خالد مسعد .
27-12-2009, 02:55 PM
البدعة الكبرى– المحاضرة العاشرة
العقيدة بعد رفع المحنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون ) أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
فإن البدعة هي كل حدث في الدين بعد كماله وتمامه ، وهي ما لم يكن في عصر النبي صلي الله عليه وسلم ، مما فعله أو أقر عليه ، أو أذنت فيه شريعته ، أو ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، مما أجمعوا عليه قولا أو فعلا أو تقريرا ، وأصل كلمة البدعة من الاختراع ، وهو الشيء الذي يحدث ، من غير أصل سابق ، ولا مثالٍ محتذي ، ولا أُلف مثلُه ، ومنه قولهم أبدع الله الخلق أي خلقهم ابتداء ، ومنه قوله تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَي أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة:117) وقوله : ( قُل مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل ) (الاحقاف:9) والبدعة يدخل فيها ما تخترعه القلوب من عقائد ، وما تنطق به الألسنة ، وما تفعله الجوارح من طاعة بلا دليل عليها من كتاب أو سنة ، قال معاذ رضي الله عنه : إن من ورائكم فتن يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والعبد والحر ، فيوشك أن يقول قائل : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ، ما هم بمتبعي ، حتى ابتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإنما ابتدع ضلالة ، واحذروا زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق .
لقد وقف الإمام أحمد بن حنبل لأهل البدعة وقفة ، يضرب بها المثل في الثبات على الحق ، والتمسك بالسنة ، فما قام أحد في الإسلام ، كما قام أحمد بن حنبل ، إلا أن البلاء استمر بعد خلافة المعتصم إلي عهد ولده الواثق ، فلا زال القول بخلق القرآن ، واعتماد عقيدة المعتزلة ، هو المنهج الرسمي لسياسة الدولة ، وأعاد الواثق امتحان الناس مرة أخرى كما فعل أبوه ، وابتلي بذلك خلق كثير في هذه البدعة الكبرى ، حتى قتل العالم الجليل أحمد بن نصر الخزاعي ، رحمه الله وأكرم مثواه ، وقد علق الواثق جثته في سري من رأي ، ورأسه في بغداد لست سنوات .
هذه البدعة الكبرى التي امتحن فيها الناس ، سببها هو المنهج العقلي الذي سلكه أهل الضلال من الاعتزال ، والذي زعموا فيه أنهم يجتهدون في دين الله ، فكان اجتهادهم الباطل في نفي أوصاف الله ورد ما دلت عليه النصوص ، ويا ليتهم ما اجتهدوا ، فقد كان اجتهادهم بلاء على الأمة ، ورفع لراية البدعة ، وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم أمته من البدع ، وحذرهم من محدثات الأمور ، وأمرهم بالاتباع الذي فيه النجاةُ من كل محذور ، وقد جاء في كتاب الله تعالى الأمر بالاتباع وترك الابتداع ، يقول تعالى : ( قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31) وقال تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلهِ ذَلكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153) قال المفسرون في قول الله تعالى : ( ولا تتبعوا السبل ) البدع والشبهات والشهوات ، وقال عز وجل : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلي اللهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء:59) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمه قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، وفي رواية يهتدون بهدية ويستنون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .
وما أحسن ما قاله إبراهيم النخعي : ( ما أعطاكم الله خيرا خبيء عن أصحاب رسوله وخيرته من خلقه ) وهو يشير بذلك إلي ترك الغلو في الدين وإلى الاقتداء بعلماء السلف الصالحين ، وقد قال الله تعالى : ( يَا أَهْل الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا على اللهِ إِلا الحَقَّ ) (النساء:171) فكل من فعل أمرا موهما أنه مشروع وليس كذلك فهو غال في دينه ، مبتدع فيه ، قائل على الله غير الحق ، بلسان مقاله أو لسان حاله ، كما فعل المعتزلة بالمسلمين .
