مشاهدة النسخة كاملة : خلافة أبى بكر الصديق


خالد مسعد .
19-02-2010, 02:16 PM
خلافة أبى بكر الصديق
(11 - 13 هـ / 632- 634م ) تمت البيعة لأبى بكر، ونجح المسلمون: الأنصار والمهاجرون فى أول امتحان لهم بعد وفاة الرسول، لقد احترموا مبدأ الشورى، وتمسكوا بالمبادئ الإسلامية، فقادوا سفينتهم إلى شاطئ الأمان.

وها هو ذا خليفتهم يقف بينهم ليعلن عن منهجه، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: "أيها الناس، إنى قد وليت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى (ردونى عن الإساءة)، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ له حقه، والقوى ضعيف عندى حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله" (ابن هشام).

كان الإسلام فى عهد النبى قد بدأ ينتشر بعد السنة السادسة للهجرة، وبعد هزيمة هوازن وثقيف بدأت الوفود تَرِد إلى الرسول معلنة إسلامها، وكان ذلك فى العام التاسع!

جهاد أبى بكر
لقد دخل الناس فى دين الله أفواجًا، وقلَّ عدد المشركين الذين يعبدون الأصنام، وطهرت الجزيرة العربية من الشر، لكن بعض الذين دخلوا فى الإسلام كان منهم ضعاف الإيمان، ولم يكن الإيمان قد استقر فى قلوبهم، وقد دخله بعضهم طمعًا فى الأراضى والأموال.

وكانت وفاة الرسول فرصة لهؤلاء وأولئك لكى يظهروا ما أخفوه خلال الفترة الماضية، ولكى يعلنوا ردتهم عن الدين الحنيف، فماذا يفعل الصديق، والخلافة فى أول عهدها ؟!

إن هناك جماعة منعت الزكاة، وأخرى ارتدت، بل ادعى بعض الناس منهم النبوة !

جيش أسامة
لقد كان على أبى بكر -رضى الله عنه- أن يواجه هؤلاء جميعًا. وليس هذا فقط بل كان عليه أن يؤمِّن حدود الدولة الإسلامية ضد الأعداء الخارجيين، وكان الرسول قد أعدَّ لذلك جيشًا بقيادة أسامة بن زيد، ولكنه مات قبل أن يبرح الجيش المدينة، وظل أسامة بجيشه على حدود المدينة ينتظر الأوامر!
وراح الجميع يفكرون فى مواجهة أعداء الأمة الإسلامية الوليدة!

وكان رأى بعض المسلمين أن توجه كل الجهود إلى محاربة المرتدين، وأن يؤجل إنفاذ جيش أسامة لمحاربة الروم إلى ما بعد القضاء على المرتدين، وأن يتفرغ أبو بكر لذلك، ولكن أبا بكر وقف شامخًا راسخًا، يؤكد العزم على قتالهم جميعًا فى كل الجبهات، قائلا عن مانعى الزكاة: "والله لو منعونى عِقَال بعير (ما يربط به البعير) كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه" [متفق عليه].

ولقد أصر أن يتم بعث أسامة قائلاً: "والله لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر الرسول" (ابن كثير).

حملات عسكرية
وأعد أبو بكر -رضى الله عنه- إحدى عشرة حملة عسكرية، كان من أشهرها: حملة خالد بن الوليد، وحملة العلاء بن الحضرمى.

جيش العلاء بن الحضرمى
كان ملك البحرين، قد أسلم فى عهد الرسول، وأقام فى رعيته الإسلام والعدل، وعندما مات رسول الله ومات ملك البحرين، ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم: لو كان محمد نبيّا ما مات.

وبقيت بالبحرين قرية يقال لها جُوَاثا ثابتة على دينها، فقد قام فيها رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله، فقال: يا معشر عبد القيس إنى سائلكم عن أمر فأخبرونى إن علمتموه. قالوا: سَلْ. قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا: نعم. قال: تعلمونه أم ترونه؟ قالوا: نعلمه. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا. قال: فإن محمدًا مات كما ماتوا، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: ونحن أيضًا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وثبتوا على إسلامهم" (ابن كثير).

وأرسل أبو بكر العلاء بن الحضرمى أحد كبار الصحابة إلى حرب المرتدين من أهل البحرين، وكان العلاء على معرفة بأحوال هذه البلاد لأن الرسول كان قد أرسله ليجمع الزكاة من أهلها.

وحدث فى هذه الغزوة أن نزل العلاء منزلاً فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شىء سوى ثيابهم، وذلك ليلاً، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فأصاب الناس همٌّ عظيم وجعل يوصى بعضهم إلى بعض، فنادى منادى العلاء، فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس، ألستم المسلمين؟ ألستم فى سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى. قال: فأبشروا والله لا يخذل الله مَنْ كان فى مثل حالكم. ونودى لصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بالناس، ثم جثا على ركبتيه، وجثا الناس، واستمر فى الدعاء حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد مرة، وهو يجتهد فى الدعاء، فوجدوا إلى جانبهم غديرًا عظيمًا من الماء، فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما انتهى النهار حتى أقبلت الإبل من كل مكان بما عليها لم يفقدوا شيئًا من أمتعتهم.

والتقى جيش العلاء بالمرتدين فهزموهم، وفروا منهم فى البحر إلى "دارين"، فتبعهم المسلمون، لكنهم عندما وصلوا إلى ساحل البحر ليركبوا، وجدوا أن المسافة بعيدة، ولو انتظروا حتى يجهزوا المراكب التى سوف يعبرون عليها، لتمكن الأعداء من الهروب، فاقتحم العلاء البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، ويا أحد يا صمد، يا حى يا محيى، يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا. وأمر الجيش أن يقولوا ذلك، ففعلوا وعبر بهم الخليج بإذن الله، فقطعه إلى الساحل الآخر، فقاتل عدوه وهزمهم، وأخذوا غنائمهم وأموالهم. ولم يفقد المسلمون فى البحر شيئًا سوى عليقة فرس.

وكان مع الجيش راهب من أهل هجر، فأسلم وقال: خشيت إن لم أفعل أن يمحقنى الله لما شاهدت من الآيات، ولقد علمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، فحسن إسلامه (ابن كثير).

لقد خرج المؤمنون خالصة نواياهم، غايتهم العزة لدين الله العظيم؛ من أجل ذلك أمدهم الله بكراماته، وأيدهم بنصره.

لقد هزت هذه الجيوش الجزيرة العربية هزًّا عنيفًا، وأعادت المارقين والخارجين إلى حديقة الإيمان من جديد؛ ليعرفوا أن الله هو الحق المبين، وأن رسوله هو خاتم النبيين، وإذا كان محمد قد مات، فإن دين الإسلام الذى جاء به باق إلى يوم القيامة بإذن الله.

وكان جيش أسامة الذى أرسله أبو بكر لمحاربة الروم قد حقق الهدف الذى بعث من أجله، فَأَمَّنَ الحدود، وأعاد الثقة إلى النفوس!

وعرف الروم أن الدولة الإسلامية مازالت قوية، لم تضعف، وفى استطاعتها أن تصد كيد الأعداء.

وفى وقت بعث أسامة، كان بعض مانعى الزكاة قد جاءوا إلى أبى بكر، فلما رأوا تصميمه على أخذ الزكاة، رجعوا إلى قبائلهم وأغروهم بالقضاء على الإسلام، والاستيلاء على المدينة، وكان أبوبكر قد وضع بعض الصحابة على أنقاب المدينة؛ لأنه توقَّع إغارتهم، وعندما اتجهوا بالفعل إلى المدينة، وعرف أبو بكر أوصى الواقفين على الأنقاب بالصبر، ثم اتجه هو وبعض الصحابة، إليهم ولقنوا هؤلاء المرتدين درسًا لا يُنسى، حتى يعلموهم وغيرهم أن الدولة الإسلامية لم تضعف بعد وفاة النبى.

كما عمل أبو بكر -رضى الله عنه- على القضاء على كل من تسول له نفسه أن يطعن فى دين الله، كأولئك الذين ادعوا النبوة أمثال الأسود العنسى وسجاح التى أسلمت فيما بعد، ومسيلمة الكذاب الذى أرسل إليه أبو بكر جيشًا هزمه شر هزيمة فى وقعة اليمامة، حيث قتل الله الكذاب بعد ما استشهد كثير من الصحابة وخاصة بعض حملة القرآن منهم.

فتوحات أبى بكر
انتهت حروب الردة، وتم القضاء على كل من ادعى النبوة كالأسود العنسى، ومسيلمة الكذاب، وسجاح. ورجع الهدوء والاستقرار إلى الجزيرة العربية.

وبدأت أنظار المسلمين تتجه ناحية حدود دولتهم، فالفرس يقفون فى وجه الدعوة الإسلامية، ويساندون أعداءها. والروم يحاربون الدعوة وينصرون خصومها.

أبو بكر والفرس
بدأت عداوة الفرس للمسلمين فى عهد الرسول عندما أمر ملك الفرس عامله على اليمن أن يرسل من عنده رجلا ليقتل رسول الله أو يأسره بعدما أرسل له النبى من يدعوه إلى الإسلام ولكن الله أهلك ملك الفرس عندما ثار عليه قومه وحفظ رسوله حتى مات.

وعندما ارتدت العرب ظن الفرس أن العرب المرتدين سيقضون على الإسلام فى مهده، ولكن الله خَيَّبَ ظنهم، فعادوا يكيدون للإسلام، فما كان من أبى بكر الصديق -رضى الله عنه- إلا أن بعث إليهم خالد بن الوليد، وتحرك الجيش بقيادته نحو العراق، ونزل الحيرة فدعا أهلها إلى الإسلام، أو الجزية، أو الحرب. ولهم أن يختاروا الموقف الذى يناسبهم، فلا إكراه فى الدين، ولا عدوان إلا على الظالمين! والإسلام أحب إلى كل مسلم من الجزية أو الحرب.

وقبل أهل الحيرة أن يدفعوا للمسلمين الجزية ويعيشوا فى أمان وسلام، وكانت هذه أول جزية تؤخذ من الفرس فى الإسلام.

وسار خالد بجيشه إلى الأنبار، فهزم أهلها حتى نزلوا على شروطه، وقبلوا دفع الجزية أيضًا. ثم اتجه إلى "عين التمر"، ومنها إلى "دومة الجندل"، وفتحهما عنوة وقهرًا بعد أن رفض أهلها الإسلام والجزية وأعلنوا الحرب! فعاد البطل الفاتح منتصرًا بعد أن أَمَّنَ حدود الدولة الإسلامية الناشئة من ناحية الفرس.

مواجهة الروم
لكن خطر الروم ما زال يهدد الدولة الإسلامية !! فهذا هرقل إمبراطور الروم قد جمع قواته على حدود فلسطين؛ وحرض العرب المجاورين له على معاداة المسلمين ليوقف المد الإسلامى والزحف المبارك، ولكن كلمة الله لابد أن تكون هى العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى! لابد أن يزيل أبو بكر -رضى الله عنه- كل العوائق التى تقف فى طريق الدعوة الإسلامية، وتتربص بها، تريد القضاء عليها!

ودعا أبو بكر المجاهدين لحرب الروم فى الشام، وأعلن التعبئة العامة ليلقن كل الذين يفكرون فى العدوان على الإسلام والمسلمين درسًا لا ينسى، وتحركت الجيوش من "المدينة المنورة" وبتشكيل أربع فرق يقودها قواد عباقرة عظام.

كان على رأس الأولى: "عمرو بن العاص" ووِجْهَتُه "فلسطين".

وكان على رأس الثانية "يزيد بن أبى سفيان" ووجهته دمشق.

وكان على رأس الثالثة "الوليد بن عقبة" ووجهته "وادى الأردن".

أما الرابعة فكان على رأسها "أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح" ووجهته "حمص".

اليرموك
لما انتهى أبو بكر الصديق من القضاء على فتنة المرتدين، قرر مواجهة القوتين العظميين آنذاك، وفكر فى مواجهة إحداهما، وبعث عددًا من الجند لمناورة القوى الأخرى، حتى لا تكون هناك فرصة لهما أن يجتمعا ضد المسلمين.

وكان الفرس قد عرفوا بعدائهم الشديد للإسلام، وقد ظهر هذا من خلال بعض الأعمال، كمساندتهم للمرتدين، وإمداد كل من ادعى النبوة فى الجزيرة العربية، بل حاولوا القضاء على الإسلام، ولذا، فقد استجاب أبو بكر لطلب المثنى بن حارثة للتحرش بالفرس، بل أمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يساعد المثنى، وذلك بالإرسال إليه بعد انتهاء خالد من حرب أهل العراق، وشعر الفرس بقوة المسلمين بعد الذى صنعه خالد ببعض الأراضى التى كانوا يحتلونها.

أما القوى الرومية، فقد بعث أبو بكر خالد بن سعيد بن العاص يرابط بقواته قرب مناطق يسيطر عليها الروم والقبائل العربية التى تعتنق النصرانية وتحالف الروم، ثم أرسل أبو بكر الجيوش بقوادها الأربعة إلى بلاد الشام، وقد أدرك الروم ما يرمى إليه خليفة المسلمين، فاستعدوا لحرب آتية لابد منها مع المسلمين، بل نقل هرقل مقر القيادة إلى حمص ليكون أقرب من ميدان القتال، ولما رأى المسلمون ذلك، طلبوا من أبى بكر أن يرسل إليهم بالمدد، فأرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يتحرك بمن معه فى نجد إلى الشام، ولاسيما أن الفرس فى حالة من الضعف، ورحل خالد بمن معه إلى الشام، حيث جرت معركة اليرموك بين المسلمين والروم، واحتشدت القوات للمواجهة، وقبل البدء فى القتال كان أبو بكر قد توفى ورحل إلى الرفيق الأعلى وتولى مكانه عمر، ولكن الجيش الإسلامى لم يكن يعلم بذلك، وتجهز جيش المسلمين للقاء الروم.

هيكلة الجيش
استعد جيش المسلمين للقاء، فكان على ميمنة الجيش إلى الشمال عمرو بن العاص، وعلى الميسرة من الجنوب قرب نهر اليرموك يزيد بن أبى سفيان بن حرب، وكان أبو عبيدة بن الجراح بينهما.

وخرج المسلمون على راياتهم، فكان على راية الميمنة معاذ بن جبل -رضى الله عنه-، وعلى راية الميسرة نفاثة بن أسامة الكنانى، وعلى الرجّالة هاشم بن عتبة بن أبى العاص، وعلى الخيّالة خالد بن الوليد، وهو المشير فى الحرب الذى يصدر الناس كلهم عن رأيه، ولما أقبلت الروم بأعدادها وعتادها وقد سدت الأفق، ورهبانهم يتلون الأناجيل يباركون صفهم. وأثناء ذلك، تحرك خالد بن الوليد إلى أبى عبيدة، وقال له: إنى مشير بأمر. فقال أبو عبيدة: قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فقال خالد: إن هؤلاء القوم لابد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإنى أخشى على الميمنة والميسرة، وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين، وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدوهم كانوا لهم ردءًا، فنأتيهم من ورائهم، وجعل قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله، حتى إذا فر أحد رآه، فيستحى منه، ورجع يقاتل مرة ثانية، فجعل أبو عبيدة مكانه فى القلب سعيد ابن زيد بن عمرو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وابن عم عمر، وزوج أخته، وساق خالد النساء وراء الجيش، ومعهن عدد من السيوف، وقال لهن: من رأيتنه هاربًا، فاقتلنه. ثم رجع إلى موقفه من الجيش.

قبل اللقاء
ولما برز الفريقان، قام عدد من أعلام المسلمين يعظون الجيش ويذكرون الناس بفضل الجهاد، والثواب عند الله يوم القيامة، فقام أبو عبيدة ووعظ الناس، كما قام معاذ بن جبل وعمرو بن العاص، وأبو سفيان بن حرب وأبو هريرة -رضى الله عنهم.

السياسة الحربـية
ولما تقارب الفريقان، تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان ومعهما ضرار بن الأزور والحارث بن هشام وأبو جندل بن سهيل بن عمرو، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع له. فلما ذهبوا إلى (تذارق) أراد أن يجلسهم على فرش من حرير فرفضوا، وجلس هو معهم حيث شاءوا، فعرضوا عليه إما الإسلام وإما الجزية وإما الحرب، ولكن الروم آثروا الحرب على الإسلام والجزية.

عز الإسلام
ثم طلب ماهان خالد بن الوليد ليبرز له فيما بين الصفين، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطى كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها. فرد عليه خالد قائلا: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنَّا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نحدث به عن العرب.

بداية ونهاية
وتقدم خالد إلى عكرمة بن أبى جهل والقعقاع بن عمرو، وهما على جانبى القلب، وأمرهما ببدء القتال، وهكذا بدأت المعركة، وكان ذلك فى أوائل رجب عام (13 هـ)، وحملت ميسرة الروم على ميمنة المسلمين، فمالوا إلى جهة القلب، ثم تنادى المسلمون فتراجعوا، وحملوا على الروم وردت النساء من فر، ثم نادى عكرمة بن أبى جهل قائلا: قاتلت رسول الله فى مواطن، وأفر منكم اليوم! وبايعه جماعة من الصحابة على الموت، وصل عددهم إلى 400 رجل، وقاتلوا أمام فسطاط خالد، فجرحوا جميعًا، ومات بعضهم، ثم حمل خالد بن الوليد بالخيل على ميسرة الروم التى حملت على ميمنة المسلمين، فأزالوهم إلى القلب، وقتل المسلمون فى حملتهم هذه 6000 من الروم، ثم حمل خالد بمائة فارس على ما يقرب من مائة ألف من الروم، فانهزم الروم أمامهم بإذن الله تعالى، ولما عاد المسلمون من حملتهم جاء صاحب البريد إلى خالد بوفاة أبى بكر وتولية عمر، وكتب إليه بعزله عن قيادة الجيش وتولية أبى عبيدة، وكان يكلمه سرّا، فقال له خالد: أحسنت. وأخفى الخبر حتى لا تحدث زعزعة فى صفوف المسلمين.

وبينما كان القتال على أشده بين جيش الإسلام وجيش الروم، خرج "جرجة" -أحد أمراء الروم الكبار- من الصف، واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد، أخبرنى فاصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحُرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاه لك، فلا تسلَّه على أحد إلا هزمته؟

قال: لا! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيّا، فدعانا، فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعًا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لى: "أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين"، ودعا لى بالنصر، فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

فقال جرجة: يا خالد إلى ما تدعون؟
قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله -عز وجل-.
قال: فمن لم يجبكم؟
قال: فالجزية ونمنعهم (نحميهم).
قال: فإن لم يعطها؟
قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله.
قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل فى هذا الأمر اليوم؟
قال: منزلته واحدة، فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا.
قال جرجة: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم؟
قال: نعم وأفضل.
قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
فقال خالد: لقد قبلنا هذا الأمر، وبايعنا نبينا وهو حى بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل فى هذا الأمر بحقيقة دينه كان أفضل منا.
فقال جرجة: بالله لقد صدقتنى ولم تخادعنى؟
قال: تالله لقد صدقتك، وإنَّ الله ولىّ ما سألت عنه من الإسلام.
ودخل جرجة الإسلام فأخذه خالد إلى خيمته، وصب عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين ورجعا إلى المعركة يضربان بسيفيهما من بدء ارتفاع النهار حتى غروب الشمس، وأصيب جرجة رحمه الله، فمات شهيدًا، ولم يكن صلى لله -عز وجل- غير هاتين الركعتين مع خالد. بعد أن فر الروم ليلا إلى الواقوصة.
وتم الفتح المبارك، وانهزمت الروم هزيمة بالغة، علم بها هرقل، وارتحل من حمص.

لقد كان المسلمون رجالاً لا يثبت لهم العدو رغم قلتهم.

ولقد انهار هرقل وهو يرى هزيمة الروم رغم كثرتهم، فقال لقواده: ويلكم أخبرونى عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونك أليسوا بشرًا مثلكم؟
قالوا: بلى.
قال: فأنتم أكثر أم هم؟
قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن.
قال: فما بالكم تنهزمون؟
فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم.
ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزنى، ونركب الحرام وننقض العهد، ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضى الله، ونفسد فى الأرض.
فقال هرقل: أنت صدقتنى.

وكان تعداد الجيوش التى سيرت إلى الشام سبعة وعشرين ألفًا، ولكنها زيدت بوصول جيش خالد إلى ستة وثلاثين.
وكان جيش الروم يقارب المائتين وأربعين ألفًا، ولكن الله نصر عباده رغم قلة عددهم، بسبب إيمانهم وقوة عقيدتهم.

منجزات أبى بكر
كان عهد أبى بكر امتدادًا لعصر النبى لم يكن إلا متبعًا ومنفذًا لكل ما أشار به الرسول أو أمر به، لم يبتدع أبو بكر -رضى الله عنه- شيئًا يخالف ما كان عليه رسول الله، بل كان كل شىء يسير وفقًا لشريعة الإسلام، وانشغل الناس فى فترة خلافته بقتال المرتدين والفتوحات الإسلامية.

ولم يبق فى المدينة إلا من استبقاهم أبو بكر لحمايتها، ولاستشارتهم ولتبادل الرأى معهم، وعلى رأس هؤلاء: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص.

وكانت المدينة المنورة فى عهده عاصمة الدولة الإسلامية ومركز الحكم ومقر الخلافة.

قسم أبو بكر الجزيرة العربية إلى ولايات جعل على كل منها أميرًا، يؤم الناس فى الصلاة، ويفصل بينهم فى القضايا، ويقيم الحدود.

فكان على "مكة" : عتاب بن أسيد.

وعلى صنعاء : المهاجر بن أمية.

وعلى عمان والبحرين : العلاء بن الحضرمى.

وقد اتخذ الصديق عمر : قاضيًا على المدينة.

وجعل أبا عبيدة : أمينًا على بيت مال المسلمين.

