اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > علوم القرآن الكريم

علوم القرآن الكريم هنا أن شاء الله كل حاجة عن القرآن الكريم من مسموع ومرئي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-11-2017, 06:28 AM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
مشرف سوبر ركن مسك الكلام فى الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,696
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
Impp القيم القرآنية: قيمة التعارف أنموذجا


مقدمة:
لا تكادُ أعمالُ المؤتمرات المتخصصة في حوارِ الحضارات وتحالف الثقافات، والمؤتمرات العلمية التربوية التي تتناولُ بالدراسة والبحث والتحليل موضوعَ بناء المناهج التعليمية من الناحيتين النظرية والتطبيقية - تنفك عن الحديث عن موضوع القيم التي تحملها هذه الحضاراتُ والثقافات أو هذه المناهجُ التعليمية في سياق تقاربٍ واحتكاك غير مسبوق للنظم والأفكار، والمفاهيم والتصوُّرات عن الذات وعن الكون، وعن الحياة والمصير.
*
ويكاد يكون الإجماعُ في التوصيات والقرارات على أهمية إيلاء القيم الأهميةَ القصوى باعتبارها موجِّهةً للتصورات، ومن ثم التوجُّهات العملية للأفراد والجماعات؛ ولذلك نجد أن كل المنظمات الدولية على اختلاف توجُّهاتها ومرجعياتها تركِّز على ضرورة ترسيخ القيم المركزية؛ كالحرية والمساواة، والإنصاف والتسامح، والتعارف والتعايش، والكرامة وغيرها، معتبرةً أنها قيمٌ إنسانية كونية لا خلاف فيها.
*
إلا أن سؤال المرجعية يبقى مطروحًا للنقاش بين داعٍ إلى الإسناد إلى المرجعية التي تحكُم كلَّ بلد، وتَنظِم عِقْدَ قوانينه في المجالات جميعًا؛ استنادًا إلى الخصوصيات الحضارية التي تميزه من غيره في بلدان العالم، بل ينظر إلى هذه الخصوصيات باعتبارها نموذجًا مختلفًا يسهم في تعزيز ثقافة الحوار والتعايش والتعارف والتفاهم، وكلُّ أفعال المشاركة هذه قائمةٌ على قيمة نبيلة، هي قَبول الاختلاف، و***ُ الخصوصيات أو تذويبها يُسقطنا في عقلية الإقصاء وإلغاء الآخر، ويدل على أننا عجزنا عن تدبير الاختلاف[1].
*
"لهذا لا ريب في أن للقيم أهميةً كبرى ومكانة عالية في حياة البشرية، أفرادًا كانوا أم جماعات أم أقوامًا؛ في تصرُّفاتهم وعلاقاتهم، ومعاملاتهم وأخلاقهم، كما أن حضورها يتجلَّى في مناحي الحياة جميعًا؛ الأسرية منها أو الروحية، أو الاجتماعية أو الثقافية، أو البيئية أو الفنية، في الميادين العلمية والفكرية، بل الفطرية والشعورية، كما أن القيم هي التي تمكِّن الأفراد من البطولات والزعامات والسلوكات المتزنة المحمودة، كما تساعد المجتمعات في الرقيِّ والتقدم؛ باعتبار هذه القيم من مرتكزات الحضارة الإنسانية"[2].
*
من هنا يتبيَّن أن للقيم شأنًا كبيرًا وعظيمًا في الحياة البشرية، يظهر ذلك حينما نجد أن كلَّ مجالٍ: تدخُلُه القيمُ وتَقرَع بابه، والمتصفِّحُ لتراثنا الإسلاميِّ يدرك فعلًا ما للقيم من مزايا عظيمة، وخصال نبيلة، كما أن القرآن الكريم باعتباره دستور الأمة، وباعتباره المرجع والمصدر الأول والأخير لهذه الأمة على وجه الخصوص، وللبشرية على وجه العموم - نوَّهَ بمجموعة من القيم العظيمة.
*
وفي هذا السياق يقول محمد بلبشير الحسني: "إن القرآن الكريم تحدَّث عن خالق القيم ومصدرها الأسمى، وعن قيم الإيمان به وخشيته وتقواه، ويتحدَّث عن تعليماته لخلقه، ودعوتهم إلى التعارف والتعاون فيما بينهم، وحثهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة، والمعاملات الحسنة، وتنبيههم إلى ما أنعم الله عليهم به من طاقات فطرية ومعرفية ولسانية وعقلية وحواسية، عليهم أن يستعملوها ويُحسنوا استغلالها"[3].
*
فالحسنيُّ في هذا النص يبيِّن لنا مجموعة من المبادئ والقيم الكبرى التي أمرنا بها الله سبحانه وتعالى؛ لنجسدها ولنوظِّفها في حياتنا الدنيوية التي فيها معاشنا، ونبتغي بهذا التجسيد والتوظيف الدارَ الآخرة التي إليها معادنا، وأرى - والله أعلم - أن قيمة التعارف من أجلِّ القيم ومن أدقِّ المقاصد، وتعد قيمة عظيمة في حياة الناس، وهم في حاجة ملحة إلى تصفُّحها، واستيعاب معناها، وبيان مقاصدها والغايات الموجودة وراءها؛ ولهذه الأسباب وغيرها مجتمعةً ارتأيت هذا التصميم لأتحدث - وعلى الله التكلان والاعتماد - عن هذه القيمة، واقتضى مني الحال والمقام أمورًا، هي:
- 1 - 1 - 1 مفهوم التعارف لغة:
جاء في مقاييس اللغة لابن فارس ما يلي: "العين والراء والفاء: أصلان صحيحان يدلُّ أحدها على تتابُع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السكينة والطُّمأنينة".
*
أما ابن منظور، فيقول في لسان العرب: "عرف: العِرفان: العلم، عرَفَه يَعرِفه عِرْفةً وعِرْفانًا وعِرِفَّانًا ومعرفةً، ورجل عَرُوفٌ: عارف، يعرف الأمور، ولا يُنكِر أحدًا رآه مرةً، والعَرِيف والعارف بمعنًى؛ مثل: عليم وعالم.

وتعرَّفت ما عندَ فلان؛ أي: تطلَّبت حتى عرَفت، وقد تَعَارَفَ القومُ؛ أي: عرَف بعضهم بعضًا، والعريف: القَيِّم والسيد؛ لمعرفته بسياسة القوم، والعريف: النقيب، وهو دون الرئيس، والعُرَفاء جمع عريف، وهو القَيِّم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس، والمعروف: ضد المنكر، والعُرف: ضد النُّكر، والمعروف: النَّصَفَة وحُسن الصُّحبة مع الأهل وغيرهم من الناس"[4].
*
نستنتج من هذه التعاريف اللغوية أن مادة "عرف" تأتي بأوجه عدة؛ كالطيب، والعالم، والعليم، والسيد، والقيم، والحاجز، والاعتراف، والإقرار، والنقيب والرئيس، والتعارف... إلى غير ذلك.
*
2 - 1 - 1 - 2 مفهوم التعارف اصطلاحًا:
التعارف "مبدأ إسلاميٌّ، وإستراتيجية للمستقبل الإنساني؛ فإننا نفهم تمامًا دَورَ الرسالة الإسلامية الإنسانية، الدور الذي لم يتوقَّف ولن يتوقف ولا ينقطع؛ فهو مستمَدٌّ من روح القرآن الكريم، وتدبير خالق هذا الكون والأكوان جميعًا، ودعوة القرآن الكريم للتعارف تعني تمامًا إيجاد القواسم المشتركة بين بني البشر، دعوة هي تنبيهٌ واضح لهذا المخلوق حتى يدرك طبيعتَه العقلية والنفسية أولًا، ثم طبيعتَه الإنسانية الشمولية ثانيًا، ثم دَورَه في الاستخلاف وتعمير الدنيا ثالثا"[5]..
*
من خلال هذا التعريف الذي قدمه الدكتور حسن الباش، يتضح لنا أن التعارف قيمة نابعة أصالةً وأساسًا من القرآن الكريم، الذي أشار إلى هذه القيمة، ويُعَدُّ المؤسس الأول لمجموعة من المفاهيم والمصطلحات ذات الأبعاد الشاملة والآفاق العميقة والمتسعة؛ فدعوةُ القرآن الكريم إلى هذه القيمة - قيمة التعارف - دليلٌ على أن الإنسان مدنيٌّ بطبعه، وكائن اجتماعيٌّ بطبعه، لا يستطيع العيش بمفرده منعزلًا عن باقي البشر، بل حتى الحياة الكريمة، والسعادة الحقيقية، والطمأنينة القلبيَّة لا تتحقَّق إلا إذا خالطتَ الناس، وعشت بين أحضانهم وفي كنفهم، فالإقبالُ على الناس ومساعدتهم، والصبر على أذاهم، والعفو عن أخطائهم - من علاقات المسلم الصالح المصلح، وبذلك تتحقق المودة والألفة والرحمة، ويحصل الحوار بين البشر، الحوار الذي يخاطب العقولَ والأذهان، والقلوبَ والنفوس، يقول صاحب كتاب مناهج التعارف: "إن أمة الإسلام تؤسس بطريق التعارف بين أبناء البشرية، لكن هذه الأمة تفهم تمامًا كيف يكون هذا التعارف، فالتعارف حوار العقول والنفوس، وحوار التوجُّهات والمنعطفات والمعوقات، الحوار الذي يستمع أطرافه بعضهم إلى بعض، فيحترمون الآراء والمعاناة والتوجهات، لا أحد يصادِر رأي أحد، ولا أحد يفرِض وجهةَ نظره على الآخر فرضًا، وإذا كانت أمة الإسلام تدعو للتعارف والحوار، فإنها في الوقت نفسه تحرص على أن الهُوية التي تتمتع بها وتنتمي لها هي هوية اختارها الله سبحانه لها، فهي لا تذُوب ولا تُذوَّب، ولا تتنازل عن سماتها"[6].
