مراد قنديل
11-06-2009, 11:48 AM
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.( إن الحلال بين ، وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه البخاري ومسلم.
شرح الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم.( الحلال بين وبينهما أمور مشتبهات ... إلخ) اختلف العلماء في حد الحلال والحرام ، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحلال مادل الدليل على حله . وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرام مادل الدليل على تحريمه.
قوله صلى الله عليه وسلم .( وبينهما أمور مشتبهات) أي بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام، فحيث انتفت الشبهة انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة. وذلك إذا قدم غريب بمتاع يبيعه فلا يجب البحث عن ذلك بل ولا يستحب ويكره السؤال عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم.( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)أي طلب براءة دينه وسلم من الشبهة وأما براءة العرض فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوة إلى الحرام فيكون مدعاة لوقوعهم في الإثم وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال.(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ) وعن علي رضي الله عنه أنه قال . إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذراً وفي صحيح الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال.( إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف ). صحيح: رواه ابو داود والحديث ليس في الترمذي. وذلك لئلا يقال عنه أحدث0
قوله صلى الله عليه وسلم .( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) يحتمل أمرين : أحداهما أن يقع في الحرام وهو يظن انه ليس بحرام والثاني : أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام كما يقال: المعاصي بريد الكفر لأن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر منها ، قيل وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى.( ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا يعتدون) سورة آل عمران الآية 112 . يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء ، وفي حديث .( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) متفق عليه. أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة، والحمى مايحميه الغير من الحشيش في الأرض المباحة ، فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته فيرعى ما حماه الغير ، بخلاف ما إذا رعى إبله بعيداً من الحمى ، واعلم أن كل محرم له حمى يحيط به فالفرج محرم وحماه الفخذان لأنهما جعلا حريماً للمحرم، وكذلك الخلوه بالأجنبية حمى للمحرم، فيجب على الشخص أن يتجنب الحريم والمحرَّم،فالمحرَّم حرام لعينه ، والحريم محرم لأنه يتدرج به إلى المحرم.
قوله صلى الله عليه وسلم .( ألاوإن في الجسد مضغة) أي في الجسد مضغة إذا خشعت خشعت الجوارح ،وإذا طمحت طمحت الجوارح ، وإذا فسدت فسدت الجوارح. قال العلماء : البدن مملكة والنفس مدينتها، والقلب وسط المملكة، والأعضاء كالخدام والقوى الباطنية كضياع المدينة، والعقل كالوزير المسفق الناصح به ، والشهوة طالب أرزاق الخدام ، والغضب صاحب الشرطة ، وهو عبد مكار خبيث يتمثل بصورة الناصح ونصحه سم قاتل، ودأبه أبداً منازعة الوزير الناصح ، والقوة المخيلة في مقدم الدماغ كالخازن، والقوة المفكرة في وسط الدماغ، والقوة الحافظة في آخر الدماغ ، واللسان كالترجمان ، والحواس الخمس جواسيس ، وقد وكل كل واحد منهم بصنيع من الصناعات، فوكل العين بعالم الألوان. والسمع بعالم الأصوات، وكذلك سائرها فإنها أصحاب الأخبار ثم قيل كالحجبة توصل إلى النفس ماتدركه ثم وقيل أن السمع والبصر والشم كالطاقات تنظر منها النفس ، فالقلب هو الملك فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية، وإنما يحصل صلاحه بسلامته من الأمراض الباطنية كالغل والحقد والحسد والشح والبخل والكبر والسخرية والرياء والسمعة والمكر والحرص والطمع وعدم الرضى بالمقدور ، وأمراض القلب كثير تبلغ نحو الأربعين، عافانا الله منها وجعلنا ممن يأتيه بقلب سليم.
عن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ، وريحانته رضي الله عنه قال : " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
الشرح
كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته ، يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم ومعادهم ، فأمرهم بسلوك درب الصالحين ، ووضح لهم معالم هذا الطريق ، والوسائل التي تقود إليه ، ومن جملة تلك النصائح النبوية ، الحديث الذي بين أيدينا ، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما فيه شبهة ، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه .
والراوي لهذا الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسبط : هو ولد البنت ، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة ، وهذا الحديث منها .
وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله : ( دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان ، والريبة هي الشك كما في قوله سبحانه وتعالى : { الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 ) ، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا ريب ولا شك فيه .
وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما فيه ريبة ، هل هو للوجوب ؟ ، بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك المشتبهات ؟ ، أم إنه على الاستحباب ؟ .
إن المتأمل لهذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى ، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة لبيان منهج التعامل مع ما يريب ، فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام ، يقود الإنسان إلى الورع والتقوى ، واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء ، فإذا تعلقت الريبة في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله ورسوله ، عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه .
ولسلفنا الصالح رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة ، والعبارات المشرقة ، التي تدل على تحليهم بالورع ، وتمسكهم بالتقوى ، فمن أقوالهم : ما جاء عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : " يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى العمري فقال : " عظني " ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض " .
ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن أبابكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه " ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .
ومما ورد في سير من كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب " ، وقال الذي له الأرض : " إنما بعتك الأرض وما فيها " فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : " ألكما ولد ؟ " قال أحدهما : " لي غلام " ، وقال الآخر : " لي جارية " ، قال : " أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام ، وله جناحان يطير بهما في الجنة ، فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع .
وللفقهاء وقفة عند هذا الحديث ، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب كثيرة من الأحكام ، ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " ، فنطرح الشك ونأخذ باليقين ، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا ، فإذا أحدث رجل ، ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه قد أحدث ، فيعمل به ، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة السابقة ، وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه ، وحدثُه مشكوك فيه ، فيعمل باليقين .
وللحديث زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث ، فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ) ، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما يريبه ، فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى ، وهذا يورثه طمأنينة في نفسه ، مبعثها بُعده عن طريق الهلاك ، أما إذا لم يمتثل للتوجيه النبوي ، وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات ، حصل له القلق والاضطراب ، لأن من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب ، أو يرتاح له ضمير.
وخلاصة القول : إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ، ومدى أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الورع والتقى ؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه
شرح الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم.( الحلال بين وبينهما أمور مشتبهات ... إلخ) اختلف العلماء في حد الحلال والحرام ، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحلال مادل الدليل على حله . وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرام مادل الدليل على تحريمه.
قوله صلى الله عليه وسلم .( وبينهما أمور مشتبهات) أي بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام، فحيث انتفت الشبهة انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة. وذلك إذا قدم غريب بمتاع يبيعه فلا يجب البحث عن ذلك بل ولا يستحب ويكره السؤال عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم.( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)أي طلب براءة دينه وسلم من الشبهة وأما براءة العرض فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوة إلى الحرام فيكون مدعاة لوقوعهم في الإثم وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال.(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ) وعن علي رضي الله عنه أنه قال . إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذراً وفي صحيح الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال.( إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف ). صحيح: رواه ابو داود والحديث ليس في الترمذي. وذلك لئلا يقال عنه أحدث0
قوله صلى الله عليه وسلم .( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) يحتمل أمرين : أحداهما أن يقع في الحرام وهو يظن انه ليس بحرام والثاني : أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام كما يقال: المعاصي بريد الكفر لأن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر منها ، قيل وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى.( ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا يعتدون) سورة آل عمران الآية 112 . يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء ، وفي حديث .( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) متفق عليه. أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة، والحمى مايحميه الغير من الحشيش في الأرض المباحة ، فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته فيرعى ما حماه الغير ، بخلاف ما إذا رعى إبله بعيداً من الحمى ، واعلم أن كل محرم له حمى يحيط به فالفرج محرم وحماه الفخذان لأنهما جعلا حريماً للمحرم، وكذلك الخلوه بالأجنبية حمى للمحرم، فيجب على الشخص أن يتجنب الحريم والمحرَّم،فالمحرَّم حرام لعينه ، والحريم محرم لأنه يتدرج به إلى المحرم.
