خالد مسعد .
26-12-2009, 04:47 PM
الحمد لله الذي سلم ميزان العدل إلي أكف ذوي الألباب ، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب , وأنزل عليهم الكتب مبينة للخطأ والصواب ، وجعل الشرائع كاملة لا نقص فيها ولا معاب ، أحمده حمد من يعلم أنه مسبب الأسباب ، وأشهد بوحدانيته شهادة مخلص غير مرتاب ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله وقد أسدل الكفر وجهه على الإيمان بحجاب ، فنسخ الظلام بنور الهدي وكُشُفَ النقاب ، وبين للناس ما أنزل إليهم وأوضح أحكام الكتاب ، وتركهم على المحجة البيضاء لا سرب فيها ولا سراب ، فصلي الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلي يوم الحشر والحساب ، أما بعد .
فقد وقفنا في المحاضرة الماضية في موضوع البدعة الكبرى ، بدعة خلق القرآن ، وقفنا عند بيان الرد على رسالة الخليفة المأمون بن هارون الرشيد التي أرسلها إلي واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره فيها بامتحان العلماء في خلق القرآن ، وإلزامهم بنفي صفة الكلام عن الله ، وقد ذكر المأمون بن هارون بعض الآيات التي يحتج بها على بدعته وكان أو ما ذكره قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، فقالوا كل ما جعله الله فقد خلقه جعل بمعني خلق ، وهذا كلام باطل يدل على جهلهم بكتاب الله وإدراك مراد الله ، فهم قد توسعوا في فلسفة اليونان وضيقوا عقولهم في لغة القرآن ، لأن جعل في قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، ليست بمعني خلق ، فلفظ جعل قد يضاف إلي الله وقد يضاف إلي الإنسان ، فإذا أضيف إلي الله فاللفظ على معنيين : المعني الأول هو التدبير الكوني ، ومعني جعل هنا الخلق والتقدير والتكوين والتدبير ، الذي تقع عليه الأمور وتصير ، كقوله تعالى : ( أَلمْ نَجْعَل الأَرْضَ مِهَادًا وَالجِبَال أَوْتَادًا وَخَلقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلنَا الليْل لبَاسًا وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) (النبأ13) ، وقوله : ( وَجَعلنَا في الأَرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِهَمْ وَجَعَلنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لعَلهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( الأنبياء: 31) ، وقوله : ( وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ) (الأنبياء:32) ، ( وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام: 1) ، وقوله تعالى : ( وَجَعَلنَا مِن َالمَاءِ كُل شيء حَي أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (الأنبياء:30)
المعني الثاني لجعل إذا أضيفت إلي الله ، هو التدبير الشرعي المعني ومعني جعل هنا التشريع ووضع التكليف الديني الذي يحتوي على أحكام المكلفين وشريعة المسلمين ، وهذا الجعل قد يقع وقد لا يقع ، كقوله تعالى : ( فَمَا جَعَل اللهُ لكُمْ عَليْهِمْ سَبِيلا ) أي لم يجعل لكما حكما شرعيا في قتالهم لأن الآيات تقول ( وَدُّوا لوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْليَاءَ حتى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيل اللهِ فَإِنْ تَوَلوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَليًّا وَلا نَصِيرًا ، إِلا الذِينَ يَصِلُونَ إلي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلوْ شَاءَ اللهُ لسَلطَهُمْ عَليْكُمْ فَلقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلقَوْا إِليْكُمْ السَّلمَ فَمَا جَعَل اللهُ لكُمْ عَليْهِمْ سَبِيلا ، سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُل مَا رُدُّوا إلي الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلقُوا إِليْكُمْ السَّلمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلئِكُمْ جَعَلنَا لكُمْ عَليْهِمْ سُلطَانًا مُبِينًا ) (النساء:91) وكقوله تعالى : ( وَأَنزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَليْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الحَقِّ لكُلٍّ جَعَلنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلي اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُونَ ) وكقوله : ( مَا جَعَل اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلةٍ وَلا حَامٍ وَلكِنَّ الذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) وكقوله : ( وَآتَيْنَا مُوسَي الكِتَابَ وَجَعَلنَاهُ هُدًي لبَنِي إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا ) وكقوله : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلكَ مثل نَ للكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) وكقوله :
( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لنْ نُؤْمِنَ حتى نُؤْتَي مِثْل مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ سَيُصِيبُ الذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) ( الحَمْدُ للهِ الذِي أَنزَل على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا ) ( قَال رَبِّ اجْعَل لي آيَةً قَال آيَتُكَ أَلا تُكَلمَ النَّاسَ ثَلاثَ ليَالٍ سَوِيًّا ) .
( إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الذِي جَعَلنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ) ( وَلكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنْسَكًا ليَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ على مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ) ( وَالبُدْنَ جَعَلنَاهَا لكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) .
( لكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ) ( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَل عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) ( ثُمَّ جَعَلنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلمُونَ ) .
ومن هذا الباب قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي أنزل كلامه وشريعته بلغة العرب ، وقد بين الله السبب فقال : ( وَلوْ جَعَلنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لقَالُوا لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُل هُوَ للذِينَ آمَنُوا هُدًي وَشِفَاءٌ وَالذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَليْهِمْ عَمًي أُوْلئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) وقال : ( وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمان وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
لكن من جهل الخليفة أنه لبس الأمور وخلط الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني إسمع ماذا يقول في رسالته : ( وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه ، الذي جعله لما في الصدور شفاء ، وللمؤمنين رحمة وهدي : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، فكل ما جعله الله فقد خلقه ، وقال : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) ، فجعل الأولي بمعني شرع والثانية بمعني خلق فأراد أن يسوى بينهما .
وقد تضاف جعل إلي الله وتشمل المعنيين معا الكوني والشرعي كقوله تعالى : ( وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلي ) وكقوله : ( جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلائِدَ ذَلكَ لتَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ ) ( وَإِذْ ابْتَلي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالمِينَ ) ( إِنَّا جَعَلنَا الشَّيَاطِينَ أَوْليَاءَ للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .
أما جعل إذا أضيفت لمخلوق فلا تكون بمعني خلق وليست بالمعني الكوني ولا بالمعني الشرعي ، كقوله تعالى : ( أَجَعَلتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ ) فجعل هنا لا يمكن أن تكون بمعني خلق أبدا ، فالإنسان لا يخلق سقاية الحاج ولا يشرع حكمها ولكن يتولها ويتولى أمرها ، وليس كل ما جعله الله فقد خلقه كما زعم المأمون .
وكقوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَليم ) ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِين ) ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلقَهُمْ وَخَرَقُوا لهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالي عَمَّا يَصِفُونَ ) .
( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيل البَحْرَ فَأَتَوْا على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لهُمْ قَالُوا يَا مُوسَي اجْعَل لنَا إِلهًا كَمَا لهُمْ آلهَةٌ قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) ( قُل أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَل اللهُ لكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُل ألله أَذِنَ لكُمْ أَمْ على اللهِ تَفْتَرُونَ ) ( فَلمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِليْهِ لتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( قَال اجْعَلنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَليمٌ ) ( وَقَال لفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالهِمْ لعَلهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلبُوا إلي أَهْلهِمْ لعَلهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( فَلمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَل السِّقَايَةَ فِي رَحْل أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُمْ لسَارِقُونَ ) ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) ( قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ ) .
وكذلك جعل إذا تعدت إلي مفعول واحد كانت بمعني خلق ( وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) ، وإذا تعدت إلي مفعولين لم تكن بعني خلق كقوله تعالى : ( وَلاَ تَنقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلتُمُ اللهَ عَليْكُمْ كَفيِلاً ) ، وقال تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ) ، وكذلك قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآنَاً عَرَبِيًّا ) ، فإنها تعدت إلي مفعولين .
أما احتجاجه بقوله تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) فيحتمل أن المأمون يستشهد بأن جعل بمعني خلق فإن كان يقصد ذلك فهذا جهل من الخليفة لأنه لبس الأمور وخلط الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني فأراد أن يسوى بينهما ، ويحتمل أنه يقصد أن القرآن موجود في الأرض والأرض مخلوقة ، فالقرآن مخلوق ، وهذا أيضا من جهله وبهتانه وابتداعه وطغيانه ، لأنه من المعلوم أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى : ( إِنَّهُ لقُرآنٌ كَرِيمٌ في كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) .
فالقلم واللوح مخلوقان لله ، لما روي أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ : ( يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيمان حتى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تعالى القَلمَ فقال له : اْكْتُبْ ، فقَال : رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال : اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حتى تَقُومَ السَّاعَةُ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ مَاتَ على غَيْرِ هٰذَا فَليْسَ مِنِّي ) .
فالقلم واللوح مخلوقان لله ، أما كلام الله المكتوب في اللوح المحفوظ ، فهو مما تكلم الله به ، وكلامه صفة من صفاته ، اتصف الله بها في الأزل ، فكما أن الله أول بذاته قبل كل شي ، فهو أيضا أول بصفاته قبل كل شي ، وكذلك يقال في القرآن الذي بين أيدينا ، الأوراق والحبر والقلم مخلوقات خلقها الله ، أما كلام الله المكتوب في القرآن فهو مما تكلم الله به ، وكلامه صفة من صفاته ، وصفته اتصف الله بها في الأزل ، فكما أن الله أول قبل كل شي بذاته ، فهو أيضا أول قبل كل شي بصفاته ، فلا حجة لهم في استدلالهم بقوله تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) ولذلك أدرك اليهود حجة المأمون في هذه الآية ، فقد اختصم يهودي ومسلم إلي بعض القضاة من القائلين بخلق القرآن ، فحكم القاضي على المسلم باليمين يحلف صدق وبراءته فقال اليهودي لا بأس حلفه ، فقال السلم أحلف بكتاب الله الذي لا إله إلا هو ، فقال اليهودي حلفه بالخالق لا بالمخلوق ، فإن يزعم أن القرآن مخلوق ، فحلفه بالخالق وظهر بهتانه .
فقد وقفنا في المحاضرة الماضية في موضوع البدعة الكبرى ، بدعة خلق القرآن ، وقفنا عند بيان الرد على رسالة الخليفة المأمون بن هارون الرشيد التي أرسلها إلي واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره فيها بامتحان العلماء في خلق القرآن ، وإلزامهم بنفي صفة الكلام عن الله ، وقد ذكر المأمون بن هارون بعض الآيات التي يحتج بها على بدعته وكان أو ما ذكره قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، فقالوا كل ما جعله الله فقد خلقه جعل بمعني خلق ، وهذا كلام باطل يدل على جهلهم بكتاب الله وإدراك مراد الله ، فهم قد توسعوا في فلسفة اليونان وضيقوا عقولهم في لغة القرآن ، لأن جعل في قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، ليست بمعني خلق ، فلفظ جعل قد يضاف إلي الله وقد يضاف إلي الإنسان ، فإذا أضيف إلي الله فاللفظ على معنيين : المعني الأول هو التدبير الكوني ، ومعني جعل هنا الخلق والتقدير والتكوين والتدبير ، الذي تقع عليه الأمور وتصير ، كقوله تعالى : ( أَلمْ نَجْعَل الأَرْضَ مِهَادًا وَالجِبَال أَوْتَادًا وَخَلقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلنَا الليْل لبَاسًا وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) (النبأ13) ، وقوله : ( وَجَعلنَا في الأَرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِهَمْ وَجَعَلنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لعَلهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( الأنبياء: 31) ، وقوله : ( وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ) (الأنبياء:32) ، ( وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام: 1) ، وقوله تعالى : ( وَجَعَلنَا مِن َالمَاءِ كُل شيء حَي أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (الأنبياء:30)