*
قيمة التعارف:
يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، فهذه الآية جاءت تنبيهًا إلى وحدة أصل الإنسان رغم تفرُّق الشعوب والقبائل، ووحدة إمكاناته واستعداداته، على تعدُّد أوصافه، وتنوُّع مكتسباته، وضرورة التعارف المؤدي إلى التآلف والتوادد المنافي لأنواع التعالي والتفاخر والتعاظم، وتحديد مقياس التفاضل الحق بين الناس، وأساسه هو التقوى، التي تعني الاستقامة على ما يحقق للإنسان سعادته في الدارين، وراحتَه وطمأنينته في الحياتين، والمقياس الذي يبعث على التنافس الجميل، لا على التحاسد البغيض، وكانت الآية تبيانًا لما تقدَّم قبلها في السورة وتقريرا له"[7].

يتبيَّن لنا أن المجتمع مجتمع تعارُفٍ ومساعدة واحترام، والله سبحانه وتعالى حذَّرنا من مجموعة من الأخلاق الذميمة والرذيلة، خاصة في سورة الحجرات، فنهانا عن سوء الظن واللمز، والفسق، والغِيبة والنميمة، وكل ما يعود على البشرية بالضرر، وتسهم في تمزيقها وتناحرها، وبعد ذلك أمَرَنا بالتعارف؛ ليدلنا على قيمته ومكانته وإسهاماته في تحقيق الوحدة، وربط الأواصر لتحقيق الأخوة الصادقة؛ لأن الله أراد منا أن نتَّحد، وحذرنا من الفُرقة والاختلاف... فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
*
وبالتالي فإن في القرآن الكريم ما لا يعد ولا يحصى من الآيات التي تأمرنا بالوحدة والتماسك، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح الاجتماعيِّ والسياسي والإنساني الإسلامي.
*
وتعد قيمة التعارف من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وهي بمنزلة قانون أو قاعدة عامة من أصول الإسلام الكبرى؛ "فالتعارف قاعدة اجتماعية عظيمة، وأصل من أصول الإسلام الكبرى لطبيعة العمران الاجتماعيِّ في الإسلام، المبنيِّ على حقائق الإيمان، إنه عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناسِ، المتعددة الشعوبِ، وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع، إنه ميزان الله المبرَّأ من شوائب الهوى والاضطراب"[8].

فالله سبحانه وتعالى خلق الناس سواسية بميزان العدل والحكمة، لا تفاضُل بينهم إلا بالتقوى، وإنِ اختلفوا في اللون والعِرق والدِّين واللغة والجنس والصفة، فميزان الله لا يعرف الفوارق ولا الطبقات، والشريف والضعيف، والهوى والاضطراب، والميل والانحياز، والظلم والغشَّ؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 9]؛ فميزان الله قائم على العدل والحق، بل حذر ووعد الذي يغش في الميزان بالويل والعذاب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3].
*
أوردنا هذه الآيات الكريمة؛ لنبين الحقيقة التي قام عليها ميزان الحق الإلهي؛ ليطمئن كلُّ أحد منا ويرتاح، ويخضع ويَذِلَّ أمام حكم الله وقضائه وقدره، ولنبين جزاء من سعى في الأرض عنادًا وتكبرًا وفسادًا، ولا يرضى بحكم الله وقدره، ولا يحتكم لعدله ولا ميزانه، ويعتقد جهلًا منه أنه أفضل من الآخرين، وأن له اليدَ الطُّولَى والبصمة الفضلى في كل مناحي الحياة؛ والحقيقة أنْ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى؛ فالتفاضل الحق في هذه الخصلة - التي هي التقوى - هي شعار المؤمن الحق، ورايته الحقة، من انتصبها حظي بعناية من الله، وكفى مصدقًا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3].
*
وعلى أي حال، فالاعتزاز بالنفس والافتخار مع التكبر والعناد - من صفات الشياطين المردة، والكفار الجبابرة، ومن يحذو حذوَهم في هذه الخصال والصفات.
