مشاهدة النسخة كاملة : محنة خلق القرآن ( رفع المحنة عن العباد )


خالد مسعد .
27-12-2009, 02:54 PM
البدعة الكبرى– المحاضرة التاسعة

رفع المحنة عن العباد

الحمد لله رب العالمين ، سبحانه من إله عظيم يغفر الذنوب ولا يبالي ، يغفر الذنب ويعفو عن الزلل ، تنزه مولانا عن النقص والعلل ، جبار قوي لا يكل ولا يصيبه الملل، بسط الأرض بقدرته وأرسي أعماق الجبل ، خلق السماوات والأرض بالحق ولم يترك أمرهما همل ، سبحانه من إله عظيم خلق كل شيء بحكمته وعدل ، لا يعجزه في الأرض رقم ولا عدد ، سبحانه من إله عظيم ، سبحانه من إله رحيم ، عز بقدرته وحكمته فامتنع ، وعلا بذاته وشانه فارتفع ، وذل كل شيء لعظمته وخضع ، وأمسك السماء عن الأرض أن تقع ، وفرش الأرض فانبسط سهلها واتسع ، وفجر الأنهار والماء من العين نبع ، وسخر السحاب من بخار علا وارتفع ، وسخر النجوم ونور القمر فلمع ، ووهب ونزع ، وضر ونفع ، وأعطي ومنع ، وسن وشرع ، وخص وجمع ، إلهنا إله عظيم التواب ، غفور وهاب ، خضعت لعظمته الرقاب ، وذلت لقدرته الصعاب ، وخشعت له قلوب ذوي الألباب ، ويسبح الرعد بحمده والبرق والسراب ، والشجر والدواب والسحاب ، مسبب الأسباب وخالق الإنسان من تراب ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب .
وأشهد ألا إله إلا الله ، شهادة توافق ما قال ربنا جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وجلت آلاؤه ، وشهدت بها أرضه وسماؤه ، ورسله وأنبياؤه ، ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العزيز الحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ ) (آل عمران:18) .
ونصلي ونسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وآخر نبي للخلق أجمعين ، وصاحب المقام عن مجيء رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على دربهم بإحسان إلي يوم الدين ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ) ، أما بعد .
فقد ظل الخليفة الواثق على هذا بدعته في إلزام الناس بخلق القرآن ، مشددا على الخاصة والعامة الامتحان ، حتى حدثت مناظرة في مجلسه ، وكان معه ولاة أمره وجنده ، هذه المناظرة بين عالم من علماء السنة ، وبين قاضي قضاة البدعة ، أحمد بن أبي دؤاد ، يقال إنها كانت سببا في رفع المحنة ، وهي بحق قاعدة هامة في رد البدعة وإفحام المبتدع .
أدخل الشيخ أبو عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق الأُزدي على الواثق أمير المؤمنين ، وهو مقيد بالسلاسل ، وهو شيخ شامي ، وقد أمر قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد باعتقاله لأنه كان يقول بقول الإمام أحمد في إثبات صفة الكلام لله تعالى ، فسلم غير هائب ، ودعا فأوجز ، فقال الواثق : ناظر أحمد بن أبي دؤاد ، فقال الشيخ الأزدي : يا أمير المؤمنين هذا لا يقوي على المناظرة ، فغضب الواثق لإهانته قاضي القضاة ، وقال : أبو عبد الله يصغر ويضعف عند مناظرتك ؟! فقال : هوّن عليك يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في كلامه ؟
فقال الواثق : قد أذنت لك ، ثم التفت إلي ابن أبي دؤاد وقال له : خبرني يا بن أبي دؤاد ، أمقالتك تلك يقصد الشيخ بدعة القول بخلق القرآن ، واجبة في أصول الدين فلا يكون كاملا إلا بما قلت ؟ قال ابن أبي دؤاد : نعم قال الشيخ : هل ستر الرسول شيئا مما أمر الله به المسلمين في أمر دينهم ؟ قال ابن أبي دؤاد : لا ، قال الشيخ : أفدعا إلي مقالتك هذه ؟ فسكت بنُ أبي دؤاد ، قال الشيخ للواثق : يا أمير المؤمنين هذه واحدة ، قال الشيخ : يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن الله تعالى حين أنزل ( اليَوْمَ أَكْمَلتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكُمْ الإِسْلامَ دِينَا ) (المائدة/3) ، فقلت أنت : الدين لا يكون تاماًّ إلا بمقالتك بخلق القرآن ، فهل كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه أو أنت الصادق في نقصانه ؟ فسكت بن أبي دؤاد ، قال الشيخ للواثق : يا أمير المؤمنين ثنتان .
