mrweb
16-10-2010, 05:54 PM
أسطورة الحاكم الذي لا يعرف :ـ
في مشهد من فيلم ” نيكولاس وألكسندرا ، يتوجه العمال التعساء إلي مقر قيصر روسيا ، في مسيرة سلمية أقنعهم بها قسيس يكره العنف ، وهم يحملون عريضة يشكون بها إلي الحاكم سوء أحوالهم. ويسير الموكب في هدوء ، وعلي رأسه القس الذي يصيح طوال الوقت :ـ ” إنا أتيناكم مسالمين ” . وفي الطرف الآخر يقف الجنود ببنادقهم ، وعند نقطة معينة يطلقون النار فجأة علي المسيرة السلمية ، وبذلك وقعت ” مذبحة قصر الشتاء ” الشهيرة في عام ١٩٠٤ . وفي نهاية المشهد وقف القس المشدوه يرقب القتلي والدماء الغزيرة ويصيح : ” نيكولاس ، أيها السفاح الشرير ” ، وننتقل بعد ذلك مباشرة إلي مشهد آخر في القصر ، حيث نجد القيصر واقفا يسأل رئيس وزراءه بكل غضب : ” لماذا لم تقولوا لي ؟ من الذي أمر بإطلاق النار ؟ لماذا قتلتم الناس ؟ من المسئول عن هذه المذبحة ؟ ” فيجيب رئيس الوزراء بحكمة : ” هل كنت ستستجيب لمطالب هؤلاء الناس لو وصلوا إليك ؟ ” وعندما يأتيه الرد - كما هو متوقع - بالنفي ، يقول : ” وبعد ذلك تسأل من المسئول ؟“
في هذه اللقطات تعرض علينا مشكلة أساسية في الحكم الفردي الدكتاتوري من زواياها الثلاث :ـ
١- الشعب ينظر إلي الحاكم علي أنه طاغية .
٢- أما الحاكم فيري نفسه بريئا لأنه لم يكن يعرف ، ويلقي اللوم علي المحيطين به .
٣ـ وأخيرا فإن صوت الحكمة يقول أن الحاكم ، بمبادئه وأساليبه في الحكم ، هو المسئول الحقيقي ، بغض النظر عن التفاصيل ، وعمن يكون المذنب عند إرتكاب هذا الخطأ الجزئي أو ذاك .
في بلاد العالم الثالث ، حيث الحكم الفردي هو القاعدة العامة التي لا توجد لها إلا إستثناءات قليلة ، تنتشر أسطورة ” الحاكم الذي لا يعرف ” ، وفي أغلب الأحيان يروجها النظام ذاته ، أو المتعاطفون معه ، كما أن الحاكم ذاته قد يلجأ إليها في نهاية المطاف حين لا يعود في الإمكان كتمان فضائح مالية ، أو جرائم لا إنسانية ، أو تصرفات قمعية إرهابية . عندئذ تعلو الأصوات قائلة : أن الحاكم نفسه رجل رحيم ، تجيش نفسه بالإنسانية والوطنية وحب العدل ، ولا يفكر إلا في مصلحة شعبه ، ولكن العيب كله في المحيطين به ، وعادة يصّور هولاء المحيطون بأنهم ، في غالبيتهم ، مجموعة من الأشرار الذين لا يكتفون بإرتكاب جرائمهم ، بل يخفونها عن الحاكم ، ويصورون له الأحوال دائما بصورة وردية . وماداموا هم وحدهم الذين يستطيعون الوصول إلي الحاكم ، فإن هذا الأخير يظل علي غير علم بممارساتهم التي تشوه صورته أمام الناس دون قصد منه . وهكذا يساء إلي الحاكم الإنسان نتيجة لشرور الأعوان .
وتنتشر ” أسطورة الحاكم الذي لا يعرف ” عندما يضطر أنصار الحاكم الفرد إلي الإعتراف بوجود ، تناقض صارخ في تصرفاته ، ويعجزون عن تفسير هذا التناقض ، فهو من جهة يبدو حاكما وطنيا صامدا في وجه أعداء الوطن ، يتبع سياسة تستهدف مصالح ” الشعب ” ، وخاصة فئاته الكادحة ولكنه من جهة أخري يسجن بلا حساب ، ويعتقل بلا دليل ، ويقمع كل معارض ، ولا يسمح لصوت بأن يرتفع إلا صوته وصوت أذنابه - أي أنه بإختصار يقضي علي أي تأثير ممكن لإنجازاته الإيجابية عن طريق فرض هذه الإنجازات علي الناس من أعلي ، بدلا من أن يدعها تنبثق من رأيهم الحر وتجد لنفسها الحماية والرعاية في ظل موافقتهم وإقتناعهم .