جاء رجل إلي الإمام مالك بن أنس فقال : من أين أحرم ؟ فقال : من الميقات الذي وقت رسول الله وأحرم منه فقال الرجل فإن أحرمت من أبعد منه فقال مالك لا أري ذلك فقال ما تكره من ذلك قال أكره عليك الفتنة قال وأي فتنة في ازدياد الخير ، فقال مالك : فإن الله تعالى يقول : ( فَليَحْذَرِ الذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (النور:63) وأي فتنة أعظم من أن تري أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله ، وأي فتنة أ كبر من أنك خصصت نفسك بفضل لم يختص به رسول الله .
واعلموا عباد الله أن حيث الأمر إذا ورد بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحق واتباعة ، وإن كان المتمسك بالحق قليلا والمخالف كثيرا لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولي من النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا ننظر إلي كثرة أهل الباطل بعدهم ، قال عمر بن ميمون الأودي : صحبت معاذا باليمن ، فما فارقته حتى واريته التراب بالشام ، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود ، فسمعته يقول عليكم بالجماعة ، فإن يد الله على الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها ، فهي الفريضة وصل معهم فإنها لك نافلة ، قال عمر بن ميمون لعبد الله بن مسعود قلت : يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثون قال عبد الله : وما ذاك ؟
قلت : تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة ، قال عبد الله بن مسعود : يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية ، تدري ما الجماعة قلت لا قال إن جمهور الناس فارقوا الجماعة ، وأن الجماعة ما وافق الحق وأن كنت وحدك ، وفي رواية يقول عمرو بن ميمون فقال : ابن مسعود وضرب على فخذي ويحك أن جمهور الناس فارقوا الجماعة وأن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى ، يقول نعيم ابن حماد يعني عبد الله إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وأن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة .
والبدعة الكبرى التي حدثت في تاريخ المسلمين في القرن الثالث الهجري والتي تعد من أبرز الأحداث التاريخية في ابتلاء أصحاب العقيدة السلفية ، هزت كيان الأمة وظهر مصطلح جديد لم يكن من قبل هو مصطلح الخلف في مقابل السلف ، فأصبح مصطلح السلف يطلق على كل من عاصر الفترة الزمنية التي تسمي بعصر خير القرون ، وكان منهجه تقديم النقل على العقل وتقديم الرأي والهوى ، فلا بد أن يتحقق في مصطلح السلف عاملان :
أولا – العامل الزمني : وهو إدراك الفترة الزمنية التي حددها رسول الله بالقرون الثلاثة الفاضلة ، فعند البخاري من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال صلي الله عليه وسلم: ( خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، قَال عِمْرَانُ : لا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً ، قَال صلي الله عليه وسلم : إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ) وعنده أيضا من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، فَلا أَدْرِي فِي الثَّالثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَال : ثُمَّ يَتَخَلفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلفٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهـ) والقرن قد يطلق على المائة عام وقد يطلق على أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلت السنون أو كثرت ، وكأنه مشتق من الاقتران .
ثانيا - العامل المنهجي : ويتمثل في طريقتهم التي فهموا بها القرآن والسنة وبلغوا من خلالها أعلى درجات الإسلام والإيمان ، فهم يعتقدون أنه لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح ، وأن العقل يشهد للنقل ويؤيده وأن الإنسان لو اتبع النقل اتباعا كاملا فهو المهتدي بنور الحق وهو بذلك من أسعد الخلق ، وأن الذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده فإذا عرفنا الله بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما غاب عنا في عالم الغيب أو في عالم الشهادة ، وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يفعل كما فعل سلفنا الصالح ، يصدق بالمنقول عن الرسول صلي الله عليه وسلم تصديقا جازما يبلغ حد اليقين ولا يعارض ذلك بعقله ورأيه لأن مهمة العقل تجاه النقل تصديق الأخبار وتنفيذ الأوامر ، ومن المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت ، بل العقل يشهد للنقل ويؤيده ، والسبب في ذلك أن المصدر واحد فالذي خلق العقل هو الله والذي أرسل إليه النقل هو الله ، وهو سبحان أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل آن ، فإذا وضع نظاما لتشغيل صنعته وألزم الإنسان بشريعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقي أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله ومنهجه ، كما قال : ( فَإِمَّا يَأْتِينَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَي )(طه/124:123) ، وقال أيضا : ( قَدْ جَاءكُمْ مِنْ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُل السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلي النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (المائدة/16:15) .
ولو ظهر الخلل والتعارض بين العقل والنقل ، فلن يكون ذلك بسبب نظام التوجيه الذي وضعه الله في شرعه وما نقل عن نبيه صلي الله عليه وسلم، ولكن السبب قلة الالتزام به وعدم العمل بمنهج الله والعدول عنه إلي نظم قاصرة من وضع العقول البشرية ، أو اتباع الآراء الوهمية .
وإذا تعارض العقل والنقل لجهل العقل بما ورد في النقل وغياب الفهم الصحيح للأدلة ، وجب على المسلم العاقل قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقي الله ولا يقدم عقله وهواه على كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه تصديق المنقول إذا كان خبرا وتنفيذه إذا كان أمرا ، ومن ثم فإن الله إذا عرفنا بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما في عالم الغيب أو عالم الشهادة وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يصدق بالمنقول عن الرسول صلي الله عليه وسلم تصديقا جازما يبلغ حد اليقين الذي ينافي الشك ، ولا يرد الأدلة ويعطلها زاعما أنه من أصحاب المدرسة العقلية التي تحكِّم العقل في كل شيء حتى في باب الأسماء والصفات فيوجب على الله بعقله أشياء ويجوز له من الصفات ما يشاء ويجعل ما نزل من السماء في الصفات الخبرية دربا من المستحيلات .
وقد يسمي المتمسكون بطريقة السلف سلف على اعتبار التشابه في منهج الأوائل وطريقتهم في فهم القرآن والسنة وإن كانوا خلفا للسلف من الناحية الزمنية ، وهؤلاء هم خير خلف لخير سلف بعكس الخلف من الناحية الاصطلاحية ، فالخلف اصطلاحا ، لا بد أن يتحقق فيه عاملان أيضا :
1- العامل الزمني وبدايته تقترن مع نهاية عصر خير القرون وبداية المحنة سنة 218 تقريبا عندما أصبح مذهب الدولة الرسمي في العقيدة هو المذهب الاعتزالي .
العقيدة بعد رفع المحنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون ) أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
فإن البدعة هي كل حدث في الدين بعد كماله وتمامه ، وهي ما لم يكن في عصر النبي صلي الله عليه وسلم ، مما فعله أو أقر عليه ، أو أذنت فيه شريعته ، أو ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، مما أجمعوا عليه قولا أو فعلا أو تقريرا ، وأصل كلمة البدعة من الاختراع ، وهو الشيء الذي يحدث ، من غير أصل سابق ، ولا مثالٍ محتذي ، ولا أُلف مثلُه ، ومنه قولهم أبدع الله الخلق أي خلقهم ابتداء ، ومنه قوله تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَي أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة:117) وقوله : ( قُل مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل ) (الاحقاف:9) والبدعة يدخل فيها ما تخترعه القلوب من عقائد ، وما تنطق به الألسنة ، وما تفعله الجوارح من طاعة بلا دليل عليها من كتاب أو سنة ، قال معاذ رضي الله عنه : إن من ورائكم فتن يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والعبد والحر ، فيوشك أن يقول قائل : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ، ما هم بمتبعي ، حتى ابتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإنما ابتدع ضلالة ، واحذروا زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق .
لقد وقف الإمام أحمد بن حنبل لأهل البدعة وقفة ، يضرب بها المثل في الثبات على الحق ، والتمسك بالسنة ، فما قام أحد في الإسلام ، كما قام أحمد بن حنبل ، إلا أن البلاء استمر بعد خلافة المعتصم إلي عهد ولده الواثق ، فلا زال القول بخلق القرآن ، واعتماد عقيدة المعتزلة ، هو المنهج الرسمي لسياسة الدولة ، وأعاد الواثق امتحان الناس مرة أخرى كما فعل أبوه ، وابتلي بذلك خلق كثير في هذه البدعة الكبرى ، حتى قتل العالم الجليل أحمد بن نصر الخزاعي ، رحمه الله وأكرم مثواه ، وقد علق الواثق جثته في سري من رأي ، ورأسه في بغداد لست سنوات .
هذه البدعة الكبرى التي امتحن فيها الناس ، سببها هو المنهج العقلي الذي سلكه أهل الضلال من الاعتزال ، والذي زعموا فيه أنهم يجتهدون في دين الله ، فكان اجتهادهم الباطل في نفي أوصاف الله ورد ما دلت عليه النصوص ، ويا ليتهم ما اجتهدوا ، فقد كان اجتهادهم بلاء على الأمة ، ورفع لراية البدعة ، وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم أمته من البدع ، وحذرهم من محدثات الأمور ، وأمرهم بالاتباع الذي فيه النجاةُ من كل محذور ، وقد جاء في كتاب الله تعالى الأمر بالاتباع وترك الابتداع ، يقول تعالى : ( قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31) وقال تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلهِ ذَلكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153) قال المفسرون في قول الله تعالى : ( ولا تتبعوا السبل ) البدع والشبهات والشهوات ، وقال عز وجل : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلي اللهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء:59) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمه قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، وفي رواية يهتدون بهدية ويستنون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .
وما أحسن ما قاله إبراهيم النخعي : ( ما أعطاكم الله خيرا خبيء عن أصحاب رسوله وخيرته من خلقه ) وهو يشير بذلك إلي ترك الغلو في الدين وإلى الاقتداء بعلماء السلف الصالحين ، وقد قال الله تعالى : ( يَا أَهْل الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا على اللهِ إِلا الحَقَّ ) (النساء:171) فكل من فعل أمرا موهما أنه مشروع وليس كذلك فهو غال في دينه ، مبتدع فيه ، قائل على الله غير الحق ، بلسان مقاله أو لسان حاله ، كما فعل المعتزلة بالمسلمين .
جاء رجل إلي الإمام مالك بن أنس فقال : من أين أحرم ؟ فقال : من الميقات الذي وقت رسول الله وأحرم منه فقال الرجل فإن أحرمت من أبعد منه فقال مالك لا أري ذلك فقال ما تكره من ذلك قال أكره عليك الفتنة قال وأي فتنة في ازدياد الخير ، فقال مالك : فإن الله تعالى يقول : ( فَليَحْذَرِ الذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (النور:63) وأي فتنة أعظم من أن تري أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله ، وأي فتنة أ كبر من أنك خصصت نفسك بفضل لم يختص به رسول الله .
واعلموا عباد الله أن حيث الأمر إذا ورد بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحق واتباعة ، وإن كان المتمسك بالحق قليلا والمخالف كثيرا لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولي من النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا ننظر إلي كثرة أهل الباطل بعدهم ، قال عمر بن ميمون الأودي : صحبت معاذا باليمن ، فما فارقته حتى واريته التراب بالشام ، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود ، فسمعته يقول عليكم بالجماعة ، فإن يد الله على الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها ، فهي الفريضة وصل معهم فإنها لك نافلة ، قال عمر بن ميمون لعبد الله بن مسعود قلت : يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثون قال عبد الله : وما ذاك ؟
قلت : تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة ، قال عبد الله بن مسعود : يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية ، تدري ما الجماعة قلت لا قال إن جمهور الناس فارقوا الجماعة ، وأن الجماعة ما وافق الحق وأن كنت وحدك ، وفي رواية يقول عمرو بن ميمون فقال : ابن مسعود وضرب على فخذي ويحك أن جمهور الناس فارقوا الجماعة وأن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى ، يقول نعيم ابن حماد يعني عبد الله إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وأن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة .
والبدعة الكبرى التي حدثت في تاريخ المسلمين في القرن الثالث الهجري والتي تعد من أبرز الأحداث التاريخية في ابتلاء أصحاب العقيدة السلفية ، هزت كيان الأمة وظهر مصطلح جديد لم يكن من قبل هو مصطلح الخلف في مقابل السلف ، فأصبح مصطلح السلف يطلق على كل من عاصر الفترة الزمنية التي تسمي بعصر خير القرون ، وكان منهجه تقديم النقل على العقل وتقديم الرأي والهوى ، فلا بد أن يتحقق في مصطلح السلف عاملان :
أولا – العامل الزمني : وهو إدراك الفترة الزمنية التي حددها رسول الله بالقرون الثلاثة الفاضلة ، فعند البخاري من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال صلي الله عليه وسلم: ( خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، قَال عِمْرَانُ : لا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً ، قَال صلي الله عليه وسلم : إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ) وعنده أيضا من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، فَلا أَدْرِي فِي الثَّالثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَال : ثُمَّ يَتَخَلفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلفٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهـ) والقرن قد يطلق على المائة عام وقد يطلق على أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلت السنون أو كثرت ، وكأنه مشتق من الاقتران .
ثانيا - العامل المنهجي : ويتمثل في طريقتهم التي فهموا بها القرآن والسنة وبلغوا من خلالها أعلى درجات الإسلام والإيمان ، فهم يعتقدون أنه لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح ، وأن العقل يشهد للنقل ويؤيده وأن الإنسان لو اتبع النقل اتباعا كاملا فهو المهتدي بنور الحق وهو بذلك من أسعد الخلق ، وأن الذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده فإذا عرفنا الله بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما غاب عنا في عالم الغيب أو في عالم الشهادة ، وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يفعل كما فعل سلفنا الصالح ، يصدق بالمنقول عن الرسول صلي الله عليه وسلم تصديقا جازما يبلغ حد اليقين ولا يعارض ذلك بعقله ورأيه لأن مهمة العقل تجاه النقل تصديق الأخبار وتنفيذ الأوامر ، ومن المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت ، بل العقل يشهد للنقل ويؤيده ، والسبب في ذلك أن المصدر واحد فالذي خلق العقل هو الله والذي أرسل إليه النقل هو الله ، وهو سبحان أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل آن ، فإذا وضع نظاما لتشغيل صنعته وألزم الإنسان بشريعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقي أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله ومنهجه ، كما قال : ( فَإِمَّا يَأْتِينَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَي )(طه/124:123) ، وقال أيضا : ( قَدْ جَاءكُمْ مِنْ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُل السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلي النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (المائدة/16:15) .
ولو ظهر الخلل والتعارض بين العقل والنقل ، فلن يكون ذلك بسبب نظام التوجيه الذي وضعه الله في شرعه وما نقل عن نبيه صلي الله عليه وسلم، ولكن السبب قلة الالتزام به وعدم العمل بمنهج الله والعدول عنه إلي نظم قاصرة من وضع العقول البشرية ، أو اتباع الآراء الوهمية .
وإذا تعارض العقل والنقل لجهل العقل بما ورد في النقل وغياب الفهم الصحيح للأدلة ، وجب على المسلم العاقل قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقي الله ولا يقدم عقله وهواه على كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه تصديق المنقول إذا كان خبرا وتنفيذه إذا كان أمرا ، ومن ثم فإن الله إذا عرفنا بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما في عالم الغيب أو عالم الشهادة وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يصدق بالمنقول عن الرسول صلي الله عليه وسلم تصديقا جازما يبلغ حد اليقين الذي ينافي الشك ، ولا يرد الأدلة ويعطلها زاعما أنه من أصحاب المدرسة العقلية التي تحكِّم العقل في كل شيء حتى في باب الأسماء والصفات فيوجب على الله بعقله أشياء ويجوز له من الصفات ما يشاء ويجعل ما نزل من السماء في الصفات الخبرية دربا من المستحيلات .
وقد يسمي المتمسكون بطريقة السلف سلف على اعتبار التشابه في منهج الأوائل وطريقتهم في فهم القرآن والسنة وإن كانوا خلفا للسلف من الناحية الزمنية ، وهؤلاء هم خير خلف لخير سلف بعكس الخلف من الناحية الاصطلاحية ، فالخلف اصطلاحا ، لا بد أن يتحقق فيه عاملان أيضا :
1- العامل الزمني وبدايته تقترن مع نهاية عصر خير القرون وبداية المحنة سنة 218 تقريبا عندما أصبح مذهب الدولة الرسمي في العقيدة هو المذهب الاعتزالي .