خالد مسعد .
07-01-2010, 11:59 AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، أما بعد ..
فسوف نبد اليوم بإذن الله تعالى سلسلة جديدة ، موضوعها يدور حول تقسيمات التوحيد عند أهل السنة والجماعة وتقسيمات التوحيد عند المخالفين لهم ، وذلك لأن كثيرا من المسلمين صنفوا التوحيد تصنيفا ما أنزل الله به من سلطان ، وهذه التصنيفات تصنيفات عقلية ، مبنية على آراء كلامية ، أو أصول فلسفية ، أو مواجيد ذوقية ، تعبر عن شطحات الصوفية ، ومناقضة في أغلبها للنصوص القرآنية والنبوية .
وكثير من الأسئلة التي تتردد على أذهان طلاب العلم ، وتتطلب الإيضاح والفهم ، مثل الحديث عن أنواع التوحيد ؟ هل هي نوعان أو ثلاثة ؟ وهل كانت أنواع التوحيد معروفة في عصر السلف وفي زمن خير القرون ؟ وكيف ظهرت هذه الأنواع ؟ وما هي الأسماء التي ورد بها كل نوع في تراث السلف ؟ وما هي العلة التي دعتهم لهذه التصنيفات ؟ وما الفرق بينها وبين تقسيم الطوائف الأخرى للتوحيد ؟ وما الذي يكفي المسلم من القواعد المختصرة المفيدة ، التي تحافظ على عقيدته في كل نوع من أنواع التوحيد ؟ وكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها على الأذهان ، تفتقر عند أغلب المسلمين إلى الإجابة والبيان ، ومن هنا سنبدأ سويا مستعنين بالله في بيان هذا الموضوع ، لأن التوحيد هو أول واجب على السالكين في مدارج الإيمان ، وثمرة التوحيد الإخلاص والمتابعة التي توجب القبول والغفران ، وهذه هي الغاية التي خلق من أجلها الإنسان ، وقد قال الله عز وجل في القرآن : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) ، فمعرفة المؤمنين لربهم يمثل أساس عقيدتهم ، ومفتاح سعادتهم ، وباعث الخشية في عبادتهم .
واليوم نبدأ بإذن الله في ذكر المقصود بالتوحيد ، ما المقصود بالتوحيد ؟ المتوحد في اللغة هو المنفرد بوصفه المباين لغيره ، يعنى له صفة لا يشاركه فيها أحد ، فالله عز وجل متفرد بالرحمة العامة والخاصة فهو الرحمن الرحيم ، ومتفرد بالملك والعزة والجبروت وله الكبرياء ، وهو الخالق الباريء المصور ، وهو الغفار القهار الوهاب ، وهو الرزاق الفتاح العليم وهو السميع البصير وهو الحكيم العدل ، وهو اللطيف الخبير الحليم العظيم ، وهو العلى الكبير وهو الحق المجيد وهو الغني القوي ، الولي الحميد ، والمحيي المميت ، وهو الحي القيوم ، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وهو الأول الآخر والظاهر والباطن .
والمقصود بتوحيد المسلمين لربهم أنهم أفردوا الله عن غيره بما ثبت له من أنواع الكمالات في الربوبية والعبودية والأسماء والصفات ، فهو وحده رب العالمين وهو وحده المستحق للعبادة ، وقد أمر الله عباده بترديد هذه الشهادة في كل ركعة من الصلاة : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، وهو المتوحد في أسمائه وصفاته كما قال تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ، فهم يؤمنون بأنه سبحانه وتعالى منفرد بالخلق والتدبير وإليه يرجع الأمر والتقدير ، فلا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، فشهدوا ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه .
خالد مسعد .
07-01-2010, 11:59 AM
والتوحيد عندهم لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ، نفي الحكم وسلبه عما سوى الله وإثباته لله وحده ، فلا يتم التوحيد حتى يشهد المسلم أن لا إله إلا الله ، فينفي الألوهية عما سوى الله عز وجل ويثبتها لله وحده ، وذلك أن النفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الغير في الحكم فلا يكون التوحيد توحيدا حتى يتضمن نفيا وإثباتا .
وعلم التوحيد في اصطلاح العلماء : هو علم يكشف عن مذهب السلف في توحيد الله بالعبودية ، وإثبات العقائد الإيمانية ، بأدلتها القرآنية والنبوية ، والعقلية والفطرية ، والرد على المتبدعين في العبادات والمنحرفين في الاعتقادات ، فعلم التوحيد هو إثبات وحدانية الله وانفراده عمن سواه بنفي الشبيه والمثيل والشريك النظير.
