mr_dighidy
09-02-2010, 01:49 AM
لطالما سافرت الى هناك. و لطالما داعبت انفى تلك الرائحة. رائحة اديم الارض و قد اختلطت به قطرات الندى فى الصباح الباكر. هاهو ذلك الشارع الضيق من تلك القرية النائية يطل و تطل منه الذكريات. و يالها من ذكريات ! انها ذكريات الطفولة .
هنا فى هذا الشارع, اعتدت انا و اخى وابناء عمومتى ركوب الخيل . كانت الخيل قوية,فائقة السرعة ,بارعة الجمال. احسسنا فوقها و كاننا فرسان فى دروع فضية نسابق الريح و نقتحم قصور الخيال. الا اننا كنا سريعا ما نستيقظ من تلك الاحلام البطولية لترتطم خيالاتنا الخصبة بجدران و حدود الواقع. فى الحقيقة ,لم يكن هذا الشعورالاسطورى هو الشىء الوحيد الذى اختلقناه, بل ايضا كانت الخيل! فبالرغم من كونها من نبات البوص, الا اننا امتلكنا عليها الارض وجبنا بها عنان السماء.
وانا وسط كل هذا الذكريات, اراه و هو يرسم على وجهه تلك الابتسامة التى يستقبلنى بها كلما اتيت الى هنا. هو الوثاق الذى يربطنى بهذا المكان كلما انستنى الايام. هو النبتة الوحيدة الباقية فى ارض الاباء و الاجداد , بعدما اتت رياح الشتاء الباردة لتقتلع نبتات تلك الارض الواحدة تلو الاخرى. لكنه يقف امامى الان و قد تغيرت ملامحه كثيرا: الظهر قد انحنى بعد ان اثقلته الهموم. الوجه امتلآ بشقوق تبدو لى و كانها بعدد سنوات عمره الثمانون. بل حتى تلك الابتسامة المعهودة قد تغيرت, فهى الان خافتة كضوء القنديل فى اخر الليل.
فى كل مرة اتيت فيها لزيارة العم اقتصر كلامنا على القاء التحية و اطمئنان كلا منا على حال الاخر, ثم نغرق بعدها فى صمت عميق. لكنى احسست هذه المرة فى عينيه بالشوق الى حديث طويل معى, فجلست و انا لا اجد ما اقوله لابدأ به الحديث بيننا.
بعد فترة من الصمت ليست بالقصيرة, قررت ان اقول شيئا لاذابة هذا الصمت بيننا . فخاطبته ممازحا:
- يا عماه….لقد كنت عجوزا دائما. حتى عندما كنت ازورك فى صباى. و لكنك هذه المرة تغيرت كثيرا عن ذى قبل.
تبسم العم و قال:
- يابنى….ومن منا يبقى على حاله؟ هذه سنة الله فى خلقه. هل تظننى ولدت هكذا؟ رجلا مسنا اقتربت منيته؟ بل كنت شابا قويا اعشق و احلم و تراودنى الامنيات. لكن الزمان اتكأ على اتكاءا شديدا حتى انثنى ظهرى كما ترى.
تخوفت و قتها ان يكون فى ضيق من كلامى هذا, فرددت عليه قائلا:
- اطال الله فى عمرك يا عماه. لكنى فقط احسست بالتغيير يعتريك و يعترى كل شىء هنا. حتى البيوت اصبحت مجرد اطلال.
وقتها تذكرت المنزل المجاور لمنزل العم و تلك المراة التى اعتادت ان تجلس على اعتابه. كثيرا ما داعبتنا هذه المراة و نحن صغار عندما كنا نجرى امامها ممتطيين خيول البوص. و عندما سالت العم عنها اجاب:
- رحمها الله .....لقد ماتت منذ عدة سنوات. الم اقل لك يا بنى لا شىء يبقى على حاله.
ثم اخذ العم بعدها ينشر امامى صفحات من الماضى و حكاياته. تكلم معى فى كل شىء, حتى انه حدثنى عن الطريقة التى اعتاد بها زراعة بعض المحاصيل . علمت و قتها بانه اراد ان يترك لى ارثا كبيرا. ليس بمال و لا بارض, بل ارثا من خبرته الطويلة و معرفته الصافية بهذه الدنيا.
تكلمنا لساعات طويلة لا اعرف لها عددا. و بعد ان انتهى الكلام و جاء موعد المغادرة, تصافحنا و تعانقنا على وعد بزيارته العام المقبل و فى شوق الى الاستماع لحكايات اكثر من الماضى.
بالفعل انقضى العام بسرعة و ذهبت لزيارته كما عاهدته. الرائحة تداعب انفى كالمعتاد. الشارع باق كما هو تلوح منه الذكريات و......لحظة......ثمة تغيير ما فى المشهد......نعم , انها اطلال البيوت! فهذا البيت المتهدم القابع فى اخر الشارع لم يكن موجودا من قبل. مشيت الى هناك و انا اطرد افكارا سوداء من راسى , حتى اذا قابلت رجلا فسالته فى وجل : - ماذا حدث؟
اخبرنى الرجل ان رياح الشتاء الباردة اتت هذا العام وقد تحولت الى عاصفة شديدة لتقتلع النبتة الاخيرة و لتترك ارضنا جدباء.
هنا فى هذا الشارع, اعتدت انا و اخى وابناء عمومتى ركوب الخيل . كانت الخيل قوية,فائقة السرعة ,بارعة الجمال. احسسنا فوقها و كاننا فرسان فى دروع فضية نسابق الريح و نقتحم قصور الخيال. الا اننا كنا سريعا ما نستيقظ من تلك الاحلام البطولية لترتطم خيالاتنا الخصبة بجدران و حدود الواقع. فى الحقيقة ,لم يكن هذا الشعورالاسطورى هو الشىء الوحيد الذى اختلقناه, بل ايضا كانت الخيل! فبالرغم من كونها من نبات البوص, الا اننا امتلكنا عليها الارض وجبنا بها عنان السماء.
وانا وسط كل هذا الذكريات, اراه و هو يرسم على وجهه تلك الابتسامة التى يستقبلنى بها كلما اتيت الى هنا. هو الوثاق الذى يربطنى بهذا المكان كلما انستنى الايام. هو النبتة الوحيدة الباقية فى ارض الاباء و الاجداد , بعدما اتت رياح الشتاء الباردة لتقتلع نبتات تلك الارض الواحدة تلو الاخرى. لكنه يقف امامى الان و قد تغيرت ملامحه كثيرا: الظهر قد انحنى بعد ان اثقلته الهموم. الوجه امتلآ بشقوق تبدو لى و كانها بعدد سنوات عمره الثمانون. بل حتى تلك الابتسامة المعهودة قد تغيرت, فهى الان خافتة كضوء القنديل فى اخر الليل.
فى كل مرة اتيت فيها لزيارة العم اقتصر كلامنا على القاء التحية و اطمئنان كلا منا على حال الاخر, ثم نغرق بعدها فى صمت عميق. لكنى احسست هذه المرة فى عينيه بالشوق الى حديث طويل معى, فجلست و انا لا اجد ما اقوله لابدأ به الحديث بيننا.
بعد فترة من الصمت ليست بالقصيرة, قررت ان اقول شيئا لاذابة هذا الصمت بيننا . فخاطبته ممازحا:
- يا عماه….لقد كنت عجوزا دائما. حتى عندما كنت ازورك فى صباى. و لكنك هذه المرة تغيرت كثيرا عن ذى قبل.
تبسم العم و قال:
- يابنى….ومن منا يبقى على حاله؟ هذه سنة الله فى خلقه. هل تظننى ولدت هكذا؟ رجلا مسنا اقتربت منيته؟ بل كنت شابا قويا اعشق و احلم و تراودنى الامنيات. لكن الزمان اتكأ على اتكاءا شديدا حتى انثنى ظهرى كما ترى.
تخوفت و قتها ان يكون فى ضيق من كلامى هذا, فرددت عليه قائلا:
- اطال الله فى عمرك يا عماه. لكنى فقط احسست بالتغيير يعتريك و يعترى كل شىء هنا. حتى البيوت اصبحت مجرد اطلال.
وقتها تذكرت المنزل المجاور لمنزل العم و تلك المراة التى اعتادت ان تجلس على اعتابه. كثيرا ما داعبتنا هذه المراة و نحن صغار عندما كنا نجرى امامها ممتطيين خيول البوص. و عندما سالت العم عنها اجاب:
- رحمها الله .....لقد ماتت منذ عدة سنوات. الم اقل لك يا بنى لا شىء يبقى على حاله.
ثم اخذ العم بعدها ينشر امامى صفحات من الماضى و حكاياته. تكلم معى فى كل شىء, حتى انه حدثنى عن الطريقة التى اعتاد بها زراعة بعض المحاصيل . علمت و قتها بانه اراد ان يترك لى ارثا كبيرا. ليس بمال و لا بارض, بل ارثا من خبرته الطويلة و معرفته الصافية بهذه الدنيا.
تكلمنا لساعات طويلة لا اعرف لها عددا. و بعد ان انتهى الكلام و جاء موعد المغادرة, تصافحنا و تعانقنا على وعد بزيارته العام المقبل و فى شوق الى الاستماع لحكايات اكثر من الماضى.
بالفعل انقضى العام بسرعة و ذهبت لزيارته كما عاهدته. الرائحة تداعب انفى كالمعتاد. الشارع باق كما هو تلوح منه الذكريات و......لحظة......ثمة تغيير ما فى المشهد......نعم , انها اطلال البيوت! فهذا البيت المتهدم القابع فى اخر الشارع لم يكن موجودا من قبل. مشيت الى هناك و انا اطرد افكارا سوداء من راسى , حتى اذا قابلت رجلا فسالته فى وجل : - ماذا حدث؟
اخبرنى الرجل ان رياح الشتاء الباردة اتت هذا العام وقد تحولت الى عاصفة شديدة لتقتلع النبتة الاخيرة و لتترك ارضنا جدباء.