اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > الاقسام المميزة > مصر بين الماضى و الحاضر

مصر بين الماضى و الحاضر قسم يختص بالحضارة و التاريخ المصرى و الاسلامى

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-06-2017, 01:18 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
مشرف سوبر ركن مسك الكلام فى الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,696
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
Impp المماليك ومجابهة الخطر الصليبي بشمال إفريقية


المماليك ومجابهة الخطر الصليبي بشمال إفريقية
(668 - 669هـ / 1270م)

الحمد لله الذي أنزل الكتاب المبين على أشرف الأنبياء والمرسلين، وقصَّ عليه أخبار المتقدِّمين والمتأخِّرين، وعلَّمه ما كان وما يكون إلى يوم الدين، نَحمَده إذ جعلنا من أُمتِه، ونشكره على عطائه ومِنَّته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله.

أما بعد:
فلقد شهِد الشرق الإسلاميُّ العديدَ من الأحداث المهمة والمؤامرات الخارجية، التي كانت تهدف من ورائها إلى سلْب العرب أراضيهم وحُريتهم، وتنوَّعت هذه المؤامرات، فاتَّخذ بعضُها الطابَع العسكري، وبعضها الآخر الطابَع الفكري، ولعل أهمها الحروب الصليبية التي ظلَّت طيلة ثلاثة قرون مسيطرة على الفكر الأوروبي، وذلك في بداية القرن الثاني عشر وحتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، وهي القرون السادس والسابع والثامن الهجرية، وعمِلت الكنيسة في الغرب الأوروبي على الدعوة للقيام بهذه الحروب في شكل حملات صليبية عسكرية موجَّهة إلى بلاد الشرق الإسلامي، واتخذت من المعتقد المسيحي والصليب شعارًا لتلك الحملات؛ من أجْل كَسْبِ تأييد عامة الناس في أوروبا، وكان الهدف من ورائها هو السيطرةَ على الأماكن المقدَّسة في الشرق الإسلامي من جهة، والاستيلاء على خيراته من جهة أخرى، وعندما فشِلت هذه الحملات في تحقيق أهدافها الدينيَّة والعسكرية والاقتصادية، اتَّجهت ناحية الشمال الإفريقي في محاولة للاستيلاء على تونس، وتكوين قاعدة عسكرية يُمكن من خلالها ضربُ بلاد الشرق الإسلامي، وخاصة مصر، واستعادة الأماكن المقدسة في سوريا وفلسطين.

فالحروب الصليبية الكبرى على الشام ومصر، قد شغلت أذهان المسلمين، وأقلامَ الباحثين والمؤلفين؛ حتى أوشك الناس أن يغفلوا أمرَ الحروب الصليبية الأخرى التي وقعت في الشمال الإفريقي وفي غيره، وكذلك يَبرُز احتياجنا لدراسة الحروب الصليبية بدرجة أكبر عند رؤية التشابهِ العجيب بين هذه الحِقبة القديمة التي مرَّ عليها أكثر من تسعة قرون، وبين زماننا المعاصر الذي نعيش فيه الآن، فنرى أن حماس الفرنسيين في العصر الحديث تجاه الشمال الإفريقي ليس إلا تلبيةً لتهافُت تخيَّلوه في مقبرة شهيدهم الدفين بتونس، فكان ذلك من ضمن الأسباب التي جعلت الشمال الإفريقيَّ هدفًا للاستعمار الفرنسي مدة طويلة.

