خالد مسعد .
26-12-2009, 04:51 PM
البدعة الكبرى– المحاضرة الخامسة
امتحان الإمام أحمد بن حنبل
دكتور محمود عبد الرازق الرضواني
الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو الأول والآخر والباطن والظاهر ، وهو بكل شيء عليم ، الأول فليس قبله شيء ، الآخر فليس بعده شيء ، الظاهر فليس فوقه شيء ، الباطن فليس دونه شيء ، الأزلي الذي لم يزل موجودا بصفات الكمال ولا يزال ، دائما باقيا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، يعلم عدد الرمال ، وهو العلى فوق عرشه الكبير المتعال ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ورفع السماوات بغير عمد وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وسوي فوقهن ماء عظيما وجعل فوق الماء سريرا ، عرشا مجيدا عظيما كريما ، بدأ خلق الإنسان من طين ، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين ، وصوره وأبدعه في قرار مكين ، فجعله مضغة فعظاما فسميعا بصيرا ، جعله سميعا بصيرا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، فسبحان الكريم العظيم الحليم ، كان من أعظم نعمه على بني الإنسان بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل ، أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ، مبينة حلاله وحرامه ، وأخباره وأحكامه ، فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم ، والأوامر بالانقياد والنواهي بالتعظيم ، ففاز بالنعيم المقيم وزحزح عن العذاب الأليم .
أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، يملأ أرجاء السماوات والأرضين ، دائما أبد الآبدين إلي يوم الدين ، في كل ساعة وآن ووقت وحين ، كما ينبغي لجلاله العظيم ، وسلطانه القديم ، ووجهه الكريم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ولد له ، ولا والد له ، ولا صاحبة له ولا نظير ، ولا ومثل ر له ولا مشير له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، المصطفي من خلاصة العرب العرباء ، خاتم الأنبياء وصاحب الحوض الرواء ، صاحب المقام المحمود وحامل اللواء ، صلي الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم وشرف وكرم أزكي صلاة وأفضل تسليم ، وأعلى تشريف وأمجد تكريم ، ورضي الله عن جميع أصحابه الغر الكرام ، السادة النجباء الأعلام ، خلاصة العالم بعد الأنبياء ، ما اختلط الظلام بالضياء ، وأعلن الداعي بالنداء ، أما بعد .
أرسل المأمون بن هارون رسالته أو خطابه إلي نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، هذا الخطاب الذي حمل من الفتنة وأنواع الضلال ، ما يدل بحق على مقدار الفتنة التي ستحل بالأمة الإسلامية ، بسبب الآراء والبدع الاعتزالية ، وقد أمر الخليفة واليه إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة ، وأن يقرأ هذا الخطاب عليهم مرارا حتى يفهموه ، وأن يبدأ في امتحانهم وأن يكشف عما يعتقدوه ، وبين له في هذا الكتاب أنه لا يستعين في إدارة شئون الدولة بمن لا يكون على مذهبه وعقيدته .
رد الفعل في بغداد ، أحضر إسحاق بن إبراهيم وإلي الخليفة على بغداد أ أحضر الفقهاء والمحدثين والقضاة ، وكان من أبرزهم بشر بن الوليد الكندي وأبو حسان الزيادي وعلى بن مقاتل وأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح وإبراهيم بن المهدي وآخرون من أهل العلم ، قرأ عليهم خطاب المأمون مرتين حتى فهموه .
( ثم سأل بشر بن الوليد عن القرآن ؟ فقال بشر : قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة القرآن كلام الله ، قال إسحاق بن إبراهيم : أمخلوق هو ؟ قال بشر : ( اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ ) (الرعد:16) ، قال إسحاق : أليس القرآن شيء ؟ ، قال بشر : هو شيء ، قال إسحاق : فمخلوق هو ؟ قال بشر : ليس بخالق ، قال إسحاق : ليس أسألك عن هذا ، قال بشر : لا أحسن غير ما قلت وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت ) .
جواب بشر بن الوليد أراد منه التورية والمواربة فهو يبطن اعتقاد السلف ، ولكنه أراد أن يتخلص من امتحان الوالي وبطش الخليفة بقوله ( اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ ) (الرعد:16) ليسكت عنه ، لأن العموم في الآية مخصوص بالمخلوقات فقط ، أما ذات الله وصفاته ، ومنها صفة الكلام ، وما تكلم الله به في القرآن ، فلا يندرج تحت الآية .