قوله صلى الله عليه وسلم .( ألاوإن في الجسد مضغة) أي في الجسد مضغة إذا خشعت خشعت الجوارح ،وإذا طمحت طمحت الجوارح ، وإذا فسدت فسدت الجوارح. قال العلماء : البدن مملكة والنفس مدينتها، والقلب وسط المملكة، والأعضاء كالخدام والقوى الباطنية كضياع المدينة، والعقل كالوزير المسفق الناصح به ، والشهوة طالب أرزاق الخدام ، والغضب صاحب الشرطة ، وهو عبد مكار خبيث يتمثل بصورة الناصح ونصحه سم قاتل، ودأبه أبداً منازعة الوزير الناصح ، والقوة المخيلة في مقدم الدماغ كالخازن، والقوة المفكرة في وسط الدماغ، والقوة الحافظة في آخر الدماغ ، واللسان كالترجمان ، والحواس الخمس جواسيس ، وقد وكل كل واحد منهم بصنيع من الصناعات، فوكل العين بعالم الألوان. والسمع بعالم الأصوات، وكذلك سائرها فإنها أصحاب الأخبار ثم قيل كالحجبة توصل إلى النفس ماتدركه ثم وقيل أن السمع والبصر والشم كالطاقات تنظر منها النفس ، فالقلب هو الملك فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية، وإنما يحصل صلاحه بسلامته من الأمراض الباطنية كالغل والحقد والحسد والشح والبخل والكبر والسخرية والرياء والسمعة والمكر والحرص والطمع وعدم الرضى بالمقدور ، وأمراض القلب كثير تبلغ نحو الأربعين، عافانا الله منها وجعلنا ممن يأتيه بقلب سليم.
عن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ، وريحانته رضي الله عنه قال : " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
الشرح
كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته ، يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم ومعادهم ، فأمرهم بسلوك درب الصالحين ، ووضح لهم معالم هذا الطريق ، والوسائل التي تقود إليه ، ومن جملة تلك النصائح النبوية ، الحديث الذي بين أيدينا ، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما فيه شبهة ، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه .
والراوي لهذا الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسبط : هو ولد البنت ، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة ، وهذا الحديث منها .
وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله : ( دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان ، والريبة هي الشك كما في قوله سبحانه وتعالى : { الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 ) ، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا ريب ولا شك فيه .
وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما فيه ريبة ، هل هو للوجوب ؟ ، بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك المشتبهات ؟ ، أم إنه على الاستحباب ؟ .
إن المتأمل لهذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى ، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة لبيان منهج التعامل مع ما يريب ، فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام ، يقود الإنسان إلى الورع والتقوى ، واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء ، فإذا تعلقت الريبة في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله ورسوله ، عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه .
ولسلفنا الصالح رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة ، والعبارات المشرقة ، التي تدل على تحليهم بالورع ، وتمسكهم بالتقوى ، فمن أقوالهم : ما جاء عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : " يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى العمري فقال : " عظني " ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض " .
ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن أبابكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه " ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .
ومما ورد في سير من كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب " ، وقال الذي له الأرض : " إنما بعتك الأرض وما فيها " فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : " ألكما ولد ؟ " قال أحدهما : " لي غلام " ، وقال الآخر : " لي جارية " ، قال : " أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام ، وله جناحان يطير بهما في الجنة ، فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع .
وللفقهاء وقفة عند هذا الحديث ، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب كثيرة من الأحكام ، ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " ، فنطرح الشك ونأخذ باليقين ، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا ، فإذا أحدث رجل ، ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه قد أحدث ، فيعمل به ، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة السابقة ، وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه ، وحدثُه مشكوك فيه ، فيعمل باليقين .
وللحديث زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث ، فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ) ، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما يريبه ، فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى ، وهذا يورثه طمأنينة في نفسه ، مبعثها بُعده عن طريق الهلاك ، أما إذا لم يمتثل للتوجيه النبوي ، وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات ، حصل له القلق والاضطراب ، لأن من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب ، أو يرتاح له ضمير.
وخلاصة القول : إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ، ومدى أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الورع والتقى ؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه