the long night
14-02-2010, 12:15 PM
هذه مقدمة كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور محمد محمد بدري و هو من اصدارات دار الصفوة الطبعة الأولي 1431و هو من أحدث ما انتجته المطابع و لما أعجبتني مقدمة الكتاب أحببت أن يطلع عليها القراء و لقد قسمتها إلي خمسة أقسام
الجزء الأول
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،
أمّا بعـــــد:
فهذا كتاب شرعت في تأليفه منذ سبعة أعوام ، وما أن استجمعت له في نفسي العناصر الضرورية لإتمامه ، حتى أوقفني ظرف مفاجئ ، لا مجال لروايته خاصة في مقدمة كتاب ، إنما يكفي أن أقول أنه ظرف يتعلق بالصراع من أجل الحرية ، وأنه اضطرني إلى إعادة ترتيب بعض أفكاري والعزم على تأجيل البحث في موضوع الكتاب .. و حين هدأ عقلي بعد الكثير من المخاطر والشقاء عزمت على العودة إلى البحث مرة أخرى ، وكان قد مرّ عامان ، ووجدت نفسي أؤجل العمل يوماً بعد يوم .. ربما لأني كنت أدرك حين قررت العودة مقدار الصعوبة في الرجوع إلي البحث من جديد ..!!
نعم .. لقد وجدت كلماتي بعينها ، وأفكاري ذاتها ، لكني حينما حاولت أن أجمعها ، اكتشفت أني أكتب من جديد ، في إطار فقط من نقاط إرشاد ، أو علامات تعين على الاهتداء إلى العناصر الكامنة في نفسي ، فهممت أن أتركها ، وأكتفي بالذكرى .. ولكني وجدت فكرة البحث لا تفارق كياني ، لا أستطيع تجاهلها ، ولا أقدر على مواصلة الحياة مع استبعادها ؛ فقررت متابعة القراءة ، وإعطاء القضية مزيداً من التفكير ، ليقيني بأن البحث عن الحقيقة لن يكون خطأ أبداً ، وإنما الخطأ هو الافتقار إلى الشجاعة للسير إلى حيث تقود تلك الحقيقة .!!
وبدأت البحث من جديد .. بحثت لفترة طويلة كنت فيها كصريع من ظمأ الفكرة يبحث عن نقطة من ماء التجارب ليروي بها صحراء جهله .. أقرأ أكثر المؤلفات مرة وثانية ، وثالثة في بعض الأحيان دون أن أجد في ذلك كلفة ، أوينقص التكرار شيئاً من متعتي بالقراءة لأنني كنت أفهم في الثانية ما يبهم عليّ في الأولي ، وأنفذ في الثالثة إلي ما يغيب عني في الثانية ..
لقد كنت أدرك أن بعض الأفكار كالصيد الكسيح يطالها كل ذي قلم ، وبعض الأفكار كالغزال الشرود تبصره ، وبالكاد تصيده .. وكانت فكرة " ميلاد مجتمع الحرية " تتحرك أمام عيني ، أدقق فيها النظر وبالكاد أراها ، فأطاردها وأحاول اقتناصها ، وأشعر بها تهرب مني ، فتختبئ ، وأحاول اكتشاف مكانها ، ولا أزال أتتبعها حتى أبصرها ـ بعون الله ـ وأمسك بها .. وبقيت على هذه الحال أبحث بجدٍ لا يفارقني الإصرار ليل نهار ، عن خيط يمكن أن يقودني ـ بتوفيق الله ـ " من التيه إلي الرشاد " ، ويدفع بأفكاري إلى الخطوات الأولى " نحو مجتمع الحرية "..
ومنّ الله عليّ ، فانصهرت مكونات هذه الأفكار بنار تلك المعاناة التي كنت أشعر معها وكأني أدفع الأعداء بيدي المنفردة .. فكانت أيام البحث ـ مع صعوبتها ـ من أفضل أيام حياتي ..!! بل إنني نسيت أثناء البحث غربتي من خلال التفاعل مع الأفكار الموجودة في الواقع ، والمدونة في بطون الكتب ، فأخذت أجمع هذه الكنوز لكي تكون في متناول كل غيور على الإنسان ، كل الإنسان ، في الأرض كل الأرض ..
وبقيت على هذه الحال سنوات تشعبت فيها النقاط الأساسية من هذا البحث حتى استوت ـ بتوفيق من الله ـ في صورة شبكة مترابطة من الأفكار ، أحاول من خلالها الوصف ، والتحليل النفسي الدقيق للواقع ، واستخدام ذلك لتغيير ما بالأنفس ، ليغيّر لله ما بها .. كل ذلك من خلال خطوات يتوحد فيها الفكر والممارسة ، والتنظير وتغيير الواقع ، لبيان أزمة الحرية التي يعيشها الإنسان في العالم أجمع ، وتوضيح أسباب حدوثها ، وطرح تصور لكيفية الخلاص منها ..
ولقد انطلقت في هذا الطرح من الإسلام كقاعدة فكرية تُعنى بتحرير الإنسانية جمعاء ، وترتقي إلى مستوى الأحداث الإنسانية ، وترفع الوعي إلى المدى العالمي الكاشف لقوانين الكون والحياة ، لترى سنة الله وهي تعمل فى الوجود الإنساني ..
ولأن تمكين الإنسان من قراءة العالم بشكل نقدي هو تحد كبير وممارسة غير مريحة لأولئك الذين يؤسسون قوتهم على سذاجة من يمكن استغلالهم من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " صناعة الرِق " التى تبيح المتاجرة بكل القيم ، وتسهّل أخلاق السراديب المظلمة ..!! فقد كان ..
· الباب الأول : قافلة الرقيق
والذي حاولت من خلاله توضيح النقطة التي تقف البشرية عندها اليوم ، لنعرف تلك التي نريد الوصولَ إليها .. وأكدت أنه بينما يملأ الحديث عن الحرية كل دنيانا ، و يلهج بذكرها العوام والخواص .. بل ويقيمون لها التماثيل والنُصب ، ويهيمون فى حبها أدباً وفناً ..!! إلا أن من يرَ البشرية من خلال " واقعه " وليس من خلال " أمانيه " ، لا بد له أن يدرك أن الناس يتحركون بسرعة إلى أهداف أُعدت لهم سلفاً وخُطط لها تخطيطاً كاملاً ، فهم فى ذلك أشبه بالأدوات التى توضع على السير المتحرك فى المصانع ، فتتحرك فى الاتجاه المرسوم لها دون أن تعلم لماذا تتحرك ؟ وكيف ؟!!
ولا شك أن إدراك هذا الواقع " المتاهة " ، هو المقدمة الصحيحة إلي طرح البديل الذى يملك وضوح الرؤية ، ويقوم على سلامة المنطلقات والأهداف .. ومن ثم كان ..
ـ الفصل الأول : في دنيا العبيد
والذي أكدت فيه أنه في العالم الغربي الذي يزعم أن الحريّة تظلل حياته .. يشهد واقعه أنه لا تزال فئة قليلة هي التى تتحكم فى كل شىء ، وأنها بجاهها ومكرها وأموالها تصنع الأحزاب وتوجه الرأي العام وتحدد من يفوز فى الانتخابات ، وتلهي الشعب بحريّة الفوضى الخلقية والفكرية ، فلا يفيق من سكره أبداً ..!!
ويحدث كل ذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " صناعة الموافقة " حيث تقوم مجموعة صغيرة من الأقوياء بأخذ القرارات ، بينما باقي الشعب هم من جمهور النظارة ، الذين يتم إجبارهم على الموافقة عن طريق التحكم في عقولهم وتنظيمها ..