ولقد كانت فترة حكمه قصيرة، لكنها كانت حاسمة فى تاريخ الإسلام، فقد واجه أحرج المواقف، وربما وقف وحده عند إصراره على محاربة المرتدين فى وقت اتجه فيه باقى المسلمين إلى المسالمة، قائلين: كيف نحارب الجزيرة العربية كلها؟! لكنه بإيمانه ويقينه وصدقه سرعان ما ضم المسلمين إلى رأيه، ثم سار بهم جميعًا يدكّ صروح الشرك، ويقضى على الشكوك والأوهام!

ولم يتوقف عند هذا، بل راح يحطم قصور كسرى وقيصر.

رحم الله أبا بكر لقد تمثلت فيه كل المعانى الإسلامية الرائعة.

جمع المصحف
استشهد كثير من حفظة القرآن وقرائه فى حروب الردة، وهنا أشار عمر -رضى الله عنه- على أبى بكر بضرورة جمع القرآن الكريم ؛ حيث كان مكتوبًا على سعف النخيل، وقطع الجلد، وألواح عظام الإبل، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت ومعه بعض أصحابه بتولى هذه المهمة العظيمة.

وقاموا بتدوين القرآن كله فى دقة متناهية بالترتيب الذى أمر به رسول الله، ودون أى تغيير، وسموه مصحفًا.

إن القرآن هو دستور المسلمين، وقد تعهد الله بحفظه.

وكان أبو بكر أول من أسهم فى هذا الحفظ -رحمه الله-.

وفاة الخليفة

وفى هذا العام (13هـ/635م)، مرض أبو بكر، وظل المرض ملازمًا إياه طيلة شهر.

ثم عهد بالخلافة لعمر بن الخطاب بعد أن استشار كبار الصحابة.

وبعد ذلك، لقى ربه راضيًا مرضيًّا.

وكانت ولايته -رضى الله عنه- سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.

وصعدت روحه إلى الرفيق الأعلى وله من العمر ثلاثة وستون عامًا.

وكان آخر ما تكلم به:" تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين" [يوسف: 101].

ولم يترك ثروة طائلة، وإنما ترك ذكرى طيبة. وحسبه أنه جمع المسلمين، ووحّد كلمتهم، وأمَّن حدود الدولة، ولقَّن الأعداء درسًا لا يُنسى.

خالد مسعد .
19-02-2010, 02:17 PM
نبذة عنه" سيرة مختصرة" اسمه: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي .

كنيته: أبو بكر

لقبه: عتيق، والصدِّيق. قيل لُقّب بـ "عتيق" لأنه:
كان جميلاً
لعتاقة وجهه
قديم في الخير
وقيل: كانت أم أبي بكر لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، فقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهبه لي.
وقيل غير ذلك.

ولُقّب بـ "الصدّيق"؛ لأنه صدّق النبي صلى الله عليه وسلم، وبالغ في تصديقه كما في صبيحة الإسراء وقد قيل له: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به، فقال: إن كان قال فقد صدق!

وقد سماه الله صديقًا، فقال سبحانه:" وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ".

جاء في تفسيرها: الذي جاء بالصدق هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، والذي صدّق به هو أبو بكر -رضي الله عنه-.

ولُقّب بـ "الصدِّيق"؛ لأنه أول من صدّق وآمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من الرجال. وسماه النبي صلى الله عليه وسلم "الصدّيق".

روى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أُحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: اثبت أُحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان.

وكان أبو بكر رضي الله عنه يُسمى " الأوّاه " لرأفته.

مولده: ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر.

صفته: كان أبو بكر -رضي الله عنه- أبيضًا نحيفًا، خفيف العارضين، معروق الوجه، ناتئ الجبهة، وكان يخضب بالحناء والكَتَم، وكان رجلاً أسيفًا أي رقيق القلب رحيمًا.

فضائله: ما حاز الفضائل رجل كما حازها أبو بكر -رضي الله عنه-

أولاً: هو أفضل هذه الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم- قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنخيّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان -رضي الله عنهم-" رواه البخاري .

وروى البخاري عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما صاحبكم فقد غامر. وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليّ، فأقبلت إليك فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر - ثلاثًا- ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثَـمّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي، فجعل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمعّر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم - مرتين - فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صَدَق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي - مرتين - فما أوذي بعدها.

فقد سبق إلى الإيمان، وصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدّقه، واستمر معه في مكة طول إقامته رغم ما تعرّض له من الأذى، ورافقه في الهجرة.

ثانيًا: هو ثاني اثنين في الغار مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال سبحانه وتعالى:" ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا"، قال السهيلي: ألا ترى كيف قال: لا تحزن ولم يقل لا تخف؟ لأن حزنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شغله عن خوفه على نفسه.

وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حدّثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.

ولما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل الغار دخل قبله لينظر في الغار لئلا يُصيب النبي -صلى الله عليه وسلم شيء-.

ولما سارا في طريق الهجرة كان يمشي حينًا أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- وحينًا خلفه، وحينًا عن يمينه، وحينًا عن شماله.

ولذا لما ذكر رجال على عهد عمر -رضي الله عنه- فكأنهم فضّـلوا عمر على أبي بكر -رضي الله عنهما-، فبلغ ذلك عمر -رضي الله عنه- فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة، فدخل واستبرأ قم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة.

ثالثًا: ولما هاجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ ماله كله في سبيل الله.

رابعًا: وهو أول الخلفاء الراشدين.

وقد أُمِرنا أن نقتدي بهم، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ. رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.

واستقر خليفة للمسلمين دون مُنازع، ولقبه المسلمون بـ " خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

خامسًا: وخلافته -رضي الله عنه- منصوص عليها؛ فقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مرضه أن يُصلي بالناس؛ ففي الصحيحين عن عائشةَ -رضي اللّهُ عنها- قالت: لما مَرِضَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرَضَهُ الذي ماتَ فيه أَتاهُ بلالٌ يُؤْذِنهُ بالصلاةِ فقال: مُروا أَبا بكرٍ فلْيُصَلّ. قلتُ: إنّ أبا بكرٍ رجلٌ أَسِيفٌ (وفي رواية: رجل رقيق) إن يَقُمْ مَقامَكَ يبكي فلا يقدِرُ عَلَى القِراءَةِ. قال: مُروا أَبا بكرٍ فلْيُصلّ. فقلتُ مثلَهُ: فقال في الثالثةِ - أَوِ الرابعةِ -: إِنّكنّ صَواحبُ يوسفَ ! مُروا أَبا بكرٍ فلْيُصلّ، فصلّى.
ولذا قال عمر رضي الله عنه: أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا ؟!

وروى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.

وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك ؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر. رواه البخاري ومسلم.

سادسًا: وقد أُمرنا أن نقتدي به -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وهو حديث صحيح.

سابعًا: وكان أبو بكر ممن يُـفتي على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذا بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- أميرًا على الحج في الحجّة التي قبل حجة الوداع؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وأبو بكر رضي الله عنه حامل راية النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم تبوك.

ثامنًا: وأنفق ماله كله لما حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على النفقة؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا. قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أبقيت لأهلك ؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله! قال عمر: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا. رواه الترمذي.

تاسعًا: ومن فضائله أنه أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال عمرو بن العاص لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة. قال: قلت: من الرجال ؟ قال: أبوها. رواه مسلم.

عاشرًا: ومن فضائله رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذه أخـًا له؛ روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس وقال: إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خير ، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن مِن أمَنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُـدّ إلا باب أبي بكر.

حادى عشر: ومن فضائله رضي الله عنه أن الله زكّـاه؛ قال سبحانه: "وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى".
وهذه الآيات نزلت في أبي بكر -رضي الله عنه-. وهو من السابقين الأولين بل هو أول السابقين، قال سبحانه:" وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ".

ثانى عشر: وقد زكّـاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. قال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنك لست تصنع ذلك خيلاء. رواه البخاري في فضائل أبي بكر رضي الله عنه.

ثالث عشر: ومن فضائله رضي الله عنه أنه يُدعى من أبواب الجنة كلها؛ قال عليه الصلاة والسلام: من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر. رواه البخاري ومسلم.

رابع عشر: ومن فضائله أنه جمع خصال الخير في يوم واحد؛ روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أصبح منكم اليوم صائمًا ؟
قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا.
قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟
قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا.
قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا ؟
قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا.
قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا ؟
قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة.

خامس عشر: ومن فضائله رضي الله عنه أن وصفه رجل المشركين بمثل ما وصفت خديجة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما ابتلي المسلمون في مكة، واشتد البلاء، خرج أبو بكر مهاجرًا قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارَة، فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكَل،ّ وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتُخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا. قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله. رواه البخاري.

سادس عشر: وكان عليّ -رضي الله عنه- يعرف لأبي بكر فضله؛ قال محمد بن الحنفية: قلت لأبي - علي بن أبي طالب رضي الله عنه -: أي الناس خير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت ؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. رواه البخاري.

وقال عليّ -رضي الله عنه-: كنت إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله به بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من عبد مؤمن يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر الله له ثم تلا:" والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم" الآية. رواه أحمد وأبو داود.

سابع عشر: ولم يكن هذا الأمر خاص بعلي -رضي الله عنه- بل كان هذا هو شأن بنِيـه؛ قال الإمام جعفر الصادق: أولدني أبو بكر مرتين. وسبب قوله: أولدني أبو بكر مرتين، أن أمَّه هي فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وجدته هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
فهو يفتخر في جّـدِّه ثم يأتي من يدّعي اتِّباعه ويلعن جدَّ إمامه ؟

قال جعفر الصادق لسالم بن أبي حفصة وقد سأله عن أبي بكر وعمر، فقال: يا سالم تولَّهُما، وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى، ثم قال جعفر: يا سالم أيسُبُّ الرجل جده ؟ أبو بكر جدي، لا نالتني شفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما.

وروى جعفر بن محمد - وهو جعفر الصادق - عن أبيه - وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم أجمعين، قال: جاء رجل إلى أبي - يعني علي بن الحسين، المعروف والمشهور بزين العابدين - فقال: أخبرني عن أبي بكر ؟ قال: عن الصديق تسأل ؟ قال: وتسميه الصديق ؟! قال: ثكلتك أمك، قد سماه صديقًا من هو خير مني؛ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون والأنصار، فمن لم يُسمه صدِّيقًا، فلا صدّق الله قوله، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما، فما كان من أمـر ففي عنقي.

ولما قدم قوم من العراق فجلسوا إلى زين العابدين، فذكروا أبا بكر وعمر فسبوهما، ثم ابتـركوا في عثمان ابتـراكًا، فشتمهم.
وابتركوا: يعني وقعوا فيه وقوعًا شديدًا.

وما ذلك إلا لعلمهم بمكانة وزيري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبمكانة صاحبه في الغار، ولذا لما جاء رجل فسأل زين العابدين: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم ؟ فأشار بيده إلى القبر ثم قال: لمنزلتهما منه الساعة.

قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وَقَـرَ في قلبه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي = رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسأَلُ
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَولِه = لا يَنْثَني عَنهُ ولا يَتَبَدَّل
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ = وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّل
وَلِكُلِّهِمْ قَدْرٌ وَفَضْلٌ ساطِعٌ = لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَل

ثامن عشر: وجمع بيت أبي بكر وآل أبي بكر من الفضائل الجمة الشيء الكثير الذي لم يجمعه بيت في الإسلام؛ فقد كان بيت أبي بكر -رضي الله عنه- في خدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الاستعداد للهجرة، وما فعله عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء في نقل الطعام والأخبار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار، وعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- هي بنت أبي بكر -رضي الله عنه وعنها-

قال ابن الجوزي رحمه الله: أربعة تناسلوا رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابنه محمد

أعماله:
من أعظم أعماله سبقه إلى الإسلام، وهجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وثباته يوم موت النبي- صلى الله عليه وسلم-.

ومن أعماله قبل الهجرة أنه أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله، وهم: بلال بن أبي رباح، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبيس.

ومن أعظم أعماله التي قام بها بعد تولّيه الخلافة حرب المرتدين؛ فقد كان رجلاً رحيمًا رقيقًا، ولكنه في ذلك الموقف، في موقف حرب المرتدين كان أصلب وأشدّ من عمر -رضي الله عنه- الذي عُرِف بالصلابة في الرأي والشدّة في ذات الله. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما توفى النبي -صلى الله عليه وسلم- واستُخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ؟ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها . قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

لقد سُجِّل هذا الموقف الصلب القوي لأبي بكر -رضي الله عنه- حتى قيل: نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردّة، وبأحمد يوم الفتنة.

فحارب رضي الله عنه المرتدين ومانعي الزكاة، وقتل الله مسيلمة الكذاب في زمانه.

ومع ذلك الموقف إلا أنه أنفذ جيش أسامة الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد إنفاذه نحو الشام.

وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام، وفتوحات العراق.

وفي عهده جُمع القرآن؛ حيث أمر رضي الله عنه زيد بن ثابت أن يجمع القرآن.

وكان عارفًا بالرجال، ولذا لم يرضَ بعزل خالد بن الوليد، وقال: والله لا أشيم سيفًا سله الله على عدوه حتى يكون الله هو يشيمه. رواه الإمام أحمد وغيره.

وفي عهده وقعت وقعة ذي القَصّة، وعزم على المسير بنفسه حتى أخذ عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بزمام راحلته وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم ؟ أقول لك ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحد: شِـمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك. وارجع إلى المدينة، فو الله لئن فُجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا، فرجع أبو بكر -رضي الله عنه- وأمضى الجيش.

وكان أبو بكر رضي الله عنه أنسب العرب، أي أعرف العرب بالأنساب.

زهـده:
مات أبو بكر -رضي الله عنه- وما ترك درهمًا ولا دينارًا.

عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: لما احتضر أبو بكر -رضي الله عنه- قال: يا عائشة انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبح فيها، والقطيفة التي كنا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا مت فاردديه إلى عمر ، فلما مات أبو بكر -رضي الله عنه- أرسلت به إلى عمر -رضي الله عنه- فقال عمر رضي الله عنه: رضي الله عنك يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك.

ورعـه:
كان أبو بكر -رضي الله عنه- ورعًا زاهدًا في الدنيا حتى لما تولى الخلافة خرج في طلب الرزق، فردّه عمر واتفقوا على أن يُجروا له رزقًا من بيت المال نظير ما يقوم به من أعباء الخلافة.

قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر: وما هو ؟ قال: كنت تكهّنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه. رواه البخاري.

وفاته:
توفي في يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.

فرضي الله عنه وأرضاه
وجمعنا به في دار كرامته
==========

خالد مسعد .
19-02-2010, 02:18 PM
خوفه من الله وزهده أخرج أحمد في الزهد عن سلمان قال: أتيت أبا بكر فقلت: أعهد إلي فقال: يا سلمان اتق الله، وأعلم أنه سيكون فتوح، فلا أعرفن ما كان حظك منها، ما جعلته في بطنك، أو ألقيته على ظهرك، واعلم أنه من صلى الصلوات الخمس، فإنه يصبح في ذمة الله، ويمسي في ذمة الله تعالى، فلا تقتلن أحدًا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته، فيكبك الله في النار على وجهك.

وأخرج عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: يقبض الصالحون الأول فالأول حتى يبقى من الناس حثالة كحثالة التمر والشعير لا يبالي الله بهم.

وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن معاوية بن قرة أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يقول في دعائه: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم لقائك.

وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن قال: بلغني أن أبا بكر كان يقول في دعائه: اللهم أني أسألك الذي هو خير لي في عاقبة الأمر، اللهم أجعل آخر ما تعطيني من الخير رضوانك، والدرجات العلى من جنات النعيم.

وأخرج عن عرفجة قال: قال أبو بكر: من استطاع أن يبكي فليبك وإلا فليتباك.

وأخرج عن عزرة عن أبي بكر قال: أهلكهن الأحمران: الذهب والزعفران.

وأخرج عن مسلم بن يسار عن أبي بكر قال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء حتى في النكبة، وانقطاع شسعه والبضاعة تكون في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في غبنه.

وأخرج عن ميمون بن مهران قال: أتي أبو بكر بغراب وافر الجناحين فقلبه ثم قال: ما صيد من صيد، ولا عضدت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح.

وأخرج البخاري في الأدب وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الصنابحي أنه سمع أبا بكر يقول: إن دعاء الأخ لأخيه في الله يستجاب.

وأخرج عبد الله في زوائد الزهد عن عبيد بن عمير عن لبيد الشاعر أنه قدم علي أبي بكر فقال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال: صدقت. فقال: وكل نعيم لا محالة زائل. فقال: كذبت، عند الله نعيم لا يزول. فلما ولي قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة من الحكمة.

كلماته الدالة على شدة خوفه من ربه
أخرج أبو أحمد الحاكم عن معاذ بن جبل قال دخل أبو بكر حائطًا، وإذا بدبسي في ظل شجرة فتنفس الصعداء ثم قال: طوبى لك يا طير تأكل من الشجر، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب يا ليت أبا بكر مثلك.

وأخرج ابن عساكر عن الصمعي قال: كان أبو بكر إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

وأخرج أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني قال: قال أبو بكر الصديق: لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.

وأخرج أحمد في الزهد عن مجاهد قال: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، قال: وحدثت أن أبا بكر كان كذلك.

وأخرج عن الحسن قال: قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.

وأخرج عن قتادة قال: بلغني أن أبا بكر قال: وددت أني خضرة تأكلني الدواب.

وأخرج عن ضمرة بن حبيب قال: حضرت الوفاة ابنًا لأبي بكر الصديق، فجعل الفتى يلحظ إلى وسادة، فلما توفى قالوا لأبي بكر: رأينا ابنك يلحظ إلى وسادة، فدفعوه عن الوسادة، فوجدوا تحتها خمسة دنانير أو ستة، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يرجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. يا فلان ما أحسب جلدك يتسع لها.

وأخرج عن ثابت البناني أن أبا بكر كان يتمثل بهذا الشعر:
لا تزال تنعي حبيباً حتى تكونه وقد يرجو الفتى الرجا يموت دونه

وأخرج ابن سعد عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر، وإن أبا بكر نزلت فيه قضية فلم يجد لها في كتاب الله أصلا ولا في السنة أثرًا، فقال اجتهد رأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني، واستغفر الله.

أخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب قال: رأت عائشة -رضي الله عنها- كأنه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبي بكر، وكان من أعبر الناس فقال: إن صدقت رؤياك ليدفنن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثًا، فلما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يا عائشة هذا خير أقمارك.

خالد مسعد .
19-02-2010, 02:19 PM
تواضعه أخرج ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أيراد، وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر: أين تريد؟ قال: إلى السوق. قال: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين. قال: فمن أين أطعم عيالي؟! فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم، ولا أوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، إذا أخلقت شيئًا رددته، وأخذت غيره. ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه في الرأس والبطن.

وأخرج ابن سعد عن ميمون قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، فقال زيدوني فإن لي عيالاً، وقد شغلتموني عن التجارة فزاده خمسمائة.

وأخرج الطبراني في مسنده عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: لما احتضر أبو بكر قال: يا عائشة انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبغ فيها، والقطيعة التي كنا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت فاردديه إلى عمر. فلما مات أبو بكر أرسلت به إلى عمر فقال عمر: رحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي بكر بن حفص قال: قال أبو بكر لما احتضر لعائشة -رضي الله عنها-: يا بنية إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ لنا دينارًا ولا درهمًا، ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر.

ومنها أنه أول من اتخذ بيت المال.

أخرج ابن سعد عن سهل بن أبي خيثمة وغيره أن أبا بكر كان له بيت مال بالسنح ليس يحرسه أحد، فقيل له ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال: عليه قفل، فكان يعطى ما فيه حتى يفرغ. فلما انتقل إلى المدينة حوله فجعله في داره، فقدم عليه مال فكان يقسمه على فقراء الناس فيسوى بين الناس في القسم، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيجعله في سبيل الله، واشترى قطائف أتى بها من البادية ففرقها في أرامل المدينة، فلما توفي أبو بكر ودفن دعا عمر الأمناء، ودخل بهم في بيت مال أبي بكر منهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ففتحوا بيت المال، فلم يجدوا فيه شيئًا ولا دينارًا ولا درهمًا.

قلت: وبهذا الأثر يرد قول العسكري في الأوائل: إن أول من اتخذ بيت المال عمر، وإنه لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- بيت مال، ولا لأبي بكر -رضي الله عنه- وقد رددته عليه في كتابي الذي صنفته في الأوائل، ثم رأيت العسكري تنبه له في موضع آخر من كتابه فقال: إن أول من ولي بيت المال أبو عبيدة بن الجراح لأبي بكر. منها قال الحاكم: أول لقب في الإسلام لقب أبي بكر -رضي الله عنه- عتيق.

أخرج الشيخان عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا " فلما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: من كان له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دين أو عدة فليأتنا، فجئت وأخبرته فقال: خذ فأخذت فوجدتها خمسمائة، فأعطاني ألفًا وخمسمائة.


أخرج ابن عساكر عن أنيسة قالت: نزل فينا أبو بكر ثلاث سنين قبل أن يستخلف وسنة بعد ما استخلف، فكان جواري الحي يأتينه بغنمهن فيحلبهن لهن.

وأخرج أحمد في الزهد عن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: السلام عليك يا خليفة رسول الله. قال: من بين هؤلاء أجمعين.

وأخرج ابن عساكر عن أبي صالح الغفاري: أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري.

وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: انزل عن مجلس أبي، فقال: صدقت إنه مجلس أبيك، وأجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن أمري فقال: صدقت والله ما أتهمك.

SA3EEDY
21-02-2010, 12:40 AM
بارك الله فيك