قال الشيخ : يا أحمد مقالتك هذه علمها رسول الله أم جهلها ؟ قال علمها ، قال الشيخ : أفدعا الناس إليها ؟ فسكت بن أبي دؤاد ، قال الشيخ : يا أمير المؤمنين ثلاث ، ثم قال خبرني يا أحمد ، لمّا علم رسول الله صلي الله عليه وسلم مقالتك التي دعوت الناس إليها ، هل وسعه أن أمسك عنها أم لا ؟ قال أحمد : علمها وسكت عنها ، قال الشيخ : وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رحمة الله عليهم ؟ قال : نعم ، قال الشيخ : أفوسع رسول الله أن علمها وأمسك عنها كما زعمت ولم يطالب بها أمته ؟ قال : نعم ، فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الخليفة يقول : يا أمير المؤمنين إن لم يسعه ما وسع رسول الله السكوت عنه ، فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله أن يسكت عنه ، قال الواثق : نعم ، لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله أن يسكت عنه ، فبكي وأمر بحل قيوده ، فجاذب الشيخ الحداد على القيود يود لو يحتفظ بها ، قال الواثق : ولم ؟ قال الشيخ : نويت أن تجعل بيني وبين كفني لأخاصم بها هذا الظالم يوم القيامة ، وبكي الشيخ ، وبكي الواثق ، وبكي الحاضرون ، قال الواثق : اجعلني في حل ، قال الشيخ : جعلتك لقرابتك من رسول الله ، قال الواثق : تقيم معنا ، قال الشيخ : ردك إياي إلي الموضع الذي أخذني منه هذا الظالم أجدي عليك وأنفع لي ..ثم قام وخرج .
وبعد هذه المناظرة بيت الولاة النية على رفع المحنة عن العباد ، فلما تولي المتوكل الخلافة سنة 232هـ انتصر لأهل السنة ، فكان من أفضل خلفاء بني العباس ، لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون ، فإنهم أساءوا إلي أهل السنة ، وقربوا أهل البدعة والضلالة ، من المعتزلة وغيرهم ، وقد ظهر انتقام الله وعدله في الظالمين ، ومنتُه وفضله على المؤمنين ، وقد استبشر الناس بولايته ، فإنه كان محبا للسنة وأهلها ، ورفع المحنة عن الناس ، وكتب إلي الآفاق ، لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن ، ثم كتب إلي نائبه ببغداد ، وهو إسحاق بن إبراهيم ، أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه ، فاستدعي إسحاق بالإمام أحمد إليه ، فأكرمه وعظمه ، لما يعلم من إعظام الخليفة له ، وإجلاله إياه ، وسأله عن القرآن ؟
فقال له أحمد : سؤالك هذا سؤال تعنت أو استرشاد ؟ فقال بل سؤال استرشاد فقال : هو كلام الله منزل غير مخلوق ، فسكن إلي قوله ، فلما علم أهل البدعة ، ظهور المودة بين الخليفة والإمام ، حاولوا الوشاية به ، والفتنة عليه فزعموا للخليفة أنه يريد قلب نظام الحكم ، فزعم رجل من المبتدعة عند الخليفة المتوكل ، يقال له ابن البلخي ، أن رجلا من العلويين نصبه أحمد بن حنبل خليفة ، وقد آواه إلي منزله ، وهو يبايع الناس له في الباطن ، فأمر الخليفة نائب بغداد أن تحاصر قوات الأمن الخاصة ، منزل أحمد من الليل ، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب ، حتى من فوق الأسطح ، فوجدوا الإمام أحمد جالسا في داره مع عياله ، فسألوه عما ذكر لهم ، فقال ليس عندي علم من هذا ، وليس من هذا شيء ، ولا هذا في نيتي ، وإني لأري طاعة أمير المؤمنين ، في السر والعلانية ، وفي عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثره على ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق ، في الليل والنهار ، ففتشوا منزله حتى مكان الكتب ، وبيوت النساء ، وسطح المنزل وغير ذلك ، فلم يروا شيئا مريبا ، فلما بلغ المتوكل ذلك ، وعلم براءته مما نسب إليه ، علم أنهم يكذبون عليه كثيرا ، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم عطية من الخليفة ، فامتنع من قبلوها ، فقال رسول الخليفة :
يا أبا عبد الله ، إني أخشي من ردك إياها ، أن تقع وحشة أو قطيعة ، بينك وبين الخليفة ، ومصلحتك في قبول عطيته ، فوضعها عنده ثم ذهب ، فلما كان من آخر الليل استدعي أحمد أهله ، وبني عمه وعياله ، وقال لهم : لم أنم هذه الليلة من هذا المال ، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من الفقراء من أهل الحديث وغيرهم ، في بغداد والبصرة ، ثم أصبح ففرقها في الناس ولم يُبق منها درهما ، حتى تصدق بالكيس الذي كانت فيه ، ولم يعط منها لأهله شيئا ، وهم في غاية الفقر والجهد ، وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها ، فقال على بن الجهم يا أمير المؤمنين : إنه قد قبلها منك ، وتصدق بها عنك وماذا يصنع أحمد بالمال ؟ إنما يكفيه رغيف من الخبز فقال الخليفة : صدقت .
ثم كتب كتب المتوكل إلي نائبة في بغداد ، أن يحمل إليه الإمام أحمد ، فقال إني شيخ كبير وضعيف ، فرد الجواب على الخليفة بذلك ، فأرسل الخليفة مصرا لتأتيني ، إني أحب أن آنس بقربك ، وبالنظر إليك ، وأن تحصل لي بركة دعائك ، فسار إليه الإمام أحمد وهو عليل ، في بنيه وبعض أهله ، فأنزله في قصر عظيم ، فلم يتحمل البقاء وارتحل عنها إلي دار أخرى .

خالد مسعد .
27-12-2009, 02:54 PM
وكان الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ، ويبلغونه عن الخليفة السلام ، ولا يدخلون عليه حتى يخلعوا ما عليهم من المثل نة والسلاح ، وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها ، فاعتذر إليه في قبولها ، وأراد منه الخليفة أن يحدث الناس ، عوضا عما فاتهم منه ، في أيام المحنة وما بعدها من السنين الطولية ، وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم ، مائدة فيها ألوان الأطعمة والفاكهة والثلج ، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك ، ولم يكن يأكل من ذلك شيئا بالكلية ، بل كان صائما يطوي الأيام بالصوم ، ولما استمر ضعفه ، جعل المتوكل يبعث إليه الطبيب لينظر في مرضه ، فرجع إليه الطبيب وقال : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد ليس به علة في بدنه ، وإنما علته من قلة الطعام ، وكثرة العبادة والصيام ، فسكت المتوكل .
فطلب الإمام أحمد أن يرده الخليفة المتوكل إلي بغداد ، فاستجاب له الخليفة ، وهو غير راض ، وظل يرسل له الأموال وأحمد يردها ولا يقبلها ، أو يتصدق بها ولا يأخذ منها شيئا ، وقد قال بعض الأمراء للمتوكل : إن أحمد لا يأكل لك طعاما ، ولا يشرب لك شرابا ، ولا يجلس على فرشك ، ويحرم ما تشربه ، فقال : والله لو قام المعتصم من قبره ، وكلمني في أحمد ، ما قبلت منه ، وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم ، تستعلم أخباره وكيف حاله ، وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد ، فلا يجيبه بشيء .
وقد كتب رجل من المعتزلة ، رقعة إلي المتوكل يقول فيها : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة ، فكتب فيها المتوكل ، أما المأمون فانه خلط الحق بالباطل ، فسلط الناس على نفسه ، وأما أبي المعتصم ، فإنه كان رجل حرب ، ولم يكن له بصر بالكلام ، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ، ثم أمر أن يضرب الرجل ، الذي رفع إليه الرقعة ، مائتي سوط ، فأخذه عبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم ، فضربه خمسَمائة سوط ، فقال له الخليفة ، لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال : مائتين لطاعتك ، ومائتين لطاعة الله ، ومائة لكونه قذف الشيخ الصالح أحمد بن حنبل .