لذلك فهذه محاولة متواضعة من جانبنا، تُلقي الضوء على طبيعة العلاقات المملوكية الحفصية إبان تلك الحقبة، كما أنها محاولة منصفة لإبراز مدى التفوق العسكريِّ المملوكي في مجابهة الصليبيين شرقًا وغربًا، وإسقاط كافة أشكال الاستعمار الخارجي؛ لذا يمكن القول: إن الحرب الصليبية على العالم الإسلامي لم تَنتهِ بانتصار المصريين في معركة المنصورة، التي كانت أهم نتائجها أَسْر الفرنسيس (لويس التاسع ملك فرنسا)، الذي فدا نفسه بجزية كبيرة؛ ليفك المصريون أسرَه في أثناء حملته على مصر (647هـ - 1250م)، مقابل ألا يعود للهجوم على الشرق الإسلامي، ولكن الرجل كانت تَدفعه عصبية مجنونة ضد المسلمين، وعمِل على أخذ الثأر من المصريين نتيجة أسره، وكذلك استعادة الأماكن المقدسة؛ لذلك عزَم على غزو تونس، ولكن حملته على تونس باءَت بالفشل؛ نتيجة تفشي الأمراض بين جنوده، وامتد هذا الوباء إلى لويس التاسع نفسه، فقضى عليه في العاشر من محرم سنة (669هـ - 1270م)، ودُفِن بمدينة قرطاجنة، وقد عجَّل موتُ لويس التاسع اضمحلالَ الرُّوح الصليبية في وقت كانت تُكابد فيه طور النزع الأخير، وسرعانَ ما تلاشى أمل توحيد اللاتين في حملة مشتركة ضد المسلمين، وعقد الخليفة الحفصيُّ المستنصر بالله معاهدة الصلح مع شارل دانجو - (حاكم صقلية، وأخو لويس التاسع، الذي تولَّى قيادة الحملة من بعده) - التي بموجبها رحلت القوات الصليبية عن تونس في السَّنة نفسها.

إن فكرة غزو اللاتين لتونس ليست في حقيقة الأمر بالفكرةِ الجديدة على أوروبا؛ فقد مرَّت هذه الفكرة بمراحلَ عديدة إلى أن تبلورَت أهدافها، وتُرجِمت في شكل العديد من الحملات، كان لفرنسا منها نصيب الأسد، فقد كان الاعتقاد السائد لدى غرب أوروبا آنذاك: أن امتلاك بيت المقدس من جديد لن يأتي إلا بعد استئصال شَأْفة مصر رأس الأفعى، تلك العبارة قالها (روبرت كونت أرتوا) في أثناء حملة لويس التاسع الصليبية على مصر، ولكن المسيرة نحو مصر أصبحتْ أشبهَ بذكرى أليمةٍ كان الغرب يتمنَّى أن ينساها[1].

حيث إنَّ حملته على مصر انتهت بهزيمة منكَرة، فأُسِر وسُجِن في دار القاضي ابن لقمان في مدينة المنصورة، وظل سجينًا إلى أن افتدى نفسه ومَن معه بغرامة مالية قُدِّرت بأربعمائة ألف دينار، وتعهَّد بعدم العودة إلى محاربة المسلمين، فأُطلِق سراحه، وتوجَّه إلى إمارة عكا الصليبية، حيث بقِي أربع سنوات قضاها في تنظيم ما بقِي من الإمارات الصليبية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعقَد في أثناء إقامته في المشرق حلفًا مع سنان شيخ الجبل زعيم الطائفة الإسماعيلية بالشام، كما عقَد الصِّلات مع المغول الذين كان خطرهم يزداد يومًا بعد يوم على العالم الإسلامي، وفي شهر مايو سنة (1254م - 652هـ)، جاء نعي أمه، فغادر الشام عائدًا إلى فرنسا[2].

يقول الكتبي[3] (ت764هـ - 1362م): "قال الصاحب جمال الدين بن مطروح: لَمَّا بلَغ المسلمون عودة الفرنسيس في المرة الثانية، وكان في المرة الأولى قد أسَره الملك المعظَّم توران شاه، وبقِي في أيدي المسلمين مدة، ثم أُطلِق بعد تسليم دمياط إلى المسلمين، وتوجَّه إلى بلاده وفي قلبه النار مما جرى عليه من ذَهاب أمواله، وقتْل رجاله وأسره، ووضْعِ رِجلَيْه في القيد، وسَجنِه، فبقِيت نفسُه تُحدِّثه بالعودة إلى مصر لأخذ ثأره، فاهتمَّ لذلك اهتمامًا شديدًا عظيمًا في مدة سنين إلى سنة ستين وستمائة، فقصَد مصر، فقيل له: إن قصدتَ مصر ربما يجري لك مثل النوبة الأولى، والصواب أن تقصد تونس، وكان ملكها محمد بن يحيى الملقب بالمستنصر، فإنك إن ظفِرتَ به، تمكَّنت من قصد مصر في البر والبحر، فقصد تونس وكاد يَستولي عليها".