فكيف يمكن تفسير هذا التناقض ؟ إن النصير المتحمس للحاكم الفرد لا يجد وسيلة تفسير سوي أن يلجأ إلي ” أسطورة الحاكم الذي لا يعرف ” ، فيؤكد أن الإيجابيات من صنعه هو ،أما السلبيات فمن صنع المحيطين به ، وهو لا يعلم عنها شيئا ولو كان يعلم لما سمح بها ، وعلي هذا النحو يظل النصير المتحمس محتفظا بمثله الأعلي نقيا من كل شائبة ، بينما يعزو إلي غيره كل الآثام والنقائص والإنحرافات ، وتظل صورة الحاكم الفرد ، في نظر معبوده ، أشبه بإله لا يصدر عنه إلا الخير ، بينما الشر كله من صنع ” الشيطان ” ..
“وربما حوّرت الأسطورة قليلا ، فلا يعود الحاكم هو الذي ” لا يعرف ” ، بل يصبح هو الذي ” لايقدر ، وفي هذه الصيغة المعدلة ، تكون رغبة الحاكم أيضا متجهة دائما إلي الخير ، غير أن الذين يحيطون به يفرضون عليه إجراءات ظالمة لا يكون هو ذاته راضيا عنها ، ولكن لا مفر من ذلك من أجل مراعاة ” توازن القوي ” في الحكم، وضمان إرضاء كافة الأطراف ذات الوزن بين الفئة الحاكمة ، حتي تسير الدفة بأكبر قدر ممكن من الهدوء والإنسياب . وهكذا يضطر الحاكم ، برغم قوته وجبروته ، إلي توزيع بعض السلطات علي الأعوان الذين يملكون بدورهم قدراً من القوة ، ويترك لكل منهم الحرية في ” قطاعه ” الخاص ، فإذا أساء أحدهم التصرف فإن الحاكم لا يمكن أن يكون مسئولاً عما فعل ، بل هو مضطر الي المضي في ” لعبة التوازن ” بلا توقف ، لأن سلامة الحكم وتوازنه تحتم ذلك .
أسطورة الحاكم الذي لا يتنازل : ـ
في مقابل هذه الأسطورة ، تظهر في بلاد العالم الثال ، وضمنها بلادنا العربية بالطبع ، أسطورة أخري تسير في الإتجاه المضاد ، ولكنها تنطوي في نهايج المطاف علي نفس الآفات التي تكشف عنها الأسطورة السابقة. والهدف في هذه المرة ليس الدفاع عن الحاكم المطلق عن طريق نسبة كل أخطائه الي الاعوان ، وانما هو الدفاع عن هؤلاء الاعوان عن طريق تأكيد أن الحاكم لم يترك لهم شيئا يتنازل عنه
فالحاكم هنا وهو الذي يمسك بزمام كل شئ ، والتابع ـ حتي لو كان الرجل الثاني ـ لا يملك الا ان ينظر الي ما يحدث في صمت ، لأن رأيه غير مطلوب ، وإذا طلب فهو غير مسموع ، فإذا سألت هذا التابع :ـ ألا تري كل هذه المظالم ؟ ألست أنت أيضا مسئولاً عنها ؟ كان رده :ـ إنني مغلوب علي أمري ، ” فالرجل الكبير ” هو الذي يفعل كل شئ ، وما عليّ سوي ألا أن أرقب الأمور صامتا .
هنا تنسب السلبيات كلها الي الحاكم ، الذي تكون له قدرة كاملة ، ومعرفة كاملة ، أما الأعوان فإنهم عاجزون كل العجز ، وحتي لو كانوا من الفضلاء فإن محاربة الفساد تفوق طاقتهم ، لأن القرارات كلها تصدر عن سلطة واحدة لا تترك لغيرها شيئا . وواضح أن هذه الأسطورة تقلب إتجاه الأسطورة السابقة : ففي الحالة الأولي كان الحاكم هو الطرف الصالح دائما ، علي حين أن الفساد كله يأتي من الأعوان ، وكان الحاكم لا يعلم عن السلبيات شيئا ، بينما الأعوان يعرفون عنها كل شئ لأنهم هم الذين يرتكبونها ، وكان الحاكم لا يهتم إلا بالعموميات والقرارات الحاسمة ، ويترك التفاصيل للأعوان الذينيسيئون إستخدامها . أما في الحالة الثانية فإن الحاكم وحده هو صاحب القرار وصاحب القدرة ، وأقوي أعوانه لا يملك إلي جانبه شيئا ، ولا يستطيع أن يغير من الأمر كثيرا أو قليلا ، حتي في التفاصيل والجزئيات.