وقد كتب الخليفة المتوكل إلي أحمد ، يسأله عن القول في القرآن ، سؤال استرشاد واستفادة ، لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد ، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة ، فيها آثار عن الصحابة وغيرهم ، قال عبد الله بن أحمد : كتب عبيد الله بن يحيي بن خاقان إلي أبي ، يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسالك عن القران ؟ لا مسالة امتحان لكن مسالة معرفة وتبصرة ، فأملي أبي إلي عبيد الله بن يحيي ، بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك في الأمور كلها ، ودفع عنك المكاره برحمته ، قد كتبت إليك رضي الله عنك ، بالذي سال عنه أمير المؤمنين في القران ، وإني أسال الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين ، فقد كان الناس في خوض من الباطل ، واختلاف شديد ينغمسون فيه حتى أفضت الخلافة إلي أمير المؤمنين ، فنفي الله به كل بدعة ، وانجلي عن الناس ما كانوا فيه من الذل ، وضيق المحابس فصرف الله ذلك كله ، وذهب به بما مكن به أمير المؤمنين ، ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما ، ودعوا الله لأمير المؤمنين ، وأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء ، وأن يعينه على ما هو عليه ، فقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه يوقع الشك في قلوبكم ) .
واشتد المرض على الإمام أحمد بن حنبل ، قال ابنه صالح بن أحمد : كان مرضه في أول ربيع الأول سنة مائتين وواحد وأربعين ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم ضعيف ، ضيق النفس ، واجتمع الناس من الأكابر والعامة بالآلاف ، اجتمعوا حول بيته لعيادته ، وكتب الإمام أحمد وصيته ، جاء فيها : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصي به أحمد بن حنبل ، أوصي أنه يشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدي ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأوصي من أطاعه من أهله وقرابته ، أن يعبدوا الله في العابدين ، وأن يحمدوه في الحامدين ، وأن ينصحوا المسلمين ، وأوصي أني قد رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وأوصي بالصدقة من ماله على من شاء .. ثم استدعي بالصبيان من ورثته ، فجعل يدعو لهم ، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما ، فسماه سعيدا ، وكان له ولد آخر اسمه محمد ، قد مشي حين مرض ، فدعاه والتزمه وقبله ، ثم قال : ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ؟ فقيل له ، ذرية تكون من بعدك يدعون لك ، فجعل يحمد الله تعالى ) .
وقال المروذى مرض أحمد تسعة أيام ، وكان ربما أذن للناس فيدخلون عليه ، أفواجا يسلمون ويرد بيده ، وتسامع الناس بمرضه وتكاثروا على بيته ، وسمع السلطان بكثرة الناس فوكل الحرس ببابه ، وعلى أبواب الشوارع المؤدية إلي بيته ، من شدة الزحام وترتبا للنظام ، فكان الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة ، وكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه ، ربما دخل من بعض الدور وطرز الحاكة وربما تسلق ، وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب ، وجاءه حاجب الأمير ، فقال : إن الأمير يقرئك السلام ، وهو يشتهي أن يراك ، فقال : هذا مما اكره وأمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره ، قال صالح بن أحمد : ودخل على أبي مجاهد بن موسي ، فقال : يا أبا عبد الله ، قد جاءتك البشري ، هذا الخلق يشهدون لك ، ما تبالي لو وردت على الله الساعة ، وجعل يقبل يده ويبكي ، ويقول : أوصني يا أبا عبد الله ، فأشار إلي لسانه .

خالد مسعد .