ويؤكد ذلك الدكتور محمد مؤنس عوض[4] بقوله: "إن الملك الفرنسي لويس التاسع، بعد أن هُزِم في مصر، راودته أحلام الفارس القديم، وتطلَّع إلى شنِّ حملة صليبية جديدة، غير أن هذه المرة لم يكن الهدف متمثلًا في مصر؛ إذ إن الدرس الذي تلقَّاه بالقرب من فارسكور كان كافيًا ليُدرك معه استحالة الاتجاه إليها من زاوية دمياط؛ ولذلك فكَّر في توجُّهٍ مغاير، يُعد تصورًا جديدًا على العقلية الصليبية - خلال القرنين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين - السادس والسابع الهجريين) - التي تفكِّر في تجديد دماء أطماعها بصورة مستمرة، وعلى هذا الأساس فكَّر في توجيه حملة صليبية نحو تونس بالشمال الإفريقي، ومن هنا يتم قطع الصحراء الليبية، وغزو مصر من المغرب، وقد خطَّط الصليبيون لتنفيذ ذلك الأمر على أرض الواقع، وأدركوا الوقت والجهد المطلوبين لتحقيق ذلك عمليًّا".
وتَجدر الإشارة هنا إلى اختلاف التأويلات في الأسباب التي جعلت لويس التاسع يُحوِّل اتجاه حملته من المشرق الإسلاميِّ إلى تونس، ويسُود بعضًا من التأويلات الكثيرُ من الغموض في المصادر العربية أو في المصادر الغربية[5].
فيرى بعض الباحثين[6] أن سبب تحوُّل الحملة تجاه تونس، هو أن السلطان بيبرس الأول قرَّر إيفاد رسول إلى صقلية في سنة 659هـ -1260م، وبالفعل فإنه أرسل المؤرخ ابن واصل مندوبًا منه إلى منفريد بن فردريك أمير صقلية، حاملًا هدية ورسالة فيها عرض التعاون والصداقة، وفي سنة 662هـ - 1263م كتَب أمير صقلية للظاهر بيبرس يقول: إن الملك شارل شقيق لويس التاسع أمرَه أن يَستجيب لأوامر الظاهر مهما كانت، وكان شارل هذا هو الذي حوَّل الحملة الصليبية الأخيرة إلى تونس.

في حين يرى روبار برنشفيك[7] "أن سبب حملة لويس التاسع على تونس يتمثَّل في الغرض الدينيِّ المزدوج الذي لا شكَّ أنه دفَع ملك فرنسا نحو شواطئ إفريقية؛ أعني الاعتقاد بأن الاحتلال المسبق لإفريقية سيُسهل عملية مقاومة المماليك في مصر وسوريا، وسيبقى الاعتقاد راسخًا في كثير من الأذهان، حتى بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به تلك المحاولة، ثم على وجه الخصوص الأمل الذي يبدو في نظرنا خياليًّا في تنصير المستنصر"، الذي كان يُحسن معاملة التجار الفرنسيين على اعتبار أن اقتصاد بلاده أفاد من تعاملاتهم التجارية معها، وقد أوحى المنصِّرون للملك الفرنسي إمكانية ذلك، وأن لديه رغبة صادقة في التحول عن الإسلام إلى المسيحية، وأنه يَخشى فقط ثورة رعاياه في حالة ارتداده، وعلى ذلك صوَّروا له الأمر على نحو يكون له أثر في تنصير التونسيين من بعد ذلك، ولا ريب أن ذلك الدافع التنصيريَّ خدَم في النهاية الدافعَ السياسيَّ والاقتصادي الذي مِن أجله قَدِمَ الملك الفرنسي إلى الأراضي التونسية[8].

ويضاف إلى دوافع الصليبيين لغزو تونس رغبةُ شارل الأنجوي في إلقاء القبض على عددٍ من العصاة الذين تمرَّدوا عليه، ولجؤوا إلى تونس، بالإضافة إلى أنه رغِب في أن يؤدي له أهلُها الجزيةَ التي اعتادوا تقديمها إلى الهوهتشافن الألماني[9].
والأمر المؤكد لدينا الذي أسهَم في غزو تونس هو اضطراب العلاقات القائمة بين صقلية وإفريقية؛ أي: بين المستنصر بالله الحفصي، وبين شارل دانجو صاحب صقلية؛ حيث إن العلاقات في السابق كان يسودها شيءٌ من الانسجام، خاصة في عهد الإمبراطور (فريدريك الثاني)، الذي عقَد صلحًا مع المستنصر الحفصي، هدنة تقتضي خاصةً حريةَ التعايش بين سكان صقلية والبقية الباقية من الجالية الإسلامية في مدينة (بلرم) ونواحيها، وأن المستنصر يدفع بموجب تلك الهدنة أداءً سنويًّا لصاحب صقلية، ولكن بعد (وفاة فريدريك الثاني) ساءَت تلك العلاقة؛ لسوء المعاملة التي أصبح يلقاها المسلمون، وسياسة الإبادة والتهجير التي اتُّخِذت ضدهم في صقلية ومالطة[10].