والسؤال الآن : هل كان علم التوحيد معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما هي المصطلحات التي استخدمت في الدلالة على هذا العلم ؟ .
علم التوحيد اصطلاح سائد بين المسلمين منذ عصر النبوة ، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا على دراية تامة بما يجب معرفته في توحيد الله ، وكيفية الدعوة إلي لا إله إلا الله ، ومناقشة المخالفين في شركهم بالله ، وقد أفرد الإمام البخاري رحمه الله (ت:256هـ) في كتاب التوحيد بابا قال فيه : ( باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ) ، ثم عقب بحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له : ( إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، فَليَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى ) ، ولا شك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان خبيرا في هذا العلم بالصورة التي تناسب إتمام الدعوة التي بعث من أجلها ، والتي يترتب علي نجاحها دخول الآلاف من أهل الكتاب في دين الله عز وجل ، وإلا ما كلفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمر العظيم .
روى الإمام أحمد من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال : بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، ضِمَامَ بْنَ ثَعْلبَةَ وَافِدًا إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَدِمَ عَليْهِ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلى بَابِ المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلهُ ثُمَّ دَخَل المَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ جَالسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلا جَلدًا –ضخما قوي الأعضاء - أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ – ذؤابتين تتدلى على الصدر من العمامة أو الشعر- فَأَقْبَل حَتَّى وَقَفَ عَلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي أَصْحَابِهِ – وعند البخاري 61 من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ فِي المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا ابْنَ عبد المطلب فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ : قَدْ أَجَبْتُكَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ : إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ فَلا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ سَل عَمَّا بَدَا لَكَ - وعند أحمد من رواية ابن عباس ، فَقَال أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ المُطَّلبِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلبِ قَال مُحَمَّدٌ قَال نَعَمْ فَقَال ابْنَ عَبْدِ المُطَّلبِ إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلظٌ فِي المَسْأَلةِ فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ ، قَال : لا أَجِدُ فِي نَفْسِي فَسَل عَمَّا بَدَا لكَ ؟ قَال : أَنْشُدُكَ اللهَ إِلهَكَ وَإِلهَ مَنْ كَانَ قَبْلكَ وَإِلهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللهُ بَعَثَكَ إِليْنَا رَسُولا ؟ فَقَال : اللهُمَّ نَعَمْ ، قَال : فَأَنْشُدُكَ اللهَ إِلهَكَ وَإِلهَ مَنْ كَانَ قَبْلكَ وَإِلهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَنْ نَخْلعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ التِي كَانَتْ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ ؟ قَال : اللهُمَّ نَعَمْ ، قَال : فَأَنْشُدُكَ اللهَ إِلهَكَ وَإِلهَ مَنْ كَانَ قَبْلكَ وَإِلهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَليَ هَذِهِ الصَّلوَاتِ الخَمْسَ ؟ قَال : اللهُمَّ نَعَمْ : قَال : ثُمَّ جَعَل يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإِسْلامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً الزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالحَجَّ وَشَرَائِعَ الإِسْلامِ ، كُلهَا يُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُل فَرِيضَةٍ كَمَا يُنَاشِدُهُ فِي التِي قَبْلهَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَال : فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ ثُمَّ لا أَزِيدُ وَلا أَنْقُصُ ، قَال : ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلى بَعِيرِهِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ حِينَ وَلى : إِنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ يَدْخُل الجَنَّةَ ، قَال : فَأَتَى إِلى بَعِيرِهِ فَأَطْلقَ عِقَالهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِليْهِ ، فَكَانَ أَوَّل مَا تَكَلمَ بِهِ أَنْ قَال : بِئْسَتِ اللاتُ وَالعُزَّى ، قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ اتَّقِ البَرَصَ وَالجُذَامَ اتَّقِ الجُنُونَ ، قَال : وَيْلكُمْ إِنَّهُمَا وَاللهِ لا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل ، قَدْ بَعَثَ رَسُولا وَأَنْزَل عَليْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ ، قَال : فَوَاللهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلمًا ، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَل مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلبَةَ .
خالد مسعد .
