مشاهدة النسخة كاملة : الرضا جنة العارفين


خالد مسعد .
23-02-2010, 06:41 PM
قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة.
قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بُني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.
إنه الرضا الذي وطَّنوا أنفسهم عليه، بحيث صارت أقدار الله عز وجل أحبَّ إليهم من هوى أنفسهم، بل صاروا لا يهوون غيرها، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما لي هوىً في شيء سوى ما قضى الله عز وجل.
ومما يدل على علوِّ قدر الرضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسال ربه إلا أعلى المقامات.
إن الرضا هو الوقوف الصادق مع مراد الله، من غير تردد في ذلك ولا معارضة، وهذا مطلوب القوم السابقين، يقف العبد حيثما وقفه ربه لا يطلب تقدمًا ولا تأخرًا، وهذا يكون فيما يقفه فيه من مراده سبحانه الكوني الذي لا يتعلق بأمر ولا نهي، وأما إذا وقفه في مراد ديني فكماله بطلب التقدم فيه دائمًا.
وكان السلف رضي الله عنهم يتواصون بالرضا وتربية النفس عليه، لعلمهم بعلو منزلته، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: (أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
وكان من وصايا لقمان عليه السلام لولده: (أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت).
إن من وطَّن نفسه على الرضا عاش في الدنيا حياة طيبة، ولم تعرف الهموم والأكدار إلى قلبه سبيلاً، كيف وقد رضي الله عنه ورضي هو عن الله؟ إن الله عز وجل يقول: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة..) وقد فسرها بعض السلف بأنها حياة الرضا والقناعة.
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لزوجته عاتكة رضي الله عنهما: (والله لأسوأنك - وكان قد غضب عليها - فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله له؟ قال: لا. قالت: فأيُّ شيء تسؤني به إذًا؟) تريد أنها راضية بمواضع القدر لا يسؤها منه شيء إلا صَرْفُها عن الإسلام ولا سبيل له إليه.
صحة الرضا عن الله بثلاثة شروط:
الأول: استواء النعمة والبلية عند العبد؛ لأنه يشاهد حُسنَ اختيار الله له. ومن هذا الباب ما حدث مع بعض السلف حين ابتلوا بالشدائد فصبروا لها، وظهر منهم الرضا.
فهذا عمر بن عبد العزيز يموت ولده عبد الملك فيدخل عليه سليمان بن الغاز معزيًّا، فيقول له عمر: (وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبةٌ في شيء من الأمور يخالف محبة الله، فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إليَّ).
وعن إبراهيم النخعي: أن أم الأسود قُعدت من رجليها، فجزعت ابنة لها، فقالت: لا تجزعي، اللهم إن كان خيرًا فَزِدْ.
الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق إلا فيما كان حقًّا لله ورسوله، فالمخاصمة لحظ النفس تطفئ نور الرضا وتُذهب بهجته، وتُبدِّل بالمرارة حلاوته، وتُكدِّر صَفْوه.
الثالث: الخلاص من الإلحاح في مسألة الخلق، قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}... (البقرة:273).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة قال: قلت: أنا قال: لا تسأل الناس شيئاً". فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه حتى ينزل فيتناوله.... [رواه أحمد].

الرضا ذروة سنام الإيمان:
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل.
وقال ابن القيم رحمه الله: الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان.
منعه عطاء:
قال سفيان الثوري رحمه الله: مَنْعُه عطاء. وذلك أنه لم يمنع عن بُخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن، فمنعه اختيارًا وحُسْنَ نظر.
فإن الله عز وجل لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، ساءه القضاء أو سره. فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء، وإن كان صورة المنع، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذَّ به في العاجل، ولو رزق من المعرفة حظًا وافرًا لعدَّ جميع ما قضاه الله عز وجل وقدر نعمة وعطاء وعافية، وهذه كانت حال السلف. ولن يجد العبد حلاوة الإيمان إلا بهذا: (ذَاقَ طَعْمَ الإْيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّا وَ باْلإِسْلاَمِ دِيناً وبِمُحَمّدٍ رَسُولاً).
فاللهم رضِّنا بقضائك وبارك لنا في قدرك، حتى لا نحب تعجيل شيء أخَّرته، ولا تأخير شيء عجلته.

ابو البراء محمد بن محمود
24-02-2010, 02:50 AM
جزاكم الله خيراً ياأستاذ خالد.
وجعلنا الله من الراضين.

Khaled Soliman
24-02-2010, 11:43 PM
بارك الله فيك أخي الحبيب وهدانا الله جميعاً لما فيه الخير وجزاك الله خيراً

هاوى إبداع
24-02-2010, 11:59 PM
رااااااااائع ياأخى
بارك الله فيك

أنين المذنبين
25-02-2010, 12:15 AM
بارك الله فيك يا أستاذ خالد على هذا الموضوع الجميل نسألُ الله أن نكون صابرين راضين
وأضيف قصة جميلة وهى :

قال عبدالله خرجت إلى ساحل البحر مرابطا وكان رابطنا يومئذ عريش مصر قال فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببطيحه وفى البطيحه خيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا قال الاوزاعي قال عبد الله قلت والله لآتين هذا الرجل ولاسألنه أنى له هذا الكلام فهم أم علم أم إلهام ألهم فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت سمعتك وأنت تقول اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي وفضلتني على كثير من خلقت تفضيلا فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها قال وما ترى ما صنع ربي والله لو أرسل السماء علي نارا فأحرقتني وأمر الجبال فدمرتني وأمر البحار فغرقتني وأمر الارض فبلعتني ما إزددت لربى إلا شكرا لما أنعم علي من لساني هذا ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة قد تراني على أي حالة أنا أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع ولقد كان معي بني لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني وإذا جعت أطعمني وإذا عطشت سقاني ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله فقلت والله ما مشي خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجرا ممن يمشي في حاجة مثلك فمضيت في طلب الغلام فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه فاسترجعت وقلت أنى لي وجه رقيق آتى به الرجل فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتيته سلمت عليه فرد على السلام فقال ألست بصاحبي قلت بلى قال ما فعلت في حاجتي فقلت أنت أكرم على الله أم أيوب النبي قال بل أيوب النبي قلت هل علمت ما صنع به ربه أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده قال بلى قلت فكيف وجده قال وجده صابرا شاكرا حامدا قلت لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه قال نعم قلت فكيف وجده ربه قال وجده صابرا شاكرا حامدا قلت فلم يرض منه بذلك حتى صيره عرضا لمار الطريق هل علمت قال نعم قلت فكيف وجده ربه قال صابرا شاكرا حامدا أوجز رحمك الله قلت له إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه فأعظم الله لك الاجر وألهمك الصبر فقال المبتلى الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار ثم استرجع وشهق شهقة فمات فقلت انا لله وانا إليه راجعون عظمت مصيبتي رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع فسجيته بشملة كانت عليه وقعدت عند رأسه باكيا فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجال فقالوا يا عبد الله ما حالك وما قصتك فقصصت عليهم قصتي وقصته فقالوا لي اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه فكشفت عن وجهه فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مره ويديه أخرى ويقولون بأبي عين طالما غضت عن محارم الله وبأبي وجسمه طالما كنت ساجدا والناس نيام فقلت من هذا يرحمكم الله فقالوا هذا أبو قلابة الجرمي صاحب بن عباس لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي فلما أن جن على الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه
حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار فقلت ألست بصاحبي قال بلى قلت أنى لك هذا قال إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء مع خشية الله عزوجل في السر والعلانية .

سمعت أيوب ذكر أبا قلابة ، فقال : كان والله من الفقهاء ذوي الألباب . إني وجدت أعلم الناس بالقضاء أشدهم منه فرارا ، وأشدهم منه فرقا ، وما أدركت بهذا المِصْر أعلم بالقضاء من أبي قلابة .


لما مات قاضي البصرة- زمن شريح ذكر أبو قلابة للقضاء ، فهرب حتى أتى اليمامة ، قال : فلقيته بعد ذلك فقلت له في ذلك ، فقال : ما وجدت مثل القاضي العالم إلا مثل رجل وقع في بحر ، فما عسى أن يسبح حتى يغرق .


روى الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جابر ، قال : قيل لعبد الملك بن مروان : هذا أبو قلابة . قال : ما أقدمه ؟ قالوا : متعوذا من الحجاج أراده على القضاء ، فكتب إلى الحجاج بالوصاة به . فقال أبو قلابة : لن أخرج من الشام .

alea2009
25-02-2010, 01:27 AM
جزاك الله خيرا استاذ خالد مسعد
اللهم ارزقنا الرضا والصبر

alea2009
25-02-2010, 01:29 AM
جزاك الله خيرا مشرف قسم حى على الفلاح على هذه القصة الجميلة

منى الخير
25-02-2010, 07:18 AM
فاللهم رضِّنا بقضائك وبارك لنا في قدرك
حتى لا نحب تعجيل شيء أخَّرته
ولا تأخير شيء عجلته
اللهم آمين
مشكورين جميعاً على المشاركات الهادفة