ويؤكد ميشيل بالار "أن ارتقاء المماليك في مصر سُدةَ الحكم، أدَّى إلى تغيير عميق للتوازن السياسي في الشرق الأدنى على حساب المملكة اللاتينية"[11]؛ لذا عندما جاءتْ لويسَ التاسع الأخبارُ مُعْلِمةً بالضربات القاسية التي كان يوجِّهها الظاهر بيبرس إلى بقايا الصليبيين بالمشرق، اشتدَّ الحماس به، وتغافَر عما قطَعه من عهودٍ بعدم العودة إلى محاربة المسلمين، وتناسى ما لقِيه من هزيمة في حملته السابقة، وقرَّر أن يقومَ بهذه الحملة الجديدة[12].

بيبرس الأول ولويس التاسع:
في الواقع أن إفريقية استمدت سطوتها من الاستقرار الذي تمتَّعت به مصر على عهد السلطان بيبرس الأول الذي أرهَب غرب أوروبا (658هـ -1260م)، فقد أزعَج المغول العالم بشِقَّيْه المسيحي والإسلامي، واعتبر بيبرس عداءَه معهم أمرًا يجب أن يُقدِّم فيه كلَّ ما يستطيع؛ فقد نالوا من الإسلام وحضارة المسلمين؛ ولذا قام بدوره في مجابهتهم والتصدي لهم، وهيَّأ لمصر من جديد دَورَ الزعامة الدينية والسياسية في المشرق الإسلامي[13]، وكان النصر العظيم الذي حقَّقه المسلمون في عين جالوت (658هـ - 1260م)، قد أكسب الظاهر بيبرس مكانةً سامية بين ملوك عصره[14].

ويتَّضح أنه كان لانتصار المماليك في معركة عين جالوت دورٌ كبير في إضعاف بقايا الوجود الصليبيِّ على ساحل بلاد الشام، والذي لا شك فيه أن الصليبيين أُصيبوا بخيبة أملٍ كبيرة بعد ذلك النصرِ العظيم الذي حقَّقه المسلمون ضد المغول في هذه المعركة.
وعلى الرغم من تكتُّم لويس التاسع على هذه الحملة، فإن أنباءَها قد سُرِّبت إلى شرق العالم الإسلامي وغربه، ولم يكن نشاطُ الصليبيين لِيَخفى على السلطان الظاهر بيبرس الأول، سلطان مصر والشام اليقِظ، الذي وضع منذ اعتلائه سُدةَ السلطنة نُصب عينيه القضاءَ على الأخطار التي تواجِه المسلمين في هذين القطرين، التي كان أشدها خطر التتار والخطر الصليبي، فصرَف جُلَّ سِني حُكمه في التنقل بين القطرين، زاحفًا بجيشه يَضرِب أعداء الإسلام في شتى الاتجاهات[15].

وأدرك بيبرس الأول أن فتحه أنطاكية - وهي ثاني إمارة صليبية تؤسَّس بالشرق - سيُثير أوروبا الغربية، مثلما أدَّى سقوط الرها في أيدي عماد الدين زنكي إلى تحريك الحملة الصليبية الثانية، فكان لذلك يراقب الموقف بحذرٍ شديد، وما إن علِم بأمر الحملة الجديدة حتى شرَع في الاستعداد لمواجهتها، فقد بدأ في تحصين الموانئ المصرية المطِلَّة على البحر المتوسط، وشحنها بالسلاح والرِّجال والأزواد؛ ليَحُولَ دون أي نزولٍ محتمل للصليبيين في أحدها، كما حدث بالنسبة للحملة الصليبية السابقة؛ يقول ابن خلدون[16] في ذلك: "فاهتمَّ الظاهر بيبرس بحفظ الثغور، واستكثَر من الشواني والمراكب".