وأوضحت .. كيف تحولت الحرية هناك إلى غطاء مقنّع للسيطرة على الإنسان ، من خلال تغيير الاهتمامات ، وإعادة تشكيل الهويات . ثم ترك حرية الاختيار للجماهير التي مهما تنوعت خياراتها ؛ فإنها فى النهاية ستعبّر عن رغبات السادة ، الذين تم تغيير نمط تفكير الجماهير ليوافق ما يريدون .. ومن ثم فقد الإنسان " الحرية " من قبل أن يمارسها ؛ لأن عقله قد تم تدريبه وصياغته لكي يختار وفق رغبات السادة ، وليس رغبات الإنسان !!
إن القرار فى العالم " الحر " تصوغه القوى الخفية المتحكمة من وراء الستار من رجال المصالح النافذين ، ورجال الأعمال المتنفذين ، ثم يعلنه الممثلون على المسرح باسم الشعب الغارق فى لهثه وراء الرزق ، وفى أمواج الشهوات ، ولهيب الجنس مجرداً من أي قيم أو مثل ، نابعاً من المصالح المادية وحدها ..
وإذا أنكر البعض هذا الكلام ، فأنا أدعوه إلى نظرة فى واقع تلك الشعوب ليري شواهد هذا الأمر بشكل واضح جداً .. وليدرك دون لبس أو غموض أو إيهام ، أنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم خياراً .. وإن أتيح لهم قدراً من التحرر النسبي، وقدراً من الخير النسبي .. حرية التنقل .. حرية العمل .. حرية الاجتماع .. حرية الكلام .. حرية الصحافة .. ضمانات الاتهام .. وضمانات التحقيق .. وضمانات القضاء ..!! ذلك أن هذا التوجيه الإيحائي الذى يستخدمه قادة العالم " الحر " ، يحقق ما يحققه التوجيه المباشر الذى يمارس فى ظل غيبة الحرية .
إن قادة هذا العالم " الحر " قد أسقطوا من حساباتهم كل القيم الأخلاقية ، واختاروا مسارات توجهها " قيّم" الخداع والنفعية والتحايل والبطش والسيطرة والاستغلال والابتزاز .. وأصبحت هذه " القيم " غير مستنكرة من الناس بسبب شيوعها علي هذه المستويات القيادية .. و تلك ظاهرة لو أخذناها علي محمل الجد ـ ولابد أن نأخذها كذلك ـ لعرفنا أن البشرية كلها تقف على حافة هاوية سحيقة من العبودية والتخلف ..!!
وإن كانت هذه هي حال الإنسان في مجتمعات ما يسمي بـ " العالم الحر " ؛ فإن حاله في غيرها من المجتمعات لا يحتاج إلى بيان ، حيث لا يتمتع بأية حصانة ، فى مجتمع تفوح منه رائحة الذلة ، ليس عنده قوت يومه ، وغير آمن على عياله ، ولا يعرف ماذا يحمل له المستقبل من هموم ، بل لا يمر عليه يوم إلا والذى بعده أشرّ منه ..!!
إن مقياس التخلف أو التحضر هو فى مدى الحرية التى تقف وراء التجمع الانساني .ذلك أن الحرية تقتضي الفكر . والفكر يمثل أخص خصائص الانسان . والانسان إذا كان لا يستطيع شيئاً ازاء لونه أو جنسه ، لأن ذلك خارج عن نطاقه إرادته ، فإنه يستطيع أن يغيّر معتقده ونمط حياته . لذا فإن المجتمع الذى يولي أخص خصائص الانسان الأهمية القصوى يكون مجتمعاً متحضراً .. وأمّا غيره فإنه يكون مجتمعاً من العبيد .. وهذا ما حاولنا إيضاحه من خلال :
ـ الفصل الثاني : مجتمع الحضارة الأسيرة
حيث حاولنا القيام بحفريات فى " بنية " الحضارة الغربية بمعاول الإسلام ، وفى محيط أفكارنا الإسلامية ، في طلب لـ " الحكمة " التي هي ضالة المؤمن ، ومحاولة للإمساك بـ " الميزان " الذي يميّز الزبد مما ينفع الناس .. ومن ثم الوصول إلي تغيير يعصم البشرية من تدمير " الإنسان " وتحويله إلي " شيء " في ظل " حضارة " لم تعد تعرف شيئاً من الخير للإنسانية ، وتحاول من خلال القوة أن تجعل صورة الإنسان الذي رسمته هي " المثال " الإنساني الذي يجب النسج علي منواله .. بينما هو لا يعدو أن يكون لوناً من " السراب " الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً !!