*
إننا اليوم - رغم العصرنة، والتقدُّم والازدهار، والحضارة والتكنولوجيا - ما زلنا نعيش مثل هذه الأخلاق التي انتشرت في المجتمع الجاهليِّ؛ من عصبية وكبرياء، وأنفة وطيش... إلى غير ذلك، وفي هذا الصدد يقول الشاعر الجاهليُّ عمرو بن كلثوم:
ملأنا البَرَّ حتى ضاق عنَّا
وماء البحر نملؤه سَفِينَا
إذا بلَغَ الفِطامَ لنا صبيٌّ
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينَا
ألَا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينَا[9]
*
فهذا الشاعر الجاهليُّ يصوِّر لنا هذه الأخلاق الذميمة، التي ينبذها الإسلام ويرفضها، حيث يقول الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، فالعفو والصفح من سمات عباده المتقين الذين يسعَون في صلاح أنفسهم وفي صلاح غيرهم، ويتعاونون على البر والتقوى، ويجتنبون كلَّ الطرق المؤدية بهم إلى المعاصي، مما ينسجم مع قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
*
فهذا هو الإنسان الصالح؛ يحب الخير، وينبذ الشر، ويميل إلى الآخر من حيث يدري أو لا يدري، ويشاركه ويخدمه، يتقاسمون كلَّ المسرات والمضرات رغم اختلافهم في المعيشة والرزق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].
*
والتعاون والخدمة، وتبادل الآراء والخبرات، وتقديم التضحية والجهد من أجل الآخر - كلُّ هذا لا يتحقق إلا تحتَ ظلِّ قيمة التعارف، التي هي أصلٌ لجلِّ القيم الأخرى، والمقاصد الكبرى.
*
والمتصفِّح للقرآن الكريم والمستقرئ لآياته، يجد أن قيمة التعارف "وسيلة من أهم وسائل قيام الضروريات الخمس (الدين، النفس، النسل، المال، العقل) وحفظها، لكننا بالرجوع إلى نصوص الشريعة نجد أن التعارف مقصد تضافرت جملة من الأحكام على تحقيقه، منها":
أ - الحث على صلة الرحم:
أمرنا الله سبحانه أن نتحلى بهذا الخلق العظيم والنبيل في مجموعة من آي القرآن؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، وقوله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]، وقوله: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 6]، وقوله: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم))[10]، وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه: "اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قُرب بالرحم إذا قُطعت وإن كانت قريبة، ولا بُعد بها إذا وُصلت وإن كانت بعيدة". [11].

كلُّ هذه الأدلة تبيِّن مكانة صلة الرحم، الذي يحصل من خلاله "التعارف العمرانيُّ الإنساني فيما بينكم؛ من أجل التعاون على البر والتقوى، وبناء الحضارة الإنسانية على توحيد الله وعبادته، وإنما يكون ذلك بتمتين روابط الأنساب، وحفظ أرحامها؛ أسرةً وقبيلةً وشعبًا"[12]

فبالتعارف يحصل الحب والودُّ بيننا، والتعاون على الخير ومشاريعه، وتبادل الأفكار والخبرات والنصح، ونتَّحد صفًّا صفًّا، وبهذا المعنى نستطيع أن نبني الحضارة ونشيدها بما تَحمِل كلمة حضارة من معاني التطور والتقدم والازدهار.
*
ب- جزاء المتحابين في الله:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار))[13].
*
يقول ابن القيم رحمه الله: "والمقصود أن حقيقة العبودية لا تحصل مع الإشراك بالله في المحبة، بخلاف المحبة لله، فإنها من لوازم العبودية وموجباتها، فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم - بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء - لا يتم الإيمانُ إلا بها؛ إذ محبته من محبة الله، وكذلك كلُّ حبٍّ في الله ولله" [14].

يتضح من كلام ابن القيم أنَّ إيمان العبد لا يكتمل ولا يتحقق إلا إذا قدَّم محبة الله ورسوله على كلِّ شيء؛ من زوج، أو ولد، أو والد، أو تجارة، أو مال... يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]، كما جاء في الحديث: ((ما تحابَّ رجلانِ في الله إلا كان أفضلُها أشدَّهما حبًّا لصاحبه))[15]، وجاء في السنن: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) [16].
*
كلُّ هذه الأدلة وغيرها أتينا بها؛ لنبيِّن أن للحب فوائدَ، كما له مضار وسلبيات في المقابل، فمن أحبَّ لله وأبغض لله، حصل له الثواب العظيم، والأجر الجزيل، بحسب درجات إيمانه وطاعته.
*
وتقديمُ محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على باقي الموجودات - دليلٌ على صدق العبد، وشعار على كمال إيمانه وتقواه... ومن خالف هذا - كأن يقدِّم محبة عبد أو مال أو زوج أو ولد على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - فقد ضل وهلك، ولا يضر إلا نفسَه، ولا يضر اللهَ شيئًا، والله سبحانه وتعالى لطيف بعباده رحيم بهم.