ولكن الأمر الذي يدعو للدهشة هو أن الأسطورتين ، علي الرغم من تناقضهما ، كثيرا ما يطلقان علي حاكم واحد . فأنصاره يروجون الأسطورة الأولي ، وربما إعتنقوها عن إيمان ، فيلتمسون له العذر عن أخطائه المنسوبة دائما إلي المحيطين به ، وخصومه ينشرون الأسطورة الثانية ويلتمسون العذر لأنفسهم لأن الحاكم لم يكن يقبل ” التنازل ” عن شئ . فهل يُعقل أن يكون الحاكم نفسه عارفًا بكل شئ ، وغير عارف بالكثير ؟ وهل يعقل أن يكون ، في آن واحد ، خيرًا وشريرًا ، رحيمًا وطاغية ، مشاركًا للغير ومستحوذًا علي كل شئ ؟.
ولكن المشكلة الحقيقية في الأسطورتين لا تكمن في تناقضهما فحسب ، بل إنهما تمثلان وهما كبيرًا وقعت فيه شعوبنا ومازالت معرضة للوقوع فيه. والأدهي من ذلك أن الأسطورتين أصبحتا تقدمان وكأنهما من طبائع الأشياء ومن ضرورات السياسية ، وترددان وكأنهما محاولة لتفسير ظواهر تبدو غير قابلة للتفسير علي أي نحو آخر ، وأعني بها: كيف يكون الحاكم وطنيًا و طاغية في الوقت ذاته ؟ وكيف يكون التابع فاضلاً وشاهدًا علي الظلم ؟
ولكن هل تستطيع الأسطورتان ، حقاً ، تفسير أي شئ ؟
تبديد الوهم :ـ
لقد أطلقنا إسم ” الأسطورة ” علي هذه التفسيرات التي تشيع في نظم الحكم الفردية التسلطية لأنها لاتعدو بالفعل أن تكون وهمًا كبيرًا تسلط علي العقول وشوه نظرتها الي عملية الحكم وعلاقة الحاكم بأعوانه وبالمجتمع الذي يحكمه ، فنحن نخدع أنفسنا ونكشف عن قصور تفكيرنا في كل مرة نبرر فيها أخطاء الحاكم بأنها وقعت لأنه لم يكن يعرف ، ونحصر مسئولية الأخطاء في التابعين والمعاونين ، أو نلتمس فيها العذر لتابع الحاكم علي أساس أنه كان مغلول اليد ، ونحصر مسئولية الأخطاء في الحاكم الفرد الذي لا يتنازل عن شئ .
أن أبسط تفكير يقنعنا بأن الحاكم الانسان ، الوطني ، الرحيم ، الذي تحيط به مجموعة من الأشرار ، إنما هو خرافة لا مكان لها إلا في عقول السذج ، فالحاكم الذي يكون في هذا النمط من الحكم فرديًا متسلطًا ـ هو الذي يختار معاونيه ، وهو الذي يملك قدرة تغييرهم ، ولولا انه يرتاح لعملهم ، ولأسلوبهم في التعاون معه ، لما بقوا في مناصبهم لحظة واحدة ، ومعاونوه هؤلاء إما أن يكونوا علي شاكلته ، وإما أن يكونوا مكملين له في عملية توزيع للأدوار يعهد فيها إليهم بالأعمال التي لاتتناسب مع مكانته أو مشاغله ، والصورة التي يتخيلها البعض ، في أنظمة الحكم التسلطية ، عن حاكم خيّر يحيط به معاونون من الأشرار هي ، ببساطة ، صورة تتنافر أجزاؤها ويستحيل أن تتجمع عناصرها ، إذ أن السلطة المطلقة للحاكم تحتم عليه ألا يعمل إلا من خلال أشباهه أو المتكاملين معه . ولو جاز للمرء أن يحّور كلمات حكمة شائعة لهتف في هذا الصدد : “ قل لي من يعاونك ، أقل لك من أنت ! “
والنظرة الواقعية الي الأمور تثبت أن الحاكم المتسلط ” كثيرًا ما يعرف كل شئ عن معاونيه المحيطين به ، وعن جرائمهم التي تسمي في لغتنا التي اعتادت علي التهذيب المنافق ” إنحرافات ” أو حتي ” تجاوزات ” ، ولكنه يغض الطرف عنهم ماداموا يسايرونه ويخدمون أهدافه ، أما اذا خالفوا أوامره فان الملفات المحفوظة تخرج من الأدراج، وتبدأ الفضائح ، وهكذا فان الحاكم هنا ” يعرف ” ، ولكنه لا يستخدم معرفته لمنع الضرر عن الشعب ، بل يوظفها من أجل إحكام سيطرته وضمان طاعة معاونيه ، أي من أجل تحقيق مصالحه الخاصة في نهاية اللأمر.
ولكن لنفرض جدلًا أنه لم يكن يعرف ، فهل يعفيه هذا من المسئولية ؟ هذا هو السؤال الأكبر ، الذي يجيب عنها التفكير السياسي الساذج بالإيجاب ، ولكن حقيقة الأمر هي أن الحاكم مسئول عن عدم معرفته ، ومن ثم فهو مسئول عن كل ما يترتب علي ذلك من أضرار.
إن نظم الحكم التسلطية تضع أساليب لتوصيل المعلومات الي الحاكم تؤدي حتما الي التشويه والإنحراف. فمعرفة الحاكم بأوضاع البلاد لا تتم الا من خلال تقارير المعاونين والمحيطين ، والأجهزة السرية والأمنية . وهكذا يقضي النظام الفردي الدكتاتوري علي الحاكم بأن يعيش حبيس جدران أرهابه ، وهي جدران صماء ، نوافذها الوحيدة التي توصلها الي العالم الرحب الفسيح هي التقارير السرية ، التي يضعها المعاونين ، هذا هو النظام الذي وضعه هو ، وارتضاه ، وارتاح الي العمل به ، ومن ثم هو مسئول عما يترتب عليه مسئولية كاملة . ولقد كان في وسعه لو شاء ،ان يفتح الأبواب علي مصراعيها ، عن طريق السماح بحرية الكلام والنقد والمعارضة ، وعندئذ يستطيع ان ” يعرف ” كل ما يدور حوله بالطرق والقنوات الطبيعية ، من صحافة حرة وإجتماعات حزبية ولقاءات مع المعارضة ، الخ …. ، ولكنه إختار الطريق الأخر ، طريق عدم المعرفة ، أو طريق المعرفة الشوهاء بمحض إرادته، فكيف ندافع عنه بعد ذلك بحجة أنه لم يكن يعرف ؟
هل سمعتم يوما عن حاكم لدولة ديمقراطية إعتذر عن أخطاء حدثت في حكمه علي أساس أنه لم يكن يعرف ؟ وهل سمعتم عن شعب في دولة ديمقراطية إقتنع يوما بمثل هذا العذر ؟ إن النظام الديمقراطي يفترض في الحاكم أن يعرف ، وأن يضع من ضمانات الحرية ومن نظم توصيل المعلومات ما يضمن له معرفة طبيعية منظمة بما يدور حوله من إيجابيات وسلبيات ، فإذا تبين يومًا ما أن تقصيره في معرفة ما يحدث قد ترتبت عليه نتائج خطيرة ، وجب عليه أن يتنحي علي الفور ، ويترك الحكم لمن هو أقدر منه .
لقد قيل عن شاه إيران إنه لم يكن يصدق ما كان يجري من مظاهرات عارمة في بلاده خلال الشهور الأخيرة من حكمه . وقيل إنه عندما سمع بوجود معارضة قوية أرسل خادمه العجوز ليستطلع ما يجري في الشوارع ، بعد أن تزعزعت ثقته في التقارير التي يرفعها إليه ” السافاك ” ، وحين قام بجولة بالطائرة الهليكوبتر ووجد في الشوارع مظاهرات عارمة ، سأل طياره بدهشة : “ هل كل هؤلاء الناس يتظاهرون ضدي ؟ ( إنظر : محمد حسنين هيكل : “ مدافع آيات الله ” ..