07-01-2010, 12:00 PM
وقد تتابع أهل العلم على التأليف في هذا الفن تحت مصطلح التوحيد ، سواء كانوا من السلفيين أو من المتكلمين فالإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت:311هـ) ألف كتابا على نهج السلف الصالح عنون له : ( كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل ) ، وكتب أبو منصور الماتريدي (ت:333هـ) كتابا سماه : ( التوحيد ) وانتهج فيه طريقة المتكلمين الذين يقدمون العقل في إثبات الحجج والبراهين .
وقد بقى اصطلاح ( علم التوحيد ) دائرا بين المتقدمين والمتأخرين منذ عصر النبوة إلى وقتنا هذا ، فقد اشتهر كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت:1206هـ) حيث وضعه على نهج السلف لما انتشر شرك الجاهلية في الجزيرة العربية ، وفي المقابل نجد على مذهب الأشعرية والمتكلمين ، رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده (ت:1323هـ) وغير ذلك من الكتب والمؤلفات .
لكن علم التوحيد أطلقت عدة اصطلاحات أخرى ، من قبل علماء السلف أو المخالفين لهم ، أبرزها يتمثل فيما يلي :
(1- علم العقيدة : فالعقيدة هي عقد القلب على الإيمان بحقيقة معنية إيمانا لا يقبل الشك مع الثبات عليها ، فإن الشاك يقول : العالم حادث أم قديم أزلي؟ والمعتقد يقول : العالم حادث مخلوق ، ويستمر عليه ولا يتسع صدره لتجويز أزليته .
وقد أطلق هذا الاصطلاح كثير من علماء السلف والخلف كل على وجهته ومذهبه ، فمن علماء السلف الإمام أحمد بن حنبل (ت:241هـ) له كتاب بعنوان : ( العقيدة ) بين فيه مذهب السلف وعقيدتهم ، وكذلك كتاب : ( العقيدة الطحاوية ) للإمام أبى جعفر بن سلامة الأزدى الطحاوى (ت:321هـ) ، وكتاب : ( اعتقاد أئمة الحديث ) لأبى بكر الإسماعيلي (ت:371هـ) .
وقد اشتهر مصطلح العقيدة بين المتمسكين بمنهج السلف حتى اقترن بهم وأصبح التعرف على العقيدة سمتهم بين الناس وميزانهم المقدم في الولاء والبراء ، كما برزت فيما بعد كتب أخرى كثيرة على منهج السلف اشتهرت شهرة واسعة بين الناس ككتاب : ( الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث ) للإمام البيهقي (ت:458هـ) ( والعقيدة الواسطية ) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728هـ) وكتاب : ( عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة ) للإمام محمد بن عبد الوهاب (ت:1206هـ) ، وغير ذلك كثير ممن كتبوا في العقيدة على منهج السلف الصالح ، كما تردد هذا المصطلح أيضا بين المنتهجين لطريقة الخلف من المتكلمين فكتب أبو حامد الغزالي (ت:505هـ) كتابه المسمى : ( قواعد العقائد ) ، وكذلك ( العقيدة الأصفهانية ) ، التي ألفها الشيخ أبو عبد الله شمس الدين الأصفهاني (ت:688هـ) أحد رؤوس علماء الكلام ، وقد شرحها شيخ الإسلام ابن تيمية وخالفه فيها ، ومن المصطلحات التي أطلقت على علم التوحيد :
(2- الفقه الأكبر : في بداية القرن الثاني الهجري ظهرت عقيدة الجهمية بظهور زعيمها الجعد بن درهم (ت:125هـ) فهو أول من قال بخلق القرآن ونفي أوصاف الله بحجة التوحيد ونفي التشبيه ، وقد تبنى فكره تلميذه الجهم بن صفوان (ت:128هـ) إلا أن الجعد لم ينل شهرة الجهم ، وكان مصطلح الفقه عند السلف يعنى العلم بالدين وأحكام العبودية التي وردت في الأدلة القرآنية والنبوية , ثم جاء المتأخرون من الفقهاء وغيرهم وحصروه بمعرفة الأحكام الشرعية والعملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية ، فظهر في المقابل مصطلح الفقه الأكبر لبيان أهمية التوحيد قبل القول والعمل والرد على الجهمية وأتباعهم ، وأول من أطلق هذا اللفظ هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثاب رحمه الله (ت:150هـ) في كتابه الفقه الأكبر ، وقد قال في الكشف عن ذلك المعنى الاصطلاحي : ( الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم ، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه عز وجل ، خير من أن يجمع العلم الكثير ) ، قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي : ( قلت فأخبرني عن أفضل الفقه ؟ قال : يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة .. وذكر مسائل في الإيمان ثم ذكر مسائل في القدر ) .
خالد مسعد .
07-01-2010, 12:00 PM
وقد نسب بعضهم الفقه الأكبر لأبي مطيع الحكم البلخي الذي ذكر فيه أراء أبي حنيفة وأقواله في التوحيد ، وهو متن صغير شرحه الكثير من الأحناف ، والشاهد هنا أن اصطلاح الفقه الأكبر بعد أن ظهر في القرن الثاني اشتهر على ألسنة العلماء ، وأصبح مرادفا لعلم التوحيد والعقيدة عند السلف والخلف على السواء ، ومن المصطلحات التي أطلقت على علم التوحيد :
(3- السنة : بمعنى سنة الدلالة والطريقة المسلوكة ، وقد أطلق لفظ السنة على علم التوحيد وعرف به في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية الثالث ، وذلك حين بلورت المعتزلة آرائها الفكرية في خمسة أصول عقلية كان أولها ادعاء التوحيد ، فقد رتبوا عليه القول بخلق القرآن وتعطيل السنة ورد ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الصفات بحجة أنها من أخبار الآحاد التي لا تدل على اليقين ، مما دفع أهل السنة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت:241هـ) أن يطلقوا مصطلح السنة على مسائل التوحيد والعقيدة السلفية تمييزا لها عن أصول المعتزلة التي أسفرت عن تعطيل السنة وردها ، فألف الإمام أحمد بن حنبل كتابه أصول السنة ، قال في مقدمته :
( أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم ، وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصومات في الدين ، والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن ، وليس في السنة قياس ولا تضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء ، إنما هو الإتباع وترك الهوى ، ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها ، الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه ، والإيمان بها لا يقال لم ولا كيف ) ، وكذلك الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الشيباني (ت:287هـ) ، كتب في الرد على المعتزلة كتاب : ( السنة ) حيث جاءت مسائله عن الإيمان بالقدر ورؤية الله تعالى في الآخرة ، ومسائل أخرى في صفات الله عز وجل ، يقف منها أهل الاعتزال موقف التعطيل .
وعلى الوتيرة نفسها جاء لأبى جعفر محمد بن جرير الطبري (ت:310هـ) كتابه ( صريح السنة ) قال فيه : ( فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا القرآن كلام الله وتنزيله إذ كان من معاني توحيده ، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله غير مخلوق ، كيف كتب وحيث تلي وفي أي موضع قرئ .. فمن قال غير ذلك أو ادعى أن قرآنا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بأسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ، أو اعتقد غير ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه أو قاله بلسانه دائنا به ، فهو بالله كافر حلال الدم بريء من الله والله منه بريء ) ، وكذلك كتاب : ( السنة ) لأبى عبد الله بن نصر المروزي (ت:294هـ) وكتاب : ( السنة ) لأبى بكر الخلال (ت:311هـ) وكتاب : (شرح السنة ) لأبى محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري (ت:329هـ) .
وكل هؤلاء يؤكدون على أن الإسلام هو السنة ، والسنة هي الإسلام ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر ، وأن من السنة لزوم الجماعة ومن رغب غير الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكان ضالا مضلا ، وأن الأساس الذي بنى عليه الجماعة هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمهم الله أجمعين وهم أهل السنة والجماعة ، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع ، وكل بدعة ضلالة ، والضلال وأهله في النار .
وهناك كتب كثيرة باسم السنة كاصطلاح يرادف معنى التوحيد والعقيدة ، وكلها كما نلاحظ ألفت في القرن الثالث الهجري وحتى منتصف القرن الرابع ، وهو عصر سيطرة المعتزلة ، وولادة المذهب الأشعري وظهور أركانه واستقرار بنيانه ، ومن المصطلحات التي أطلقت على علم التوحيد :
(4- الإيمان : أطلق مصطلح الإيمان على مسائل التوحيد والعقيدة ، لأنها قضايا تتعلق بتصديق القلب واستعداده للعمل ، وهذان ركانان أساسيان في صلاح الإنسان ، وقد تداول علماء السلف هذا الاصطلاح منذ وقت مبكر وأطلقوه على مؤلفاتهم .