المعني الثاني لجعل إذا أضيفت إلي الله ، هو التدبير الشرعي المعني ومعني جعل هنا التشريع ووضع التكليف الديني الذي يحتوي على أحكام المكلفين وشريعة المسلمين ، وهذا الجعل قد يقع وقد لا يقع ، كقوله تعالى : ( فَمَا جَعَل اللهُ لكُمْ عَليْهِمْ سَبِيلا ) أي لم يجعل لكما حكما شرعيا في قتالهم لأن الآيات تقول ( وَدُّوا لوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْليَاءَ حتى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيل اللهِ فَإِنْ تَوَلوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَليًّا وَلا نَصِيرًا ، إِلا الذِينَ يَصِلُونَ إلي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلوْ شَاءَ اللهُ لسَلطَهُمْ عَليْكُمْ فَلقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلقَوْا إِليْكُمْ السَّلمَ فَمَا جَعَل اللهُ لكُمْ عَليْهِمْ سَبِيلا ، سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُل مَا رُدُّوا إلي الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلقُوا إِليْكُمْ السَّلمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلئِكُمْ جَعَلنَا لكُمْ عَليْهِمْ سُلطَانًا مُبِينًا ) (النساء:91) وكقوله تعالى : ( وَأَنزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَليْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الحَقِّ لكُلٍّ جَعَلنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلي اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُونَ ) وكقوله : ( مَا جَعَل اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلةٍ وَلا حَامٍ وَلكِنَّ الذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) وكقوله : ( وَآتَيْنَا مُوسَي الكِتَابَ وَجَعَلنَاهُ هُدًي لبَنِي إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا ) وكقوله : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلكَ مثل نَ للكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) وكقوله :
( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لنْ نُؤْمِنَ حتى نُؤْتَي مِثْل مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ سَيُصِيبُ الذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) ( الحَمْدُ للهِ الذِي أَنزَل على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا ) ( قَال رَبِّ اجْعَل لي آيَةً قَال آيَتُكَ أَلا تُكَلمَ النَّاسَ ثَلاثَ ليَالٍ سَوِيًّا ) .
( إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الذِي جَعَلنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ) ( وَلكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنْسَكًا ليَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ على مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ) ( وَالبُدْنَ جَعَلنَاهَا لكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) .
( لكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ) ( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَل عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) ( ثُمَّ جَعَلنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلمُونَ ) .
ومن هذا الباب قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي أنزل كلامه وشريعته بلغة العرب ، وقد بين الله السبب فقال : ( وَلوْ جَعَلنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لقَالُوا لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُل هُوَ للذِينَ آمَنُوا هُدًي وَشِفَاءٌ وَالذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَليْهِمْ عَمًي أُوْلئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) وقال : ( وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمان وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
لكن من جهل الخليفة أنه لبس الأمور وخلط الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني إسمع ماذا يقول في رسالته : ( وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه ، الذي جعله لما في الصدور شفاء ، وللمؤمنين رحمة وهدي : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، فكل ما جعله الله فقد خلقه ، وقال : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) ، فجعل الأولي بمعني شرع والثانية بمعني خلق فأراد أن يسوى بينهما .
وقد تضاف جعل إلي الله وتشمل المعنيين معا الكوني والشرعي كقوله تعالى : ( وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلي ) وكقوله : ( جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلائِدَ ذَلكَ لتَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ ) ( وَإِذْ ابْتَلي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالمِينَ ) ( إِنَّا جَعَلنَا الشَّيَاطِينَ أَوْليَاءَ للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .
أما جعل إذا أضيفت لمخلوق فلا تكون بمعني خلق وليست بالمعني الكوني ولا بالمعني الشرعي ، كقوله تعالى : ( أَجَعَلتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ ) فجعل هنا لا يمكن أن تكون بمعني خلق أبدا ، فالإنسان لا يخلق سقاية الحاج ولا يشرع حكمها ولكن يتولها ويتولى أمرها ، وليس كل ما جعله الله فقد خلقه كما زعم المأمون .
وكقوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَليم ) ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِين ) ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلقَهُمْ وَخَرَقُوا لهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالي عَمَّا يَصِفُونَ ) .
( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيل البَحْرَ فَأَتَوْا على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لهُمْ قَالُوا يَا مُوسَي اجْعَل لنَا إِلهًا كَمَا لهُمْ آلهَةٌ قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) ( قُل أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَل اللهُ لكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُل ألله أَذِنَ لكُمْ أَمْ على اللهِ تَفْتَرُونَ ) ( فَلمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِليْهِ لتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( قَال اجْعَلنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَليمٌ ) ( وَقَال لفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالهِمْ لعَلهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلبُوا إلي أَهْلهِمْ لعَلهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( فَلمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَل السِّقَايَةَ فِي رَحْل أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُمْ لسَارِقُونَ ) ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) ( قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ ) .
وكذلك جعل إذا تعدت إلي مفعول واحد كانت بمعني خلق ( وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) ، وإذا تعدت إلي مفعولين لم تكن بعني خلق كقوله تعالى : ( وَلاَ تَنقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلتُمُ اللهَ عَليْكُمْ كَفيِلاً ) ، وقال تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ) ، وكذلك قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآنَاً عَرَبِيًّا ) ، فإنها تعدت إلي مفعولين .
أما احتجاجه بقوله تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) فيحتمل أن المأمون يستشهد بأن جعل بمعني خلق فإن كان يقصد ذلك فهذا جهل من الخليفة لأنه لبس الأمور وخلط الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني فأراد أن يسوى بينهما ، ويحتمل أنه يقصد أن القرآن موجود في الأرض والأرض مخلوقة ، فالقرآن مخلوق ، وهذا أيضا من جهله وبهتانه وابتداعه وطغيانه ، لأنه من المعلوم أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى : ( إِنَّهُ لقُرآنٌ كَرِيمٌ في كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) .
فالقلم واللوح مخلوقان لله ، لما روي أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ : ( يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيمان حتى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تعالى القَلمَ فقال له : اْكْتُبْ ، فقَال : رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال : اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حتى تَقُومَ السَّاعَةُ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ مَاتَ على غَيْرِ هٰذَا فَليْسَ مِنِّي ) .
فالقلم واللوح مخلوقان لله ، أما كلام الله المكتوب في اللوح المحفوظ ، فهو مما تكلم الله به ، وكلامه صفة من صفاته ، اتصف الله بها في الأزل ، فكما أن الله أول بذاته قبل كل شي ، فهو أيضا أول بصفاته قبل كل شي ، وكذلك يقال في القرآن الذي بين أيدينا ، الأوراق والحبر والقلم مخلوقات خلقها الله ، أما كلام الله المكتوب في القرآن فهو مما تكلم الله به ، وكلامه صفة من صفاته ، وصفته اتصف الله بها في الأزل ، فكما أن الله أول قبل كل شي بذاته ، فهو أيضا أول قبل كل شي بصفاته ، فلا حجة لهم في استدلالهم بقوله تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) ولذلك أدرك اليهود حجة المأمون في هذه الآية ، فقد اختصم يهودي ومسلم إلي بعض القضاة من القائلين بخلق القرآن ، فحكم القاضي على المسلم باليمين يحلف صدق وبراءته فقال اليهودي لا بأس حلفه ، فقال السلم أحلف بكتاب الله الذي لا إله إلا هو ، فقال اليهودي حلفه بالخالق لا بالمخلوق ، فإن يزعم أن القرآن مخلوق ، فحلفه بالخالق وظهر بهتانه .