*
والحب قيمةٌ من قيم التعارف، وفرع من فروعه؛ لأن بعد التعارف يحصل الترابط والتعالق والانسجام.
*
ج - الدعوة إلى الإصلاح بين المتخاصمين:
قال الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ﴾ [النساء: 128]، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتفق مع مبدأ التعارف، أضف إلى ذلك اعتبار العرف، كما تقول كلثومة دخوش في مداخلتها: "اعتبار العرف في التشريع عملًا بما تعارف الناس عليه، ما لم يكن عرفًا فاسدًا يخالف الشرع، كما هو مقرر في مجاله من المباحث الأصولية"[17]، يتبيَّن لنا مدى شرعية التعارف حتى فيما يتعلق بأمور الناس الدينية والدنيوية، إن لم يخل بالشريعة الإسلامية، أي: لم يتصادم مع نص من النصوص القرآنية والحديثيَّة، أو الإجماع، أو القياس، إلى غير ذلك من المصادر التشريعية في الشريعة المحمدية، كما نجد أن من مقاصد القرآن الكريم أيضًا "مقصد الإصلاح الاجتماعيِّ الإنساني والسياسي، الذي يتحقَّق بالوحدات الثمان: وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، الدين، التشريع بالمساواة في العدل، الأخوة الروحية والمساواة في التعبد، السياسة الدولية، القضاء، اللغة، والأصل الثاني يتمثل في الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم".

وهذا يجسد عناصر التعارف الإسلاميِّ، ويصف مكونات الأمة المتحدة الواحدة، والتي لخصتها صاحبةُ النص في ثمانية كما ذكرنا، وكلها ذات أبعاد وآفاق عميقة في أغوار المجتمع الإنسانيِّ عامة، والمجتمع المسلم على وجه الخصوص.
*
فحينما نتحدث عن وحدة الأمة، ووحدة الجنس البشريِّ، نستحضر قيمة الوحدة وما لها من قوة وجبروت، نستطيع أن نتحدى بها جميع المواجهات والصدامات والنقص الذي قد يتعرض لها، أو يتعرض ويصيب بعضها.
*
وحينما نتحدث عن تشريع العدل والمساواة، نستحضر الأمة الخيرية، ومحاربة الفقر، وتحقيق التنمية والاكتفاء الذاتي، وانتشار الأمن والسلام في كل بقاع الأرض، وبذلك يحصل التعارف والتمكين والعمارة والاستخلاف التي تعد من الأصول الكبرى التي دعت إليها الشريعةُ الغراء.
*
كما أن بعض معاني التعارف يدور على الاطمئنان، "وهذا ينسجم مع لفظ التعارف بالمعنى الذي يحقِّق التواصل، ويكون في بعض مراحله من لوازم القيام بالخلافة في الأرض وتعميرها، ويرتبط بعدة مقاصد مقرَّرة في الشرع، إنه من المعلوم أن استمرار وجود النسل - الذي هو وسيلة إعمار الأرض والخلافة فيها - لا يتم إلا بالزواج بين الذكر والأنثى، ولا زواج بدون تعارف، بل إن أهم أسس العلاقة بين الزوجين هي المودة والرحمة والسكن والاطمئنان، الذي عليه مدار التعارف في كلِّ هذه المعاني الثلاثة، وقد يكون الزواج وسيلة للتعارف على نطاق أوسع، كالنبي الكريم مع زوجاته نموذجًا[18]، وحفظ النسل ضرورة من الضروريات الخمس، ولا يمكن حفظُ هذه القيمة إلا بالزواج، والزواج باعتباره ضرورة من ضرورات الحياة لا يتحقق إلا بالتعارف، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أهمية ومكانة التعارف؛ وسنرى بعدُ إن شاء الله كيف أن مفهوم التعارف داخل في كلِّ الضرورات الخمس الباقية، ومنها حفظ النفس، الذي "لا يتوفر إلا بقدر الضروريات في المسكن والمطعم والملبس، وهذا لا يتأتى للإنسان مهما كانت قدراته أن يحققه لنفسه دون الاستعانة فيه بغيره؛ ولذلك خلق الله الناس مختلفين في القدرات والمهارات؛ حتى ينتفع بعضهم بما عند بعضهم الآخر، ويتعاونوا ويتعارفوا ويتبادلوا الخدمات بما يحقق مصالحهم[19]"، قال الله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الزخرف: 32].
*
أضف إلى ذلك حفظ ضرورة العقل، وحفظها من جانب الوجود يكون بالدعوة إلى طلب العلم، وكلُّ هذه الأمور لا تتم بدون تعارف، وإلا فكيف تحقق هذه المقاصد والغايات إلا بمعرفة مَن تُخاطِب ومن تدعو ومن تتلمذ على يده.
