‏:‏ وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا‏.‏ ثم أن رجلاً من الأنصار يقال له‏:‏ صرمة كان يعمل صائماً حتى أمسى فجاء أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائماً، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهد جهداً شديداً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً‏؟‏‏)‏‏)‏ فأخبره، قال‏:‏ وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله‏:‏ ‏( ‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم‏ )‏ إلى قوله‏:‏ ‏( ‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏ )‏‏.‏ ورواه أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏، والحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ من حديث المسعودي نحوه‏.‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت‏:‏ كان عاشوراء يصام، فلما نزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر‏.‏ وللبخاري، عن ابن عمر، وابن مسعود مثله، ولتحرير هذا موضع آخر من التفسير ومن ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ وبالله المستعان‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر، وقد قيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل الفطر بيوم - أو يومين - وأمرهم بذلك، قال‏:‏ وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد وخرج بالناس إلى المصلى فكان أول صلاة عيد صلاها وخرجوا بين يديه بالحربة وكانت للزبير وهبها له النجاشي فكانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعياد‏.‏ قلت‏:‏ وفي هذه السنة فيما ذكره غير واحد من المتأخرين فرضت الزكاة ذات النصب كما سيأتي تفصيل ذلك كله بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/314‏)‏


اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:22 PM.