تركيا تدفع الآن ثمن تصالحها مع ذاتها وتضامنها مع الشعب الفلسطينى، الأمر الذى يمهد الطريق للانقلاب الاستراتيجى، الذى لاحت بوادره فى الشرق الأوسط، الذى يمثل غياب مصر نقطة الضعف الأساسية فيه.

(1)
فى الأسبوع الماضى استضاف برنامج «اسكلاسنجق» (المرفأ والراية)، الذى تبثه القناة السابعة التركية مجموعة من الضيوف لمناقشة انطباعاتهم عن أسطول الحرية، الذى انطلق لكسر حصار غزة، وهاجمته إسرائيل فى المياه الدولية. اثنان من الضيوف كانا من بين ركاب السفينة «مرمرة»، التى تعرضت للعدوان الإسرائيلى. أحدهما فنان اسمه سنان البيرق.

قال إنه حين انضم إلى الناشطين المسافرين كان خاطبا لفتاة تركية. وحين عاد وجد أن خطيبته طلبت منه أن يكون أول ما يفعلانه بعد الزواج أن ينضما إلى المجموعة المسافرة على ظهر الدفعة الثانية من سفن أسطول الحرية التى تجهز الآن لمواصلة محاولة كسر الحصار.

الضيف الثانى كانت عارضة أزياء سابقة (غير محجبة)، وقد قالت فى حديثها إنها ذهبت استجابة لنداء كسر حصار غزة لأسباب إنسانية بحتة، وخرجت من بيتها متطوعة، لكنها بعد الذى جرى للسفينة، وجدت أنها عادت من الرحلة مناضلة وصاحبة قضية نذرت نفسها للدفاع عنها.

الضيف الثالث كان والد الفتى فرقان دوجان البالغ من العمر 14 عاما الذى قتلته القوات الإسرائيلية، وقد قال بصوت هادئ إنه احتسب ابنه شهيدا عند الله، وأن شقيق فرقان وشقيقته قررا أن ينضما إلى أول قافلة تالية تسعى لكسر حصار غزة.

هذه الانطباعات ليست مشاعر استثنائية.. إنما هى انعكاس لموقف الأغلبية، التى فتح العدوان على غزة فى عام 2008 أعينها على بشاعة الوجه الحقيقى لإسرائيل، وكانت تلك هى اللحظة الكاشفة، التى أيقظت الضمير التركى. وجددت انتماءه إلى الأمة التى تباعد عنها حينا من الدهر.

ومن ثم جعلت الجماهير تندفع لاحتضان فكرة «أسطول الحرية». ورغم الدم التركى الذى سال أثناء المحاولة الأخيرة لكسر حصار غزة، فإن الحماس الجماهيرى المتأجج دفع هيئة الإغاثة التركية إلى تجهيز ست سفن أخرى للقيام بمحاولة ثانية لكسر الحصار. وتم إبلاغ الاتحاد الأوروبى بأن تلك السفن سوف تنطلق إلى هدفها فى النصف الثانى من شهر يوليو المقبل.


(2)
غضب الحكومة فى أنقرة لا يقل عن غضب الشارع فى أسطنبول، ذلك أن ثمة إجماعا بين عناصر النخبة السياسية، الذين التقتهم على الأقل، على أن استهداف السفينة مرمرة كان متعمدا، كما أن قتل الأتراك دون غيرهم لم يكن خطأ أو مجرد مصادفة.

وأن إسرائيل فى الحالتين أرادت أن توجه رسالة إلى حكومة السيد أردوغان، ردا على موقفه من بيريز فى مؤتمر دافوس وتحديه لها فى موضوع إهانة السفير التركى فى تل أبيب.