في مشهد من فيلم ” نيكولاس وألكسندرا ، يتوجه العمال التعساء إلي مقر قيصر روسيا ، في مسيرة سلمية أقنعهم بها قسيس يكره العنف ، وهم يحملون عريضة يشكون بها إلي الحاكم سوء أحوالهم. ويسير الموكب في هدوء ، وعلي رأسه القس الذي يصيح طوال الوقت :ـ ” إنا أتيناكم مسالمين ” . وفي الطرف الآخر يقف الجنود ببنادقهم ، وعند نقطة معينة يطلقون النار فجأة علي المسيرة السلمية ، وبذلك وقعت ” مذبحة قصر الشتاء ” الشهيرة في عام ١٩٠٤ . وفي نهاية المشهد وقف القس المشدوه يرقب القتلي والدماء الغزيرة ويصيح : ” نيكولاس ، أيها السفاح الشرير ” ، وننتقل بعد ذلك مباشرة إلي مشهد آخر في القصر ، حيث نجد القيصر واقفا يسأل رئيس وزراءه بكل غضب : ” لماذا لم تقولوا لي ؟ من الذي أمر بإطلاق النار ؟ لماذا قتلتم الناس ؟ من المسئول عن هذه المذبحة ؟ ” فيجيب رئيس الوزراء بحكمة : ” هل كنت ستستجيب لمطالب هؤلاء الناس لو وصلوا إليك ؟ ” وعندما يأتيه الرد - كما هو متوقع - بالنفي ، يقول : ” وبعد ذلك تسأل من المسئول ؟“
في هذه اللقطات تعرض علينا مشكلة أساسية في الحكم الفردي الدكتاتوري من زواياها الثلاث :ـ
١- الشعب ينظر إلي الحاكم علي أنه طاغية .
٢- أما الحاكم فيري نفسه بريئا لأنه لم يكن يعرف ، ويلقي اللوم علي المحيطين به .
٣ـ وأخيرا فإن صوت الحكمة يقول أن الحاكم ، بمبادئه وأساليبه في الحكم ، هو المسئول الحقيقي ، بغض النظر عن التفاصيل ، وعمن يكون المذنب عند إرتكاب هذا الخطأ الجزئي أو ذاك .
في بلاد العالم الثالث ، حيث الحكم الفردي هو القاعدة العامة التي لا توجد لها إلا إستثناءات قليلة ، تنتشر أسطورة ” الحاكم الذي لا يعرف ” ، وفي أغلب الأحيان يروجها النظام ذاته ، أو المتعاطفون معه ، كما أن الحاكم ذاته قد يلجأ إليها في نهاية المطاف حين لا يعود في الإمكان كتمان فضائح مالية ، أو جرائم لا إنسانية ، أو تصرفات قمعية إرهابية . عندئذ تعلو الأصوات قائلة : أن الحاكم نفسه رجل رحيم ، تجيش نفسه بالإنسانية والوطنية وحب العدل ، ولا يفكر إلا في مصلحة شعبه ، ولكن العيب كله في المحيطين به ، وعادة يصّور هولاء المحيطون بأنهم ، في غالبيتهم ، مجموعة من الأشرار الذين لا يكتفون بإرتكاب جرائمهم ، بل يخفونها عن الحاكم ، ويصورون له الأحوال دائما بصورة وردية . وماداموا هم وحدهم الذين يستطيعون الوصول إلي الحاكم ، فإن هذا الأخير يظل علي غير علم بممارساتهم التي تشوه صورته أمام الناس دون قصد منه . وهكذا يساء إلي الحاكم الإنسان نتيجة لشرور الأعوان .
وتنتشر ” أسطورة الحاكم الذي لا يعرف ” عندما يضطر أنصار الحاكم الفرد إلي الإعتراف بوجود ، تناقض صارخ في تصرفاته ، ويعجزون عن تفسير هذا التناقض ، فهو من جهة يبدو حاكما وطنيا صامدا في وجه أعداء الوطن ، يتبع سياسة تستهدف مصالح ” الشعب ” ، وخاصة فئاته الكادحة ولكنه من جهة أخري يسجن بلا حساب ، ويعتقل بلا دليل ، ويقمع كل معارض ، ولا يسمح لصوت بأن يرتفع إلا صوته وصوت أذنابه - أي أنه بإختصار يقضي علي أي تأثير ممكن لإنجازاته الإيجابية عن طريق فرض هذه الإنجازات علي الناس من أعلي ، بدلا من أن يدعها تنبثق من رأيهم الحر وتجد لنفسها الحماية والرعاية في ظل موافقتهم وإقتناعهم .