27-12-2009, 02:54 PM
وكان أصحاب الخبر يكتبون إلي العسكر ، والبريد يتواصل كل يوم ، وجاء بنوا هاشم فدخلوا عليه ، وجعلوا يبكون عليه ، وجاء قوم من القضاة وغيرهم ، فلم يؤذن لهم ، ودخل عليه شيخ فقال : اذكر وقوفك بين يدي الله ، فشهق أبو عبد الله ، وسالت دموعه ، وأشار إلي أهله أن يوضئوه ، فجعلوا يوضئونه ، وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي ، وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك ، فما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ، فصاح الناس بالدعاء ، وعلت الأصوات بالبكاء ، حتى كأن الدنيا قد ارتجت ، والشوارع السكك قد امتلات ، والناس يدعون له ، ويترحمون عليه فرحمه الله رحمة واسعة ، وقد أمر الخليفة أن يبعثوا له الكفن ، فردها أولاد الإمام وقالوا : إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره ، وأبوا أن يكفنوه بهذه الأكفان ، وكفنوه بثوب غزلته جاريته ، وخرج الناس بنعشه ، والخلائق من حوله ، الرجال والنساء ، لا يعلم عددهم إلا الله ، وقد اجتمع عليه من الناس قرابة المليونين ونصف للصلاة عليه ، وقد أعاد جماعة عند القبر بعد أن دفن الصلاة عليه ، وذلك لعدم وجود المكان .
ولم يتسقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر ، وذلك لكثرة الخلق الذين اجتمعوا من كل مصر ، وكان أحمد رحمه الله يقول : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز ، يعني أن أهل العلم يحمدون عند موتهم ، بذكر موقفهم من التمسك بالسنة ، ومحاربة البدع والتفاف الناس حول آرائهم ، وقد بدا ذلك جليا يوم موت الإمام أحمد ، حيث صلي عليه جمع من المسلمين ، لم يجتمع في جنازة من قبله لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، قال عبد الوهاب الوراق : ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الإسلام ، اجتمعوا في جنازة ، أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل .
قال أحد جيران الإمام أحمد : يوم مات أحمد بن حنبل ، وقع المأتم والنواح في المسلمين ، واليهود والنصارى والمجوس ، وأسلم يوم مات عشرون ألفا ، وقد جاء كتاب المتوكل على الله إلي نائبه في بغداد ، بالعزاء وتعزية أولاده وأمر بحمل كتبه إلي دار الخلافة ، فأبي أولاده وبقيت عندهم .
قال محمد بن خزيمة : لما مات أحمد بن حنبل ، اغتممت غما شديدا ، فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته ، فقلت له : يا أبا عبد الله أي مشية هذه ؟ فقال : مشية الخدام في دار السلام ، فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي وتوجني ، وألبسني نعلين من ذهب ، وقال لي : يا أحمد هذا بقولك القرآنُ كلامي ، يا أحمد هذه الجنة ، قم فادخلها ، فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري ، وله جناحان أخضران ، يطير بهما من نخله إلي نخلة ، ومن شجرة إلي شجرة ، وهو يقول : ( الحَمْدُ للهِ الذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ ) (الزمر:74) هذا إكرام الله للمؤمنين ، وإنعامه على الموحدين ، أكرمهم في الدنيا والآخرة .
والآن ، كيف يكون انتقام الله لأهل الإيمان ، من أهل الظلم والطغيان ؟ دخل عبد العزيز الكناني على الخليفة المتوكل فقال : يا أمير المؤمنين ، ما رأيت أعجب من أمر الواثق ، *** أحمد بن نصر الخزاعي ، وكان لسانه يقرأ القرآن ، فوجل المتوكل من كلامه ، وساءه ما سمع في أخيه الواثق ، فلما دخل عليه وزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات ، قال له المتوكل : في قلبي شيء من *** أحمد بن نصر ، فقال يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار ، إن أمير المؤمنين الواثق ***ه كافرا مرتدا ، ودخل عليه هرثمة ، فقال قال له المتوكل : في قلبي شيء من *** أحمد بن نصر ، فقال هرثمة : يا أمير المؤمنين ، قطعني الله إربا إربا ، إن أمير المؤمنين الواثق ***ه كافرا مرتدا ، ودخل عليه الخبيث أحمد بن أبي داؤد فقال قال له المتوكل : في قلبي شيء من *** أحمد بن نصر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ضربني الله بالفالج بالشلل إن أمير المؤمنين الواثق ***ه كافرا مرتدا .