وردا على تصريحاته الناقدة للسياسات الإسرائيلية الوحشية تجاه الفلسطينيين فى الوقت الذى يتزايد فيه اقترابه من العالم العربى، ولأن الرسالة وصلت إلى أنقرة فإن أردوغان صعد نقده لإرهاب الدولة فى إسرائيل. ورئيس الجمهورية عبدالله جول أكد فى أكثر من تصريح أن العلاقات مع إسرائيل بعد الهجوم على «مرمرة» لن تعود إلى ما كانت عليه فى السابق.

وقال بيان صادر عن وزارة الخارجية التركية إنه تم تشكيل لجنة وزارية لتقييم الموقف، الذى نشأ بعد الهجوم على أسطول الحرية، ووضع ما سمى بـ«خريطة طريق» للتعامل مع تداعيات هذا الموقف من مختلف الزوايا.

ذلك أن ما جرى كانت له أصداؤه القوية فى ثلاث دوائر على الأقل. الأولى تتصل بالساحة السياسية الداخلية، والثانية تخص العلاقات الإسرائيلية ــ التركية، والثالثة تنصب على العلاقات الأمريكية ــ التركية.

فيما تعلق بالوضع الداخلى فى تركيا فالثابت أن ما حدث رفع من شعبية الحزب الحاكم وزعيمه رجب أردوغان حتى وصلت إلى 40٪ حسب استطلاعات الرأى العام. وكان الحديث يدور فى الأسابيع الماضية عن 33 و34٪، لكن ذلك أثار انتقادات فى أوساط الخصوم السياسيين، الذين يتمثلون أساسا فى حزب الحركة القومية والشعب الجمهورى. كما أنه أشاع استياء فى محيط الفئات التى ارتبطت مصالحها بإسرائيل والولايات المتحدة.

ومنطق الآخرين مفهوم، أما الأولون فقد عبرت عنهم كتابات نشرتها بعض الصحف حذرت من مغبة الابتعاد عن الفلك الأمريكى والإسرائيلى، ومن تورط تركيا فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى. وتحدث بعض الكتاب عن أن أردوغان حرص على تصعيد الموقف مع إسرائيل لأسباب انتخابية، ولكى يعزز موقف حزبه ويوسع من التأييد الشعبى له فى الانتخابات التشريعية التى ستجرى فى العام المقبل.

سألت عن موقف الجيش الذى عادة ما كانت له كلمة ــ فاصلة أحيانا ــ فى مثل هذه الأمور، فتلقيت ردين. الأول أن موقف الحكومة تم بالاتفاق مع رئاسة أركان الجيش، والثانى أن نفوذ الجيش تقلص خلال السنوات الأخيرة، بحيث إنه لم يعد بالقوة التى كان عليها فى السابق.

ليس فقط بسبب تراجع دوره فى مجلس الأمن القومى، ولكن أيضا لأن تورط بعض قياداته وعناصره فى قضية التنظيم السرى الانقلابى «ارجنكون» أساء إليه وسحب الكثير من رصيده خصوصا بعدما نسب إلى ذلك التنظيم من اتهامات شملت عمليات قتل سياسية وتحضيرا لإثارة الفوضى فى الداخل.

(٣)
ملف العلاقة مع إسرائيل أكثر تعقيدا وسخونة. ذلك أن هجومها على أسطول الحرية، وتعمد قتلها تسعة من الأتراك، شكل انعطافة مهمة وأحدث انتكاسة كبرى فى العلاقات التاريخية والراسخة بين البلدين.

وهى التى توثقت فى عام 1996، الذى وقعت أثناءه عدة اتفاقات عسكرية واستخباراتية بينهما كانت بمثابة نقلة نوعية فى وضع الأساس لعلاقات استراتيجية بين البلدين، حتى أثارت فى حينها توقعات بالمضى نحو تشكيل محور تركى ــ إسرائيلى ــ أمريكى فى المنطقة، لكن ذلك كله تبدد الآن، وبدا كأنه من ذكريات زمن سحيق انقلبت فيه الأمور رأسا على عقب.