فكيف يمكن تفسير هذا التناقض ؟ إن النصير المتحمس للحاكم الفرد لا يجد وسيلة تفسير سوي أن يلجأ إلي ” أسطورة الحاكم الذي لا يعرف ” ، فيؤكد أن الإيجابيات من صنعه هو ،أما السلبيات فمن صنع المحيطين به ، وهو لا يعلم عنها شيئا ولو كان يعلم لما سمح بها ، وعلي هذا النحو يظل النصير المتحمس محتفظا بمثله الأعلي نقيا من كل شائبة ، بينما يعزو إلي غيره كل الآثام والنقائص والإنحرافات ، وتظل صورة الحاكم الفرد ، في نظر معبوده ، أشبه بإله لا يصدر عنه إلا الخير ، بينما الشر كله من صنع ” الشيطان ” ..
“وربما حوّرت الأسطورة قليلا ، فلا يعود الحاكم هو الذي ” لا يعرف ” ، بل يصبح هو الذي ” لايقدر ، وفي هذه الصيغة المعدلة ، تكون رغبة الحاكم أيضا متجهة دائما إلي الخير ، غير أن الذين يحيطون به يفرضون عليه إجراءات ظالمة لا يكون هو ذاته راضيا عنها ، ولكن لا مفر من ذلك من أجل مراعاة ” توازن القوي ” في الحكم، وضمان إرضاء كافة الأطراف ذات الوزن بين الفئة الحاكمة ، حتي تسير الدفة بأكبر قدر ممكن من الهدوء والإنسياب . وهكذا يضطر الحاكم ، برغم قوته وجبروته ، إلي توزيع بعض السلطات علي الأعوان الذين يملكون بدورهم قدراً من القوة ، ويترك لكل منهم الحرية في ” قطاعه ” الخاص ، فإذا أساء أحدهم التصرف فإن الحاكم لا يمكن أن يكون مسئولاً عما فعل ، بل هو مضطر الي المضي في ” لعبة التوازن ” بلا توقف ، لأن سلامة الحكم وتوازنه تحتم ذلك .
أسطورة الحاكم الذي لا يتنازل : ـ
في مقابل هذه الأسطورة ، تظهر في بلاد العالم الثال ، وضمنها بلادنا العربية بالطبع ، أسطورة أخري تسير في الإتجاه المضاد ، ولكنها تنطوي في نهايج المطاف علي نفس الآفات التي تكشف عنها الأسطورة السابقة. والهدف في هذه المرة ليس الدفاع عن الحاكم المطلق عن طريق نسبة كل أخطائه الي الاعوان ، وانما هو الدفاع عن هؤلاء الاعوان عن طريق تأكيد أن الحاكم لم يترك لهم شيئا يتنازل عنه
فالحاكم هنا وهو الذي يمسك بزمام كل شئ ، والتابع ـ حتي لو كان الرجل الثاني ـ لا يملك الا ان ينظر الي ما يحدث في صمت ، لأن رأيه غير مطلوب ، وإذا طلب فهو غير مسموع ، فإذا سألت هذا التابع :ـ ألا تري كل هذه المظالم ؟ ألست أنت أيضا مسئولاً عنها ؟ كان رده :ـ إنني مغلوب علي أمري ، ” فالرجل الكبير ” هو الذي يفعل كل شئ ، وما عليّ سوي ألا أن أرقب الأمور صامتا .
هنا تنسب السلبيات كلها الي الحاكم ، الذي تكون له قدرة كاملة ، ومعرفة كاملة ، أما الأعوان فإنهم عاجزون كل العجز ، وحتي لو كانوا من الفضلاء فإن محاربة الفساد تفوق طاقتهم ، لأن القرارات كلها تصدر عن سلطة واحدة لا تترك لغيرها شيئا . وواضح أن هذه الأسطورة تقلب إتجاه الأسطورة السابقة : ففي الحالة الأولي كان الحاكم هو الطرف الصالح دائما ، علي حين أن الفساد كله يأتي من الأعوان ، وكان الحاكم لا يعلم عن السلبيات شيئا ، بينما الأعوان يعرفون عنها كل شئ لأنهم هم الذين يرتكبونها ، وكان الحاكم لا يهتم إلا بالعموميات والقرارات الحاسمة ، ويترك التفاصيل للأعوان الذينيسيئون إستخدامها . أما في الحالة الثانية فإن الحاكم وحده هو صاحب القرار وصاحب القدرة ، وأقوي أعوانه لا يملك إلي جانبه شيئا ، ولا يستطيع أن يغير من الأمر كثيرا أو قليلا ، حتي في التفاصيل والجزئيات.
ولكن الأمر الذي يدعو للدهشة هو أن الأسطورتين ، علي الرغم من تناقضهما ، كثيرا ما يطلقان علي حاكم واحد . فأنصاره يروجون الأسطورة الأولي ، وربما إعتنقوها عن إيمان ، فيلتمسون له العذر عن أخطائه المنسوبة دائما إلي المحيطين به ، وخصومه ينشرون الأسطورة الثانية ويلتمسون العذر لأنفسهم لأن الحاكم لم يكن يقبل ” التنازل ” عن شئ . فهل يُعقل أن يكون الحاكم نفسه عارفًا بكل شئ ، وغير عارف بالكثير ؟ وهل يعقل أن يكون ، في آن واحد ، خيرًا وشريرًا ، رحيمًا وطاغية ، مشاركًا للغير ومستحوذًا علي كل شئ ؟.
ولكن المشكلة الحقيقية في الأسطورتين لا تكمن في تناقضهما فحسب ، بل إنهما تمثلان وهما كبيرًا وقعت فيه شعوبنا ومازالت معرضة للوقوع فيه. والأدهي من ذلك أن الأسطورتين أصبحتا تقدمان وكأنهما من طبائع الأشياء ومن ضرورات السياسية ، وترددان وكأنهما محاولة لتفسير ظواهر تبدو غير قابلة للتفسير علي أي نحو آخر ، وأعني بها: كيف يكون الحاكم وطنيًا و طاغية في الوقت ذاته ؟ وكيف يكون التابع فاضلاً وشاهدًا علي الظلم ؟
ولكن هل تستطيع الأسطورتان ، حقاً ، تفسير أي شئ ؟
تبديد الوهم :ـ
لقد أطلقنا إسم ” الأسطورة ” علي هذه التفسيرات التي تشيع في نظم الحكم الفردية التسلطية لأنها لاتعدو بالفعل أن تكون وهمًا كبيرًا تسلط علي العقول وشوه نظرتها الي عملية الحكم وعلاقة الحاكم بأعوانه وبالمجتمع الذي يحكمه ، فنحن نخدع أنفسنا ونكشف عن قصور تفكيرنا في كل مرة نبرر فيها أخطاء الحاكم بأنها وقعت لأنه لم يكن يعرف ، ونحصر مسئولية الأخطاء في التابعين والمعاونين ، أو نلتمس فيها العذر لتابع الحاكم علي أساس أنه كان مغلول اليد ، ونحصر مسئولية الأخطاء في الحاكم الفرد الذي لا يتنازل عن شئ .
أن أبسط تفكير يقنعنا بأن الحاكم الانسان ، الوطني ، الرحيم ، الذي تحيط به مجموعة من الأشرار ، إنما هو خرافة لا مكان لها إلا في عقول السذج ، فالحاكم الذي يكون في هذا النمط من الحكم فرديًا متسلطًا ـ هو الذي يختار معاونيه ، وهو الذي يملك قدرة تغييرهم ، ولولا انه يرتاح لعملهم ، ولأسلوبهم في التعاون معه ، لما بقوا في مناصبهم لحظة واحدة ، ومعاونوه هؤلاء إما أن يكونوا علي شاكلته ، وإما أن يكونوا مكملين له في عملية توزيع للأدوار يعهد فيها إليهم بالأعمال التي لاتتناسب مع مكانته أو مشاغله ، والصورة التي يتخيلها البعض ، في أنظمة الحكم التسلطية ، عن حاكم خيّر يحيط به معاونون من الأشرار هي ، ببساطة ، صورة تتنافر أجزاؤها ويستحيل أن تتجمع عناصرها ، إذ أن السلطة المطلقة للحاكم تحتم عليه ألا يعمل إلا من خلال أشباهه أو المتكاملين معه . ولو جاز للمرء أن يحّور كلمات حكمة شائعة لهتف في هذا الصدد : “ قل لي من يعاونك ، أقل لك من أنت ! “
والنظرة الواقعية الي الأمور تثبت أن الحاكم المتسلط ” كثيرًا ما يعرف كل شئ عن معاونيه المحيطين به ، وعن جرائمهم التي تسمي في لغتنا التي اعتادت علي التهذيب المنافق ” إنحرافات ” أو حتي ” تجاوزات ” ، ولكنه يغض الطرف عنهم ماداموا يسايرونه ويخدمون أهدافه ، أما اذا خالفوا أوامره فان الملفات المحفوظة تخرج من الأدراج، وتبدأ الفضائح ، وهكذا فان الحاكم هنا ” يعرف ” ، ولكنه لا يستخدم معرفته لمنع الضرر عن الشعب ، بل يوظفها من أجل إحكام سيطرته وضمان طاعة معاونيه ، أي من أجل تحقيق مصالحه الخاصة في نهاية اللأمر.
ولكن لنفرض جدلًا أنه لم يكن يعرف ، فهل يعفيه هذا من المسئولية ؟ هذا هو السؤال الأكبر ، الذي يجيب عنها التفكير السياسي الساذج بالإيجاب ، ولكن حقيقة الأمر هي أن الحاكم مسئول عن عدم معرفته ، ومن ثم فهو مسئول عن كل ما يترتب علي ذلك من أضرار.
إن نظم الحكم التسلطية تضع أساليب لتوصيل المعلومات الي الحاكم تؤدي حتما الي التشويه والإنحراف. فمعرفة الحاكم بأوضاع البلاد لا تتم الا من خلال تقارير المعاونين والمحيطين ، والأجهزة السرية والأمنية . وهكذا يقضي النظام الفردي الدكتاتوري علي الحاكم بأن يعيش حبيس جدران أرهابه ، وهي جدران صماء ، نوافذها الوحيدة التي توصلها الي العالم الرحب الفسيح هي التقارير السرية ، التي يضعها المعاونين ، هذا هو النظام الذي وضعه هو ، وارتضاه ، وارتاح الي العمل به ، ومن ثم هو مسئول عما يترتب عليه مسئولية كاملة . ولقد كان في وسعه لو شاء ،ان يفتح الأبواب علي مصراعيها ، عن طريق السماح بحرية الكلام والنقد والمعارضة ، وعندئذ يستطيع ان ” يعرف ” كل ما يدور حوله بالطرق والقنوات الطبيعية ، من صحافة حرة وإجتماعات حزبية ولقاءات مع المعارضة ، الخ …. ، ولكنه إختار الطريق الأخر ، طريق عدم المعرفة ، أو طريق المعرفة الشوهاء بمحض إرادته، فكيف ندافع عنه بعد ذلك بحجة أنه لم يكن يعرف ؟
هل سمعتم يوما عن حاكم لدولة ديمقراطية إعتذر عن أخطاء حدثت في حكمه علي أساس أنه لم يكن يعرف ؟ وهل سمعتم عن شعب في دولة ديمقراطية إقتنع يوما بمثل هذا العذر ؟ إن النظام الديمقراطي يفترض في الحاكم أن يعرف ، وأن يضع من ضمانات الحرية ومن نظم توصيل المعلومات ما يضمن له معرفة طبيعية منظمة بما يدور حوله من إيجابيات وسلبيات ، فإذا تبين يومًا ما أن تقصيره في معرفة ما يحدث قد ترتبت عليه نتائج خطيرة ، وجب عليه أن يتنحي علي الفور ، ويترك الحكم لمن هو أقدر منه .
لقد قيل عن شاه إيران إنه لم يكن يصدق ما كان يجري من مظاهرات عارمة في بلاده خلال الشهور الأخيرة من حكمه . وقيل إنه عندما سمع بوجود معارضة قوية أرسل خادمه العجوز ليستطلع ما يجري في الشوارع ، بعد أن تزعزعت ثقته في التقارير التي يرفعها إليه ” السافاك ” ، وحين قام بجولة بالطائرة الهليكوبتر ووجد في الشوارع مظاهرات عارمة ، سأل طياره بدهشة : “ هل كل هؤلاء الناس يتظاهرون ضدي ؟ ( إنظر : محمد حسنين هيكل : “ مدافع آيات الله ” ..