وأمّا المجتمعات التي تحوي هذا " السراب الإنساني " ، فهي مجتمعات " الأكذوبة الحضارية " ، لأن الحضارة الحقة هي التي ترتفع " بالإنسان " في كيانه كله ، و في " كافة " مجالات حياته .. وتلك مجتمعات يشيع فيها الرق النفسي والفكري ، وتلغى كرامة الانسان !! .. حيث يركض كالعبد خلف متطلبات الحياة الاستهلاكية ، ورأسه مشغول كحاسبة ملآنة بالأرقام والمواعيد والتفاصيل ، وقلبه مربوط بأقساط سيظل يسدد فيها طيلة عمره ، ويده مغلولة بسلاسل تشده كما تشد القطيع الراكض معه ، وعنقه مرهون عند بائع العقارات ، ورئتاه موصولتان ببوصلة التذبذب واللا استقرار .. وروحه هناك مطبوعة على بطاقة " الكريديت كارت " .. لا وزن لإنسانيته ، ولا قيمة لكرامته ..يقاسي عذاباً قاتلاً ، وقلقاً مدمراً وفساداً كبيراً تحت وطأة " حضارة " جافة إيمانياً كشجرة بلا لحاء .. فهي متخشبة وإن طليت بماء الذهب !!
نعم .. قد تتيح تلك المجتمعات للإنسان قدراً من " الحرية " ، و " حقوق الإنسان " ـ فيما يبدو لمن عجز عن إدراك الحقيقة .. حقيقة أن اليد التي تمنح الحرية هناك ، هي نفسها التي تمنعها هنا ، وأن القانون الذي يحفظ "حقوق الإنسان" هناك هو ذاته الذي يقبل ـ بل يمارس ـ انتهاكها هنا .. وأن تلك المجتمعات تقوم علي القوة والصراع ، وتسلط الإنسان علي الإنسان ..فهي مجتمعات جباية ، وحقد ، وعدوان ، ولو بدت علي غير ذلك ، بسبب التضليل الإعلامي ..
إن تلك المجتمعات تجعل من مشعل الحضارة " فتيلاً " يحرق بدل أن يضيء ، وفي ضوء ما تشعل من نار ، تشيع الفوضى والظلم في أجزاء الأرض ، وتعالج المشكلات بقطع الرؤوس بدل ترشيدها وهدايتها ، وتسعي دائماً لإقامة إمبراطورية الشر الأسطوري التي تجعل الدنيا مرتعاً خصباً للنهب والسلب ، وتجعل الناس عبيداً لهم ، لا يأكلون إلا مما يقدمونه لهم ، ولا يلبسون إلا ما يلبسوهم إياه ، ولا يدرسون إلا ما يدرسوهم ، ولا يطلبون العلم إلا من مناهلهم !!
وأحسب ـ والله أعلم ـ أن هذه الكلمات هي لون من ألوان السباحة ضد التيار ، وأن من سيتوقفون أمامها هم القليل من أصحاب العقول الأكثر تفتحاً وفهماً .. الذين يدركون أن طبيعة الأشواق تحدد طبيعة الحضارة ، وأن عملية بث الأشواق في روح الإنسان مشيد الحضارات عملية هامة تحتاج إلي علم بها وصبر عليها ورعاية لها ، و أن من يحاول التغيير ، لا بد له أن يعلم مقدار الفكر والفهم الذي يحمله من يُرِد تغييرهم ، وأن يقرأ نفسياتهم وعقلياتهم ، ويغوص في أعماقها ؛ ومن ثم فقد مسّت الحاجة أن يكون :
الجزء الأول
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،
أمّا بعـــــد:
فهذا كتاب شرعت في تأليفه منذ سبعة أعوام ، وما أن استجمعت له في نفسي العناصر الضرورية لإتمامه ، حتى أوقفني ظرف مفاجئ ، لا مجال لروايته خاصة في مقدمة كتاب ، إنما يكفي أن أقول أنه ظرف يتعلق بالصراع من أجل الحرية ، وأنه اضطرني إلى إعادة ترتيب بعض أفكاري والعزم على تأجيل البحث في موضوع الكتاب .. و حين هدأ عقلي بعد الكثير من المخاطر والشقاء عزمت على العودة إلى البحث مرة أخرى ، وكان قد مرّ عامان ، ووجدت نفسي أؤجل العمل يوماً بعد يوم .. ربما لأني كنت أدرك حين قررت العودة مقدار الصعوبة في الرجوع إلي البحث من جديد ..!!
نعم .. لقد وجدت كلماتي بعينها ، وأفكاري ذاتها ، لكني حينما حاولت أن أجمعها ، اكتشفت أني أكتب من جديد ، في إطار فقط من نقاط إرشاد ، أو علامات تعين على الاهتداء إلى العناصر الكامنة في نفسي ، فهممت أن أتركها ، وأكتفي بالذكرى .. ولكني وجدت فكرة البحث لا تفارق كياني ، لا أستطيع تجاهلها ، ولا أقدر على مواصلة الحياة مع استبعادها ؛ فقررت متابعة القراءة ، وإعطاء القضية مزيداً من التفكير ، ليقيني بأن البحث عن الحقيقة لن يكون خطأ أبداً ، وإنما الخطأ هو الافتقار إلى الشجاعة للسير إلى حيث تقود تلك الحقيقة .!!
وبدأت البحث من جديد .. بحثت لفترة طويلة كنت فيها كصريع من ظمأ الفكرة يبحث عن نقطة من ماء التجارب ليروي بها صحراء جهله .. أقرأ أكثر المؤلفات مرة وثانية ، وثالثة في بعض الأحيان دون أن أجد في ذلك كلفة ، أوينقص التكرار شيئاً من متعتي بالقراءة لأنني كنت أفهم في الثانية ما يبهم عليّ في الأولي ، وأنفذ في الثالثة إلي ما يغيب عني في الثانية ..
لقد كنت أدرك أن بعض الأفكار كالصيد الكسيح يطالها كل ذي قلم ، وبعض الأفكار كالغزال الشرود تبصره ، وبالكاد تصيده .. وكانت فكرة " ميلاد مجتمع الحرية " تتحرك أمام عيني ، أدقق فيها النظر وبالكاد أراها ، فأطاردها وأحاول اقتناصها ، وأشعر بها تهرب مني ، فتختبئ ، وأحاول اكتشاف مكانها ، ولا أزال أتتبعها حتى أبصرها ـ بعون الله ـ وأمسك بها .. وبقيت على هذه الحال أبحث بجدٍ لا يفارقني الإصرار ليل نهار ، عن خيط يمكن أن يقودني ـ بتوفيق الله ـ " من التيه إلي الرشاد " ، ويدفع بأفكاري إلى الخطوات الأولى " نحو مجتمع الحرية "..
ومنّ الله عليّ ، فانصهرت مكونات هذه الأفكار بنار تلك المعاناة التي كنت أشعر معها وكأني أدفع الأعداء بيدي المنفردة .. فكانت أيام البحث ـ مع صعوبتها ـ من أفضل أيام حياتي ..!! بل إنني نسيت أثناء البحث غربتي من خلال التفاعل مع الأفكار الموجودة في الواقع ، والمدونة في بطون الكتب ، فأخذت أجمع هذه الكنوز لكي تكون في متناول كل غيور على الإنسان ، كل الإنسان ، في الأرض كل الأرض ..