*
ومن هذه المقاصد أيضًا حفظ الدين الذي هو من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والدين إنما وصل للناس بالتبليغ من مبلِّغِه الأول، النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ورَّثَه العلماء، ثم وصل إلى الشعوب من خلال التعارف بين عموم المسلمين وغيرهم ممن أسلموا من خلال مختلف المعاملات مع المسلمين، وبهذا تحقق عالمية الإسلام، وشمول رحمته للبشريَّة كلها، حسب ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فالدين إنما وصل إلى ما وصل إليه بالتعارف لا بالتناكر، وبالسلوك الذي تربَّى عليه المجتمع المسلم فكانوا قدوة لغيرهم.
*
وآخر هذه المقاصد حفظ المال، فإن كلية حفظ المال هي المقصد الخامس من المقاصد الضرورية، وتحصيله لا يُتصوَّر في العقل دون تعارف، سواء في معناه البسيط الذي يعني ما يمتلكه الإنسان لتستقيم حياته ولا تتوقف؛ كامتلاكه للقدر الضروريِّ من المأكل والمجلس، أم بمعناه العام الذي جاءت الشريعة للحفاظ عليه وإنمائه بمختلف المعاملات باعتباره عصب الحياة ومصدر قوة للأمة.
*
وهذه المعاملات التي راعت فيها الشريعة مجموعة من الضوابط، فإنها كلها إنما تتم بين أناس متعارفين ليس فقط بأشخاصهم، بل بصفاتهم التي تشجع على الثقة بينهم، وإقامة علاقات من شأنها أن تزيد المال نماء وتداولًا بين فئات المجتمع، سواء من خلال المبادلات التجارية، أم من خلال الزكاة والصدقة، وهما أيضًا لا يمكن أداؤهما بدون قدر قليل أو كبير من التعارف[20].
*
فلا بد من قراءة جديدة، واستيعاب لهذه القضايا والمفاهيم الجديدة، وإعادة النظر في العنصرية والتمييز الذي ابتُليت به الأمة أشدَّ بلاء، وبذل الجهد والسعي نحو إدراك هذه الحقيقة وهذه القيمة، "ووضع الخطط والبرامج العلمية والأوعية الشرعية، والامتداد بالاجتهاد في إقامة المؤسسات ووضع الدراسات، والإفادة من التجارب التاريخية العامة والخاصة لحماية هذه القيم، ومراقبة تطبيقها، وحسن تنزيلها على الواقع، والحيلولة دون القراءات الخاطئة لفهم المجتمعات الإسلامية، والتأويل الخاطئ للقيم نفسها في الكتاب والسنة"[21]؛ إذ لا بد من قراءة عميقة، وبذل طاقات واسعة، وإقامة مشاريع خاصة لحماية مثل هذه القيم والدفاع عنها، وإصدار مؤلَّفات وإفراد كتب لدراستها واستيعابها، تحارب العنصرية بين الشعوب؛ "فهذا العصر الذي نراه هو عصر ترسيخ التفاهم والتعارف، وليس عصر الإبادة العنصرية ونفي الآخر، وإذا كان بعض الشعوب والأفراد لا يزالون يفكِّرون بعقلية الانحراف، فإن المجتمعات الإنسانية الواعية تتحمل عبء تخليص الكون من ذلك الشذوذ، وإعادة أصحابه إلى عقلية الاستقامة، أو حصارهم فكريًّا أو إنسانيًّا، أو نبذهم؛ بل مقاطعتهم؛ حتى لا يظلُّوا عَقبةً في وجه التفاهم الإنسانيِّ المتوقَّع والمنشود.
*
فالعصر الجديد لا يحتمل أن يرى أناسًا يُقَنِّنُونَ (يجعلون القوانين) للحروب، وإبادة الإنسان وإهراق دمه ظلمًا، ومحو هويته وتراثه وثقافته وأهدافه الوطنية والإنسانية"[22]، وهذا كلام يشهد عليه ما نراه اليوم وما نعيشه، فالأمور كلُّها واضحة لدى جميع الناس أو عند الأغلبية.
*
وما زال هناك فئة تدعو إلى الانحلال الخلُقيِّ وال*** والتطرف والإرهاب... إلى غير ذلك من المفاهيم التي صنَعت في المجتمعات ما صنَعت؛ بفضل إضفاء مجموعة من الصبغيات على هذه المفاهيم، واستغلال كلِّ الوسائل والآليات الحديثة لنشر أفكارها وثقافتها وأيديولوجيتها بطريقة أو بأخرى بدعوى ما يسمى بحقوق الإنسان، "وفي إطار التعارف الإنسانيِّ لا بد من أن تظل حركة محاربة للعنصرية دائمًا فعالة؛ حتى يتم للبشرية القضاءُ على آخر أشكال النظريات العنصرية الهدامة.