انظروا إلي انتقام الله من الظالمين في الدنيا قبل عذاب الآخرة : أمر الخليفة المتوكل على الله ، بالقبض على الوزير ابن الزيات وزير الواثق ، أمر بالقبض عليه بسرعة ، فطلبه الجند ليحضر إلي الخليفه ، فركب إليه بعد غدائه ، وهو يظن أن الخليفة بعث إليه ، فانتهي به الرسول إلي دار أمير الشرطة ، فاعتقلوه وقيدوه وأخذوه على الفور إلي منزله ، وأخذوا جميع ما فيها من الأموال ، واللآلئ والجواهر ، والجواري والأثاث ، ووجدوا في مجلسه الخاص ، آلات الشرب وكاسات الخمر ، وأمر المتوكل أيضا بمصادرة أمواله ومحاصيله وضياعه بمدينة سري من رأي ، وأمر جنده أن يعذبوه ، كما عذب العلماء ، وساهم في ضربهم و***هم ، وصلبهم وتعليق رؤوسهم ، ثم منعوه من الكلام ، ونخسوه بالحديد كلما أراد أن ينام ، ومكث على هذا الحال عدة أيام ، ثم وضعوه بعد ذلك على خشب فيه مسامير ، وأوقفوه عليه ، ومنعوه من الجلوس أو النوم ، ثم أحرقوه في فرن أو تنور ، ثم أخرجوه من التنور مشويا ، وكان فيه رمق فضرب على بطنه ، ثم على ظهره حتى مات ، ثم سلموا جثته إلي أولاده فدفنوه ، فنبشت الكلاب جثته ، فأكلت ما بقي من لحمه وجلده ، وقد سبق أن الخليفة المتوكل ، سأله عن *** أحمد بن نصر الخزاعي : فقال : يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار ، إن أمير المؤمنين الواثق ***ه كافرا مرتدا ، يقول المتوكل : فأنا أحرقته بالنار .
ماذا حل بالظالمين الذين أرادوا أفسدوا على المسلمين عقيدتهم ، بأهوائهم وبدعتهم ، وبعد مهلك الوزير ابن الزيات ، أخرج الخليفة المتوكل رأس الفتنة أحمد ابن أبي داؤد ، أخرجه من مدينة سر من رأي إلي بغداد ، وذلك بعد أن أشهد عليه نفسه ، ببيع ضياعه وأملاكه ، ورد أمواله إلي بيت المال ، يرد جميع الأموال التي سرقها من بيت المال ، فاهتم واغتم وأصابه الشلل ، وأصبح عبرة للناس ببدعته ، لا يجد من يقوم على خدمته ، أو مساعدته في قضاء حاجته ولم يزل مشلولا أربعة أعوام ، وكل من يراه يقول انتقام ، انتقام الله للإمام ، العالم الجليل أحمد بن حنبل ، والشهيد الكبير أحمد بن نصر ، ظل هذا الخبيث الذي أذاق الأمة ألوان الابتلاءات ، ظل يصارع الألم والمرض حتى مات ، وهو الذي قال : أصابني الله بالشلل ، إن أمير المؤمنين الواثق ***ه كافرا مرتدا ، لما سأله الخليفة المتوكل عن *** أحمد بن نصر الخزاعي .
ولما رأي هرثة المعتزلي ما حدث لرفقائه في المذهب الاعتزالي ، فر ها ربا متخفيا ، فمر دون أن يدري بقبيلة خزاعة القبيلة التي منها أحمد بن نصر الخزاعي ، فعرفه رجل من الحي ، فقال بأعلى صوته : يا معشر خزاعة ، هذا هو الذي *** ابن عمكم أحمد بن نصر ، وقطع رأسه ، فاجتمعوا عليه وقطعوه إربا إربا ، قطعوا أوصاله ولم يتركوا شيا من جثته ، وصدق الله تعالى في قوله : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ ليَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِليْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء )
فالقرآن الكريم له منزلة في قلوب المسلمين لا يزعزعها قوة ، ولا يزلزلها بدعة ، مهما فعل المفتونون ، ومهما أيدهم الظالمون ، فالقرآن الكريم هو كلام الله المعجز ، المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين ، بواسطة الأمين جبريل عليه السلام ، المكتوب في المصاحف ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتعبد بتلاوته ، والمبدوء بسورة الفاتحة ، والمختتم بسورة الناس ، وقد تلقاه النبي صلي الله عليه وسلم بحروفه وألفاظه عن رب العزة ، هذه مسألة مسلمة عند جميع الصحابة والتابعين وأئمة السلف الصالحين ، فالقرآن له مكانة عظيمة في قلوب المسلمين ، والسلف جميعا يؤمنون بأنه كلام رب العالمين ، تكلم به إلي جبريل الأمين ، ونقله بحروفه إلي سيد الأنبياء والمرسلين .