فمن ذلك كتاب : ( الإيمان ومعالمه وسنته واستكمال درجاته ) لأبى عبيد القاسم بن سلام (ت:223هـ) وكتاب الإيمان لمحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني (ت:243هـ) ، والإيمان لمحمد بن إسحاق بن يحيى بن منده (ت:395هـ) وكتاب : ( الإيمان وأصوله ) لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت:429هـ) ، وكتاب شعب الإيمان لأبى بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت:458هـ) .
ثم كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728هـ) وهما الإيمان الأوسط والإيمان الأكبر ، وأيضا كتاب تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان للشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي (ت:936هـ) وغير ذلك كثير .
ومن المصطلحات التي أطلقت على علم التوحيد والشائعة حتى الآن :
(5- أصول الدين : الأصول جمع أصل وهو في اللغة عبارة عما يفتقر إليه ولا يفتقر هو إلى غيره ، وفي الشرع ما يبنى عليه غيره ولا يبنى هو على غيره ، وعلى هذا فأصول الدين قوام أركانه وأساس بنيانه .
ومن العجب أن اصطلاح ( أصول الدين ) الذي اشتهر ولا يزال مشتهرا حتى سميت باسمه الكليات الجامعية في البلاد الإسلامية هو في حقيقته من صنع الأشعرية .
خالد مسعد .
07-01-2010, 12:01 PM
فإذا كان مصطلح الأصول قد اشتهر بين السلف مرتبطا بالفقه ، إلا أن اقترانه بالدين كان أشعري المنشأ والتكوين ، فأغلب الذين ابتدعوه واستعملوه كانوا من متكلمى الأشعرية ، وكانوا يرغبون أن تكون أصولهم متميزة عن الأصول الخمسة عند المعتزلة ، حيث اعتبروا أنفسهم أهل السنة والجماعة الذين جمعوا حسب زعمهم بين عقيدة السلف أصحاب المدرسة النقلية وعقيدة المعتزلة أصحاب المدرسة العقلية ، فابتدعوا أصولا فكرية أثبتوا بها سبع صفات فقط بدلالات عقلية إرضاء للسلف ، وعطلوا باقي النصوص التي تدل على الصفات الخبرية إرضاء للمعتزلة ، تحت مسمى التأويل وبحجة أن هذه النصوص توهم التشبيه وظاهرها باطل ، ثم أطلقوا على أصولهم في التوحيد الجديد الذي ابتدعوه مصطلح ( أصول الدين ) .
وأول من عرف عنه هذا الاصطلاح هو أبو القاسم عبيد الله بن أحمد البلخي (ت:319هـ) إذ أنه ألف كتابا سماه : ( أوائل الأدلة في أصول الدين ) ، وقام بشرحه أبو بكر بن فورك الأصبهاني (ت:406هـ) وكلاهما ضليعان في المذهب الأشعري ، وقد ألف أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد النيسابورى (ت: 478هـ) كتابا سماه : ( الغنية في أصول الدين ) نسجه أيضا على طريقة الأشعرية ومنهجهم ، قال في أوله : ( فصل في بيان العبارات المصطلح عليها بين أهل الأصول منها : العالم هو اسم لكل موجود سوى الله تعالى وينقسم قسمين : جواهر وأعراض ، فالجوهر كل ذي حجم متحيز والحيز تقدير المكان ، ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو ، وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان ، والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجزئته عقلا ولا تقدير تجزئته وهما ، وأما الجسم فهو المؤلف وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف ) ، ثم بدأ يطبق هذه الأصول على ذات الله وصفاته وأفعاله فينفي بها ما يشاء ويثبت .
وعلى الوتيرة نفسها ألف جمال الدين أحمد بن محمد بن محمود بن سعيد (ت:593هـ) كتاب : ( أصول الدين ) انتهج فيه مذهب المتكلمين من الأشعرية ، ومما جاء فيه : ( فصل صانع العالم لا يقال له : أين هو ؟ لأن أين يستخبر به عن المكان ولا مكان له ) ، وقال حاجى خليفة عن فخر الدين الرازي : ( الأربعين في أصول الدين للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت:606هـ) ، ألفه لولده محمد ورتبه على أربعين مسألة من مسائل الكلام ) ، ومعلوم أن الرازي من أعمدة المذهب الأشعري .
وقال ياقوت الحموي في ترجمة الجوينى (ت: 874هـ) : ( أبو المعالي عبد الملك بن يوسف الجويني إمام الحرمين أشهر من علم في رأسه نار ، كان قليل الرواية معرضا عن الحديث وصنف التصانيف المشهورة نحو الشامل في أصول الدين على مذهب الأشعري والإرشاد وغير ذلك ) ، ومن المصطلحات التي أطلقت على علم التوحيد وشاعت حتى الآن :
(6- علم الكلام : لما ظهرت مذاهب الضلال في باب العقيدة على يد الجهمية والمعتزلة والأشعرية ، وبنوا أصول عقيدتهم على الححج العقلية والكلام الفاسد في باب الغيبيات ونفي الصفات ، ولم يستندوا إلى ما ورد في الأدلة القرآنية والنبوية إلا باعتبارها دليلا ثانويا لا يعد أساسيا في إثبات العقائد ، بل ما وافقهم منها أخذوه وما خالفهم عطلوه ، أطلق هؤلاء وغيرهم على مسائل التوحيد والعقيدة علم الكلام لكثرة الجدل بين الطوائف المختلفة في مسائله ، أو لأن أعظم مسألة من قضايا هذا العلم حصل فيها النزاع هو كلام الله سبحانه وتعالى ، وهذه التسمية ليست معتمدة عند السلف أهل السنة والجماعة بل آراؤهم مجتمعة على ذم الكلام وأهله الذين عارضوا به الكتاب والسنة .
وتجدر الإشارة إلى أن السلف لم يمنعوا الاحتجاج بالأدلة العقلية لتأييد الأصول القرآنية والنبوية ، وإنما منعوا أن تبنى عليها عقيدة المسلم في الغيبيات وباب الأسماء والصفات أو يعارض بها الأدلة النقلية ، قال ابن الجوزى :
( وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد ، ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا ، فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه حتى قال الشافعي رحمه الله : لأن يبتلى العبد بكل ما نهي الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام ... وقال : حكمي في علماء الكلام أن يضربوابالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام ، وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب كلام أبدا ، علماء الكلام زنادقة ) .
وقد حذر أتباع السلف الصالح من هذا العلم ، وألفوا كتبا في ذمه ، منها كتاب : ( تحريم النظر في كتب الكلام ) لأبى محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة ، ومنهم من كتب يحذر من صعوبته وأنه للخواص ، كما فعل أبو حامد الغزالي في كتابه : ( إلجام العوام عن علم الكلام ) ، وقد ألفت كتب كثيرة من قبل المتكلمين في هذا العلم ، معتبرين إياه علم التوحيد الأمثل الذي نزل به جبريل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر كتاب : ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت:548هـ) ، وكتاب : ( الداعي إلى الإسلام في أصول علم الكلام ) ، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الدفع (ت:577هـ) .
وكذلك كتاب : ( مطية النقل وعطية العقل في علم الكلام ) ، لمحمد بن إبراهيم الصوفي (ت:622هـ) ، وكتاب : ( غاية المرام في علم الكلام ) لسيف الدين أبى الحسن الآمدي (631هـ) ، ( وزبدة الكلام في علم الكلام ) لصفي الدين الهندي (ت:715هـ) ، وكتاب : ( علم الكرام في علم الكلام ) للشيخ زين الدين الملطي (ت:788هـ) ، وكتاب : ( والمواقف في علم الكلام ) للعضد الدين الإيجي (ت:1000هـ) ، وقال صديق بن حسن القنوجي : ( علم أصول الدين المسمى بعلم الكلام هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه الموجود من حيث هو موجود ) .
هذه أغلب المصطلحات التي وردت علما على علم التوحيد تعبر عن التطور التاريخي للمراحل التي مر بها ، وقد كان السلف الصالح على أعلى درجات التوحيد والإيمان ، وكان اللفظ الشائع بينهم للدلالة على علم التوحيد لفظ الإسلام والإيمان تعبيرا عن خضوعهم لله وحده وعدم الإشراك به ، والإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة مما يتعلق بذات الله وصفاته وأفعاله .
نستكمل في المحاضرة القادمة بإذن الله بقية الأمور التي تتعلق بتقسيمات التوحيد وأنواعها ، كيف ظهرت واستقرت واستمرت حتى الآن ؟ ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
تفريغ المحاضرة الأولي من أنواع التوحيد فضيلة الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة