مشاهدة النسخة كاملة : العقيدة بعد أبي الحسن الأشعري


خالد مسعد .
27-12-2009, 03:35 PM
دكتور محمود عبد الرازق الرضواني - استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة

العقيدة بعد أبي الحسن الأشعري

المحاضرة الأولي

الحمد لله الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والكمال والجمال ، والنعم والأفضال ، سبحانه هو العلي الكبير ، هو العليم القدير ، هو اللطيف الخبير ، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، أحمده حمد المعترف بالعجز والتقصير ، وأشكره على ما أولانا من نعم وفضل كبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلى كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) (الأحزاب:70) ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ) (آل عمران:102) أما بعد ..
فحديثنا اليوم عن عقيدة السلف بعد موت أبى الحسن الأشعري صاحب المنهج السلفي ، فقد ظل أمر العقيدة بعد موت أبى الحسن الأشعري ، وعلماء الخلف من الأشعرية كالقاضي أبى بكر الباقلاني : (402هـ) ، وكأبى إسحاق الإسفراييني : ( ت418هـ) وكأبي إسحاق الشيرازي : (476هـ ) ، وإمام الحرمين أبو المعالي الجو يني : (478هـ ) وفخر الدين الرازي ( 606هـ) وكأبي حامد الغزالي الصوفي : (505هـ) ، والآمدي والإيجي وابن فورك والجو يني والشهرستانى وغيرهم من علماء الخلف الأشعرية ، هؤلاء يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض والتفويض هو القول بأن معنى النص غير معروف عند السلف وأنهم لا يعلمون معناه وأنهم فوضوا العلم به إلى الله أو ردوا العلم بالمعنى إلى الله لعدم علمهم به كالأعجمي حين ينظر إلى القرآن ، والأمر ليس كذلك كما سنرى فالسلف فوضوا العلم بالكيفية إلى الله أو ردوا العلم بكيفية الصفات إلى الله أما المعنى فهو معلوم واضح ، هؤلاء يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض في المعنى وأن المذهب المنسوب إلى أبى الحسن الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة مذهب الخلف الذين يقولون بالتأويل وأن النصوص القرآنية والنبوية في الغيبيات والأسماء والصفات ، موهمة للتشبيه ومتشابهات ، وبقى الحال على ذلك عند أغلب الناس حتى الآن ، فأغلب الناس الآن على عقيدة التفويض بظنهم الخاطيء في عقيدة السلف .
وقد اشتبه على كثير من إخواننا الذين نحسبهم على خير في كل ما يبذلونه لخدمة دينهم ورفعة إسلامهم اشتبه عليهم مذهب السلف في قضية التفويض ، حيث ظنوا أن مذهب السلف في نصوص الصفات أو ما يطلقون عليه الصفات الخبرية أو النصوص الموهمة للتشبيه هو تفويض معاني النصوص والكف عن طلب العلم بها ، ويجعلون دليلهم في ذلك ما ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أن رجلا جاءه وقال له : يا أبا عبد الله ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) (طه:5) كيف استوى ؟! ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج .
والحقيقة أننا إذا دققنا النظر في قول مالك رحمه الله علمنا أنه فرق في جوابه بين أمرين أساسيين هما أصل الفهم الذي امتاز به السلف الصالح في باب الصفات :الأمر الأول : معنى الاستواء على العرش أو معنى الصفات بوجه عام ، والأمر الثاني : كيفية الاستواء على العرش أو كيفية الصفات بوجه عام .
فالمعنى الوارد في نصوص الكتاب والسنة يستوعبه الذهن من خلال الألفاظ العربية التي نزل بها الوحي ، أما الكيفية فهي المدلول الحقيقي الذي ينطبق عليه اللفظ ، فلفظ الاستواء في الآية لفظ ينطبق على صفة لله لها كيفية تليق بجلاله ، ونحن ما رأيناها لقوله : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَمُوتَ ) مسلم ، وما رأينا لها مثيلا نصفها من خلاله لقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) فاللفظ دل على إثبات مدلول حقيقي وهو وصف الله الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بوجوده ، ولما غضب الإمام مالك على السائل غضب لأنه جاء يسأل عن كيفية الاستواء الغيبية التي تخرج عن إدراك أجهزة الحواس البشرية ، ولا يمكن للإمام مالك أن يخترع له جوابا يصف فيه الكيفية التي عليها استواء الله على العرش لعلمه أن ذلك قول على الله بلا علم ، وهو محرم بل جرم كبير لقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ، وقال أيضا : ( قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .
فالإنسان محاسب مسئول على قول الباطل وشهادة الزور لاسيما إذا كان القول على الله بلا علم ، أما لو جاء السائل مالكا يسأله عن معنى الاستواء في لغة العرب التي خاطبنا الله بها أو سأله عن الآية : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ما الذي تضيفه للمسلم في موضوع الإيمان بالله ؟ لما غضب عليه مالك ، إذ أن حق السائل على أهل العلم أن يفهم معاني آيات القرآن ونصوص السنة ، وقد أمره الله بذلك فقال : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) والجواب عند ذلك بيِّن واضح مفهوم ، ولن يعجز الإمام مالك عن جوابه إذ أن استواء الله على عرشه له وجود حقيقي ويعنى في اللغة العلو والارتفاع ، تماما مثلما يسأل صاحب اللسان الأعجمي عن ترجمة هذه الآية ، فإن المترجم لن يترجم له وصف كيفية الاستواء ولا يمكنه ذلك بحال من الأحوال ، لأنه كما سبق لم يره ولم ير له مثيلا ، وإنما سيشرح له بلغته معنى العلو والارتفاع على العرش وأن الله ليس كمثله شيء في استوائه ، ويبين له ضرورة الإيمان بوجود الاستواء وأن له كيفية معينة تليق بجلال الله يعلمها الله ولا نعلمها نحن .
فالآية أوجبت الإيمان بوجود استواء حقيقي لا نعلم كيفيته ويجب أن نسلم لله به ، وعلى ذلك فإن معتقد الإمام مالك الذي يمثل مذهب السلف الصالح هو تفويض العلم بالكيفية فقط إلى الله ، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد من مفهوم الآية ، وهذا واضح بيِّن في كلامه حيث قال : الاستواء غير مجهول أي معلوم المعنى ، والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه ، ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأشعرية بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية فإن هذا يماثل قول القائل : إن كلام الله بلا معنى ، وهذا اللازم لم يتنبه له من زعم أن مذهب السلف هو تفويض معاني النصوص لجهلهم بحقيقة المذهب السلفي فلا نظن أن أحدهم يعتقد ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقبا على قول مالك في الاستواء : ( وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول فليس في أهل السنة من ينكره وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك رحمه الله الكيف معدوم وإنما قال الكيف مجهول )
والأشعرية لما ظنوا أن نصوص الصفات الإلهية ، موهمة للتشبيه والجسمية ، تغير مفهوم المحكم والمتشابه في أذهانهم ، من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن ، آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة ، ظاهرها مراد في حق الله وليس كمثله شيء فيها ، وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا ظاهرها باطل محال يدل على التشبيه والتجسيم ، ويجب صرفها عن ظواهرها وحقائقها ، التي صوروا فيها ربهم للناس بأقبح الصورة المنفرة ، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم ، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية ، معانيها معان مجهولة أعجمية ، يفوض فيها الأمر أو العلم إلى الله ، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التمسك بمذهب السلف قالوا هذا هو مذهب السلف ، والسلف برئ منهم ومن قولهم .
فكان فهم الأشعرية للعقيدة السلفية وادعائهم أن مذهب السلف هو التفويض مرتبطا بفهمهم للمحكم والمتشابه في القرآن ، فما هي حقيقة مذهب السلف والخلف الأشعرية في فهم المحكم والمتشابه ؟ ، المحكم لغة من الحكم وهو العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم يحكم ، والمحكم الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، والمتشابه لغة : أشبه الشيء الشيء ماثله ، وشابهه أشبه ، تشابه الشيئان أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا ، والمتشابه يراد به عدة أشياء عند العلماء :
أحدها : وقوع النظم الواحد على صور شتى ، تتشابه في أمور وتختلف في أخرى ، ومن ثم يطلقون عليه متشابه النظم أو متشابه اللفظ ، ويذكر الزركشى في البرهان أن ذلك يكثر في إيراد القصص والأنباء ، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب مختلفة ، ليعلمهم عجزهم عن إنشاء مثله ابتدأ وتكررا ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة:48) ، مع قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة:123) .
المعنى الثاني للمتشابه : أن يطلق المتشابه صفة مدح لجميع القرآن ، متشابه في الحسن والبيان والجمال ، والقوة والإعجاز والكمال ولفظ المتشابه بهذا المعنى هو الوارد في قوله تعالى : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ) (الزمر:23) .
فالقرآن الكريم ذو أجزاء كلها يشبه بعضها بعضا من حيث الصحة والإحكام ، والبناء على الحق والصدق ، ومنفعته للخلق ، وتناسب ألفاظه وتناسقهما ، وبناء تراكيبه ونظمها ، وتأليف مبانيه وإعجازها ، والتشابه بهذا المعنى الذي يعم جميع القرآن ، ولا يتنافى بحال مع وصف الإحكام المذكور في قوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، والذي يعم هو الآخر القرآن الكريم بأسره ، بل يجب الأخد بكلا الوصفين جميعا في كتاب الله عز وجل دون أن يأتي كلام الحق في ذلك باطل من بين يديه أو من خلفه .
وأما الإحكام فمعناه أن أي القرآن كلها قد نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية ، أو أنها أحكمت بالحجج والدلائل ، أو جعلت حكمة ، فنقول : حُكِم إذا صار محكما ، لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية ، وإذن فالقرآن بهذا المعنى محكم في تشابهه ، متشابه في إحكامه .
المعنى الثالث للمتشابه : أن يرد لفظ المتشابه في القرآن ويقصد به بعض آيات القرآن ، في مقابل وصف البعض الآخر بالمحكم ، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان في نص واحد ، وذلك هو ما جاء في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) ، وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق ، والعلماء بعد الأشعري مختلفون اختلافا عظيما في تبيان المحكم والمتشابه على هذا المعنى ، مع أن ذلك لم يكن موجودا عند السلف كما سنرى ، لبساطة فهمهم وسلامة عقيدتهم ونقاء فطرتهم ، وهذا ما يهمنا في الموضوع .
ويذكر الشيخ أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه ، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ، وقال تعالى : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ) (الزمر:23) ، فوصف جميعه بالمتشابه ، ثم قال في موضع آخر : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) .
فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه ، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول ، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَاب ) فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا .
ويمكن بالتتبع والاستقراء حصر الأراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في النقاط الآتية : المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل وجوها فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ، المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه والمتشابه منسوخة وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به ، المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل ، المحكم ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره ، هذه آراء العلماء في المحكم والمتشابه .
وجميع الآراء في معنى المحكم والمتشابه تدور حول قضية أساسية توضح بساطة العقيدة السلفية في الصفات الإلهية ، فجميع الآراء تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح الذي يمكن تحديده وتمييزه ، كالصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها وضبط ملامحها والتمكن من وصفها ، فما لا يحتمل إلا وجها واحدا يصبح معلوما مميزا ، وقد سميت آيات الأحكام بما تحويه من أحكام أحكاما لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
كما أن المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم ، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى : ( كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (البقرة:118) ، أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعتو والعناد ، وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقوله تعالى عن بنى إسرائيل : ( إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) (البقرة:70) وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه سوف ننظر إلى تفسير الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل كلامنا ، وهى قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلبَابِ ) (آل عمران:7) .
فالأشعرية بعد الأشعري وكثير من الناس حتى عصرنا يعتبرون معاني نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله مستدلين بهذه الآية ، وهذا كلام باطل حيث يترتب علي ذلك من اللوازم الباطلة ما لا يرضاه المسلم على كلام الله وسوف يأتي بيان ذلك بإذن الله ، يقول أبو محمد بن قدامة المقدسي في لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد : ( وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفي عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله ونجعل عهدته على ناقله اتباعا لطريق الراسخين في العلم ) .
وقال الشيخ أحمد الرفاعى في المحكم والمتشابه في كتاب البرهان المؤيد : ( فعاملوا الله بحسن النيات واتقوه في الحركات والسكنات ، وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة لأن ذلك من أصول الكفر ، قال تعالى : ( فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ) والواجب عليكم وعلى كل مكلف في المتشابه الإيمان بأنه من عند الله أنزله على عبده سيدنا رسول الله وما كلفنا سبحانه وتعالى تفصيل علم تأويله ، قال جلت عظمته : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) فسبيل المتقين من السلف تنزيه الله تعالى عما دل عليه ظاهره وتفويض معناه المراد منه إلى الحق تعالى وتقدس وبهذا سلامة الدين ) .
فهؤلاء يدعون إلى ترك التأويل والبعد عن طريقة الخلف ، ويزعمون أن طريقة السلف هي الكف عن طلب معاني نصوص الصفات ، ويجعلون ذلك سبيل المتقين ظنا منهم أنها تدل على التشبيه وظاهرها باطل ، فلا هم فهموا طريقة السلف ولا صوبوا طريقة الخلف .
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هؤلاء الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) (البقرة:78) .
وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ، فهذا الظن الفاسد أوجب قولهم : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ، تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف ، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف ، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس لله صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات ، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى ، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وهى التي يسمونها طريقة السلف ، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف وهى التي يسمونها طريقة الخلف ، فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل وتعطيل السمع فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهى شبهات ، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه ، فلما بنوا أمرهم على ذلك ، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم ، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين ، بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي ، وأن الخلف الفضلاء من وجهة نظرهم حازوا قصب السبق في هذا كله .
والحقيقة أن الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران يتسم بالدقة ويتسق مع اعتقادهم في التوحيد لاسيما توحيد الصفات ، فهم لما آمنوا بصفات حقيقية جاءت بها الأدلة السمعية وفرقوا بين فهم المعنى الذي حواه اللفظ العربي وفهم الكيفية وفقوا في فهمهم للمحكم والمتشابه .
فإذا كان المحكم هو المعلوم الواضح المعنى وكان المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم على نحو ما ذكرنا وما تقدم ، فإنهم يعتبرون معاني نصوص الصفات محكمات ، والكيفية من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله .
فإذا كان معنى النص معلوما والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم كما هو الحال في جميع آيات الأحكام .
وإن كان المعنى معلوما والكيف مجهولا كان النص محكم المعنى متشابه الكيف وإذا قيل في عرفهم هذا النص متشابه فيحمل عندهم على هذا المعنى أي أنه متشابه باعتبار الكيف لا المعنى .
والنتيجة التي نصل إليها من هذا الفهم أن القرآن جميعه محكم المعنى لقوله تعالى عن جميع آيات القرآن : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، أي أحكمت باعتبار المعنى فليس في القرآن كلام بلا معنى ، أما من جهة الكيفية التي دلت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فبعضها محكم معلوم وبعضها متشابه مجهول ، وهذا المقصود بقول الإمام مالك رحمه الله : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، وهو المعنى المشار إليه في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) .
فلو سأل سائل عن استواء الله الذي ورد في قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) (طه:5) هل هو من المحكمات أم من المتشابهات ؟ قيل له الاستواء محكم المعنى متشابه الكيف .
فما عاينه الإنسان من الكيفيات التي تتعلق بالمخلوقات والتي دلت عليها ألفاظ الآيات ككيفية أداء الصلوات والزكاة والصيام وأفعال الحج وما شابه ذلك فهذا محكم المعنى والكيفية ، فلو سأل مسلم أعجمي لا يعرف العربية عن معنى الصلاة في قوله تعالى : ( الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (البقرة:3) ؟لقيل له بلسانه : الصلاة أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم ، فيسأل عن كيفية أدائها ؟ فيقال له : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نحاكيه تماما في الكيفية فقال مبينا ذلك : ( وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَليُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَليَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) البخاري .
أما إذا كان المعنى معلوما والكيف الذي دل عليه المعنى مجهولا ، كانت الآية من المتشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما في جميع الأدلة التي وردت في عالم الغيب ، فالجنة مثلا سمعنا عن وجود ألوان النعيم فيها ، وأخبرنا الله بذلك في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى الرغم من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية ألوان النعيم فيها : ( قَالَ اللهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (السجدة:17) ) رواه البخاري .
فتأمل قوله : لا عين رأت ولا أذن سمعت ماذا يعنى ؟ هل يعنى معنى الآيات أم الكيفية التي دلت عليها ؟ فإن قيل المعنى فخطأ لأننا سمعنا به في الكتاب والسنة كما أن المعنى لا يرى بعين البصر وإنما يدرك بالبصيرة ، وإن قيل الكيف فصواب لأننا لم نره ولم نر له مثيلا .
فالمتشابه كيفية الموجودات في الجنة لا المعنى الذي يدل عليها ، وعلى ذلك فجميع آيات الصفات محكمة المعنى متشابهة في الكيفية فقط ، فلا يدخل في المتشابه معاني الآيات التي وصف الله بها نفسه كما اعتقد الخلف مذهب السلف وإلا كانت هذه الآيات بلا معنى ، فقوله تعالى : ( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) أي باعتبار الكيف لا المعنى .
وجميع آيات القرآن لها معنى معلوم عند الراسخين في العلم حسب اجتهادهم في تحصيله ، وعليه جاء قول ابن عباس رضي الله عنهما في آية آل عمران : ( أنا من الراسخين في العلم ) ، فالمتشابه هو الذي استأثر الله بعلمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو والتي أخبرنا بها في كتابه ، ومن ثم فإن القرآن كله محكم باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ وباعتبار الكيفية ففيه المحكم والمتشابه .
قال ابن تيميه رحمه الله في رسالة الإكليل معقبا على قوله تعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلبَاب ) (ص:29) ، ( وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ) .
وقال أيضا في قوله تعالى : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (محمد:24) ، ( فلم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره ، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله بل أمر بذلك ومدح عليه ) .
( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّاب رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَاد َ) (آل عمران:9) سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

خالد مسعد .