*
إننا حين نطرح على طاولة التعارف والتواصل الإنسانيَّينِ مفاهيمَ خاطئة، فإننا ندرك أن هذه المفاهيم هي الأخطر اليوم على السلم العالميِّ، والتعايشِ بين الشعوب.
*
لقد قُضِي على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وبلدان إفريقيا، وبسبب ما قد يكون الخوف أو الرعب، وقد يكون التحالف المصلحي، فقد أحجم العالم عن استكمال قضائه ومحاربته للعنصرية.
*
إن الصهيونية اليوم تمثِّل آخر معاقل العنصرية في العالم، وعلى العالم أن يفصح عن رأيه الصحيح في هذه الحركة دون خوف أو رعب، ودون مسوِّغات مصلحية، في حين نجد أن الذين ينادون بالحرية وحقوق الناس حقيقةً يُتهَمون بدول ال*** والتطرف، صحيح أن لكل دولة أو شعب ثقافتَها وعاداتها، والقيم ثابتة وشمولية، لا تخص شعبًا دون آخر وقوم دون قوم".
*
ونعتقد أن هذه القيم الثابتة والشمولية لا تخص قومًا دون قوم، أو فردًا دون فرد، مهما كان جنسه وعنصره، ومهما كان لونه وشكله.
*
وفي الجوهر لا وجود لشعب الله المختار، فكل من يريد أن يختاره الله له الحقُّ في أن يقترب أكثر فأكثر من خالقه؛ حتى يطبق تمامًا أوامره ونواهيه، وينال رضاه واختياره وحينما نسمع التعارف والدعوة إلى تفعيله وتطبيقه، فإن هذا لا يعني أننا فتحنا الباب على مصراعيه، لكنْ هناك ضوابطُ وشروط ينبغي أن نراعيها، خاصة مع غير المسلمين، ومن هذه الضوابط ما يأتي:
♦ إذا ثبت بأن التعارف بين المسلمين وغيرهم مطلوب شرعًا، فإنه ينبغي أن يُضبط بضوابط تجعله يحقِّق مصالح المسلمين، ويدفع الضررَ عنهم، وأن يكون منطلَق هذا التعارف مِن نِدِّيَّةٍ كاملة بين الطرفين؛ حتى يتبين الحق وأصحابه، وأن يكون هدف المسلمين من هذا التعارف هو تبليغ الدين للناس كافة وتعريفهم به.
*
♦ "أن يكون من أهداف التعارف الإضافية الحصول على ما عند الآخر من معرفة ونفع"[23]، وهذه المنافع قد تكون تجارية أو صناعية، خاصة وسائل الاتصال والوسائل التي لا بد منها لتبادل المعارف والعلوم... أو التعرف على عادات الأمم في العيش والاعتبار، والاطلاع على مختلف مكونات الحضارة من خلال السير في الأرض والسياحة؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 11].
*
♦ "والناس على اختلاف أنسابهم وألوانهم، وتنوُّع مشاربهم وتوجُّهاتهم - يضربون في الأرض، ويجوبون الآفاق؛ طمعًا في توفير السعادة والطمأنينة، وسعيًا إلى تحقيق التعارف والألفة، وتبادل المصالح والمنافع، لكن منهم من يسلُكُ سبيل الرشد والسداد والمصلحة، ومنهم مَن نهج الضلال والزيغ والمفسدة، ومنهم من يغتر بالحال ويغفل عن المآل"[24].
*
أخيرًا وليس آخرًا "فالتعارف مطلوب شرعًا، وإنه قد يكون منه ما هو ضروري كما سبقت الإشارة إليه، والحديث عن علاقاته بالكليات الخمس، وقد يكون حاجيًّا أو تحسينيًّا"[25] "كما ثبت بالتتبُّع والاستقراء لنصوص الشريعة، والأمر الواضح بالتعارف والتآلف في القرآن الكريم والسنة المتواترة: أن التعارف مطلوب شرعًا، قد يكون طلبه لذاته، وقد يكون لغيره كما سبق.
*
ومن المعلوم أن الغاية من خلق الإنسان تتمثَّل في الخلافة في الأرض، وعمارتها بالعبادة والعمل النافع، وأن الله تعالى خلق الإنسان لهذه الغاية العظمى، وزوَّده بالإيمان والعلم والبيان؛ ليتمكَّن من القيام بهذا الدور الذي خُلق من أجله، كما هو مبين"[26] في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وإني أرى أن كلَّ هذه الأصول والوظائف لا تحقَّق إلا بالتعارف.
