مشاهدة النسخة كاملة : تقرير السيدة راء عن اليوم الأخير في الأسبوع .. رضوى عاشور


Gehad Mostafa
17-07-2010, 12:29 PM
تقرير السيدة راء عن اليوم الأخير في الأسبوع
اللكاتبة / رضوى عاشور




انهابحيرة. في زمان قديم كان الشاعر الرومانسي يصوّر نفسه جالسا على ضفافها، خلفه، أو ربما في جانب من المكان، صفصافة حلّت أغصانها كضفائر امرأة حزينة. يحدق في ماء البحيرة فيرى وجه نرجس على صفحتها جميلا وبائسا ويطابق وجهه، فيشغله وجهه. يُشفق على روحه، يُتمتم: من يرثى لك يا مسكين؟ ثم يبدأ مرثيته.
لا صفصافة هنا ولا وجه نرجس بل سيارتي أركبها إلى الوظيفة، يقذفني سائق عابر بمسبّة وهو يتجاوزني، أسبّه وأواصل. في الوظيفة الخراب، أناطحه كأنني أقوى ثم أركب سيارتي عائدة إلى البيت. تمنحني الإشارة الحمراء حيّزا لاكتمال سؤال: أبدو هشة كورقة خريف أسلمت نفسها للهواء قبل أن تستقر على الأرض، كيف ناطحتُ إذن؟ في المساء أعاود الخروج إلى الشارع. بلي حذائي ولابد من شراء حذاء آخر. أنتقل بين الواجهات الزجاجية لمحال الأحذية ثم أدخل محلا منها وأشتري. أتمتم لنفسي وأنا أمشى في الشارع "ما الذي يحدث لحلم تأجّل؟" يبقى السؤال معلّقا أمامي وأنا أقود سيارتي ببطء يمليه ازدحام شارع الجلاء، إشارة المرور مرة أخرى، أتوقف. ألمح جرذا يقطع الطريق بشكل مباغت. "هل تفوح رائحته كلحم فاسد؟" الحلم وليس الجرذ. "ربما نجرجره كحمل ثقيل"
* أخيرا أصل البيت. أصفّ سيارتي. أصعد الدرج وأدير المفتاح في الباب. أعد لنفسي قهوة و شطيرة محشوة بالجبن وأفتح التلفزيون أتابع نشرة الأخبار ثم جزءا من فقرة الإعلانات يقطعها تليفون من زميل في العمل تبرع بدرس في السلوك الوظيفي: "الحكمة تقتضي أن تأخذي الأصغر منك بالشدة والأكبر باللين. الاصطدام مع رئيسك في العمل حماقة. لا بد من كسر سمّه بالمسايسة والمجاملة والالتفاف. المواجهة دائما خاسرة. إفعلي ما بدا لك مع مرؤسيك، واجهيهم كما يحلو لك، قوّمي اعوجاجهم بالعصا على رؤوسهم إن اقتضى الأمر. أراك تفعلين العكس وهذا خطأ فادح". شكرته على نصائحه وأنهيت المكالمة.
"ما الذي يحدث لحلم تأجّل؟" أغلقت التلفزيون واتصلت بصديقتي. حكت لي عن يومها وحكيت، أفضنا في الكلام ثم قلت:
- لدى مشروع قصة.
قالت: -لا تتحدثي عنها، اكتبيها!
ولكنى أردت الحديث: - امرأة في مقتبل العمر تستعد للقاء الرجل الذي تحب. تتزين وتغادر بيتها وتشترى باقة ورد وتذهب إلى محطة القطارات وتنتظر. يصل قطار. تتطلع، تبحث. لم يأت. يصل قطار آخر. يتعاقب وصول القطارات. تذبل الورود. تمر الساعات، الأيام، الأسابيع والسنين. تكتهل المرأة وهى على حالها واقفة. ثم تشيخ.
قاطعتني صديقتي: - وتموت، ويشيعون جنازتها من مسجد "عمر مكرم"، وينتهي الفيلم بنشيد بلادي بلادي لك حبي وفؤادي فتبكى العوانس بحرقة بينما جمهور التِرسو يصفّر ويهتف سينما أَوَنْطَة هاتوا فلوسنا، ويشتبك الطرفان، وتأتى قوات الأمن المركزي لفض الشغب فيسقط اثنان واحد من كل فريق، قتيل الترسو تُنشر صورته في الجريدة وتحتها عبارة الإرهابي الذي تسبب في الشغب وراح ضحيته، أما صورة شهيدة العوانس فتتجاهلها الصحافة القومية ولكن المنظمة المصرية لحقوق المرأة تسارع بإرسال صورتها إلى أوربا وأمريكا حيث تقرر كافة الجماعات النسوية اعتبار يوم عرض الفيلم وسقوط المرأة يوما عالميا للعوانس!
لم أضحك، مرت لحظات من الصمت، ثم:
- غضبت؟
- لم أتصور أن مشروع القصة رديء إلى هذا الحد؟!
- ميلودرامي!
قررت أن أغيّر الموضوع. حكيت لها عن الكتاب الذي انتهيت من قراءته وعن المرأة التي رفضت أن تتطلع إلى وليدها بعد أن وضعته:
- بقيت على تلك الحال عدة أيام نائمة في فراشها على جانبها الأيمن، وجهها إلى الحائط وعيناها محدقتان في بياضه. حملوا لها الصغير. وضعوه بجوارها. حدّثوها عنه. لم تحرك ساكنا.
- وماذا حدث بعد ذلك؟
- لا أدري!
- ألم تقولي أنك انتهيت من قراءة الكتاب؟
- نعم، ولكن الكتاب ليس عنها، ترد حكايتها في ثلاثة أسطر فقط.
قبل أن ننهى المكالمة، قالت:
- هل تستطيعين كتابة قصتك على طريقة أفلام شارلي شابلن الصامتة؟
- كيف؟
- شكل فكاهي، وتلخيص كاريكاتوري، وإيقاع سريع.
- لا أفهم!
- كأفلام الكارتون، هل بإمكانك أن تفعلي ذلك؟!.
- لا أدرى. لا أظن!
وضعتُ السماعة وجلست للكتابة.

المشروع الأول: القصة الميلودرامية

أدهشتها صورتها في المرآة. كانت تحمّمت واعتنت بزينتها وتصفيف شعرها وارتدت أجمل ثيابها، ولكن ذلك كله لم يفسر لها التغيير المفاجئ من فتاة لطيفة الملامح إلى الحسناء التي تطالعها في المرآة. غادرت المنزل إلى محل الزهور، انتقت ورودا قرمزية لها سيقان طويلة، لفّها لها البائع في السلوفان بعد أن أضاف لها غصونا دقيقة أوراقها أشبه بأوراق السرو وإن تميزت عنها بزهور بيضاء منمنمة. كان البائع على وشك أن يربط الباقة بشريط أبيض ولكنها سارعت بإعلامه أنها تريد شريطا وردى اللون. ناولته النقود وسارت إلى المحطة، باقة الورد في يدها وعلى شفتيها أغنية. في المحطة تطلعت إلى الساعة الكبيرة المثبّتة في الجدار، وإلى الساعة الصغيرة حول معصمها. كان الوقت متطابقا. بإمكانها أن تجلس في المقهى لقضاء الخمس والعشرين دقيقة الباقية على وصول القطار. طلبت قدحا من القهوة. نسيت أن تحتسيه. قامت إلى الرصيف. يقترب القطار من محطة الوصول. يرتج جسدها رجا بضجيجه ودقات قلبها. تختار موقعا يمكّنها من متابعة كل القادمين. يمرون بها. كلهم يمرون. لم يأت. استعلمت عن موعد وصول القطار التالي. وصلت سبع قطارات. انتصف الليل. قال ناظر المحطة إن القطار التالي يصل صباحا. وكانوا لحسن الحظ لا يغلقون مقهـى المحطة في الليل.

المشروع الثاني: القصة على طريقة الأفلام الصامتة

ارتدت ملابسها بسرعة خاطفة ثم غادرت المنزل ركضا. في المصعد تطلع إليها جارها باستغراب فانتبهت إلى أنها تمسك فردتي الحذاء في يدها. لبست الحذاء وغادرت المصعد ركضا إلى بائع الزهور. اصطدمت برجل ثم بامرأة ثم بشجرة فاعتذرت للشجرة. اشترت زهرة وطارت بها إلى المحطة. وصل القطار. دست رأسها في نوافذه. صعدت إلى كل العربات. تفرّسـت في الوجوه. جثت على ركبتيها وبحثت تحت الكراسي. اعتلت المقاعد وجاست بيديها بين الأمتعة المصفوفة على الأرفف المثّبتة على الجانبين. قفزت من القطار وقد أوشـك على القيام. انتظرت القطار التالي. حاذى الرصيف. اندفعت إليه. تعثرت بالأمتعة. اصطدمت بالركاب. سألت. وصفت. استخدمت يديها في تعزيز الكلمات بالإشارة. هـزوا رؤوسهم. هرولت إلى مكتبة قريبة من المحطة. اشترت ورقا مقوى وقلما. كتبت بخط أسود سميك اسمه وأوصافه وانتحت جانبا من الرصيف رافعة اللافتة. لا أحد يتوقف. ركضت إلى خارج المحطة. اشترت جرسا. عادت إلى الرصيف. وقفت تدق الجرس تحاول لفت انتباه المارة إلى اللافتة. توالت القطارات. تصل. ترحل. تشرق الشمس. تغيب الشمس. تصفر الريح. يهطل المطر. يذهب الشتاء. يأتي الصيف. يشتد القيظ. يقرصها الجوع. تأكل الزهرة. لم تنتبه إلى أن ما كتبته على اللافتة اختلط حبره بماء المطر فلم يعد مقروءا ولا مفهوما، وأن شعرها الذي بلله المطر وجففته الشمس ثم بلله المطر من جديد صار أشعثا، وأن ثـوبها أصبح باليا كابي اللون ومتهدلا على جسمها الضامر، وأن المارة يضعون بجوارها بعض القروش ثم يسرعون الخطو مبتعدين.

*** صديقتي على حق القصة ميلودرامية. تناولتُ حبة مهدئة ودخلتُ إلى فراشي. حاولت، مرة أخرى، تأمل مشروع القصة فقطع تأملي الاستغراق في النوم ..