التطورات التى طرأت على مسار علاقات البلدين تثير سؤالين كبيرين، هما: كيف ستتعامل الحكومة التركية مع إسرائيل بعد الذى جرى؟ ثم، ما هى خيارات إسرائيل فى الرد على الموقف التركى الذى خيب آمالها وتحدى سطوتها وهيلمانها؟

فى الرد على السؤال الأول هناك مستويان، الأول يخص واقعة استهداف السفينة مرمرة وقتل الأتراك التسعة، الذين كانوا من بين ركابها. والمستوى الثانى يتعلق بعموم العلاقات القائمة بين البلدين منذ عام 1949 (كانت تركيا أول دولة مسلمة اعترفت بإسرائيل).

بالنسبة لموضوع قافلة الحرية فإن حكومة أنقرة لديها أربعة مطالب هى: إجراء تحقيق دولى فيما جرى ــ اعتذار إسرائيل عن استهداف السفينة التركية وقتل بعض الأتراك الذين كانوا على ظهرها ــ دفع تعويضات مالية لأهالى الضحايا التسع ــ إعادة السفن التركية الثلاث التى حملت المساعدات لإغاثة أهل غزة. وهذه المطالب ترفضها إسرائيل باستثناء الرابع منها الخاص بالسفن الثلاث المحتجزة لديها.

صحيفتا «ستار» و«حريات» التركيتان تحدثتا عن إجراءات ستتخذها حكومة أنقرة، أقرتها اللجنة الوزارية، التى شكلت لتقييم العلاقات مع إسرائيل، ذلك أن رفضها للمطالب التركية سيؤدى يقينا إلى الهبوط بالعلاقات الدبلوماسية إلى أدنى مستوى.

وهو ما توقعته إذاعة الجيش الإسرائيلى، التى تحدثت عنه «حضيض جديد» فى علاقات البلدين. (للعلم: حين سحبت تركيا سفيرها من إسرائيل بسبب غزو لبنان عام 1982، فإن عملية إعادة السفير إلى تل أبيب استغرقت عشر سنوات).

الذى لا يقل أهمية عما سبق، وربما الأخطر، أن تدهور العلاقات من شأنه أن يؤدى إلى إعادة النظر فى 59 اتفاقية بين البلدين، بينها 16 اتفاقية عسكرية وأمنية تبلغ قيمتها سبعة مليارات ونصف المليار دولار، يفترض أن تسددها تركيا إلى إسرائيل، وضياع هذا المبلغ الكبير عليها يشكل لها ضربة اقتصادية موجعة.

وهذه الصفقات تشكل شراء طائرات بدون طيار، وألف دبابة مدرعة من طراز «ميركافاه 3» بقيمة خمسة بلايين دولار، ومشروع مشترك لبناء صواريخ بقيمة 1.5 مليون دولار، وتحديث طائرات فانتوم وتحديث دبابات وتأهيل طيارين أتراك وتدريب طيارين إسرائيليين فى الأجواء التركية.. إلخ. وقد نشرت صحيفة «زمان» المقربة من الحكومة أن توجيهات صدرت للشركات التركية، التى تتعامل مع الصناعات العسكرية الإسرائيلية بإلغاء الصفقات الموقعة معها.

حين سألت ما هى الأوراق التى تملكها إسرائيل فى الضغط على تركيا وترهيبها، كان الرد أن حاجة إسرائيل إلى تركيا أكبر بكثير من حاجة تركيا إلى إسرائيل. فأنقرة لا تعول كثيرا على إسرائيل، وما تحصله منها يمكن توفيره من بدائل أخرى (روسيا سارعت بعد الأزمة الأخيرة إلى عرض مساعداتها على أنقرة لتوفير احتياجاتها العسكرية). أما إسرائيل فهى تريد الكثير من تركيا اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا.

أضاف محدثى القريب من دوائر رئيس الوزراء أردوغان أن إسرائيل تراهن فى مواجهة الأزمة الحالية على عدة عوامل، أهمها ضغوط حلفائها فى واشنطن على أنقرة.

والأرجح أنها ستستخدم اختراقها لبعض التجمعات الكردية لإزعاج حكومة أنقرة (يربط بعض المحللين بين المجزرة التى حدثت فى مدينة الاسكندرونة، وقتل فيها ستة من الجنود الأتراك وبين انطلاق أسطول الحرية يوم 30 مايو الماضى، ويرون أنها رسالة تحذيرية إسرائيلية). وقد تلجأ إسرائيل أيضا إلى إثارة بعض الاضطرابات الأخرى فى داخل تركيا..

وفى حين قررت لجنة العلاقات الخارجية فى الكنيست عقد جلسة خاصة لمناقشة ما وصفوه بـ«مذبحة الأرمن» كيدا فى تركيا وتشهيرا بها، فقد انطلقت فى إسرائيل حملة شعبية لمقاطعة السياحة فى تركيا والمنتجات الصناعية والزراعية التركية، التى تباع فى إسرائيل.

إلى غير ذلك من الإجراءات التى لا تترك أثرا موجعا للاقتصاد التركى (صحيفة صباح ذكرت أن الأفواج السياحية الإسرائيلية ألغت حجوزاتها، فى حين أن السياحة العربية زادت بنسبة 40٪ على العام الماضى، وأشارت إلى أن السائح العربى ينفق ثلاثة أضعاف ما ينفقه السائح الإسرائيلى).


(4)
ما كان يمكن أن تغضب إسرائيل، دون أن يتردد صدى ذلك الغضب قويا فى واشنطن. وهذا ما حدث. فقد نقلت وكالات الأنباء (فى 17/6) أن مؤتمرا صحفيا عقده بهذا الخصوص فى العاصمة الأمريكية بعض النواب الجمهوريين والديمقراطيين، الذين حذروا تركيا من استمرارها فيما اعتبروه عداء لإسرائيل.

فقال النائب مايك بنس إن تركيا «ستدفع الثمن» إذا استمرت على موقفها الحالى من التقارب مع إيران وزيادة العداء لإسرائيل. ووصف النائب الديمقراطى اليوت انجيل أفعال تركيا بأنها «مخزية». فى الوقت ذاته وقع 126 عضوا فى مجلس النواب رسالة طلبت من الرئيس أوباما معارضة أى إدانة دولية لإسرائيل بسبب عدوانها على أسطول الحرية.

وقعت على تحليل أعمق لهذا الملف نشرته صحيفة الشرق الأوسط فى 10/6 منسوبا إلى خدمة صحيفة «نيويورك تايمز»، ذكر أن تركيا أثارت غضب واشنطن، التى اعتبرتها تحديا لسياستها لأهم قضيتين إقليميتين إلحاحا، هما: البرنامج النووى الإيرانى (حين اتفقت مع البرازيل لحل إشكال البرنامج بعيدا عن الوصاية الأمريكية) ــ وعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية (لاحظ أن أردوغان رفض اعتبار حماس منظمة إرهابية).

أضاف التقرير نقلا عن ستيفن كوك الخبير لدى مجلس العلاقات الخارجية أن واشنطن باتت تنظر إلى تركيا باعتبارها «تعبث بأرجاء المنطقة وتقدم على أفعال تتعارض مع ما ترغبه القوى العظمى»، من ثم فإن السؤال الذى أصبح مطروحا فى واشنطن الآن ــ والكلام لا يزال للسيد كوك ــ هو: كيف يمكن الإبقاء على تركيا فى حدود حارة الطريق المخصص لها؟

هذه المشاهد تشكل الخلفية التى تمهد الآن لما يبدو أنه «انقلاب استراتيجى» فى منطقتنا، الأمر الذى يستدعى مواصلة الحديث فى الأسبوع المقبل بإذن الله.


http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=252544