*
خاتمة:
وختامًا، فإن القيم القرآنية نالت حظَّها الأوفر، ونصيبها الكافيَ من الدراسة والتحليل من لدن الباحثين عمومًا، ومع ذلك فإنها لم تأخذ مكانتها اللائقة في تجسيد سلوك الإنسان وتنميته.
*
فالقيم الضرورية قد جمَعت بين الجانب الماديِّ والروحيِّ في الإنسان، وهنا تتوجَّه إرادة الأفراد جميعًا إلى المحافظة على هذه القيم التي ترتبط بقضايا الأمة مشخصة أمراضها وأسقامها، محاولة الحصول على دوائها وعلاجها، في إطار ما يسمى بالعيش المشترك، مستمِدةً أحكامَها وأصولها؛ وذلك بتفعيل مجموعة من المجالات القيميَّة وتنزيلها على الواقع.
*
لا ريب في أن القيم هي التي تمكِّن الأفراد من البطولات والزعامات، والسبق والريادة، كما تساعد المجتمعات على الرقيِّ والتقدم؛ باعتبار هذه القيم من مرتكزات الحضارة الإنسانية.
*
ودعوة القرآن الكريم إلى ترسيخ قيمة التعارف في أذهان البشرية تعني تمامًا إيجاد القواسم المشتركة بين بني البشر، وهي دعوة فيها تنبيه واضح لهذا المخلوق ليدرك طبيعته العقلية والنفسية أولًا، ثم طبيعته الشمولية ثانيًا، ثم دوره في الاستخلاف وتعمير الدنيا، وكلُّها قيم ومقاصدُ لا تتأتَّى إلا بترسيخ هذه القيمة.

[1] الصمدي، خالد، القيم الإسلامية في المنظومة التربوية دراسة للقيم الإسلامية وآليات تعزيزها، منشورة المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إسيسكو، 2008، ص13-16.
[2] بلبشير الحسني محمد، مدونة في القرآن والسنة ، طوب بريس، الرباط، ط2 دجنبر 2014، ص11.
[3] مرجع سابق مدونة القيم ص12.
[4] ابن منظور، لسان العرب، ص 309.
[5] الباش حسن ، منهج التعارف في الإسلام ، نحو قواسم مشتركة بين الشعوب، منشورات جمعية الدولة الإسلامية العامة الجماهرية العظمى، طرابلس، 2005، ط1ن ص5.
[6] منهج التعارف ص8.
[7] التذكرة مجلة شهرية تصدر مؤقتا فصلية تعنى بالفكر والثقافة الإسلامية يصدرها المجلس العلمي للدار البيضاء ، ج3، ع 11-12، 2008، ص 28-29.
[8] أنوار مجلة علمية ثقافية تصدر مرتين كل سنة عن المجلس العلمي المحلي، بني ملال، ع3، 2014، ص32.
[9] أبو عمرو الشيباني، شرح المعلقات السبعـ تحقيق عبد المجيد همو، مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط1، 2001، ص348.
[10] أخرجه ابن الملقن شرح البخاري، رقم 17/20.
[11] الألباني، صحيح الجامع، رق الحديث 1051.
[12] مجلة انوار مرجع سابق، ص 34.
[13] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث 43 من حديث أنس.
[14] ابن القيم، الداء والدواء، تحقيق محمد سعيد محمد، فضاء الفن والثقافة ص 250
[15] أخرجه ابن حبان، صحيحه، 2/ 325، حديث 566، من حديث أنس رصي الله عنه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 450.
[16] أخرجه أبو داوود في كتاب السنة باب الدليل على زيادة الإسلام ونقصانه حديث 4681 من حديث أبي أمامة رضي الله عنه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 380.
[17] مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر ، أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط ط1 ، 2013، ص 189-190.
[18] مقاصد التشريع والسياق الكوني المعاصر، ص 186.
[19] مقاصد التشريع والسياق الكوني المعاصر، ص 188.
[20] مقاصد التشريع والسياق الكوني المعاصر، ص 189.
[21] كتاب الأمة مرجع سابق، ع 39، 33.
[22] منهج التعارف مرجع سابق ص 104.
[23] مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر، ص 192-193.
[24] مجلة التذكرة، ص28.
[25] مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر،ص194.
[26] مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر،ص178.

خالد ايت ازروال

__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-11-2017, 07:34 PM
مستر أويس مستر أويس غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 70
معدل تقييم المستوى: 0
مستر أويس is on a distinguished road
افتراضي

هايل وفى تقدم مستمر
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-11-2017, 04:41 PM
شوشو علوان شوشو علوان غير متواجد حالياً
عضو مجتهد
 
تاريخ التسجيل: Nov 2017
المشاركات: 67
معدل تقييم المستوى: 7
شوشو علوان is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خيرا
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:33 AM.