وبقيت على هذه الحال سنوات تشعبت فيها النقاط الأساسية من هذا البحث حتى استوت ـ بتوفيق من الله ـ في صورة شبكة مترابطة من الأفكار ، أحاول من خلالها الوصف ، والتحليل النفسي الدقيق للواقع ، واستخدام ذلك لتغيير ما بالأنفس ، ليغيّر لله ما بها .. كل ذلك من خلال خطوات يتوحد فيها الفكر والممارسة ، والتنظير وتغيير الواقع ، لبيان أزمة الحرية التي يعيشها الإنسان في العالم أجمع ، وتوضيح أسباب حدوثها ، وطرح تصور لكيفية الخلاص منها ..
ولقد انطلقت في هذا الطرح من الإسلام كقاعدة فكرية تُعنى بتحرير الإنسانية جمعاء ، وترتقي إلى مستوى الأحداث الإنسانية ، وترفع الوعي إلى المدى العالمي الكاشف لقوانين الكون والحياة ، لترى سنة الله وهي تعمل فى الوجود الإنساني ..
ولأن تمكين الإنسان من قراءة العالم بشكل نقدي هو تحد كبير وممارسة غير مريحة لأولئك الذين يؤسسون قوتهم على سذاجة من يمكن استغلالهم من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " صناعة الرِق " التى تبيح المتاجرة بكل القيم ، وتسهّل أخلاق السراديب المظلمة ..!! فقد كان ..
· الباب الأول : قافلة الرقيق
والذي حاولت من خلاله توضيح النقطة التي تقف البشرية عندها اليوم ، لنعرف تلك التي نريد الوصولَ إليها .. وأكدت أنه بينما يملأ الحديث عن الحرية كل دنيانا ، و يلهج بذكرها العوام والخواص .. بل ويقيمون لها التماثيل والنُصب ، ويهيمون فى حبها أدباً وفناً ..!! إلا أن من يرَ البشرية من خلال " واقعه " وليس من خلال " أمانيه " ، لا بد له أن يدرك أن الناس يتحركون بسرعة إلى أهداف أُعدت لهم سلفاً وخُطط لها تخطيطاً كاملاً ، فهم فى ذلك أشبه بالأدوات التى توضع على السير المتحرك فى المصانع ، فتتحرك فى الاتجاه المرسوم لها دون أن تعلم لماذا تتحرك ؟ وكيف ؟!!
ولا شك أن إدراك هذا الواقع " المتاهة " ، هو المقدمة الصحيحة إلي طرح البديل الذى يملك وضوح الرؤية ، ويقوم على سلامة المنطلقات والأهداف .. ومن ثم كان ..
ـ الفصل الأول : في دنيا العبيد
والذي أكدت فيه أنه في العالم الغربي الذي يزعم أن الحريّة تظلل حياته .. يشهد واقعه أنه لا تزال فئة قليلة هي التى تتحكم فى كل شىء ، وأنها بجاهها ومكرها وأموالها تصنع الأحزاب وتوجه الرأي العام وتحدد من يفوز فى الانتخابات ، وتلهي الشعب بحريّة الفوضى الخلقية والفكرية ، فلا يفيق من سكره أبداً ..!!
ويحدث كل ذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " صناعة الموافقة " حيث تقوم مجموعة صغيرة من الأقوياء بأخذ القرارات ، بينما باقي الشعب هم من جمهور النظارة ، الذين يتم إجبارهم على الموافقة عن طريق التحكم في عقولهم وتنظيمها ..
وأوضحت .. كيف تحولت الحرية هناك إلى غطاء مقنّع للسيطرة على الإنسان ، من خلال تغيير الاهتمامات ، وإعادة تشكيل الهويات . ثم ترك حرية الاختيار للجماهير التي مهما تنوعت خياراتها ؛ فإنها فى النهاية ستعبّر عن رغبات السادة ، الذين تم تغيير نمط تفكير الجماهير ليوافق ما يريدون .. ومن ثم فقد الإنسان " الحرية " من قبل أن يمارسها ؛ لأن عقله قد تم تدريبه وصياغته لكي يختار وفق رغبات السادة ، وليس رغبات الإنسان !!
إن القرار فى العالم " الحر " تصوغه القوى الخفية المتحكمة من وراء الستار من رجال المصالح النافذين ، ورجال الأعمال المتنفذين ، ثم يعلنه الممثلون على المسرح باسم الشعب الغارق فى لهثه وراء الرزق ، وفى أمواج الشهوات ، ولهيب الجنس مجرداً من أي قيم أو مثل ، نابعاً من المصالح المادية وحدها ..
وإذا أنكر البعض هذا الكلام ، فأنا أدعوه إلى نظرة فى واقع تلك الشعوب ليري شواهد هذا الأمر بشكل واضح جداً .. وليدرك دون لبس أو غموض أو إيهام ، أنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم خياراً .. وإن أتيح لهم قدراً من التحرر النسبي، وقدراً من الخير النسبي .. حرية التنقل .. حرية العمل .. حرية الاجتماع .. حرية الكلام .. حرية الصحافة .. ضمانات الاتهام .. وضمانات التحقيق .. وضمانات القضاء ..!! ذلك أن هذا التوجيه الإيحائي الذى يستخدمه قادة العالم " الحر " ، يحقق ما يحققه التوجيه المباشر الذى يمارس فى ظل غيبة الحرية .
إن قادة هذا العالم " الحر " قد أسقطوا من حساباتهم كل القيم الأخلاقية ، واختاروا مسارات توجهها " قيّم" الخداع والنفعية والتحايل والبطش والسيطرة والاستغلال والابتزاز .. وأصبحت هذه " القيم " غير مستنكرة من الناس بسبب شيوعها علي هذه المستويات القيادية .. و تلك ظاهرة لو أخذناها علي محمل الجد ـ ولابد أن نأخذها كذلك ـ لعرفنا أن البشرية كلها تقف على حافة هاوية سحيقة من العبودية والتخلف ..!!
وإن كانت هذه هي حال الإنسان في مجتمعات ما يسمي بـ " العالم الحر " ؛ فإن حاله في غيرها من المجتمعات لا يحتاج إلى بيان ، حيث لا يتمتع بأية حصانة ، فى مجتمع تفوح منه رائحة الذلة ، ليس عنده قوت يومه ، وغير آمن على عياله ، ولا يعرف ماذا يحمل له المستقبل من هموم ، بل لا يمر عليه يوم إلا والذى بعده أشرّ منه ..!!
إن مقياس التخلف أو التحضر هو فى مدى الحرية التى تقف وراء التجمع الانساني .ذلك أن الحرية تقتضي الفكر . والفكر يمثل أخص خصائص الانسان . والانسان إذا كان لا يستطيع شيئاً ازاء لونه أو جنسه ، لأن ذلك خارج عن نطاقه إرادته ، فإنه يستطيع أن يغيّر معتقده ونمط حياته . لذا فإن المجتمع الذى يولي أخص خصائص الانسان الأهمية القصوى يكون مجتمعاً متحضراً .. وأمّا غيره فإنه يكون مجتمعاً من العبيد .. وهذا ما حاولنا إيضاحه من خلال :
ـ الفصل الثاني : مجتمع الحضارة الأسيرة
حيث حاولنا القيام بحفريات فى " بنية " الحضارة الغربية بمعاول الإسلام ، وفى محيط أفكارنا الإسلامية ، في طلب لـ " الحكمة " التي هي ضالة المؤمن ، ومحاولة للإمساك بـ " الميزان " الذي يميّز الزبد مما ينفع الناس .. ومن ثم الوصول إلي تغيير يعصم البشرية من تدمير " الإنسان " وتحويله إلي " شيء " في ظل " حضارة " لم تعد تعرف شيئاً من الخير للإنسانية ، وتحاول من خلال القوة أن تجعل صورة الإنسان الذي رسمته هي " المثال " الإنساني الذي يجب النسج علي منواله .. بينما هو لا يعدو أن يكون لوناً من " السراب " الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً !!
وأمّا المجتمعات التي تحوي هذا " السراب الإنساني " ، فهي مجتمعات " الأكذوبة الحضارية " ، لأن الحضارة الحقة هي التي ترتفع " بالإنسان " في كيانه كله ، و في " كافة " مجالات حياته .. وتلك مجتمعات يشيع فيها الرق النفسي والفكري ، وتلغى كرامة الانسان !! .. حيث يركض كالعبد خلف متطلبات الحياة الاستهلاكية ، ورأسه مشغول كحاسبة ملآنة بالأرقام والمواعيد والتفاصيل ، وقلبه مربوط بأقساط سيظل يسدد فيها طيلة عمره ، ويده مغلولة بسلاسل تشده كما تشد القطيع الراكض معه ، وعنقه مرهون عند بائع العقارات ، ورئتاه موصولتان ببوصلة التذبذب واللا استقرار .. وروحه هناك مطبوعة على بطاقة " الكريديت كارت " .. لا وزن لإنسانيته ، ولا قيمة لكرامته ..يقاسي عذاباً قاتلاً ، وقلقاً مدمراً وفساداً كبيراً تحت وطأة " حضارة " جافة إيمانياً كشجرة بلا لحاء .. فهي متخشبة وإن طليت بماء الذهب !!
نعم .. قد تتيح تلك المجتمعات للإنسان قدراً من " الحرية " ، و " حقوق الإنسان " ـ فيما يبدو لمن عجز عن إدراك الحقيقة .. حقيقة أن اليد التي تمنح الحرية هناك ، هي نفسها التي تمنعها هنا ، وأن القانون الذي يحفظ "حقوق الإنسان" هناك هو ذاته الذي يقبل ـ بل يمارس ـ انتهاكها هنا .. وأن تلك المجتمعات تقوم علي القوة والصراع ، وتسلط الإنسان علي الإنسان ..فهي مجتمعات جباية ، وحقد ، وعدوان ، ولو بدت علي غير ذلك ، بسبب التضليل الإعلامي ..
إن تلك المجتمعات تجعل من مشعل الحضارة " فتيلاً " يحرق بدل أن يضيء ، وفي ضوء ما تشعل من نار ، تشيع الفوضى والظلم في أجزاء الأرض ، وتعالج المشكلات بقطع الرؤوس بدل ترشيدها وهدايتها ، وتسعي دائماً لإقامة إمبراطورية الشر الأسطوري التي تجعل الدنيا مرتعاً خصباً للنهب والسلب ، وتجعل الناس عبيداً لهم ، لا يأكلون إلا مما يقدمونه لهم ، ولا يلبسون إلا ما يلبسوهم إياه ، ولا يدرسون إلا ما يدرسوهم ، ولا يطلبون العلم إلا من مناهلهم !!
وأحسب ـ والله أعلم ـ أن هذه الكلمات هي لون من ألوان السباحة ضد التيار ، وأن من سيتوقفون أمامها هم القليل من أصحاب العقول الأكثر تفتحاً وفهماً .. الذين يدركون أن طبيعة الأشواق تحدد طبيعة الحضارة ، وأن عملية بث الأشواق في روح الإنسان مشيد الحضارات عملية هامة تحتاج إلي علم بها وصبر عليها ورعاية لها ، و أن من يحاول التغيير ، لا بد له أن يعلم مقدار الفكر والفهم الذي يحمله من يُرِد تغييرهم ، وأن يقرأ نفسياتهم وعقلياتهم ، ويغوص في أعماقها ؛ ومن ثم فقد مسّت الحاجة أن يكون :