والدليل على أنه سبحانه وتعالي لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة ، قوله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد : ( تُدَمِّرُ كُل شيء بِأَمْرِ رَبِّهَا ) (الأحقاف/25) وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها ، كمنازلهم ومساكنهم والجبال التي كانت بحضرتهم ، فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها ، وبالرغم من ذلك قال : ( تُدَمِّرُ كُل شيء ) وأيضا قول الهدهد عن بلقيس ملكة اليمن ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) (النمل:23) وعرش سليمان وملكه كان موجودا ، ولم تستحوز عليه بلقيس ، فكذلك إذا قال : ( اللهُ خَالقُ كُل شيء ) ، لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة .
وقال الله لموسي : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لنَفْسِي ) (طه/41) وقال : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه) (آل عمران/28) وقال الله تعالي : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِه) (الأنعام/54) وقال : ( تَعْلمُ مَا في نَفْسِي وَلا أَعْلمُ مَا في نَفْسِكَ ) (المائدة/116) ثم قال : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) (آل عمران/185) ، فالعقلاء يعلمون أن الله لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت ، فكذلك إذا قال : ( اللهُ خَالقُ كُل شيء ) لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة .
فالقول الذي عليه السلف الصالح أن الله خالق كل شيء من المخلوقات ، أما القرآن الذي تكلم به الله وبدا من كلامه فليس بمخلوق ، وهو سبحانه شيء لا كسائر الأشياء ، ولا يطبق عليه ما يطبق على سائر الأشياء قال تعالى : ( ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى:11) ، وقال تعالى : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثَال إِنَّ اللهَ يَعْلمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلمُون ) (النحل/74) .
فلما قال بشر : لا أحسن غير ما قلت ، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه ، وليس عندي غيرُ ما قلت ، فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه ، مكتوب فيها : أشهد أن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لم يكن قبله شيء ، ولا بعده شيء ، ولا يشبهه شيء من خلقه ، في معني من المعاني ، ولا وجه من الوجوه ، فقرأها إسحاق بن إبراهيم على بشر بن الوليد الكندي وقال له : أتشهد على ما في هذه الرقعة ؟ ، قال بشر : نعم ، فقال إسحاق لكاتبه : أكتب ما قال .
لكن العبارة التي أشهده عليها عبارة مرنة ظاهرها حق ، وفي داخلها إقرار ضمني بمذهب المعتزلة ، لأن معني أن الله لا يشبهه شيء من خلقه في معني من المعاني ، ولا في وجه من الوجوه ، يلزم منها عندهم نفي الصفات عن الله مطلقا كالسمع والبصر والكلام وغير ذلك ، لأن المخلوق له صفات أيضا كالسمع والبصر والكلام وغير ذلك ، فالاجتماع في الألفاظ العامة المشتركة ، يوجب عند المعتزلة التشبيه والتماثل ، وهذا من فساد الفطرة وخراب العقل ، لأن التشبيه لا يكون إلا إذا قال : سمع الله مثل سمعي وبصره كبصري وكلامه ككلامي ، فهذا تشبيه .
وقد علمنا بالضرورة أن الله موجود ، والمخلوق موجود ، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمي الوجود ، أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا ، بل وجود هذا يخصه ، ووجود هذا يخصه ، واتفاقهما في لفظ عام لا يقتضي تماثلهما في هذه الصفة عند الإضافة والتخصيص والتقييد ، فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود ، فإن العرش والبعوض متماثلان ، لاتفاقهما في لفظ الشيء والوجود ، ولهذا سمي الله نفسه بأسماء هي مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشاركه فيها غيره ، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء هي مختصة بهم ، مضافةُ إليهم ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين عند التجرد عن الإضافة تماثلهما واتفاقهما ، فقد سمي الله نفسه حيا فقال : ( اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) وسمي بعض عباده حيا فقال : ( إِنَّ اللهَ فَالقُ الحَبِّ وَالنَّوَي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلكُمُ اللهُ فَأَنَّي تُؤْفَكُون َ) (الأنعام:95) .
وليس هذا الحي مثل هذا الحي ، لأن قوله الحي اسم لله مختص به ، وقوله يخرج الحي من الميت ، اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ، ولكن ليس للمطق مسمي موجود في الحقيقة ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين ، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق ، والمخلوق عن الخالق ، ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته ، وكذلك سمي الله نفسه عليما حليما ، وسمي بعض عباده عليما فقال : ( قَالُوا لا تَوْجَل إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَليمٍ ) (الحجر:53) ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَليم ٍ) (الذاريات:28) يعني اسحق ، وسمي آخر حليما فقال ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَليمٍ) (الصافات:101) يعني إسماعيل ، وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم ، وسمي نفسه سميعا بصيرا فقال : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلي أَهْلهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْل إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) (النساء:58) وسمي بعض عباده سميعا بصيرا ، فقال : ( إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) (الإنسان:2) .