بدعة كبري زعموا فيها أن الله لا يتكلم ولم يتكلم بالقرآن ، وأن الذي تكلم بحروفه وأصواته هو جبريل أو محمد صلي الله عليه وسلم ، وبنوا على هذا الأصل الفاسد أن القرآن مخلوق لأن كلام المخلوق مخلوق ، كانت بداية المحنة التي فرضها خلفاء السوء من المعتزلة سنة 218 هـ ، واستمرت أيام الخليفة المأمون والمعتصم والواثق ثم رفعت في عهد المتوكل سنة 232هـ ، هذا الخليفة الذي انتصر لأهل السنة ، وأكرم إمامهم الذي عذبوه أحمد بن حنبل ، وأنهي عهد البؤس ، الذي سيطرت فيه المعتزلة على الحكم ، وفرضوا عقائدهم بالقوة والظلم ، بدعة كبري قيل فيها : ( أبو بكر ليوم الردة وعمر ليوم السقيفة وأحمد ليوم البدعة ) .
فأخطر شيء على دين الله البدعة وترك السنة ، يقول بعض التابعين : كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل الصلاة ، فإذا خرج مشينا معه إلي المسجد ، فجاءنا أبو موسي الأشعري فقال : أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد ، يقصد عبد الله بن مسعود ، قلنا : لا ، فجلس معنا حتى خرج ، فلما خرج قمنا إليه جميعا ، فقال : يا أبا عبد الرحمن أني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ، ولم أر والحمد لله إلا خيرا ، قال فما هو ؟ قال : إن عشت فستراه ، قال : رأيت في المسجد قوما حُلُقَاً جُلُوساً ، ينتظرون الصلاة ، في كل حلقة رجل ، وفي أيديهم حصي فيقول : كبروا مائة فيكبرون مائة فيقول هللوا مائة فيهللون مائة فيقول سبحوا مائة فيسبحون مائة ، قال ابن مسعود لأبي موسي الأشعري ، فماذا قلت لهم ؟ قال : ما قلت لهم شيئا ، انتظرك رأيك أو انتظر أمرك ، فقال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيآتهم ، فأنا أضمن لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء ، ثم مضي ومضينا معه ، حتى أتي حلقة فوقف عليهم ، فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟
قالوا : يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل ، والتسبيح والتحميد ، قال : فعدوا سيئاتكم ، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكَتُكُم ، هؤلاء أصحابة متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده ، إنكم لعلى ملة هي أهدي من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة ، قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير ، فقال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ، إن رسول الله صلي الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم ، ثم تولي عنهم ، يقول عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك يطاعنونا يوم النهر مع الخوارج .
تفوز بنا المنون وتستبد ويأخذنا الزمان ولا يرد - وانظر ماضيا في أثر ماض لقد أيقنت أن الأمر جد - رويدا بالفرار من المنايا فليس يفوتها الساري المجد - فأين ملوكُنا الماضون قُدُمَا اعدوا للنوائب واستعدوا - أعارهم الزمان نعيم عيش فيا سرعان ما استلبوا ورُدُّوا - هم فرط لنا في كل يوم ، نمدهم وإن لم يُسْتَمَدُّوا .
إخواني في الله ، إخواني ذهبت الأيام ، وكتبت الآثام ، ولا ينفع الملام ، وعظتنا بمرها الأيام ، فيا ليت شعري كيف يتقي المرء ، والرامي له الموت ، والخطوب سهام ، منهل واحد ، أسبابه شتي ، عليه للواردين ازدحام ، نتلاشاه ما استطعنا ، وتجررنا إليه الأيام والأعوام ، أوقوفا على غَرُورٍ ، وقد زلت قبلنا الأقدام ، ووراء هذه الأجداثِ دارٌ يكون فيها المقام ، فكن عبد الله متيقظا والسلام ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .