اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > إبداعات و نقاشات هادفة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-11-2011, 10:27 PM
Gehad Mostafa Gehad Mostafa غير متواجد حالياً
عضو خبير
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
المشاركات: 775
معدل تقييم المستوى: 15
Gehad Mostafa is on a distinguished road
افتراضي قصة : بريد سريع ..


<b>
وجهُ الليلِ يبرزُ مُعتماً لكن بقايا الشمسُ تأبى أن تُحيله إلى حلكةٍ قاتمة ، وثمراتِ أشجار القطن الصغيرة على جانبي الطريقِ كأنهن نجماتٌ سقطن من السماء سهواً في الفجرِ وهي تلملم أطرافَ ثوبها الظلاميّ ..

القِطارُ يُطلِق صفيره مُعلناً نِهاية الرحلة ، ينتظِرُ ياسين حتّى تهدأ حركتُه تماماً فيترجّل عنه حاملاً بيده حقيبةً تزدادُ صغراً مع كُلِّ زيارةٍ . يستعيدُ تفاصِيلَ مشهد الاستقبالِ المُعتاد ويُقسم على تغييرها ، ثم يُدركُ أن ما يَودُّ تغييرَه أعمق مِن تلك القُشورِ فيعُود ليسحبَ قسمه كما يَفعلُ كل مرّة !

كانَ من الممكنِ أن يكونَ المشهدُ مُختلفاً ؛ بُحيرةٌ يجلِسُ على ضفافِها ومِن خلفِه تماماً أو رُبَّما بِجوارهِ صفصافة تتمايلُ أغصانها استجابةً لنسماتِ الهواء ، يُمسِكُ بنايِهِ مُحدِّقاً في الأفقِ خشيةَ أن تقعَ عينُه على صفحةِ الماءِ فيرى وجهَه جميلاً آسِراً مُطابِقاً لوجهَ نرجس ، و يبدُأ عزفَ لحنٍ جدِيد ..
لكن لا بُحيرةَ هنا ، ولا صفصافةَ ، ولا ناي .. ولا نرجس !

لا يدرِي على أيّهما يستفِيقُ أولاً : صوت عبد الحميد خفير والدِه ، أم رائحةُ البلدةِ التي تُزكم أنفه مُنبِّهةً إيّاه أن قاهرةَ المُعزِّ صارت خلفَه الآن !
يلتَفِتُ للرجلِ الذي يهرعُ إليهِ مُرحِبّاً ويتفحصَهُ في نظرةٍ شاملة وكأنما يسترجِعُ صورةً في ذهنه ، جلبابه المُتسخ الطّرفِ الذي لا يَذكرُ أنه رآه بدونه يوماً ، والكنزة المُتهالكة ذاتها ، وسلاحه الذي صار أقربَ إليهِ من حبلِ الوتين ..
يُحدِّثُ نفسَه : من يرثى لحالِك أيها المسكين ؟

يَتذَكرُ أنه سيصبحُ طبيباً لا شاعراً ، ولا في نُدحةٍ من الوقتِ تسمَحُ له بأن يبدأ مرثيّة ، يناولُه حقيبتَهُ في لا مُبالاة مُحاولاً الابتسام تطييباً لخاطرِه ، فتخرجُ الابتسامة متأرجحةً بين السُّخريةِ والرثاء لتزيدَ الطِّينَ بِلّة !

يَسيرُ بتؤدةٍ مُطلقاً بصرَه في الخافقيْنِ وخفيره من ورائِه . دقائق ويبدأُ الطّريقُ في التثاؤبِ ، لكن لا ينامُ انتظاراً لخروجِ الرجال عندما يحينُ موعد حلقاتِ السّمرِ وحفلةُ الشّاي المُتواضعة . يضحكُ في سِرِّه على البلدةِ التي نساها الدّهرُ من تقلبّاته إذ لا يَرى شيئاً جديداً .. كُلٌ كما هو ، حتّى عبد الحميد رُغم كِبَرِ سنِّه لا تزال ثرثرتِه مستمرةً لا تتوقفُ إلا عندما يلتقطُ أنفاسه ، فلا يَصِلُ إلى أذني رفيقه إلا كلمة من عشر !

- مش البت بهيّة اتجوزت يا ياسين أفندي !

يمنعُ ضحكةً لو انطلقت لملأت الأسماعَ ويكتفي بالابتسامِ بمرحٍ دونَ أن تحيدَ عيناه عن الطَّرِيق ؛ كانت أمّه في صغره تخشى وقوعه في حبِّ بهيّة جارتهم التي تكبره بعامين ، فقط لأن موّالاً متوارثاً عندهم يروي عذابَ ياسين الذي أحبّ بهية ، حتى أنه يذكُرُ يومَ أمرَ أبوه خفراءه بضربِ " مغنواتي " القرية حتى يكفَّ عن إنشاد ذلك الموّال إرضاءً لوساوسَ والدته ..
يُشفقُ على رُوحهِ التي لم تسكنُها بهيّة ولا غيرها ، فلا هو ذاقَ عذابَ الحُبِّ ولا ذاق راحتَه .. لا شيءَ سوى علقمَ الوحدة والخواء ، حتى نَايَه الذي ارتبطَ بهِ طيلة حياته حطّمه والدُه عندما رفضَ الالتحاق بكلية الطب بالقاهرةِ مبرراً ذلك بشدةِ تعلقه بالأرض والنّاي . ها هو الآن لا يطيقُ المكوثَ بضعةَ أيامٍ !
صَدَق شيخُ المسجدِ عندما أخبره أثناءَ إقناعه بإكمال دراسته أن البُعدَ يُنسي ..

أمتارٌ قليلةٌ تفصله عن منزله ، يبحثُ في خلجاتِ صدره عن بقايا شوقٍ يُقابل بِها أهله فلا يَجِد ، يُعيدُ البحثَ لكن شعوره بالنفور طغى هذه المرّة على كل شيء . تنتصِبُ أمامه البوابة الحديديّة الضخمة ، ولا يزالُ يفشلُ جاهِداً في البحثِ !

- ما ناويش تدخل ولا إيه يا ياسين أفندي ؟

هي مُزحةٌ ، لكنها تروق له !
يَنظرُ في ساعتِه ثم يلتفتُ إلى البوابةِ ، يتحسس المال بجيبه ، وينتزعُ الحقيبةَ من يدِ الخفير لِيُخرجَ قلماً وورقةً ، يُحدِّقُ في الورقةِ الفارغِةِ ، يُسطّر بضعةَ كلماتٍ ، يطويها ويُعطيها له ..

- سلمها لأبويا !

ينظُرُ في ساعته ثانيةً ، يلتقط حقيبته ثم يركضُ ليلحقَ بالقطارِ العائدِ إلى القاهرة ، تُلاحقه نظرات عبد الحميد الذي لا يعلمُ بِمَاذا سيخبر سيده !
</b>

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:40 AM.