وبالإضافة إلى ذلك فقد اهتمَّ بتدعيم الأسطول وزيادة عدد قطعه، ونشِط في حشد الجيوش وتنظيمها، وتوزيعها على الثغور المصرية والشامية، واتصل بالبنادقة، ووعدهم بمنحهم عدةَ امتيازات تجارية في شطري سلطنته مصر والشام، مقابل امتناعهم عن تقديم المساعدة البحرية للملك الفرنسي، ولَمَّا كان البنادقة قد أبْدَوْا خشيتَهم من عِدَّة ضغوط تُمارَس عليهم للدخول في مفاوضات مع ملك فرنسا بهذا الشأن، فإنه أشار عليهم بالمغالاة في مطالبهم والتقدم بشروط قاسية؛ بحيث لا يَقبَلُها الملك، وهو الأمر الذي تَم بالفعل؛ مما جعل لويس التاسع يَستبعد البندقية، ويَعقد الاتفاق مع جنوة لاستئجار أسطولها[17].

ولم يكتفِ السلطان بيبرس الأول بذلك، بل أرسل سفارة إلى لويس التاسع يتهدَّده هو وصحبه عما اعتزموه من العدوان على المسلمين، ويصف ابن الشماع استقبال الملك الفرنسي لرسول الظاهر بقوله: "فكتب إليه صاحب الديار المصرية من نظم جمال الدين بن مطروح أبياتًا، وبعَث بها مع رسوله، فلما ورد على الفرنسيس، استجلَسه فأَبَى أن يَجلِس، فأنشَده وهو قائمٌ بمجلسه:
قلْ للفرنسيس إذا جِئتَه ♦♦♦ مقالَ صِدقٍ مِن قَؤولٍ فَصيحْ[18]

فلما استكمَل إنشاده، لم يَزِد ذلك الطاغية إلا عُتوًّا واستكبارًا، واعتذَر عن نقضِ العهد في غزو تونس بما يَسمَع عنهم من المخالفات، عذرًا دافَعهم به، وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه على حد تعبير ابن خلدون[19]، وبذلك فقد علِم السلطان الظاهر بيبرس أن حملة لويس التاسع لن توجَّهَ ضد بلاده؛ وإنما ستُوجه ضد الدولة الحفصية، ولكن ذلك لم يَصرفه عن واجبه الديني، وهو تحرير البلدان العربية من أي اعتداءات خارجية؛ لذلك فلم يُهمل أمر تونس رغم فتور العلاقات بينه وبين الخليفة المستنصر بالله.

الموقف البطولي للظاهر بيبرس:
وكان للموقف الضعيف الذي وقفه المستنصر تجاه الصليبيين صداه السيئُ حتى خارج إفريقية، ولا سيما في المشرق الإسلامي، وفي سلطنة المماليك خاصة[20]، فقد ذكر المقريزي (ت845هـ - 1441م) "أن المستنصر بالله الحفصي بعَث سنة (670هـ - 1271م) بهدية إلى السلطان المملوكي الظاهر بيبرس الأول، ضمنها رسالة اعتُبرت في أسلوبها مقصرةً في مخاطبة السلطان، فلم يتقبَّل بيبرس شخصيًّا تلك الهدية، بل وُزِّعت على الأُمراء والقواد، ووجَّه استنكارًا إلى المستنصر الحفصي في التظاهر بالمنكرات، واستخدام الإفرنج، وأنه لم يخرج إلى مجابهة الصليبيين عندما نزلوا في قرطاجنة، وكان مستخفيًا"[21].

وقد أرسَل له الظاهر بيبرس رسالة قاسية؛ حيث أوردها ابن عبدالظاهر بقوله: "إن مثلك لا يَصلُح أن يَلِيَ أمور المسلمين، وأنه يجب عليك أن تتحلَّى بالشجاعة والإباء، وبذل كلِّ الجهد للدفاع عن بلادك"[22].
ويتضح أن الهدية التي أرسلها المستنصر إلى السلطان بيبرس الأول، كانت خمسة وعشرين جوادًا، وأنه قَبِل هذه الخيول ووزَّعها على الأمراء، ولم يأخذ لنفسه منها شيئًا، وكانت هذه الهدية ردًّا على رسالته السابقة في محاولةٍ لاستمالته، وتغيير موقفه تجاه المستنصر، ولكن الظاهر بيبرس أرسل إليه ردًّا أشدَّ قسوةً من المرة الأولى، وأنكَر عليه التظاهر بالمنكر، واستخدام الفرنج عونًا على المسلمين، واستنكَر عليه ما دفَعه من أموال طائلة للفرنسيس في وقت كانت فيه بلاده في أَمَسِّ الحاجة إليه، ومن بين العبارات التي وجَّهها إليه قوله: "لقد كان من واجبك ضرورة الخروج للدفاع عن بلدك، حتى ولو متخفيًا، وكيف تخاف وأنت في عساكرك؟"[23].

الدعم المملوكي للسلطنة الحفصية:
كل ذلك يدل على أن السلطان بيبرس الأول قد أُصيب بخيبة أملٍ من موقف المستنصر الحفصي في مواجهة الغزو الصليبي لتونس، وكان يؤمِّل منه أن تكون مواجهته لهم لا تقل عن مجابهة المماليك للصليبيين؛ سواء في صد هجماتهم، أو في استرجاع الأراضي التي استولَوا عليها، ونتيجة لذلك الأمل الذي كان يخامر فِكر بيبرس الأول؛ فقد بعث هذا الأخير إلى المستنصر الحفصي برسالة يُخبره فيها بأنه سيبعث له بنجدة عسكرية تُساعده على مجابهة الغزاة الإفرنج، وكتَب إلى أعراب برقة وبلاد الغرب يأمُرهم بالمسير إلى تونس لنجدة صاحبها، وأن يَحفِروا آبار المياه في الطرقات التي سوف تَسلكها النجدة العسكرية في مسيرتها صوبَ تونس، وقد شرَع فعلًا في تعبئة النجدة العسكرية، لولا وصول الأخبار عن رحيل الصليبيين عن تونس[24].

وعندما نبحث في المصادر العربية عن العلاقة بين الدولة الحفصية والمملوكية حول وقائع هذا الغزو الصليبي، فإن المصادر لم تَذكُر من إشارةٍ غير ما حمَلتْه القصيدة التي ألقاها شاعر تونس مُعبرة عن مشاعر الجهاد المشترك بين تونس ومصر ضد قوى الصليبيين، وكان مطلعها:
يا فرنسيس هذه أختُ مصر
فتهيَّأْ لِمَا إليه تَصيرُ
لكَ فيها دارُ ابن لقمان قبرٌ
وطواشيك مُنكر ونَكيرُ

ولم تنقطع العلاقات والتعاون بين البلدين الشقيقين بمجرد انتهاء الحملة الصليبية على تونس؛ حيث إن العالم الإسلامي كله كالبدن الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعتْ له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى، فحينما يُحارب الظاهر بيبرس سلاجقة الروم، نجد الحفصيين يمدون يدَ العون والمساندة للدولة المملوكية، وهذا ما أوردته المصادر العربية في العام نفسه - عام 670هـ / 1272م - عن وصول السفير الحفصي أبي عبدالله محمد بن الراسي على رأس سفارة إلى السلطان بيبرس، في الوقت الذي كان الظاهر بيبرس مشغولًا بعدُ بهجمات المغول على بلاد الشام، ولا سيما على البيرة في سنة (670-671هـ/1272-1273م)، وحدث أن تطوَّرت الحرب معهم عندما تيقَّن الظاهر بيبرس مِن تحالف المغول مع سلاجقة الروم ضده، الأمر الذي دعاه إلى تكثيف حملاته التي أعدَّها في سنة (674هـ - 1276م) لغزو سلاجقة الروم، الذين حلَّت بهم الهزيمة في موقعة إبلستين في نفس العام[25].

وكذلك يتبيَّن لنا من الحملة التي جرَّدها السلطان بيبرس الأول على مملكة النوبة المسيحية على حدود مصر الجنوبية في سنة 675هـ - 1276م، ومد نفوذه أيضًا إلى بلاد الحجاز - وجودُ علاقة بين السفارة الحفصية المذكورة، وبين هذه الأحداث، أضِف إلى ذلك قيام نوعٍ من التعاون بين الدولتين في إطار هذه الحوادث، أو على الأقل الاتفاق على هدنة بينهما شبيهة بتلك الهدنة التي عقدها الحفصيون مع الفرنسيس[26].

والظاهر أن هذه الهدنة التي عُقِدت بين المستنصر الحفصي وبين بيبرس الأول، قد اقتضاها انشغال الأخير بمصير أملاكه الشامية؛ حيث توفِّي في أثناء وجوده بدمشق في سنة (676هـ - 1277م)، كما اقتضاها من ناحية الحفصيين ما وقع من انقسام في البيت الحفصي، عندما ثار على الخليفة الحفصي أخواه إبراهيم وميمون، وقد فرَّ الأول إلى الأندلس، بينما لجأ الثاني إلى المشرق، وكان من سياسة الحفصيين إزاء مثل هذا الحادث، اتباع أسلوب المهادنة، ومهاداة أصحاب البلاد التي تأوي اللاجئين السياسيين بالهدايا الثمينة[27].

وخلاصة القول: إن الصراع الإسلامي الصليبي لم يَنتهِ بإسقاط تلك الحصون والقلاع التي أعادها السلطان الظاهر بيبرس إلى حوزة المسلمين من جديد، أضِف إلى ذلك موقفه البطولي من الغزو الصليبي لتونس، ومقولته المأثورة التي خلَّدها التاريخ رغم مرور ما يزيد عن تسعة قرون، وقد خلَفه سلاطين عِظام حمَلوا من بعده الراية في مجابهة هذا الخطر، ومن أشهرهم الأشرف خليل بن قلاون، الذي استطاع تصفية الوجود الصليبي عسكريًّا، بإسقاطه عكا سنة 690هـ - 1291م، ولكن الغزو الفكري لم يَنته بعدُ، وخاصة بعد أن أدرَك الغرب تفوُّقَ المسلمين العسكريَّ، فأرادوا تَجنُّبَ أيَّةِ خسائر مادية ومعنوية من جانبهم، وكان ذلك سببًا مهمًّا في ظهور المدارس الاستشراقية الحديثة.