27-12-2009, 03:35 PM
العقيدة بعد أبي الحسن الأشعري

المحاضرة الثانية

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما ، من غير إغفال ولا نسيان ، من ذا يكيف ذاته وصفاتِه ، وهو العظيم مكون الأكوان ، سبحانه ملكا على العرش استوى ، وحوى جميع الملك والسلطان ، وكلامه القرآن أُنزل آيهً ، وحيا على المبعوث من عدنان ، صلى عليه الله خيرَ صلاته ، ما لاح في فلكَيْهِما القمران ، هو جاء بالقرآن من عند الذي ، لا تعتريه نوائب الثقلان ، تنزيلُ ربِ العالمين ووحيُه ، بشهادةِ الأحبار والرهبان ، فيا عبد الله إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعيةٌ إلى الطغيان ، فاستحي من نظر الإله وقل لها ، إن الذي خلق الظلام يراني ، كن طالبا للعلم واعمل صالحا ، فهما إلى سبل الحق مقترنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بربوبيته ، وشهد بوحدانيته ، وانقاد لمحبته وأذعن بطاعته ، واعترف بنعمته ، وفر إليه من ذنبه وخطيئته ، شهادة عبد أمل في عفوه ورحمته ، وطمع في قبول توبته ، وبريء إلي الله من حوله وقوته ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ، عبد الله ، هي المقادير تجري في أعنتها ، فاصبر فليس لها صبر على حال ، يوما تريك خسيس الأصل ترفعه ، إلى العلاء ويوما تخفض العالي ، أما بعد ..
فإن كثيرا ممن نشأ في الأوساط التي يسودها مذهب الخلف من الأشعرية ، بعد موت أبى الحسن الأشعري ، أنكروا تأويلهم المتعسف للنصوص ، فدعواهم أن النصوص القرآنية في الصفات الإلهية ، موهمة للتشبيه والجسمية ، يثير الحساسية في قلوب المسلمين ، نظرا لاحترامهم الفطري لكتاب الله ، وتعظيمهم التلقائي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وجدوا على ساحة الفكر ما طرحه الخلف من الأشعرية ، ظلما وزورا على العقيدة السلفية أنهم يفوضون معاني نصوص الصفات لا الكيفية ، وأنهم يؤمنون بألفاظ القرآن دون فقه معناها ، كالأعجمي الأجنبي عندما يدخل في الإسلام ، فيعظم القرآن ويقلبه ويقبله ، دون أن يفهم أي معنى من معانيه ، أو يدرك أي مدلول من مبانيه ، فلما شاعت واستقرت واستمرت هذه الإشاعة الباطلة ، وانتشر الزعم بأن السلف مفوضة لا يعلمون معاني النصوص أو مراد قائله ، ادعى كثير ممن أنكر على الخلف أن السكوت وتفويض الأمر إلى الله هو المسلك المفضل ، ظنا منهم أنهم على عقيدة السلف الصالح ، فظهرت قضية التفويض التي وسم بها السلف متأثرة بعقيدة الخلف في فهم المحكم والمتشابه وعدم التمييز بين كون معاني نصوص الصفات محكمات وأن الكيفيات الغيبية هي فقط المتشابهات ، وقد سرى هذا الاعتقاد في نفوس كثيرة منذ ظهور المذهب الأشعري حتى عصرنا هذا .
يقول أبو سعيد النيسابوري (ت:478هـ) في كتابه الغنية في أصول الدين : ( لأصحابنا في ذلك طريقان ، أحدهما الإعراض عن التأويل والإيمان بها كما جاءت والإيمان بها صحيح وإن لم يعرف معناها ، وهذا الطريق أقرب إلى السلامة ، ومن أصحابنا من صار إلى التأويل والاختلاف صادر عن اختلاف القراءتين في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلم ) (آل عمران:7) .
فمن صار إلى الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله أعرض عن التأويل وجعل قوله والراسخون في العلم كلاما مبتدأ ، ومعناه أن العلماء يقولون آمنا به ومن صار إلى الوقف على قوله والراسخون في العلم ، فيكون معناه أن الله تعالى يعلم تأويله والراسخون في العلم أيضا يعلمون تأويله صار إلى التأويل ) .
فعلى الرغم من كونه يذكر موقف السلف من المحكم والمتشابه إلا أنه نسب إليهم الإيمان بنصوص الصفات وإن لم يعرفوا معناها ، وجعلهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) (البقرة:78هـ) .
ويقول أحدهم ويدعى مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي (ت:1033هـ) في كتاب أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات ، يقول : ( ومن المتشابه الاستواء في قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ، وهو مذكور في سبع آيات من القرآن ، فأما السلف فإنهم لم يتكلموا في ذلك بشيء جريا على عادتهم في المتشابه من عدم الخوض فيه مع تفويض علمه إلى الله تعالى والإيمان به ) ثم يستدل على ذلك بقول الإمام مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، ومن الأمثلة المعاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض ، قول صاحب جوهرة التوحيد : وكل نص أوهم التشبيه : أوله أو فوِّض ورم تنزيها
ويذكر شارح الجوهرة تحت هذا البيت في قوله تعالى : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (الفجر:22) وحديث الصحيحين : ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) ، يقول : فالسلف يقولون : مجيء ونزول لا نعلمه ) .