امتحان الإمام أحمد بن حنبل
دكتور محمود عبد الرازق الرضواني
الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو الأول والآخر والباطن والظاهر ، وهو بكل شيء عليم ، الأول فليس قبله شيء ، الآخر فليس بعده شيء ، الظاهر فليس فوقه شيء ، الباطن فليس دونه شيء ، الأزلي الذي لم يزل موجودا بصفات الكمال ولا يزال ، دائما باقيا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، يعلم عدد الرمال ، وهو العلى فوق عرشه الكبير المتعال ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ورفع السماوات بغير عمد وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وسوي فوقهن ماء عظيما وجعل فوق الماء سريرا ، عرشا مجيدا عظيما كريما ، بدأ خلق الإنسان من طين ، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين ، وصوره وأبدعه في قرار مكين ، فجعله مضغة فعظاما فسميعا بصيرا ، جعله سميعا بصيرا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، فسبحان الكريم العظيم الحليم ، كان من أعظم نعمه على بني الإنسان بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل ، أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ، مبينة حلاله وحرامه ، وأخباره وأحكامه ، فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم ، والأوامر بالانقياد والنواهي بالتعظيم ، ففاز بالنعيم المقيم وزحزح عن العذاب الأليم .
أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، يملأ أرجاء السماوات والأرضين ، دائما أبد الآبدين إلي يوم الدين ، في كل ساعة وآن ووقت وحين ، كما ينبغي لجلاله العظيم ، وسلطانه القديم ، ووجهه الكريم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ولد له ، ولا والد له ، ولا صاحبة له ولا نظير ، ولا ومثل ر له ولا مشير له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، المصطفي من خلاصة العرب العرباء ، خاتم الأنبياء وصاحب الحوض الرواء ، صاحب المقام المحمود وحامل اللواء ، صلي الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم وشرف وكرم أزكي صلاة وأفضل تسليم ، وأعلى تشريف وأمجد تكريم ، ورضي الله عن جميع أصحابه الغر الكرام ، السادة النجباء الأعلام ، خلاصة العالم بعد الأنبياء ، ما اختلط الظلام بالضياء ، وأعلن الداعي بالنداء ، أما بعد .
أرسل المأمون بن هارون رسالته أو خطابه إلي نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، هذا الخطاب الذي حمل من الفتنة وأنواع الضلال ، ما يدل بحق على مقدار الفتنة التي ستحل بالأمة الإسلامية ، بسبب الآراء والبدع الاعتزالية ، وقد أمر الخليفة واليه إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة ، وأن يقرأ هذا الخطاب عليهم مرارا حتى يفهموه ، وأن يبدأ في امتحانهم وأن يكشف عما يعتقدوه ، وبين له في هذا الكتاب أنه لا يستعين في إدارة شئون الدولة بمن لا يكون على مذهبه وعقيدته .
رد الفعل في بغداد ، أحضر إسحاق بن إبراهيم وإلي الخليفة على بغداد أ أحضر الفقهاء والمحدثين والقضاة ، وكان من أبرزهم بشر بن الوليد الكندي وأبو حسان الزيادي وعلى بن مقاتل وأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح وإبراهيم بن المهدي وآخرون من أهل العلم ، قرأ عليهم خطاب المأمون مرتين حتى فهموه .
( ثم سأل بشر بن الوليد عن القرآن ؟ فقال بشر : قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة القرآن كلام الله ، قال إسحاق بن إبراهيم : أمخلوق هو ؟ قال بشر : ( اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ ) (الرعد:16) ، قال إسحاق : أليس القرآن شيء ؟ ، قال بشر : هو شيء ، قال إسحاق : فمخلوق هو ؟ قال بشر : ليس بخالق ، قال إسحاق : ليس أسألك عن هذا ، قال بشر : لا أحسن غير ما قلت وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت ) .
جواب بشر بن الوليد أراد منه التورية والمواربة فهو يبطن اعتقاد السلف ، ولكنه أراد أن يتخلص من امتحان الوالي وبطش الخليفة بقوله ( اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ ) (الرعد:16) ليسكت عنه ، لأن العموم في الآية مخصوص بالمخلوقات فقط ، أما ذات الله وصفاته ، ومنها صفة الكلام ، وما تكلم الله به في القرآن ، فلا يندرج تحت الآية .
والدليل على أنه سبحانه وتعالي لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة ، قوله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد : ( تُدَمِّرُ كُل شيء بِأَمْرِ رَبِّهَا ) (الأحقاف/25) وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها ، كمنازلهم ومساكنهم والجبال التي كانت بحضرتهم ، فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها ، وبالرغم من ذلك قال : ( تُدَمِّرُ كُل شيء ) وأيضا قول الهدهد عن بلقيس ملكة اليمن ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) (النمل:23) وعرش سليمان وملكه كان موجودا ، ولم تستحوز عليه بلقيس ، فكذلك إذا قال : ( اللهُ خَالقُ كُل شيء ) ، لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة .
وقال الله لموسي : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لنَفْسِي ) (طه/41) وقال : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه) (آل عمران/28) وقال الله تعالي : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِه) (الأنعام/54) وقال : ( تَعْلمُ مَا في نَفْسِي وَلا أَعْلمُ مَا في نَفْسِكَ ) (المائدة/116) ثم قال : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) (آل عمران/185) ، فالعقلاء يعلمون أن الله لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت ، فكذلك إذا قال : ( اللهُ خَالقُ كُل شيء ) لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة .
فالقول الذي عليه السلف الصالح أن الله خالق كل شيء من المخلوقات ، أما القرآن الذي تكلم به الله وبدا من كلامه فليس بمخلوق ، وهو سبحانه شيء لا كسائر الأشياء ، ولا يطبق عليه ما يطبق على سائر الأشياء قال تعالى : ( ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى:11) ، وقال تعالى : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثَال إِنَّ اللهَ يَعْلمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلمُون ) (النحل/74) .
فلما قال بشر : لا أحسن غير ما قلت ، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه ، وليس عندي غيرُ ما قلت ، فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه ، مكتوب فيها : أشهد أن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لم يكن قبله شيء ، ولا بعده شيء ، ولا يشبهه شيء من خلقه ، في معني من المعاني ، ولا وجه من الوجوه ، فقرأها إسحاق بن إبراهيم على بشر بن الوليد الكندي وقال له : أتشهد على ما في هذه الرقعة ؟ ، قال بشر : نعم ، فقال إسحاق لكاتبه : أكتب ما قال .
لكن العبارة التي أشهده عليها عبارة مرنة ظاهرها حق ، وفي داخلها إقرار ضمني بمذهب المعتزلة ، لأن معني أن الله لا يشبهه شيء من خلقه في معني من المعاني ، ولا في وجه من الوجوه ، يلزم منها عندهم نفي الصفات عن الله مطلقا كالسمع والبصر والكلام وغير ذلك ، لأن المخلوق له صفات أيضا كالسمع والبصر والكلام وغير ذلك ، فالاجتماع في الألفاظ العامة المشتركة ، يوجب عند المعتزلة التشبيه والتماثل ، وهذا من فساد الفطرة وخراب العقل ، لأن التشبيه لا يكون إلا إذا قال : سمع الله مثل سمعي وبصره كبصري وكلامه ككلامي ، فهذا تشبيه .
وقد علمنا بالضرورة أن الله موجود ، والمخلوق موجود ، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمي الوجود ، أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا ، بل وجود هذا يخصه ، ووجود هذا يخصه ، واتفاقهما في لفظ عام لا يقتضي تماثلهما في هذه الصفة عند الإضافة والتخصيص والتقييد ، فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود ، فإن العرش والبعوض متماثلان ، لاتفاقهما في لفظ الشيء والوجود ، ولهذا سمي الله نفسه بأسماء هي مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشاركه فيها غيره ، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء هي مختصة بهم ، مضافةُ إليهم ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين عند التجرد عن الإضافة تماثلهما واتفاقهما ، فقد سمي الله نفسه حيا فقال : ( اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) وسمي بعض عباده حيا فقال : ( إِنَّ اللهَ فَالقُ الحَبِّ وَالنَّوَي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلكُمُ اللهُ فَأَنَّي تُؤْفَكُون َ) (الأنعام:95) .
وليس هذا الحي مثل هذا الحي ، لأن قوله الحي اسم لله مختص به ، وقوله يخرج الحي من الميت ، اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ، ولكن ليس للمطق مسمي موجود في الحقيقة ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين ، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق ، والمخلوق عن الخالق ، ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته ، وكذلك سمي الله نفسه عليما حليما ، وسمي بعض عباده عليما فقال : ( قَالُوا لا تَوْجَل إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَليمٍ ) (الحجر:53) ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَليم ٍ) (الذاريات:28) يعني اسحق ، وسمي آخر حليما فقال ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَليمٍ) (الصافات:101) يعني إسماعيل ، وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم ، وسمي نفسه سميعا بصيرا فقال : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلي أَهْلهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْل إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) (النساء:58) وسمي بعض عباده سميعا بصيرا ، فقال : ( إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) (الإنسان:2) .