[1] د. سامية عامر؛ الصليبيون في شمال إفريقيا، ص69.
[2] بيبرس المنصوري؛ مختار الأخبار تاريخ الدولة الأيوبية ودولة المماليك حتي سنة 702هـ؛ تحقيق د. عبدالحميد صالح زيدان، نشر الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م، ص8، 9، د. عبدالرحمن ذكي؛ الجيش المصري في العصر الإسلامي من الفتح العربي إلى معركة المنصورة، نشر مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1970م، ص 218 - 223، محمد العروسي المطوي؛ السلطنة الحفصية، ص198، وانظر: د. أحمد شلبي؛ الحروب الصليبية بدؤها مع مطلع الإسلام واستمرارها حتى الآن، نشر مكتبة النهضة، ص110-112، الطبعة الأولى، 1986م، د. سعيد عبدالفتاح عاشور؛ مصر في عصر دولة المماليك البحرية، ص54، نشر مكتبة النهضة العربية، القاهرة 1959م.
[3] فوات الوفَيَات، 1/106؛ تحقيق: إحسان عباس، نشر دار الثقافة، بيروت، 1974م، وابن تغري بردي؛ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 6/367، نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر 1963م.
[4] الحروب الصليبية: العلاقات بين الشرق والغرب في القرنين (12- 13م / 6- 7هـ)، ص314، نشر عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى، 1999م/1420هـ.
[5] محمد العروسي المطوي؛ السلطنة الحفصية، ص198.
[6] ميخائيل نجم خوري؛ سيرة الملك السلطان الظاهر بيبرس، رسالة ماجستير، الجامعة الأمريكية ببيروت، لبنان، 1961م، ص204.
[7] تاريخ إفريقية في العهد الحفصي، 1/88.
[8] د. محمد مؤنس عوض؛ المرجع السابق، ص315.
[9] المرجع السابق، ص316.
[10] محمد العروسي المطوي؛ السلطنة الحفصية، ص199.
[11] الحملات الصليبية والشرق اللاتيني من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر؛ ترجمة: بشير السباعي، ص240، طبعة عام 2003م.
[12] محمد العروسي المطوي؛ المرجع السابق، ص 198.
[13] د. سامية عامر؛ المرجع السابق، ص66.
[14] د. صبري عبداللطيف سليم؛ تاريخ دولة المماليك في مصر والشام، ص90، نشر مكتبة الفتح، الفيوم، 2010م.
[15] د. ممدوح حسين؛ الحروب الصليبية في شمال إفريقية، ص254.
[16] ابن خلدون؛ العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان، 5/390.
[17] د. محمد محمد أمين؛ شمال إفريقية والحروب الصليبية، بحث منشور بمجلة الدراسات الإفريقية، معهد الدراسات الإفريقية بالقاهرة، العدد الثالث، 1974م.
[18] ابن الشماع؛ الأدلة البينة النورانية في مفاخر الدولة الحفصية؛ تحقيق: عثمان العكاك، تونس 1904م، ص66، وابن تغري بردي؛ النجوم الزاهرة، 6/370، ود. ممدوح حسين؛ الحروب الصليبية في شمال إفريقية، ص255.
[19] ابن خلدون؛ العبر، 6/292، 5/373، وابن القنفد؛ الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية؛ تحقيق محمد الشاذلي، والنيفرو عبدالمجيد تركي، تونس 1968م، ص10.
[20] العروسي المطوي؛ السلطنة الحفصية، ص205.
[21] المقريزي؛ السلوك لمعرفة دول الملوك، 1/601.
[22] ابن عبدالظاهر؛ الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص397، وابن القنفد؛ الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية، ص 132، ود. سامية عامر؛ الصليبيون في شمال إفريقيا، ص135.
[23] ابن عبدالظاهر؛ الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر؛ ص397، ود. سامية عامر؛ المرجع السابق، ص136، ود. محمد مؤنس عوض، الحروب الصليبية، العلاقات بين الشرق والغرب في القرنين (12-13م - 6-7هـ)، ص317.
[24] محمد العروسي المطوي؛ المرجع السابق، ص205، ود. محمد مؤنس عوض؛ المرجع السابق، ص317.
[25] المقريزي؛ السلوك لمعرفة دول الملوك، 1/602، وانظر: أبو الفدا؛ المختصر في أخبار البشر، المجلد الثاني، الجزء الثالث، حوادث سنة 675هـ.
[26] د. ابتسام مرعي؛ العلاقات الموحدية بين الخلافة الموحدية والمشرق الإسلامي، ص202.
[27] د. ابتسام مرعي؛ المرجع السابق، ص202.


أحمد عبدالفتاح حسين

__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-07-2017, 08:04 PM
الصورة الرمزية Mr Mohammad Salah
Mr Mohammad Salah Mr Mohammad Salah غير متواجد حالياً
عضو مجتهد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2017
المشاركات: 107
معدل تقييم المستوى: 8
Mr Mohammad Salah is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خيراً.
فى الحقيقة إن الماضى يتكرر دائماً فى الأزمنة المختلفة وأيضاً فى الأماكن المختلفة .

والعاقل من يدرس التريخ ويفهمه حتى لا يقع فى الأخطاء التى وقع فيها السابقين .
__________________
تحميل أكبر موسوعة كتب طبية لا غنى عنها فى كل بيت
http://www.thanwya.com/vb/showthread...64#post6598964

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23-07-2017, 02:42 PM
alossra alossra غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 27
معدل تقييم المستوى: 0
alossra is on a distinguished road
افتراضي

بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19-10-2017, 05:10 PM
shosho_h shosho_h غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 43
معدل تقييم المستوى: 0
shosho_h is on a distinguished road
افتراضي

بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28-10-2017, 06:26 PM
مستر اويس مستر اويس غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 76
معدل تقييم المستوى: 0
مستر اويس is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خيرا جزاك الله خيرا
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-11-2017, 08:52 PM
LOLOO44 LOLOO44 غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2017
المشاركات: 58
معدل تقييم المستوى: 0
LOLOO44 is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خيرا
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 11-11-2017, 04:54 PM
شوشو علوان شوشو علوان غير متواجد حالياً
عضو مجتهد
 
تاريخ التسجيل: Nov 2017
المشاركات: 67
معدل تقييم المستوى: 7
شوشو علوان is on a distinguished road
افتراضي

مشكوووووووووووووور
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 04:36 PM.