فادعى الناظم والشارح معا أن مذهب السلف الصالح هو تفويض المعنى ، وهذا باطل لأنه جعل كلام الله بلا معنى ، وجعل السلف بمنزلة الجهلة الذين خاطبهم الله بالألغاز والأحاجي وما لا يفهم معناه ، ولا يعقل أن نسمع رجلا أجنبيا يتحدث بلغة لا نفهمها ولا نعلم لسان أهلها ثم نقول بعد سماعنا له : كلامك جيد ووصفك سليم وكلامك ليس فيه باطل ونحن نصدق كل ما تقول ، وإذا كان هذا مستقبحا بين البشر فكيف نقبله في كلام الله عز وجل ؟! فالسلف لم يقولوا : مجيء ونزول لا نعلمه كما ادعى شارح الجوهرة ، وإنما قالوا : مجيء ونزول لا نعلم كيفيته وفرق بينهما عظيم .
ويقول الشيخ أمين محمود خطاب عن نصوص الصفات في كتاب الفتاوى الأمينية : ( إن السلف فوضوا علم المراد منها إلى الله تعالى ، فقوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) يقول فيه السلف هو مصروف عن ظاهره ويفوضون علم المراد منه إلى الله ) ، والسلف الصالح ما قالوا هذا ، وإنما قالوا في الآية : هي على ظاهرها والمعنى معلوم واضح ، والمجهول هو الكيف فقط ، ولكن الأشعرية ظنوا أن الظاهر منها يتحتم أن يكون هو الظاهر من استواء بلقيس على عرشها ، ولو سألت أحدهم : هل رأيت استواء بلقيس ؟ فيقول : لا ، يقال له : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : نعم ، فيقال عند ذلك : معنى استواء بلقيس معلوم وكيفية استوائها معلومة أيضا من رؤيتك للمثيل ، لكن إذا سألناه : هل رأيت استواء الله ؟ فيقول : لا ، فيقال : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى:11) ، فيقال له : كيف حكمت أن الظاهر في استواء الله يماثل الظاهر في استواء بلقيس ؟ أليس هذا قول على الله بلا علم ؟ إنما يكفي أن القول إن معنى استواء الله معلوم وهو العلو والارتفاع وكيفية استوائه معلومة لله مجهولة لنا .
ويذكر الشيخ إبراهيم الدسوقى في مقالته التي نشرت في مجلة الأزهر عدد محرم سنة 1414هـ عن قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) يقول عن آراء العلماء في المتشابه كما يتصور : ( فذهب السلف إلى التفويض في المعنى الذي أراده الله تعالى بعد الإيمان به والتنزيه عن الظاهر المستحيل ) ثم ينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة وأنهم يدينون لله بهذه العقيدة .
ويقول الشيخ حسن البنا في مجموعة الرسائل : ( ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى ) ، فهؤلاء جميعا ظنوا أن اعتقاد السلف الصالح هو التفويض ، تفويض معنى الاستواء ، وهم في الحقيقة يعانون من مشكلة ، أو أصول معضلة عندما تأتى على أسماعهم صفة الاستواء ، هل يؤمنون بوجود استواء حقيقي له كيفية ، أم أنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة الغيبية ؟
لا خلاف بين السلف في وجود كيفية حقيقية للاستواء ، وإنما الخلاف بين السلف ومخالفيهم من الأشعرية وغيرهم في ادعائهم جهل السلف بمعنى الاستواء وتفويض العلم به إلى الله ، فالكيفية لها وجود حقيقي معلوم لله ومجهول لنا .
ومن ثم فالقول بأن الاستواء غير معلوم أو لا نعلمه أو نجهله قول باطل ، وكذلك القول بأن معنى الاستواء غير معلوم قول باطل أيضا ، أما القول بأن كيفية الاستواء فقط غير معلومة أو مجهولة لنا ، فهو الحق الذي دلت عليه الأدلة .
وهنا مسألة تتطلب الشرح والتفصيل ، وهى مسألة الظاهر هل هو مراد أو غير مراد ؟ فإذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد ، فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال وإشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال ، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين : تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك ، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأعلم أن من المتأخرين من يقول مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد ، وهذا اللفظ مجمل ، فان قوله ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله تعالى معنا ، ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك ، فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال من السلف إن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى ، لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ، فان هذا المحال ليس هو الظاهر ) .
ونظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات لاسيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف ، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك ، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب .
وهذه دعوة قديمة منذ ظهور عقيدة التفويض وعدم إدراك ما عليه السلف ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى أن قول القائل : لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين ، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين ، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح ، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك ، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة ، هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين ، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة ، هو مما اتفق عليه المسلمون ، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من صفات الإثبات أو النفي ، فإن الله يوصف بالإثبات وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده ، ويوصف بالنفي وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .
وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا ، ولا يشرح معناها ولا يرد على الخلف في تأويلهم ولا في ادعائهم على السلف عقيدة التفويض ، فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء ، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ولا التأويل سائغ ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك ، لأنه بهذا يتعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير ، وإذا التزم هو ذلك ، وقال لغيره التزم ما التزمته ، ولا تزد عليها ولا تنقص منها ، فإن هذا عدل ، بخلاف ما إذا نهى غيره عن الكلام عليها ، مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع .
وكذلك قول القائل ولا يكتب بأحاديث الصفات إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها ، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام ، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها ، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ، ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية ، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا ، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا ويقول لأهل العلم والإيمان أنتم لا تعارضوا ولا تتكلموا فيها ، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته .
كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات ، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله ، وقد قيل : إن مالكا لما صنف الموطأ قال : جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل .
والآن دعونا نتحدث عن لوازم القول بالتفويض ، وخطورة القول بالتفويض أو سلب كلام الله عن معناه ، أو محاولة تقبيح إثبات الصفات في نفس السامع تحت مسمى التجسيم وإثبات الأعضاء والجوارح لله ، لأن القول بالتفويض يؤدى إلى الزامات قبيحة يتمثل أبرزها فيما يلي :
(1) - أن القرآن ملئ بالحشو الذي لا فائدة منه ، مما يحتم حذفه ليوصف بالكمال وهذا باطل لقوله تعالى : ( لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (فصلت:42) .
(2) – يلزم من قولهم إن كلام الله بلا معنى وأنه يجب على المسلمين الإيمان به دون فهم معناه ، أن الله خاطب عباده بالألغاز والأحاجي وهو قادر على عكس ذلك ، وهذا باطل لأنه يؤدى إلى القول بأن كلام الله بلا معنى ، فقال تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الذِي يُلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (النحل:103) ، وقال سبحانه : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِل اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد ) (الزمر:23) فوصف كلامه بأنه أحسن الحديث .
(3) - يلزم من قولهم إن كلام الله بلا معنى وأنه يجب على المسلمين الإيمان به دون فهم معناه ، أن الرسول بلغ ما لا يعلم ولم يفهم ما جاء في التنزيل وهذا باطل لقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (إبراهيم:4) .
(4) - يلزم من قولهم إن كلام الله بلا معنى وأنه يجب على المسلمين الإيمان به دون فهم معناه ، أن الصحابة خدعوا أنفسهم بادعائهم الفهم وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم في إيمان لا يعلمون حقيقته ، وهذا باطل لقوله تعالى عنهم : ( أُوْلَئِكَ هُمْ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (الأنفال:74) ولقوله : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (الأنفال:2) فكيف يزدادون إيمانا بتلاوة ما ليس له معنى له .
(5) - أن القول بالتفويض يلزم منه أن ظاهر النصوص يحمل معنى مستهجن يخاف المفوض من مواجهته وهذا باطل لأن الله عز وجل أمرنا بتدبر آياته وفهمها في حدود مدركاتنا ، فقال جل ذكره : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) (النساء:82) ، وفي الحقيقة إن القول بالتفويض ما هو إلا محاولة للهروب من مواجهة الأدلة لقوة ما ورد فيها من إثبات الصفات ، ويذكر ابن القيم رحمه الله ، أننا لو قلنا كما قال الخلف إن قوله تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله ) يتناول المعنى يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، بل يقرأون كلاما لا يعقلون معناه ، وقول هؤلاء باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور ، وأمر الناس أن يرجعوا إليه فيما اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان .
فالقول بالتفويض سببه الجهل بمذهب السلف من ناحية والرفض الداخلي للمذهب الأشعري من ناحية أخرى ، إذ أن الخلف من الأشعرية وغيرهم قاموا بلىّ أعناق النصوص وذبحها بصورة لا تخفي على عاقل ، فأغلبهم لا يقر في نفسه تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة ، وإذا أقر به على مضض أقر به ليتملص من إثبات صفة الاستواء الذي ظاهرها عنده باطل قبيح ، فإذا خلا بنفسه تردد على ذهنه سؤال لا يفارقه ومن الذي نازع الله على العرش حتى قهره واستولى عليه ؟! فلا يجد جوابا شافيا ، فيُرضى نفسه بالسكوت والتفويض وترك الأمر برمته مدعيا أن هذا مذهب السلف .
