مشاهدة النسخة كاملة : كيف ظهرت المعتزلة ؟


خالد مسعد .
25-12-2009, 05:28 PM
فضيلة الشيخ الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني - استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة

الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو الصمد الواحد ، العزيز الماجد ، المتفرد بالتوحيد ، والمنفرد بالتمجيد ، الذي لا تبلغه صفات العبيد ، ليس له مثيل ولا نديد ، وهو سبحانه وتعالي المبدئ المعيد ، فعال لما يريد ، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد ، خلق الكون ولم يكن معه أحد ، تقدس عن الشبيه والنظير ، ليست له عثرة تقال ، ولا تضرب له الأمثال ، لم يزل بصفاته أولا قديرا ، ولا يزال بخلقه عالما خبيرا ، ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (يونس:61) ( وَقَال الذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُل بَلي وَرَبِّي لتَأْتِيَنَّكُمْ عَالمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سبأ:3) .
ربنا تبار وتعالي خلق كل شيء دون كلل ولا تعب ، ولا مسه لُغُوبٌ ولا نصب ، خلق الأشياء بقدرته ، ودبرها بمشيئته ، وقهرها بجبروته ، وذللها بعزته ، فذل لعظمته المستكبرون ، وخضع لربوبيته الخلائق أجمعون ، وقال أهل الحق لما آذاهم المبتدعون ( وَمَا لنَا أَلا نَتَوَكَّل على اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلنَا وَلنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا وَعلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُتَوَكِّلُونَ ) ، فنحمده كما حمد نفسه ، وكما حمده الحامدون ، ونستعينه به استعانة من فوض الأمر إليه ، وأقر أنه لا منجي ولا ملجأ منه إلا إليه ، ونستغفره استغفار من أقر له بذنبه ، واعترف لربه بخطئه .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بوحدانيته ، وإخلاصا لربوبيته ، وأنه العالم بما خبئ في الضمائر ، وما تنطوي عليه السرائر ( اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَي وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد:8) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ونبيه وأمينه ، وصفيه وخليله ، أرسله إلي خلقه بالنور الساطع ، والسراج اللامع ، والحجج الظاهرة ، والآيات الباهرة ، والأعاجيب القاهرة ، فبلّغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين ، وعلى أصحابه المنتخبين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين ، عرَّفنا الله به شرائع الأحكام ، فبين لنا الحلال والحرام ، حتى أنار الله به الظلام وأشرقت الأرض بنور الإسلام ، جاءنا بكتاب عزيز ( لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) جمع فيه علم الأولين والآخرين ، وأكمل به الفرائض والدين ، فهو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، فمن تمسك به نجا ، ومن خالفه ضل وغوي ، وحثنا الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فقال الله عز وجل :
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) (الحشر:7) ، وقال تعالى : ( فَليَحْذَرِ الذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليم ٌ) (النور:63) أما بعد ..
علمنا مما سبق أن الجهم بن صفوان أضل خلقا كثيرا من أتباعه الجهمية ، وقدم عقله على الأدلة القرآنية ، والأحاديث النبوية عندما أجاب السمنية بجهله إجابة خاطئة كاذبة ، وزعم أن الله بذاته في كل مكان ، وأنه لا صفة له حتى لا يشبه الإنسان ، ثم نظر هذا الجهم المفتون إلي القرآن ، فما تصور أنه يوافق مذهبه جعله دليلا وبرهان ، وما خالفه صرح برده ونفية من القرآن ، وظهرت بدعة أسستها للجهم وسوسة الشيطان .
وقد تبع الجهم على قوله وفكره رجل يقال له واصل بن عطاء وآخر يقال له عمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب الاعتزال ، فالمُعْتَزِلة أتباع واصل بن عطاء الغزال وعمرو بن عبيد ، واصل بن عطاء الغزال ( 80ه - 131هـ) كان تلميذ الحسن البصري ، وكان مفوها بليغا ، على الرغم من كونه كان عاجزا عن النطق ببعض الحروف ، فكان ينطق الراء غينا ، مثلا كلمة : شراب بارد ، شغاب باغد ، ومن عجيب ما كان من واصل ، أنه كان يخلص كلامه وينقيه من حرف الراء ، لقدرته العجيبة على الكلام ، حتى قال أحد الشعراء يمدحه ، بإطالة الحديث واجتنابه حرف الراء ، على الرغم من كثرة ورودها في الكلام ، كان واصل يتجنبها كأنها ليست فيه فقال هذا الشاعر وهو على عقيدته الاعتزالية : عليم بإبدال الحروف وقامع : لكل خطيب يقلب الحق باطله ، وقال آخر :
ويجعل البر قمحا في تصرفه : وخالف الراء حتى احتال للشعر

ولم يُطِقْ مطرا والقَولُ يَعْجُلُه : فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر .

واصل بن عطاء كان تلميذا يتعلم ضمن بقية الطلاب في حلقة شيخه الحسن البصري ، و الحسن البصري كان من علماء السلف ، فجاء إلي الحلقة رجل من عامة المسلمين يسأل الشيخ عن حكم مرتكب الكبيرة ، ماحكمه في الإسلام ؟ ومعروف إن أهل السنة والجماعة ، يقولون بأن مرتكب الكبيرة مسلم لا يخرج عن الملة ، وإن كان فاسقا بارتكاب الكبيرة ، ونعلم أيضا أن الخوارج تقول مرتكب الكبيرة كافر بالله العظيم ، وقبل أن يجيب الشيخ حسن البصري ، قام هذا الطالب المسمي واصل بن عطاء ، دون أدب ولا حياء ، وقال : إن الفاسق من هذه الأمة لا هو مؤمن ولا هو كافر ، هو في منزلة بين المنزلتين ، أجاب بعقله دون احترام لشيخه ، ودون علم أو نظر في كتاب الله أو سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، عند ذلك طرده الحسن البصري من مجلسه ، وبدلا من أن يرجع إلي شيخه ويعتذر عن سوء أدبه ، أخذته العزة بالإثم واعتزل عن الحسن البصري ، وجلس إلي سارية من سواري المسجد في البصرة ، وانضم إليه بعد ذلك رجل آخر يقال له عمرو بن عبيد ، وجمع واصل معه أراذل الناس من أتباع الجهم بن صفوان ، فكان الحسن البصري يقول : اعتزلنا واصل ، اعتزلنا واصل ، وكان بقية طلاب العلم من تلاميذ الحسن البصري يطلقون عليهم المعتزلة ، فارتسم عليهم هذا الاصطلاح وعرفوهم عامة المسلمين بالمعتزلة .
وكان هؤلاء المعتزلة يدعون الزهد والصلاح ، والنصح والإصلاح ، وكان لهم صلة بالحكام في الدولة العباسية ، دخل عمرو بن عبيد يوما على أبي جعفر المنصور أيام خلافته ، وكان أبو جعفر صاحبه وصديقه قبل الخلافة ، وله معه مجالس وأخبار ، فقربه المنصور وأجلسه ، ثم قال له عظني يا عمرو ، فقال له كلاما كثيرا جاء في بعضه : ( إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك ، لو بقي في يد غيرك ممن كان قبلك ، لم يصل إليك ، فأحذرك ليلة تتمخض بيوم لا ليلة بعده ، فلما أراد عمرو النهوض والخروج من القصر ، قال أبو جعفر المنصور قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم ، قال عمرو بن عبيد لا حاجة لي فيها ، قال : والله لتأخذها ؟ قال : والله لا آخذها ، وكان المهدي ابن المنصور حاضرا ، فقال : يحلف عليك أمير المؤمنين ، وتحلف أنت بغير ما أراد ، فالتفت عمرو بن عبيد إلي المنصور ، وقال : من هذا الفتي ؟ قال : هذا المهدي ولدي وولي عهدي ، فقال عمرو : أما إنك ألبسته لباسا ما هو من لباس الأبرار ؟ وسميته باسم ما استحقه ، ومهدت له أمرا ، هو أشغل ما يكون عنه ، ثم التفت عمرو بن عبيد إلي المهدي ، وقال : نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك أحنثه عمك ، لأن أباك أقوي على الكفارات من عمك ؟ فقال له المنصور : هل من حاجة ، قال : لا تبعث إلي حتى آتيك ، قال : إذا لا تلقني ، قال : هي حاجتي ، ومضي عمرو بن عبيد ، فأتبعه المنصور بطرفه وقال : كلكم يمشي رويد ، كلكم يطلب صيد ، غير عمرو بن عبيد ، فهذه الصحبة والصداقة التي كانت بين قواد المعتزلة وبين الخلفاء والأمراء بني العباس ، أثارت حفيظة الخلفاء في الأخذ بمشورتهم والعمل بنصيحتهم .

خالد مسعد .
25-12-2009, 05:28 PM
وقد أسس المعتزلة مذهبهم على خمسة أصول رنانة ، وشعارات فتانة ، اغتر بها كثير من المسلمين في الماضي وكثير من العلمانيين في الحاضر ، فالأصل الأول من أصولهم أطلقوا عليه التوحيد : وزعموا أنهم أهلُ التوحيد وخاصتُه وخلاصة رأيهم في التوحيد ، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمثيل ( ليس كمثله شيء ) ، وهذا حق لا مرية فيه ولكنهم بنوا على ذلك نفي الصفات وتعطيل الآيات واستحالة رؤية الله تعالى بعد الممات ، وهو والله توحيد السفهاء وتوحيد يسخر منه جميع العقلاء ، فالعقلاء يمدون ويحدون ربهم بإثبات الصفات ، والمعتزلة يمدحون ربهم وهم في حقيقة أمرهم يذمونه ويصفونه بصفات النقص التي لا يرضاه عاقل لنفسه ، وقد أداهم توحيدهم هذا إلي القول بأن بخلق القرآن وزعموا أنه مخلوق كسائر المخلوقات لنفيهم عنه سبحانه وتعالي صفة الكلام .
الأصل الثاني عندهم العدل : والعدل معناه على رأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد ، فعطلوا قوله تعالى : ( وَاللهُ خَلقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) ، فستروا تحت شعار العدل نفي التقدر وعلم المقادير ، وقالوا : إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به ، إذ لو خلقه ثم عذبهم عليه ، كان ذلك جورا ، والله تعالى عدل لا يجور ، وقد يفتن العامة بأصلهم هذا كما فعل العلمانيون والماديون ، الذين لا يؤمنون بالتقدير وجريان المقادير ، وأن ما قدر سوف يكون ، أو كما هي العبارات المنتشر التي يرددها الفاسقون ، كقول بعضهم : ( قدر أحمق الخطي سحقت هامتي خطاه ) وهذه الكلمة كفيلة وحدها بإخراجه من الملة ، أو كقول بعضهم : ( إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ) لا فرق بين كلام هؤلاء وكلام المعتزلة ، فهذا الأصل الفاسد الذي رفعوا فيه شعار العدل ، يلزمهم فيه أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده ، فيريد الشيء ولا يكون ، ولازمه وصفه بالعجز في مقابل وصفهم بممثل د من الحرية والاختيار ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقد قال تعالى : ( هُوَ الذِي خَلقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (التغابن:2) وسوف نتحدث بإذن الله تعالى عن موضع القضاء والقدر في محاضرات مستقلة نستوفي فيها كل هذه الشبه ونرها ونناقشها مناقشة مستفيضة .
الأصل الثالث هو المنزلة بين المنزلتين : ويقصدون به هو حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا عندهم ، فمرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين الإيمان والكفر ، فليس بمؤمن ولا كافر ، وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة كما تقدم .
الأصل الرابع هو إنفاد الوعيد : ويقصدون به هو حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة ، ويعني عندهم أن يجب على الله أن يعاقب مرتكب الكبيرة من المسلمين ، ويخلده في النار أبد الآبدين ، ولا يجوز أن يخرجه من النار بشفاعة سيد الأنبياء والمرسلين أو غيره من المؤمنين الصالحين ، فهم يشبهون الخوارج في قولهم : إذا توعد الله بعض عبيده وعيدا فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده ، لأنه لا يخلف الميعاد ، فلا يعفو عمن يشاء ولا يغفر لمن يشاء ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .

خالد مسعد .
25-12-2009, 05:28 PM
الأصل الخامس عندهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وهذا الشعار الرنان الذي يفتن به كل إنسان ، يقصدون به الدعوة إلي أصولهم الخمسة ، فالمعروف عندهم هو من اعتنق أصولهم ، والمنكر عندهم هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة ، وقد ساروا بهذا الأصل على مذهب الخوارج في الخروج على الحكام بالسيف .
ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كليا ، في الاستدلال لعقائدهم ، كأمر أساسي حتمي ، ثم بعد ذلك النظر في القرآن كدليل ثانوي ، قد يقبل وقد يعطل ، حسب القواعد الموضوعة بعقولهم وأهوائهم ، وكان من آثار اعتمادهم على العقل في إدراك العقائد ، أنهم كانوا يحكمون بعقول على جميع الأشياء بالحسن والقبح حتى الأحكام الشرعية ، ونحن علمنا في المحاضرات التي تناونا فيها الحديث عن العلاقة بين العقل والنقل أن الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات هذه الأربعة السيادة فيها للنقل للقرآن والسنة ، النقل هو الذي يحكم هنا بحسن الأشياء وقبحها ، والعقل تابع فيها للنقل ، يؤيده ويعضده ، وعمنا أن العاقل لن يجد في فطرته ما يعارض الشريعة الإسلامية ، أما إذا قُدم العقل على النقل في الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات من الأحكام ، فسوف تظهر البدعة في الإسلام ، وسوف تتغير ملامح الشريعة ، وتصبح ألعوبة في يد المبتدعين .
وأما دور العقل في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ، فهذا مقصور على المباح من الأحكام فقط ، فالقيادة والسيادة هنا للعقل ، والنقل يؤيده ويعضده ، ويعاونه ويساعده ، كما روي عند الإمام مسلم من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَال : أَنْتُمْ أَعْلمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ، والمعتزلة نظرا لاعتمادهم على العقل أيضا عطلوا صفات الله كصفة الاستواء واليدين والعين ، وكذلك صفة المحبة والرضي والغضب والسخط ، ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل أوصاف الله بحجة تمسكهم بالتوحيد ونفي التشبيه عن الله .
ولاعتمادهم على العقل أيضا ، طعن رؤساؤهم في أكابر الصحابة ، وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب ، فقد زعم واصل بن عطاء : أن إحدي الطائفتين يوم الجمل فاسقة ، إما طائفة على بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصارى أو طائفة عائشة والزبير ، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة ، فقالوا : لا تقبل شهادتهم ، ومعلوم أن سبب الفتنة بين الصحابة في وقعة الجمل وصفين ، هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي .
وبسبب اعتمادهم على عقولهم القاصرة ، دون هداية من ربهم ، ورفضهم الاتباع لنبيهم ، تعددت فرقهم ، وكثر اختلافهم ، فيكفي وفق مذهبهم ، أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ، ليكُونَ هذا التلميذ صاحبَ فرقة قائمة ، فأبو الهذيل العلاف له فرقة ، خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة ، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة ، والجبائي له فرقة ، فخالفه ابنه أبو هشام عبد السلام فكانت له فرقة أيضا وهكذا يختلفون في ضلالهم ويتنوعون في ابتداعهم ، يقول أبو عبد الله بن الحسين الرازى ، صاحب كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين : إعلم أن المعتزلة سبع عشرة فرقة ، الفرقة الأولي الغيلانية أتباع غيلان الدمشقي ، والفرقة الثانية الواصلية أتباع واصل بن عطاء الغزال ، وهو أول من قال إن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق ولا مشرك ، والفرقة الثالثة العمرية أتباع عمرو بن عبيد ، والفرقة الرابعة الهمثل لية أتباع أبي الهمثل ل العلاف ، والفرقة الخامسة النظامية أتباع إبراهيم بن سيار النظام ، والفرقة السادسة الثمامية أتباع ثمامة بن أشرس ، والفرقة السابعة البشرية أتباع بشر المرييسي بن معمر بن عباد السلمي ، والمزدارية أتباع أبي موسي المزدار وهو تلميذ بشر ، والهشامية أتباع هشام بن عمرو القوطي ، وقد كان يمنع الناس أن يقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، لأنه لا يجوز إطلاق اسم الوكيل على الله تعالى ، والجاحظية ، أتباع عمرو بن بحر الجاحظ ، والجبائية اتباع أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، والخياطية أتباع أبي الحسن عبد الرحيم الخياط ، وغيرهم الكثير والكثير ، وكل له ما يخصه من الضلالات العقلية ، لكنهم يقولون جميعا بالأصول الخمسة ، هذا ملخص موجز عن المعتزلة وأصوله ، تعالوا نري كيف ظهرت البدعة الكبري ؟
لما زاع أمر الجهم بن صفوان وانتشر خبره ، حتى تابع الفساق فكره وأيدوا حزبه ، سار على نهجه واصل بن عطاء ، فقد انضم إلي طريقته وسار على دربه بدعته ، وكذلك عمرو بن عبيد الذين ينسب إليهما مذهب المعتزلة كما تقدم ، فتأصلت فكرة الجهم عند المعتزلة ، في الاعتماد على العقل في إثبات الصفات أو نفيها ، وتشبعوا بالرغبة في تعطيل النصوص وردها ، بحجة أن إثباتها يدل على التشبيه وأنواع المحال ، وأن الدين لا يصح إلا بهذا بالتعطيل والضلال ، وقد بنوا على هذا الأصل نفي أوصاف الكمال ، واستحالت عندهم رؤية رب العزة والجلال ، فردوا الأخبار ، وأنكروا الآثار ، التي ثبتت في رؤية الله يوم القيامة ، وبنوا على ذلك أصولهم أيضا نفي صفة الكلام عن الله فجعلوه عاجزا عن الكلام بالقرآن ، بحجة أنه لو كان متكلما في زعمهم لكان له جارحة الفم واللسان ، وأن إثبات صفة الكلام تشبيه لله بالإنسان ، وقد استفحل أمرهم ، وكثر عددهم ، وانتشر في البلاد خبرهم ، وللأسف قربهم خلفاء الدولة العباسية ، متعللين لهم بأنهم ، كانوا يجادلون المخالفين من الزنادقة والجبرية ، والشيعة والمجوس مجادلة عقلية .

خالد مسعد .
25-12-2009, 05:29 PM
وفي بداية القرن الثالث الهجري تصادق المأمون بن هارون ، وهو من أبرز خلفاء الدولة العباسية تصادق مع بعض دعاة الآراء الاعتزالية ، وذلك قبل أن يكون خليفة المسلمين ، فقرب إليه رجلا يقال له بشر بن غياث المرييسي المولود من أب يهودي ، وكان هذا الرجل قد نظر في صفات الله بالفكر الجهمي ، فغلب عليه فكر الجهم بن صفوان وانسلخ من الورع والتقوى والإيمان ، وأعلن القول بخلق القرآن ، ودعا إليه حتى كان عينَ الجهمية في عصره ، وكان عالمَهم المقتدي بأمره ، فمقته أهل العلم وناظروه ، وحكم عليه بعضهم وكفروه ، يقول الإمام الشافعي عن هذا الجهمي : ناظرت بشر بن غياث المريسي ، فكان مما قال : القرعة قمار ، وهي حرام ، فذكرت له حديث عمران بن حصين في القرعة فبهت ، وحديث عمران رواه مسلم في كتاب الإيمان عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَال لهُ قَوْلا شَدِيدًا ) ، وفي رواية أن رجلاً من الأنصار أوصي عند موته فأعتق ستة مملوكين ، الوصية فيما دون الثلث ، ولذلك أجري النبي القرعة بينهم ، ومعني قال له قولا شديدا أي أنكر فعله وكراهه .
والشاهد أن أبسط الأمور في سنة النبي ، لا يعرفها بشر المريسي ، فأصله كما قال هاشم بن القاسم يهودي ، والخليفة المأمون اختلط برجل يقال له أحمد بن أبي دؤاد الإيادي ، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزلي ، قربه المأمون واتخذه صاحبا ، ومن شدة تعلق المأمون به عظمه الشعراء نفاقا للخليفة حتى قال بعض الشعراء من المعتزلة من بني العباس :
رسول الله والخلفاء منا : ومنا أحمد بن أبي دؤاد - فرد عليه بعض شعراء أهل السنة الذين يدركون خطورة هذا الرجل وفتنته للناس ، وقال : فقل للفاهرين على نزار : وهم في الأرض سادات العباد - رسول الله والخلفاء منا ونبرأ من دعي بني إياد - وما منا إياد إذا أقرت : بدعوة أحمد بن أبي دؤاد ، وكذلك الشاعر المشهور أبو تمام مدحه بكلام أقرب ما يكون إلي الشرك من كونه مدحا لمخلوق ، فقال في مدح أحمد بن أبي دؤاد : أأحمد إن الحاسدين كثير : ومالك إن عد الكرام نظير - حللت محلا فاضلا متقادما : من المجد والفخر القديم فخور - فكل غني أو فقير فإنه : إليك وإن نال السماء فقير - إليك تناهي المجد من كل وجهة : يصير فما يعدوك حيث يصير - وبدر إياد أنت لا ينكرونه : كذاك إياد للأنام بدور - تجنبت أن تدعي إليك ممدة : وما رفعة إلا إليك تشير .
فانظر إلي هذا الكلام المليء بالنفاق والشرك الخطير ، انظر إلي المبالغة والخطأ الكبير ، انظر إلي تعظيم هذا الظالم وتشبيهه بالعلى الكبير ، والله إن من اعتقد هذا في غير الله ، فهو مسكين ضال مضل ، يخشي عليه أن تكون له جهنم وبئس المصير ، ومن شدة الترابط بين أحمد بن أبي دؤاد وبين الخليفة المأمون أشار على الخليفة أن يكتب على سترة الكعبة ( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ) حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير ، كما قال هذا الضال جهم بن صفوان ، عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوي ) قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت .
وكذلك قرب المأمون إليه رجالا من المعتزلة حتى راوده على مذهبهم فأقنعوه حتى أصبح ألعوبة في أيديهم ، ونصحوه أن يأخذ على أيدي الناس ليعتنقوه ، إصلاحا لدينهم على زعمهم ، وإرضاءا لربهم بحمقهم ، وقد وقع المأمون في شباكهم وفرض على الناس بدعة جديدة لم تكن في أسلافهم ، وهي البدعة الكبري ، بدعة القول بخلق القرآن .
ما هي قصة خلق القرآن وما هي فكرتها ؟ فكرتها قائمة على منهجهم في نفي الصفات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ومنها صفة الكلام ، فهم زعموا أن الله لو كان متكلما لكان له فم ولسان ، ومن ثم لا بد من نفي صفة الكلام عنه .
وقد وصل الأمر ببعضهم إلي محاولته تحريف القرآن حتى لا يؤمن بهذه الصفة ، فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة : أريدك أن تقرأ هذه الآية : ( وَكَلمَ اللهُ مُوسَي تَكْليمَا ) (النساء : 164) بنصب لفظ الجلالة ، وذلك ليكون موسي عليه السلام هو المتكلم ، أما الرب عنده فلا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بفم ولسان حسب زعمه ، فقال أبو عمرو : هب أني وافقتك في ذلك فماذا تفعل بقوله : ( وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّه ) فبهت المعتزلي .
ومعلوم عند السلف أن الله يتكلم بكيفية تليق بجلاله نجهلها نحن ويعلمها هو فنحن ما رأيناه وما رأينا له نظيرا فهو سبحانه كما قال : ( ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى:11) ، ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم كما هو اعتقاد المعتزلة ، بل أخبرنا الله تبارك وتعالي أن بعض المخلوقات تتكلم بدون فم أو لسان فقال تعالى : ( اليَوْمَ نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ) (يس:65) ، فنحن نؤمن أنها تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم فالله أنطقها كما أنطق كل شيء ولذلك قال تعالى : ( وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذي أَنْطَقَ كُل شيء ) ( فصلت:21) فالأيدي والأرجل والجلود تتكلم بلا فم يخرج منه الصوت المعتمد على مقاطع الحروف ، ولكن قياس الخالق على المخلوق قياس فاسد لا يجوز .
كما أن صفة الكلام من لوازم الكمال وضدها من أوصاف النقص والله سبحانه له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته ، ولهذا ذم الله بني إسرائيل لاتخاذهم عجلا لا يتكلم إلها من دون الله ، قال تعالى عنهم : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِن بَعْدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) فعجز العجل عن الكلام من صفات النقص التي يستدل بها على عدم ألوهيته ، فإذا كان من شروط العظمة لدي المخلوق اتصافه بالكلام ، أليس الخالق أولي بذلك .

خالد مسعد .
25-12-2009, 05:29 PM
وقد صدق ابن القيم في قوله : وله الكمال المطلق العاري عن التشبيه والتمثيل بالإنسان - وكمال من أعطي الكمال بنفسه أولي وأقدم وهو أعظم شان - أيكون قد أعطي الكمال وماله : ذاك الكمالُ أذاك ذو إمكان - أيكون إنسانٌ سميعا مبصرا : متكلما بمشيئة وبيان - وله الحياة وقدرة وإرادة ، والعلم بالكلي وبالأعيان - والله قد أعطاه ذاك وليس هذا وصفه فاعجب من البهتان - بخلاف نومِ العبد ثم جماعِة ، والأكل منه وحاجةِ الأبدان - إذ تلك ملزوماتُ كونِ العبد محتاجا وتلك لوازمُ النقصان - وكذا لوازم كونه جسدا نعم ولوازم الأحداث والإمكان - يتقدس الرحمن جل جلاله عنها وعن أعضاء ذي جُثْمِان - والله ربي لم يزل متكلما وكلامه المسموع بالآذان - صدقا وعدلا أحكمت كلماته طلبا وأخبارا بلا نقصان - ورسوله قد عاذ بالكلمات من لدغ ومن عين ومن شيطان - أيعاذ بالمخلوق حاشاه من الإشراك وهو معلم الإيمان - بل عاذ بالكلمات وهي صفاته سبحانه ليست من الأكوان .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .

Mr. Medhat Salah
25-12-2009, 08:19 PM
بارك الله فيك