كما أنه من أعظم أسباب انتشار القول بالتفويض تقليد بعض المشاهير الذين تبنوا القول بالتفويض عن حسن نية ، وتبنى بعض المؤسسات العلمية لهذا الأمر كما قال صاحب جوهرة التوحيد : وكل نص أوهم التشبيه : أوّله أو فوِّض ورم تنزيها ، فيدعى أن مذهب السلف الصالح هو التفويض ، ومن ثم يشب طالب العلم من مهده على ذلك ، وهو لا يعرف غير هذا الاعتقاد ، حتى يصبح أستاذا كبيرا في الجامعة ، أو مدرسا مخضرما في المادة يدافع عما درسه بقوة ظنا منه أنه على شيء ، وإذا ظهر لهم الحق في هذا الموضوع فقل من لا تأخذه عزة المكانة فيتراجع أمام مذهب السلف .
ونحن إذا نظرنا إلى كتاب الله واستقرأنا جميع الأدلة النقلية التي تتعلق بالأمور الغيبية على وجه العموم وبذات الله وصفاته على وجه الخصوص ، لا نجد آية واحدة أو حديثا يتحدث عن كيفية الذات وصفاتها أو كيفية الموجودات التي في عالم الغيب ، وكل ما ورد كان الهدف منه إثبات وجود ذات الله وصفاته وأفعاله على التفصيل الوارد في الكتاب والسنة وبكيفية تليق بالله يعلمها هو ولا نعلمها نحن ، وهذا يتطلبا كلاما يحمل معنى مفهوما ، وعلى هذا المفهوم جاءت أقوال السلف الصالح في نصوص الصفات وسائر الغيبيات : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله معقبا : ( قولهم أمروها كما جاءت يقتضى إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم غير مراد أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ : بلا كيف ، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول ) .
وعلى ذلك أيضا جاء قول مالك رحمه الله : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ) ، وربما زعم بعضهم أن قول السلف في الاستواء معلوم يعنى أن آية الاستواء موجودة في القرآن وقد رد شيخ الإسلام مجيبا عن هذه الشبهة فقال : ( فإن قيل معنى قوله : الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه !!
قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية ، وأيضا لم يقل يعنى الإمام مالك ذكر الاستواء في القرآن يعنى معلوم ولا إخبار الله بالاستواء يعنى معلوم وإنما قال الاستواء معلوم .. وأيضا فإنه قال : والكيف مجهول ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه ) ، وفي ختام موضوعنا أدعو إخواننا الذين يظنون أن مذهب السلف هو تفويض معاني النصوص التي خاطبنا الله بها إلى إعادة النظر في الأمر حتى لا يظلم المذهب السلفي من ناحية ولا يدعون إلى غير الحق من ناحية أخرى ، وقد قال العلامة ابن القيم : ( فلا سعادة للعباد ولا صلاح لهم ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم والتقرب إليه قرة عيونهم ) ، فكيف تتم هذه السعادة في ظل عقيدة التفويض ؟
وإذا كان قبول العمل عند الله يعود إلى صدق النية وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) ، فالنية وحدها لا تكفي إذ لا بد من شرط المتابعة لمن سلف واجتناب بدعة من خلف .
فالأشعرية بعد موت أبى الحسن الأشعري كانوا يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض وظل الأمر على ذلك حتى عصرنا لكن الواقع الفكري الذي أحاط بعقيدة السلف بعد موت أبى الحسن الأشعري ، اختلطت فيه الأمور وتشابكت ، وانتشرت فيه البدع وتعددت ، وكثرت فيه الفرق وتناحرت ، فرق كلامية تسير على نهج الجهمية ، من الماتريدة والأشعرية ، وفرق متعددة للشيعة والقدرية ، وأخرى للخوارج والإرجاء والصوفية ، وفرق تتبارى في القضايا الفلسفية ، حتى خيم الزبد على الماء الذي نزل من السماء ، وأصبح القابض على الحق كالقابض على جمرة من نار ، يعيش في مستنقع فكرى ، واختلاف مذهبي ، وتمزق سياسي ، فأصبحت الأمة غثاء كغثاء السيل ، فتداعت عليها الأمم ، هجم عليها الصليبيون في حملاتهم الصليبية ، وهجم عليهم التتار في حملاتهم المغولية ومزقوا المسلمين كل ممزق ، ولولا أن الله عز وجل تكفل بحفظ دينه ، لكانت أمة الإسلام مطوية في صفحات التاريخ ، وقد روى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ قَالَ : ( إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ) ، فنصر الله دينه وأعز أمته برجل حباه من العلم والفقه ما تعجز عنه تحصيله أمة من الناس وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، سوف نذكر لكم ترجمته وقصته في المحاضرة القادمة بإذن الله ، فإلى لقاء آخر إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .