مشاهدة النسخة كاملة : السيرة النبوية


عمروعبده
30-11-2010, 02:39 PM
أقدم لحضراتكم السيرة النبوية وهو منقول للفائدة
أساليب قريش في مواجهة الدعوة المحمدية
سبل شتى لمواجهة الدعوة :
ولما انتهى الحج ، وعادت قريش إلى بيوتهم ، واطمأنوا كأنهم رأوا أن يعالجوا هذه المشكلة التي نشأت لأجل قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله وحده ، ففكروا واستشاروا ، ثم اختاروا سبلاً شتى لمواجهة هذه الدعوة والقضاء عليها ، نذكرها فيما يلي بإيجاز .
1 - الأول مواصلة السخرية والاستهزاء والإكثار منها :
والقصد من ذلك تخذيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه رجل مسحور ، شاعر مجنون ، كاهن يأتيه الشيطان ، ساحر كذاب ، مفتر متقول ، وغير ذلك من التهم والشتائم ، وكانوا إذا رأوه يجيء ويذهب ينظرون إليه نظر الغضب والنقمة ، كما قال الله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ) وكانوا إذا رأوه يتهكمون به ، ويقولون : ( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) . وإذا رأوا ضعفاء الصحابة قالوا : قد جاءكم ملوك الأرض ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا )
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء ، ومن الطعن والتضحيك حتى أثر ذلك في نفس النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : ( ولقد نعلم أنه ليضيق صدرك بما يقولون ) ثم ثبته الله تعالى ، وبين له ما يذهب بهذا الضيق ، فقال : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) وقد بين له ذلك ما فيه التسلية حيث قال : ( إنا كفيناك المستهزئين ، الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون ) وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالاً عليهم فقال : ( ولقد استهزيء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ) .
2 – الثاني : الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم :
فقد قرروا أن يثيروا الشغب ، ويرفعوا الضوضاء ، ويطردوا الناس كلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يستعد ليقوم بالدعوة إلى الله فيما بينهم ، وأن لا يتركوا له فرصة ينتهزها لبيان ما يدعو إليه ، وقد تواصوا بذلك فيما بينهم ، قال الله تعالى : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وقد ظلوا قائمين بذلك بكل شدة وصلابة ، حتى إن أول قرآن تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته في مجامعهم هو سورة النجم – وذلك في رمضان في السنة الخامسة من النبوة - .
وكانوا إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن في صلاته وأكثر ما كان يتلوه في صلاته بالليل – سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، حتى انزل الله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) .
وذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة والشام ، فتعلم منهم قصصاً شعبية ، كانوا يحكونها عن ملوكهم وأمرائهم مثل : رستم و إسفنديار ، فلما رجع أخذ يعقد النوادي والمجالس ، يقص هذه القصص ويصرف بها الناس عن الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذا سمع بمجلس جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله ، خلفه في ذلك المجلس ، ويقص عليهم من تلك القصص ، ثم يقول:بماذا محمد أحسن حديثاً مني .
ثم تقدم خطوة أخرى ، فاشترى جارية مغنية ، فكان لا يسمع أحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى تلك المغنية ، ويقول أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمد ، وفي ذلك أنزل الله تعالى : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ) .
الثالث : إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة :
فقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه ، فربما كانوا يقولون عن القرآن : إنه ( أضغاث أحلام ) أي أحلام كاذبة يراها محمد صلى الله عليه وسلم بالليل ، فيتلوها بالنهار وأحياناً كانوا يقولون : ( افتراه من عند نفسه ) وأحياناً كانوا يقولون : ( إنما يعلمه بشر ) وربما قالوا : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ً ) وأحياناً قالوا : إن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه بالقرآن مثل ما ينزل الجن والشياطين على الكهان ، قال – تعالى – رداً عليهم : ( قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، تنزل على كل أفاك أثيم ) أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ، وما جربتم علي كذباً ، ولا وجدتم في فسقاً ، فكيف تقولون إن القرآن من تنزيل الشيطان ؟
وأحياناً كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد أصابه نوع من الجنون ، فهو يتخيل المعاني ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة ، كما يصوغ الشعراء ، فهو شاعر وكلامه شعر ، قال الله تعالى رداً عليهم : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ، ولا توجد واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم فالذين اتبعوه هداة ، متقون ، صالحون في دينهم ، وخلقهم وأفعالهم ، وتصرفاتهم ، ومعاملاتهم ولا توجد عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم ، وهو لا يهيم في الأودية كلها كما يهيم الشعراء ، بل يدعو إلى رب واحد ، ودين واحد وصراط واحد ، وهو لا يقول إلا ما يفعل ، ولا يفعل إلا ما يقول ، فأين هو من الشعر والشعراء ؟ وأين الشعر والشعراء منه .
الرابع : النقاش والجدال :
وكانت ثلاث قضايا استغربها المشركون جداً ، وكانت هي الأساس في الخلاف الذي حصل بينهم وبين المسلمين في أمر الدين ، وهي : التوحيد والرسالة ، والبعث بعد الموت ، فكانوا يناقشون في هذه القضايا ، ويجادلون حولها .
فأما البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب ، والاستبعاد العقلي فقط ، فكانوا يقولون : ( أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ) وكانوا يقولون : ( ذلك رجع بعيد ) وكانوا يقولون : ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ، أفترى على الله كذباً أم به جنة ) وقال قائلهم :
أموت ثم بعث ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو
وقد رد الله عليهم بأنواع من الردود ، حاصلها أنهم يشاهدون في الدنيا أن الظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه ، والمسيء يموت قبل أن يعاقب على سيئاته ، فإن لم يكن بعد الموت يوم يبعث فيه الناس فيؤخذ من الظالم للمظلوم ، ويجزى المحسن الصالح ، ويعاقب المسيء الفاجر ، لاستوى الفريقان ، ولا يكون بينهما فرق ، بل يصير الظالم والمسيء أسعد من المظلوم والمحسن التقي ، وهذا غير معقول إطلاقاً ، وليس من العدل في شيء ، ولا يتصور من الله سبحانه أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الظلم والفساد ، قال تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ،ما لكم كيف تحكمون ) وقال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) وأما الاستبعاد العقلي ، فقال : رداً عليهم في ذلك : ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء ..) وقال : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) وقال : ( ولقد علمتم النشأة الولى فلولا تذكرون ) وقال : ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) وذكرهم ما هو معتاد لديهم ، وهو أن الإعادة ( أهون عليه ) وقال : ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) .
وأما رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت لهم حولها شبهات مع معرفتهم واعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه ، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أعظم وأجل من أن يعطى لبشر ، فالبشر لا يكون رسولاً ، والرسول لا يكون بشراً ، حسب عقيدتهم ، فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته ورسالته ، ودعا إلى الإيمان به تحير المشركون ، وتعجبوا ، وقالوا : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) قال تعالى : ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) وقالوا : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) .
وقد أبطل الله عقيدتهم هذه ، وقال رداً عليهم : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ) وقص عليهم قصص الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين قومهم من الحوار ، وأن قومهم قالوا إنكاراً لرسالتهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) و( قالت لهم رسولهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) فالأنبياء والرسل كلهم كانوا بشراً ، واما أن يكون الرسول ملكاً فإن ذلك لا يفي بغرض الرسالة ومصلحتها ، إذ البشر لا يستطيع أن يتأسى بالملائكة ، ثم تبقى الشبهة كما هي ، قال تعالى : ( ولو جعلنا ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) .
وحيث أن المشركين كانوا يعترفون أن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلاً وكانوا بشراً ، فإنهم لم يجدوا مجالاً للإصرار على شبهتهم هذه ، ولكنهم أبدوا شبهة أخرى ، قالوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين ؟ ما كان الله ليترك العظماء الكبار من أشراف قريش وثقيف ، ويرسل هذا ، ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) أي مكة والطائف ، قال تعالى رداً عليهم : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) ، يعني الوحي والقرآن والنبوة والرسالة رحمة من الله ، والله يعلم كيف يقسم رحمته ، وأين يضعها ، فمن يعطيها ، ومن يحرمها ، قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
فانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى قالوا: إن من يكون رسولاً لملك من ملوك الدنيا يوفر له الملك أسباب الحشمة والجاه من الخدم ، والحشم ، والضيعة ، والمال ، والأبهة ، والجلال ، وغير ذلك ، وهو يمشي في موكب من الحرس والمرافقين أصحاب العز والشرف ، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش يدعى أنه رسول الله ؟: ( لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً ، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ) .
معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل إلى جميع أنواع البشر : صغارهم وكبارهم ، وضعافهم وأقويائهم ، وأذنابهم وأشرافهم ، وعبيدهم وأحرارهم فلو حصل له ما تقدم من الأبهة ، والجلال ، ومواكبة الخدم ، والحشم ، والكبار ، لم يكن يستفيد به ضعفاء الناس وصغارهم ، وهم جمهور البشر ، وإذن لفاتت مصلحة الرسالة ، ولم تعد لها فائدة تذكر ، ولذلك أجيب المشركون على طلبهم هذا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول ، يعني يكفي لدحض شبهتكم هذه أنه رسول ، والذي طلبتموه له من الحشمة والجاه والموكب والمال ، ينافي تبليغ الرسالة في عامة الناس بينما هم مقصودون بالرسالة .
أما قضية التوحيد فكانت رأس القضايا وأصل الخلاف ، وكان المشركون يقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته وأفعاله ، فكانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وهو خالق كل شيء ، وهو المالك الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وملكوت كل شيء ، وهو الرازق الذي يرزق الناس والدواب والأنعام ، ويرزق كل حي ، وهو المدبر الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ويدبر أمر كل صغير وكبير حتى الذرة والنملة ، وهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، ورب كل شيء ، سخر الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والجن والإنس والملائكة ، كل له خاضعون ، يجير من يشاء على من يشاء ولا يجار عليه أبداً ، يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه .
وهم بعد هذا الإقرار الصريح لتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله كانوا يقولون : إن الله تعالى أعطى بعض عباده المقربين – كالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين – شيئاً من التصرف في بعض أمور الكون ، فهم يتصرفون فيه بإذنه مثل : هبة الأولاد ، ودفع الكربات ، وقضاء الحوائج، وشفاء المرضى ، وأمثال ذلك . وأن الله إنما أعطاهم ذلك لقربهم من الله ، ولجاههم عند الله ، فهم لأجل أن الله منحهم هذا التصرف وهذا الخيار يقضون بعض حاجات العباد عن طريق الغيب ، فيكشفون عنهم بعض الكربات ، ويدفعون بعض البليات ، ويقربون إلى الله من يرضون به ، ويشفعون له عنده .
والمشركون على أساس زعمهم هذا جعلوا هؤلاء الأنبياء والأولياء والصالحين وسيلة فيما بينهم وبين الله ، واخترعوا أعمالاً يتقربون بها إليهم ، ويبتغون بها رضاهم ، فكانوا يأتون بتلك الأعمال ثم يتضرعون إليهم ، ويدعونهم لقضاء حوائجهم،ويستغيثون بهم في شدائدهم ، ويستعيذون بهم في مخاوفهم .
أما الأعمال التي اخترعوها للتقرب إليهم فهي أنهم خصصوا لهؤلاء الأنبياء أو الأولياء والصالحين أماكن ، وبنوا لهم فيها البيوت ، ووضعوا فيها تماثيلهم التي نحتوها طبق صورهم الحقيقية أو الخيالية وربما وجدوا قبور بعض الأولياء والصالحين حسب زعمهم ، فبنوا عليها البيوت دون أن ينحتوا لهم التماثيل ثم كانوا يقصدون هذه التماثيل وتلك القبور ، فكانوا يمسحونها ويتبركون بها ، ويطوفون حولها ، ويقومون لها بالإجلال والتعظيم ، ويقدمون إليها النذور والقرابين ، ليتقربوا بها إليهم ، ويبتغوا بها من فضلهم ، وكانوا ينذرون لهم مما كان يرزقهم الله من الحرث والزرع والطعام والشراب والدواب والأنعام والذهب والفضة والأمتعة والأموال .
فأما الحرث والزرع والطعام والشراب والذهب والفضة والأمتعة والأموال فكانوا يقدمونها إلى أماكن وقبور هؤلاء الصالحين ، أو إلى تماثيلهم ، بواسطة سدنة وحجاب كانوا يجاورون تلك القبور والبيوت ، ولم يكن يقدم إليها شيء إلا بواسطتهم في معظم الأحوال .
وأما الدواب والأنعام فكان لهم فيها طرق ، فربما كانوا يسيبونها باسم هؤلاء الأولياء والصالحين ، من أصحاب القبور أو التماثيل ، تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، فكانوا يقدسون هذه الدواب ، ولا يتعرضون لها بسوء أبداً ترتع ما شاءت ، وتتجول أين شاءت ، وربما كانوا يذبحونها على أنصاب هؤلاء الأولياء – أي على قبورهم وأماكنهم المخصصة لهم – وربما كانوا يذبحونها في أي مكان آخر ، ولكن كانوا يذكرون أسماءهم بدل اسم الله – سبحانه وتعالى - .
وكان من جملة أعمالهم أنهم كانوا يحتفلون بهؤلاء الأولياء والصالحين مرة أو مرتين في السنة ، فكانوا يقصدون قبورهم وأماكنهم من كل جانب ، فيجتمعون عندها في أيام خاصة ، ويقيمون لها أعياداً ، يفعلون فيها كل ما تقدم من التبرك والمسح والطواف وتقديم النذور والقرابين وغير ذلك ، وكان كالموسم يحضره الداني والقاصي ، والشريف والوضيع ، حتى يقدم كل أحد نذره ، وينال بغيته .
كانوا المشركون يفعلون كل ذلك بهؤلاء الأولياء والصالحين تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، ليجعلوهم وسطاء بينهم وبين الله ، وليتوسلوا بهم إلى الله ، معتقدين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عند الله ، ثم كانوا يدعونهم لقضاء حوائجهم ودفع كرباتهم ، معتقدين أنهم يسمعون لما قالوا ، ويستجيبون لما دعوا وطلب منهم ، فيقضون حوائجهم ، ويكشفون كرباتهم ، إما بأنفسهم ، وإما بشفاعتهم لذلك عند الله .
فكان هذا هو شركهم بالله ، وعبادتهم لغير الله ، واتخاذهم آلهة من دون الله ، وجعلهم شركاء لله ، وكان هؤلاء الأولياء والصالحون وأمثالهم هم آلهة المشركين .
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد الله ، وخلع كل ما اتخذوه إلهاً من دون الله ، شق ذلك على المشركين ، وأعظموه وأنكروه ، وقالوا : إنها مؤامرة أريد بها غير ما يقال ، وقالوا: ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق .
ثم لما تقدمت الدعوة وقرر المشركون الدفاع عن شركهم ، والدخول في النقاش والجدال ومناظرة المسلمين ليكفوا بذلك الدعوة إلى الله ، ويبطلوا أثرها في المسلمين ، أقيمت عليهم الحجة من عدة جوانب ، فقيل لهم : من أين علمتم أن الله تعالى أعطى عباده المقربين التصرف في الكون ، أنهم يقدرون على ما تزعمون من قضاء الحوائج وكشف الكربات ؟ هل أطلعتم على الغيب ؟
أو وجدتم ذلك في كتاب ورثتموه عن الأنبياء أو أهل العلم ؟
قال تعالى : ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ) وقال : ( ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) وقال : ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) .
وكان من الطبيعي أن يعترف المشركون بأنهم لم يطلعوا على الغيب ، ولا وجدوا ذلك في كتاب من كتب الأنبياء ، ولا أخذوه من أهل العلم ، فقالوا : ( بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) و( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) . وبهذا الجواب تبين عجزهم وجهلهم معاً ، فقيل لهم : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فاسمعوا منه – سبحانه وتعالى – ما يقوله ويخبر به عن حقيقة شركائكم هؤلاء ، يقول تعالى : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) أي إنهم لا يقدرون على شيء مما يختص بالله – سبحانه وتعالى – كما أنكم لا تقدرون عليه ، فأنتم وهم سواء في العجز وعدم القدرة ، ولذلك تحداهم الله بقوله : ( فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) . وقال تعالى : ( والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير ) أي بقدر ما يكون من القشرة الرقيقة فوق النواة ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) وقال تعالى : ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ) وقال تعالى : ( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ، ولا يستطعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ) وقال : ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ) .
ثم رتب على عجز هؤلاء الآلهة ، وعدم قدرتهم على ما كانوا يزعمون ، أن دعاءهم والرجاء منهم لغو وباطل لا فائدة فيه إطلاقاً ، وذكر لذلك بعض المثلة الرائعة ، وذلك مثلاً قال تعالى : ( والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) .
ثم دعى المشركون إلى قليل التفكير ، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو خالق كل شيء ، وان آلهتهم لم يخلقوا شيئاً ، بل هم انفسهم مخلوقون لله ، فقيل لهم : كيف سويتم بين الله الخالق القادر وبين هؤلاء المخلوقين العجزة ؟ كيف سويتم بينهما في العبادة والدعاء ؟ فإنكم تعبدون الله وتعبدون هؤلاء ، وتدعون الله وتدعون هؤلاء : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) .
فلما وجه إليهم هذا السؤال بهتوا ، وذهبت عنهم حجتهم ، فسكتوا وندموا ثم تشبثوا بأمر باطل ، قالوا : إن آباءنا كانوا من أعقل البشر ، معروفين بذلك فيما بين الناس ، قد اعترف بفضل عقولهم الداني والقاصي ، وهم كلهم كانوا على هذا الدين ، فكيف يمكن أن يكون هذا الدين ضلالاً وباطلاً ؟ ولا سيما وآباء النبي صلى الله عليه وسلم وآباء المسلمين أيضاً كانوا على هذا الدين .
فرد عليهم بأنهم ما كانوا مهتدين ، ولم يعرفوا سبيل الحق ، ولا سلكوه ، ويستلزم هذا أنهم كانوا ضالين ، لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ، وقد قيل لهم ذلك أحياناً بالإشارة والكناية ، وأحياناً بالصراحة الكاملة ، مثل قوله تعالى : ( إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ) . هذه من جهة ومن جهة أخرى أخذ المشركون يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من آلهتهم ، يقولون : إنكم أسأتم الأدب إلى آلهتنا ببيان عجزهم ، فهم سوف يغضبون عليكم ، فتهلككم أو تخبطكم لأجل ذلك ، وهذا كما كان الأولون يقولون لرسلهم : ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) .
ورد على ذلك بتذكير المشركين وإلزامهم بما كانوا يشاهدونه ليلاً ونهاراً ، وهي أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها ، وتتقدم أو تتأخر شيئاً ، أو تدفع عن نفسها شراً ، فكيف تستطيع أن تضر المسلمين وتهلكمهم ؟ ( ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) .
وضرب لهم بمثل هذه المناسبة بعض المثال الصريحة ، مثل قوله تعالى: ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) ومثل قوله تعالى : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) وقد بين بعض المسلمين عجزهم هذا بقوله :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلما وصلت النوبة إلى مثل هذه الصراحة هاج المشركون وماجوا ، وسبوا المسلمين حتى سبوا ربهم الله سبحانه وتعالى فأما المسلمون فقد نهاهم الله سبحانه وتعالى عن معاودة ما يسبب ذلك وقال : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ) .
وأما المشركون فقد قرروا إحباط الدعوة ، والصد عن سبيل الله بالضغط والقوة والعنف ، فقام كل كبير ورئيس بتعذيب من آمن من قبيلته ، وذهب جمع منهم إلى أبي طالب ليكف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله .

عمروعبده
30-11-2010, 02:40 PM
إسلام حمزة رضي الله عنه
أما إسلام حمزة فسببه أن أبا جهل مر يوماً برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصفا ، فنال منه وآذاه ، ويقال إنه ضرب بحجر في رأسه صلى الله عليه وسلم فشجه ، ونزف منه الدم ، ثم انصرف إلى نادي قريش عند الكعبة ، وجلس معهم ، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان تنظر ما حدث من مسكن لها على الصفا ، وبعد قليل أقبل حمزة من الصيد متوشحاً قوسه ، فأخبرته الخبر ، فخرج حمزة يسعى حتى قام على أبي جهل ، وقال : يا مصفر استه ! تشتم ابن أخي ، وأنا على دينه ، ثم ضربه بالقوس ، فشجه شجة منكرة . وثار الحيان : بنو مخزوم وبنو هاشم ، فقال أبو جهل :دعو أبا عمارة – أي حمزة – فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً .
وكان إسلام حمزة أنفة ، كان اللسان قد سبق إليه دون قصد ، ثم شرح الله صدره للإسلام ، وكان أعز فتى في قريش ، وأقواهم شكيمة ، حتى سمي أسد الله ، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة .

عمروعبده
30-11-2010, 02:41 PM
إسلام عمر وردة فعل المشركين على إسلامه

وعزة الإسلام بإسلامه

إسلام عمر رضي الله عنه :
وبعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان من أشد الناس قسوة على المسلمين قبل إسلامه ، وفي ليلة سمع سراً بعض آيات القرآن ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ، فوقع في قلبه أنه حق ، ولكنه بقي على عناده ، حتى خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه رجل ، فقال : أين تعمد يا عمر ! قال : أريد أن أقتل محمداً ، قال : كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة ، وقد قتلت محمداً ؟ قال عمر : ما أراك إلا قد صبوت ؟ قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر ؟ إن أختك وختنك قد صبوا ، فمشى مغضباً حتى أتاهما ، وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما صحيفة فيها طه ، فلما سمع حس عمر توارى في البيت ، وسترت أخت عمر الصحيفة ، فلما دخل ، قال : ما هذه الهيمنة التي سمعتها عندكم ؟ فقالا : ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا ، قال : فلعلكما قد صبوتما ؟ فقال له ختنه : يا عمر ! أرأيت إن كان الحق في غير دينك ؟ فوثب عمر على ختنه ، فوطئه وطأً شديداً ، فجاءت أخته فرفعته عن زوجها ، فنفخها نفخة بيده فدمى وجهها ، فقالت وهي غضبى : يا عمر إن كان الحق في غير دينك ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله . ويئس عمر وندم واستحيى ، وقال : أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه ، فقالت أخته : إنك رجس ، ولا يسمه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل ، فقام فاغتسل ثم أخذ الكتاب فقرأه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال : أسماء طيبة طاهرة ، ثم قرأ طه حتى انتهى إلى قوله تعالى : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدن وأقم الصلاة لذكري ) فقال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟ دلوني على محمد .
وخرج خباب فقال : أبشر يا عمر ! فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس – وكان قد دعا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك ، بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام – ثم ذكر له خباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم التي في أصل الصفا .
فخرج عمر حتى أتى الدار وضرب الباب ، فأطل رجل من صرير الباب فرآه متوشحاً السيف ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستجمع القوم ، فقال حمزة ما لكم ؟ قالوا : عمر فقال : وعمر ، افتحوا له الباب ، فإن كان يريد الخير بذلناه له ، وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه ، ثم خرج فأخذ بمجامع ثوب عمر وحمائل سيفه – وهو في الحجرة – فجبذه بشدة ، وقال : أما تنتهي يا عمر حتى ينـزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة ؟ ثم قال : اللهم هذا عمر بن الخطاب ، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ، فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد .
ردة فعل المشركين على إسلام عمر :
كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام ، فلما أسلم ذهب إلى أشد قريش عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء للمسلمين ، وهو أبو جهل ، فدق بابه ، فخرج ، وقال : أهلاً وسهلاً ما جاء بك ؟ قال : جئتك لأخبرك أني قد آمنت بالله ورسوله محمد فأغلق الباب في وجهه وقال قبحك الله ، وقبح ما جئت به ، وذهب عمر إلى خاله العاص بن هاشم فأعلمه فدخل البيت .
وذهب إلى جميل بن معمر الجمحي – وكان أنقل قريش لحديث – فأخبره أنه أسلم ، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ ، فقال عمر : كذب ، ولكني أسلمت ، فثاروا إليه ، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم .
ولما رجع إلى بيته اجتمعوا وزحفوا إليه ، يريدون قتله ، حتى سال بهم الوادي كثرة ، وجاء العاص بن وائل السهمي – من بني سهم ، وكانوا حلفاء بني عدي قوم عمر – وعليه حلة حبرة ، وقميص مكفوف بحرير ، فقال : مالك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلونني أن أسلمت ، قال : لا سبيل إليك ، ثم خرج فوجد الناس قد سال بهم الوادي ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : هذا ابن الخطاب قد صبأ ، قال : لا سبيل إليه فرجعوا .
عزة الإسلام والمسلمين بإسلام عمر :
أما المسلمون فقد وجدوا عزة وقوة كبيرة بإسلام عمر ، فقد كانوا قبل ذلك يصلون سراً ، فلما أسلم عمر قال : يا رسول الله ألسنا على الحق وإن متنا وإن حيينا ؟ قال بلى . قال : ففيم الإختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن ، فخرجوا به في صفين ، حمزة في أحدهما وعمر في الآخر ، لهم كديد ككديد الطحين ، حتى دخلوا المسجد الحرام ، فلما نظرت إليهما قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها ، ولذلك سمى الفاروق .
قال ابن مسعود : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ، وقال ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر .
وقال صهيب : لما أسلم عمر ظهر الإسلام ، ودعى إليه علانية ، وجلسنا حول البيت حلقاً ، وطفنا بالبيت ، وانتصفنا ممن غلظ علينا ، ورددنا عليه بعض ما يأتي به .

عمروعبده
30-11-2010, 02:42 PM
أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في المدينة المنورة

ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة بدأ ينسق الأمور دينياً ودنيوياً بجانب استمراره في الدعوة إلى الله .
المسجد النبوي :

وأول خطوة اتخذها في هذا السبيل هو بناء المسجد النبوي ، واشترى لذلك الأرض التي بركت بها ناقته ، وكانت لغلامين يتيمين ، وكانت مائة ذراع في مائة ذراع تقريباً ، وفيها قبور المشركين ، وخرب ونخل وشجرة من غرقد فنبشت القبور وسويت الخرب ، وقطعت الشجرة والنخل ، وصفت في قبلة المسجد ، وجعل الأساس قريباً من ثلاثة أذرع ، وأقيمت الحيطان من اللبن والطين ، وجعلت عضادتا الباب من الحجارة والسقف من الجريد ، والعمد من الجذوع ، وفرشت الأرض بالرمال والحصباء ، وجعلت له ثلاثة أبواب ، وكانت القبلة في الشمال إلى بيت المقدس ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة واللبن مع المهاجرين والأنصار ، ويرتجز ويرتجزون ، فيزيدهم ذلك نشاطاً .
وبنى بجانب المسجد حجرتين بالحجارة واللبن وسقفهما بالجريد والجذوع أحداهما لسودة بنت زمعة ، والثانية لعائشة رضي الله عنهما ولم يكن إذ ذاك متزوجاً غيرهما ، وقد بنى بعائشة رضي الله عنها بعد قدومها قريباً في شوال سنة 1 ه‍ .
الأذان :
وبدأ المسلمون يحضرون للصلوات الخمس في جماعة ، ويتحينون أوقاتها ، فيتعجل بعضهم ويتأخر البعض ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في علامة يعرفون بها حضور الصلاة ، فأشار بعضهم برفع النار وبعضهم بالنفخ في البوق ، وبعضهم بضرب الناقوس ، فقال عمر رضي الله عنه : أولا تبعثون رجلاً ينادي بـ ( الصلاة جامعة ) فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وعمل به ، ثم إن عبد الله بن زيد بن عبد ربه النصاري رضي الله عنه رأى الأذان في المنام فجاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنها لرؤيا حق ، وأمره أن يلقي على بلال حتى ينادي بها ، لأنه أندى صوتاً منه ، فأذن بلال ، وسمع صوته عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء يجرر رداءه وقال : والله لقد رأيت مثله ، فتأكد بذلك الرؤيا ، وصار الأذان أحد شعائر الإسلام منذ ذلك اليوم .

عمروعبده
30-11-2010, 02:55 PM
استفزازات قريش
مكائد قريش :
وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتب أمور المدينة وينظم جوانب الحياة فيها ، ويرجو أن يجد فيها هو والمسلمون مكاناً آمناً يعملون فيه بدينهم بغير معارضة أو استفزاز إذ فوجئوا بمكائد قريش تريد القضاء عليهم .

فمنها أنهم كتبوا إلى مشركي يثرب يحرضونهم على قتال المسلمين وإخراجهم عن المدينة ، ويهددونهم بقتل مقاتلتهم واستباحة نسائهم إن لم يفعلوا ذلك ، وفعلاً قام مشركوا يثرب لينفذوا ذلك ، ولكن أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظهم ونصحهم فكفوا عما أرادوا من القتال وتفرقوا .
ومنها أن سعد بن معاذ رضي الله عنه رئيس الأوس ، ذهب إلى مكة معتمراً ، فطاف بالبيت ، ومعه أبو صفوان أمية بن خلف ، فلقيهما أبو جهل ، فلما عرف سعداً هدده وتوعده وقال : تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة ، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً ، وكان هذا إعلاناً عن صد المسلمين عن المسجد الحرام ، وعن قتلهم إذا وجدوا في حدود قريش .
وكانت لقريش صلة بيهود يثرب ، وكانت اليهود كما أثر في الإنجيل عن المسيح عليه السلام حيات أولاد الأفاعي ، فكانوا يقومون بنبش الأحقاد والضغائن القديمة بين الأوس والخزرج ويحرشونهم ويحاولون إثارة القلق والإضطراب فيما بينهم .
وهكذا أحاط الخطر بالمسلمين في المدينة من الداخل والخارج ، ووصل الأمر إلى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبيتون إلا ومعهم السلاح ، ولم يكونوا يصبحون إلا فيه ، وكانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) فقال صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل .

مشروعية القتال :

وفي هذه الظروف الخطيرة أنزل الله تعالى الإذن بقتال قريش ، ثم تطور هذا الإذن مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة الوجوب ، وجاوز قريشاً إلى غيرهم ، ولا بأس أن نبين تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الأحداث .
1 – المرحلة الأولى : اعتبار مشركي قريش محاربين ، لأنهم بدأوا بالعدوان ، فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ، ويصادروا اموالهم ، دون غيرهم من بقية مشركي العرب .
2 – قتال كل من تمالأ من مشركي العرب مع قريش ، واتحد معهم ، وكذلك كل من تفرد بالإعتداء على المسلمين من غير قريش .
3 – قتال من خان أو تحير للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء .
4 – قتال من بادأ بعداوة المسلمين من أهل الكتاب ، كالنصارى ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
5 – الكف عمن دخل في الإسلام مشركاً كان او يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك ، فلا يتعرض لنفسه وماله إلا بحق الإسلام وحسابه على الله .

عمروعبده
30-11-2010, 02:57 PM
اقتراح غريب من قريش ورد طريف من أبي طالب :

ورأت قريش أن إنذارهم لم يجد نفعاً ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ماض في عمله ، وأبو طالب قائم بنصرته ، وهذا يعني أنه مستعد لفراقهم وعداوتهم ومنازلتهم في نصرة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم فلبثوا ملياً يفكرون ويتشاورون ، حتى وصلوا إلى اقتراح غريب ، فقد جاءوا إلى أبي طالب ومعهم عمارة بن الوليد سيد شبابهم وأنهد فتى في قريش وأجمله ، فقالوا : يا أبا طالب خذ هذا الفتى ، فلك عقله ونصره واتخذه ولداً ، فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله ، فإنما هو رجل برجل . قال أبو طالب : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله ما لا يكون أبداً .

اعتداءات على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما فشلت قريش ويئسوا ، ورأوا أن الإنذار والتحدي والمساومة لم تجد نفعاً ، بدأوا بالإعتداءات على ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وزادوا في تعذيب المسلمين والتنكيل بهم .
وحيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معززاً محتشماً محترماً ، فقد تولى إيذاءه كبراء قريش ورؤساؤهم ، ولم يجترئ على ذلك أدنابهم وعامتهم .
وكان النفر الذين يؤذونه في بيته أبا لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي – وكانوا جيرانه صلى الله عليه وسلم فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان يطرحها في برمته إدا نصبت ، وكانوا إذا طرحوا عليه ذلك يخرج به على العود فيقف به على بابه ويقول : يا بني عبد مناف ! أي جوار هذا ؟! ثم يلقيه في الطريق . وكان أمية بن خلف إذا رآه همزه ولمزه . والهمز : الطعن والشتم علانية ، أو كسر العينين والغمز بهما ، واللمز العيب والإغراء .
وكان أخوه أبي بن خلف يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا محمد إن عندي العود ، فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه ، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله وقد قتله يوم أحد وجاء أبي بن خلف هذا يوماً بعظم بال رميم ، ففته ، ونفخه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وجلس عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، فبلغ أبياً – وكان صديقه – فعاتبه ، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل .
أما أبو لهب فقد عاداه وآذاه من أول يوم ظهرت فيه الدعوة إلى الله ، وكانت في عقد ابنيه عتبة وعتيبة ابنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم ، فقال لهما : رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد ، وقالت زوجته أيضاً : طلقاهما فإنهما قد صبأتا فطلقاهما .
وكانت زوجته هذه – وهي أم جميل أروى بنت حرب – أيضاً عدوة لدودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته ، فكانت تأتي بالأغصان وفيها الشوك ، فتطرحها في سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى يعقر هو وأصحابه .
وسمعت بنـزول ( تبت يدا أبي لهب )فجاءت وفي يدها فهر – أي ملء الكف من الحجارة وهي تبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبي بكر عند الكعبة فأخذ الله ببصرها ، فلم تكن ترى إلا أبا بكر ، فقالت : أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهدا الفهر فاه ، أما والله إني شاعرة ثم قالت :
مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يارسول الله أما تراها رأتك ، فقال : ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها .
وكان مما تؤذي به قريش أنهم كانوا يسمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمماً بدل محمد ، يشتمون بذلك ويسبون ، ولكن صرف الله ذلك عنه ، حيث إنهم كانوا يشتمون مذمماوليس محمد .
وكان الأخنس بن شريق الثقفي أيضاً ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما أبو جهل فكان قد تحمل عبء الصد عن سبيل الله ، وقد كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، وينهاه عن الصلاة ،ويفخر ويختال بما فعل ، حتى شدد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوعده في يوم رآه يصلي ، فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه بخناقه وهزه وقال : ( أولى لك فاولى ، ثم أولى لك فأولى ) فقال أتوعدني يا محمد ! والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقال لرفقته يوماً : يعفر محمد وجهه بين أيديكم ؟ قالوا : نعم ، فقال : واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه ، فقالوا مالك يا أبا الحكم ؟ إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً .
وحاز مثل هده الشقاوة عقبة بن أبي معيط ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوماً عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان ، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، فجاء به وانتظر ، فلما سجد وضعه بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ، ويحيل ( أي يميل ) بعضهم على بعض ، وهو ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة وطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال : اللهم عليك بقريش ) فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سماهم رجلاً رجلاً : ( اللهم عليك بفلان وفلان ) وقد قتلوا كلهم يوم بدر . وكان عظماء المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن عبد المطلب الأسدي ، والحارث بن قيس الخزاعي ، والعاص بن وائل السهمي ،وقد أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيكفي شرهم فقال : ( إنا كفيناك المستهزئين ) ثم أنزل على كل منهم ما فيه عبرة وعظة .
فأما الوليد فكان قد أصابه قبل سنين خدش من سهم ، ولم يكن شيئاً، فأشار جبريل إلى أثر ذلك الخدش فانتفض ، ، فلم يزل يؤلمه ويؤذيه حتى مات بعد سنين .
وأما الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى رأسه فخرج فيه قروح ، فمات منها ، وقيل أصابه سموم ، وقيل : أشار جبريل إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، وانتفخ حتى مات .
وأما الأسود بن عبد المطلب فلما تضايق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاه دعا عليه وقال : ( اللهم أعم بصره وأثكله ولده ) فرماه جبريل بشوك في وجهه حتى ذهب بصره ، ورمى ولده زمعة حتى مات .
وأما الحارث بن قيس ، فأخذه الماء الأصفر في بطنه ، حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه .
وأما العاص بن وائل ، فجلس على شبرقة فدخلت شوكة لها من أخمص قدمه ، وجرى سمها إلى رأسه حتى مات .
هذه صورة مصغرة لما كان يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من قريش بعد إعلان الدعوة والجهر بها ، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوتين إزاء هذا الموقف المتأزم .
دار الأرقم :
الأولى : أنه جعل دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي مركز الدعوة والعبادة ومقر التربية ، لأنها كانت في أصل الصفا ، بعيدة عن أعين الطغاة ، فكان يجتمع فيها مع صحابته سراً ، فيتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وبهذا التدبير وقى أصحابه كثيراً من الأحداث التي كان يخشى وقوعها لو اجتمع بهم جهراً وعلانية ، أما هو صلى الله عليه وسلم فكان يعبد الله ويدعو إليه جهراً بين ظهراني المشركين ، لا يصرفه عن ذلك ظلم ، ولا عدوان ، ولا سخرية ، ولا استهزاء ، وكان ذلك من حكمة الله حتى تبلغ دعوته إلى من يؤمن ومن لا يؤمن ، فلا تكون للناس على الله حجة بعد البلاغ ، ولئلا يقول قائل يوم القيامة : ما جاءنا من بشير ولا نذير .

عمروعبده
30-11-2010, 02:58 PM
الإسراء والمعراج
المراد بالإسراء توجه النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ، والمراد بالمعراج صعوده صلى الله عليه وسلم إلى العالم العلوي ، وكان ذلك بجسده الشريف وروحه الأطهر .
والإسراء مذكور في القرآن في قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) .
أما المعراج فقيل : هو مذكور في سورة النجم من آياتها السابعة إلى الثامنة عشرة ، وقيل المذكور في هذه الآيات غير المعراج
واختلف في وقت الإسراء والمعراج ، فقيل في السنة التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : سنة خمس من النبوة ، وقيل : في 27 رجب سنة عشر من النبوة . وقيل : في 17 رمضان سنة اثنتي عشرة من النبوة ، وقيل في المحرم ، وقيل : في 17 ربيع الأول سنة 13 من النبوة .
أما تفصيل القصة فملخص الروايات الصحيحة : أن جبريل عليه السلام جاء بالبراق وهو دابة فوق الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه والنبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد الحرام فركبه حتى أتى بيت المقدس ومعه جبريل ، فربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخل المسجد ، فصلى فيه ركعتين ، أم فيهما الأنبياء ، ثم أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ، هديت وهديت أمتك ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك .
ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وعن يمينه أسودة إذا نظر إليهم ضحك – وهي أرواح السعداء وعن يساره أسودة إذا نظر إليهم بكى – وهي أرواح الأشقياء - .
ثم عرج إلى السماء الثانية فاستفتح له جبريل ففتح ، فرأى فيها ابني الخالة يحيى بن زكريا ، وعيسى ابن مريم عليهما السلام فسلم عليهما ، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته .
ثم عرج إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف عليه السلام وكان قد أعطي شطر الحسن ، فسلم عليه فرد عليه ورحب به وأقر بنبوته .
ثم عرج إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس عليه السلام فسلم عليه فرد عليه ، ورحب به وأقر بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران عليه السلام فسلم عليه فرد عليه ورحب به وأقر بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقى فيها موسى بن عمران عليه السلام فسلم عليه فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته فلما جاوزه بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاما ً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي .
ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم عليه السلام فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ،وكان مسنداً ظهره إلى البيت المعمور ، وهو بيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه .
ثم رفع إلى سدرة المتهى ، فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمارها كالقلال – أي الجرار الكبيرة – ثم غشيها فراش من ذهب ، وغشيها من أمر الله ما غشيها ، فتغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها .
ثم عرج به إلى الجبار – جل جلاله - ، فدنا منه ، حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فرجع حتى مر على موسى فقال : بم أمرك ربك ؟ قال: بخمسين صلاة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فالتفت إلى جبريل ، فأشار أن نعم إن شئت ، فرجع فوضع عنه عشراً ، ثم مر بموسى فسأله فأخبره فأشار عليه بسؤال التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل حتى جعلها خمساً ، ثم مر بموسى فأشار بالرجوع وسؤال التخفيف ، وقال : والله لقد راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه ، فقال صلى الله عليه وسلم قد استحيت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم ، فلما بعد نودي أن قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، هي خمس وهن خمسون ، لاى يبدل القول لدي .
ثم رجع عليه السلام من ليلته إلى مكة المكرمة ، فلما أصبح في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى ، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه ، فمنهم من صفق ، ومنهم من وضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وسعى رجال إلى أبي بكر الصديق ، وأخبروه الخبر ، فقال : إن كان قال ذلك فقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، أصدقه على خبر السماء في غدوة أو روحة ، فسمى الصديق . وقام الكفار يمتحنونه فسألوه أن يصف لهم بيت المقدس ، ولم يكن رآه قبل ذلك ، فجلاه الله له حتى عاينه ، فطفق يخبرهم عن آياته ، يصفه لهم باباً باباً وموضعاً موضعاً ، فلم يستطيعوا أن يردوا عليه ، بل قالوا : أما النعت فوالله لقد أصاب .
وسألوه عن عير لهم قادمة من الشام ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ووقت قدومها ، وعن البعير الذي يقدمها ، وكان الأمر كما قال ، ولكن أبى الظالمون إلا كفوراً
وصبيحة يوم الإسراء جاء جبريل وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الصلوات الخمس وأوقاتها ، وكانت الصلاة قبل ذلك ركعتين في الصباح وركعتين في المساء .

عمروعبده
30-11-2010, 02:59 PM
الاستعجال بالعذاب
ربما كان النبي صلى الله عليه وسلم أوعد المشركين بعذاب الله إن استمروا على مخالفته ، -كما سبق – فلما أبطأ العذاب طفقوا يستعجلون به على سبيل السخرية والعناد ، وتظاهروا بأن هذا الوعيد لم يؤثر فيهم ، ولن يتحقق أبداً فأنزل الله في ذلك آيات ، منها قوله تعالى : ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) ومنها قوله تعالى : ( يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) ومنها قوله تعالى : ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم ) وغير ذلك من الآيات .
وكان من جملة مجادلة المشركين أنهم كانوا يطالبون بالآيات من المعجزات وخوارق العادات عناداً وتعجيزاً ، فأنزل الله في ذلك ما بين به سنته ، وقطع به حجتهم ، وسنمر على شيء من ذلك في الفصول القادمة إن شاء الله .
تلكم هي المحاولات التي واجه بها المشركون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته ، وقد مارسوها كلها جنباً إلى جنب متنقلين من طور إلى طور ، ومن دور إلى دور . فمن شدة إلى لين ، ومن لين إلى شدة ، ومن جدال إلى مساومة ، ومن مساومة إلى جدال ، ومن هجوم إلى ترغيب ، ومن ترغيب إلى هجوم ، كانوا يثورون ثم يخورون يجادلون ثم يجاملون ، ينازلون ثم يتنازلون ، يوعدون ثم يرغبون ، كأنهم يتقدمون ويتأخرون ، لا يقر لهم قرار ، ولا يعجبهم الفرار ، وكان غرضهم من كل ذلك كف دعوة الإسلام ولم شعث الكفر ، لكنهم بعد بذل كل الجهود عادوا خائبين خاسرين ، ولم يبق أمامهم إلا خيار واحد ، وهو السيف ، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة ، ولا يفضي إلا إلى تناحر لعله يستأصل شأفتهم ، فاحتاروا ماذا يفعلون .
أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبتهم بتسليم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليقتلوه ، ثم رأى في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله مثل ما فعله أبو جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمر بن الخطاب جمع بني هاشم وبني المطلب ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلىالله عليه وسلم فأجابوه إلى ذلك كلهم مسلمهم وكافرهم ، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة ، إلا أبو لهب ، فإنه فارقهم ، وكان مع قريش .

عمروعبده
30-11-2010, 03:00 PM
التعذيب ومحاولة القتل

كان من الطبيعي أن يعود المشركون إلى ضراوتهم بعد الفشل ، وفعلاً عادوا إلى الشدة والبطش بالبقية الباقية من المسلمين ، بل مدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فمن ذلك أن عتيبة بن أبي لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هو يكفر بالذي ( دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم إلا أن البزاق رجع على عتيبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أرسل عليه كلباً من كلابك ، فخرج عتيبة في ركب إلى الشام ، فلما نزلوا في الطريق طاف بهم الأسد ، فقال : هو آكلي والله ، كما دعا علي محمد ، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام ، فلما ناموا جعلوه في وسطهم ، ولكن جاء الأسد وأخذه برأسه من بين الإبل والناس وقتله .
ومن ذلك أن عقبة بن أبي معيط وطيء برجله على رقبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان .
ويؤخذ من سياق الحوادث أن المشركين بعد فشلهم في شتى محاولاتهم لكف الدعوة أخذوا يفكرون بجد في قتل النبي صلى الله عليه وسلم ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء . ومما يدل على ذلك أن أبا جهل قال يوماً لقريش : إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنوعبد مناف ما بدا لهم ، قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبداً فامض لما تريد .
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يصلي ، وغدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما يفعله أبو جهل ، وأقبل أبو جهل حتى دنا ، ثم رجع منهزماً ، منتقعاً لونه مرعوباً ، قد يبست يداه على حجره ، حتى قذفه من يده ، فقالت له قريش : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت لأفعل ما قلت البارحة ، فعرض لي فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته وقصرته وأنيابه لفحل قط ، فهم بي أن يأكلني .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذاك جبريل لو دنا لأخذه ) .
ثم حدث ما هو أشد من ذلك وأنكى ، وذلك أن قريشاً اجتمعوا يوماً في الحطيم ، وتكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ يطوف بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ، فعرف ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثانية ، فغمزوه بمثلها ، فعرف ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش : أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، كان على رؤوسهم طائراً وقع ، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد .
فلما كان من الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره ، إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، فأخذوا بمجامع ردائه ، وقالوا : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباءنا ؟ قال : أنا ذاك ، فانقضوا عليه ، هذا يحثه ، وهذا يبلبله ، وأقبل عقبة بن أبي معيط فلوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، وأتى الصريخ إلى أبي بكر : أدرك صاحبك ، فجاء وأخذ بمنكبي عقبة ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يضرب هذا ، ويجاهد هذا وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله . فانصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر ، وضربوه ضرباً لا يعرف وجهه من أنفه ، وكانت له أربع غدائر فما يمسون منها شيئاً إلا رجع ، فحملته بنو تميم في ثوب وأدخلوه منـزله ، ولا يشكون في موته ، فتكلم آخر النهار ، فسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاموه ، وخرجوا من عنده ، وعرض عليه الطعام والشراب فأبى أن يأكل أو يشرب حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما هدأ الليل وسكن الناس أوصلوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في دار الأرقم ، فلما وجده بخير ساغ له الطعام والشراب .
وقد خرج أبو بكر رضي الله عنه يريد الهجرة إلى الحبشة بعدما اشتد عليه الأذى وتضايقت عليه سبل الحياة ، ولما بلغ برك الغماد لقيه مالك بن الدغنة سيد القارة والأحابيش ، فسأله عن قصده ، فأخبره ، فقال : مثلك يا أبا بكر لا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، فارجع واعبد ربك ببلدك ، ثم رجعا إلى مكة ، وأعلن ابن الدغنة في قريش عن جواره لأبي بكر ، فلم ينكروا عليه ، ولكن قالوا له : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ولا يستعلن ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا وضعفتنا ، فلبث أبو بكر بذلك فترة ، ثم بنى مسجداً بفناء داره ، واستعلن بصلاته وقراءته ، فذكره ابن الدغنة بجواره ، فرد عليه إبو بكر جواره ، وقال : أرضى بجوار الله .
وكان رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، وهم يعجبون منه ، وينظرون إليه ، فكان المشركون يؤذونه لأجل ذلك . وأثناء هذه الظروف القاسية التي كان يمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حدث ما أفضى إلى إسلام بطلين جليلين من أبطال قريش طالما استراح المسلمون تحت ظل قوتهما ، وهما حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .

عمروعبده
30-11-2010, 03:01 PM
الجهر بالدعوة

الدعوة في الأقربين :
وبعد أن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات في سبيل الدعوة الفردية ووجد لها آذاناً صاغية ، ورجالاً صالحين من صميم قريش وغيرها ، وتمهدت لها السبل ، وتهيأ لظهورها الجو أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم : ( وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) فجمع النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين ، وهم بنو هاشم ومعهم نفر من بني المطلب ، فقال بعد الحمد وشهادة التوحيد :
( إن الرائد لا يكذب أهله ، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً ، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً ) .
فتكلم القوم كلاماً ليناً غير عمه أبو لهب ، فإنه قال : خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب ، فإن سلمتموه إذن ذللتم ، وغن منعتموه قتلتم ، فقال أبو طالب : والله لنمنعنه ما بقينا ، وقال أيضاً : امض لما أمرت به ، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب .

على جبل الصفا:
وفي غضون ذلك نزل أيضاً قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فعلا أعلاها حجراً ، ثم هتف : ( يا صباحاه ) .
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم .
ثم جعل ينادي بطون قريش ، ويدعوهم قبائل قبائل : يا بني فهر ! يا بني عدي ! يا بني فلان ! يا بني عبد مناف ! يا بني عبد المطلب !
فلما سمعوا قالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد . فأسرع الناس إليه ، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه إرسل رسولاً لينظر ما هو ؟
فلما اجتمعوا قال : ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي بسفح هذا الجبل ، تريد ان تغير عليكم أكنتم مصدقي ) ؟
قالوا : نعم ، ما جربنا عليك كذباً ما جربنا عليك إلا صدقاً .
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله – أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو- فخشي أن يسبقوه ، فجعل ينادي : يا صباحاه ) .
ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبين لهم أن هذه الكلمة هي ملاك الدنيا ونجاة الآخرة ، ثم حذرهم وأنذرهم عذاب الله إن بقوا على شركهم ، ولم يؤمنوا بما جاء به من عند الله ، وأنه مع كونه رسولاً لا ينقذهم من العذاب ولا يغنيهم من الله شيئاً . وعم هذا الإنذار وخص فقال : ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً .
يا بني كعب بن لؤي ! أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني مرة بن كعب ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا معشر بني قصي ‍ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني عبد شمس ‍أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بني عبد مناف ‍ أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني هاشم ‍ أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بني عبد المطلب ‍ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً ، سلوني من مالي ما شئتم ، لا أملك لكم من الله شيئاً .
يا عباس بن عبد المطلب ‍ لا أغني عنك من الله شيئاً .
يا صفية بنت عبد المطلب : عمة رسول الله ‍ سليني بما شئت ، أنقذي نفسك من النار ، لا أغني عنك من الله شيئاً .غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها – أي سأصلها حسب حقها - .
ولما أتم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا ، ولا يذكر عنهم انهم أبدوا أي معارضة أو تأييد لما سمعوه ، سوى ما ورد عن أبي لهب أنه واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، فقال : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت ( تبت يدا أبي لهب وتب ) .
أما عامة قريش فكأنهم قد أصابتهم الدهشة والإستغراب حين فوجئوا بهذا الإنذار ، ولم يستطيعوا أن يختاروا أي موقف تجاه ذلك ولكنهم لما رجعوا إلى بيوتهم ، استقرت أنفسهم ، وأفاقوا من دهشتهم ، واطمأنوا ، استكبروا في أنفسهم ، وتناولوا هذه الدعوة والإنذار بالاستخفاف والاستهزاء ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر على ملأ منهم سخروا منه وقالوا: أهذا الذي بعث الله رسولاً ؟ أهذا ابن أبي كبشة ، يكلم من السماء ، وأمثال ذلك .
وأبو كبشة اسم لأحد أجداده صلى الله عليه وسلم من جهة الأم ، كان قد خالف دين قريش ، واختار النصرانية ، فلما خالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في الدين نسبوه إليه ، وشبهوه به ، تعييراً واحتقاراً له وطعناً فيه .
واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وبدأ يجهر بها في نواديهم ومجامعهم ، يتلو عليهم كتاب الله ، ويدعوهم إلى ما دعت إليه الرسل : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) وبدأ يعبد الله أمام أعينهم ، فكان يصلي بفناء الكعبة نهاراً جهاراً وعلى رؤوس الأشهاد .
وقد نالت دعوته بعض القبول ، ودخل عدد من الناس في دين الله واحداً بعد واحد ، وحصل بين هؤلاء المسلمين وبين من لم يسلم من أهل بيتهم التباغض والتباعد .

عمروعبده
30-11-2010, 03:03 PM
الحبيب صلى الله عليه وسلم في الطائف

وفي هذه الظروف الصعبة قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته ، أو يؤوه وينصروه ، فخرج إليها ماشياً على قدميه ، ومعه مولاه زيد بن حارثة ، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام حتى بلغ الطائف ، ونزل على ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف ، فدعاهم إلى الإسلام وإلى نصرته صلى الله عليه وسلم على تبليغه ، فلم يستجيبوا له ، بل ردوا عليه أسوء رد ، فتركهم وقصد الآخرين ، فدعاهم إلى قبول الإسلام ونصرته ، ولم يزل ينتقل من رئيس إلى رئيس ، فلم يترك أحداً من أشرافهم إلا وكلمه ، وقضى في ذلك عشرة أيام ، ولكن لم يجب له أحد ، بل قالوا له : اخرج من بلدنا ، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم وعبيدهم ، فلما تهيأ وخرج وقفوا له صفين ، وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه صلى الله عليه وسلم وحتى اختضب نعلاه بالدم ، وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه ، ويدافع عنه ، فأصابه شجاج في رأسه ، واستمرت هذه السفاهة حتى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف فدخل فيه ، فلما دخل فيه انصرفوا عنه .
وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في الحائط تحت ظل حبلة من عنب ، معتمداً إلى جدار ، وقد أثر في نفسه ما لاقاه ، فدعا بالدعاء المشهور : ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنـزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
ورآه ابنا ربيعة في هذا الحال فأخذتهما رقة ، وأرسلا إليه بقطف من عنب مع مولى نصراني اسمه عداس ، فلما مد النبي صلى الله عليه وسلم يده ليتناوله قال : ( بسم الله ) ثم أكل ، فقال عداس : هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ ) .
فقال نصراني من أهل نينوى .
فقال : ( من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ ) .
فقال : وما يدريك ما يونس بن متى ؟
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ) . وقرأ عليه قصة يونس عليه السلام من القرآن ، فأسلم عداس على ما يقال .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحائط ، وتقدم في طريقه إلى مكة ، وهو كئيب حزين مهموم ، حتى إذا بلغ قرن المنازل ، أظلته سحابة فيها جبريل ومعه ملك الجبال لتأمره بما شئت ، ثم سلم ملك الجبال وقال : يا محمد ! ذلك ، فما شئت ، إن شئت أطبقت علهم الأخشبين – وهما جبلا مكة : أبو قبيس والذي يقابله – فقال صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً .
وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم من همه بمجيء هذا النصر ، وتقدم في طريقه إلى مكة حتى نزل بنخلة ، وأقام بها أياماً ، وأثناء إقامته بها صرف الله إليه نفراً من الجن يستمعون القرآن ، وهو قائم يصلى بأصحابه صلاة الفجر ، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين ، وقد آمنوا به ، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذلك القرآن : آيات من سورة الأحقاف ، وآيات من سورة الجن .
وبعد أيام خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من نخلة يريد مكة ، وهو يرجو من الله الفرج والمخرج ، ويخشى من قريش الشر والبطش ، فأحب أن يحتاط لنفسه ، فلما دنا من مكة مكث بحراء ، وبعث رجلاً إلى الأخنس بن شريق ليجيره ، فاعتذر بأنه حليف ، والحليف لا يجير ، فأرسل إلى سهيل بن عمرو ، فاعتذر بأنه من بني عامر بن لؤي ، وهم لا يجيرون على بني كعب بن لؤي ، فأرسل إلى المطعم بن عدي ، وهو من بني نوفل بن عبد مناف أخي هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم وعبد مناف أعز بطن في قريش ، فقال المطعم : نعم ، وتسلح هو وبنوه ، ثم أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ودخل المسجد الحرام ، وطاف بالبيت وصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته والمطعم بن عدي و أولاده محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح وكان المطعم قد أعلن في قريش أنه أجار محمداً فقبلوا ذلك منه .

عمروعبده
30-11-2010, 03:04 PM
السرايا والغزوات

تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا آخذين بالحيطة والحذر من بداية أمرهم ، وذلك بالحراسة والبيات مع السلاح ، فلما نزلا الإذن بالقتال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتب البعوث والدوريات العسكرية ، ويؤمر عليها أحداً من أصحابه ، وهي المسماة بالسرية ، وربما خرج فيها بنفسه وهي المسماة بالغزوة ، وكان المقصود منها :
1 – استكشاف حركات العدو ، وتأمين أطراف المدينة ، حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة .
2 – الضغط على قريش بالتعرض لقوافلهم حتى يشعروا بالخطر على تجارتهم وأموالهم وأنفسهم ، فإما أن يفيقوا عن غيهم ، ويسالموا المسلمين ويتركوهم على حريتهم في نشر الإسلام والعمل به ، وهذا غاية ما كان يتمناه المسلمون أو يختاروا طريق الحرب والقتال فيخسروا أولاً طريق تجارتهم ، لأنها كانت تمر بأطراف المدينة ، ويلقوا ثانياً جزاء شرهم وعدوانهم بإذن الله ونصره لعباده المؤمنين ، وهذا الذي وقعت الإشارة إليه في كلام الله سبحانه وتعالى مراراً .
3 – عقد مواثيق التحالف ، أو عدم الإعتداء مع قبائل أخرى .
4 – إبلاغ رسالة الله ، ونشر دعوة الإسلام قولاً وعملاً .
وأول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية تسمى بسيف البحر بعثها في رمضان في السنة الأولى من الهجرة ، وأمر عليها عمه حمزة بن عبد المطلب ، وكان قوامها ثلاثين رجلاً من المهاجرين ، وقد واصلوا سيرهم حتى بلغوا سيف البحر – أي ساحل البحر الحمر – من ناحية العيص ، واعترضوا عيراً لقريش قادمة من الشام ، عليها أبو جهل ، في ثلاثمائة رجل ، فاصطف الفريقان ، وكاد يقع القتال ، لكن توسط مجدي بن عمرو الجهني ، فانصرف الفريقان .
كانت هذه السرية أول عمل عسكري في تاريخ الإسلام ، وكان لواؤها أبيض ، وهو أول لواء عقد في تاريخ الإسلام ، وحمل اللواء أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي .
ثم تتابعت البعوث والسرايا فأرسل في شوال عبيدة بن الحارث في ستين رجلاً من المهاجرين إلى بطن رابغ فلقي أبو سفيان وهو في مائتي رجل ، فوقع الترامي دون القتال .
ثم أرسل في ذي القعدة سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلاً من المهاجرين إلى الخرار قريباً من رابغ فلم يلق كيداً .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى الأبواء أو ودان في صفر سنة 2 ه‍ في سبعين رجلاً من المهاجرين ، فلم يلق أحداً وعقد ميثاق الأمان والتناصر مع عمرو بن مخشي الضمري ، وكانت أول غزوة خرج لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم خرج إلى بواط من ناحية رضوى ، في ربيع الأول سنة 2 ه‍ في مائتي من المهاجرين، فلم يلق أحداً .
وفي نفس الشهر أغار كرز بن جابر الفهري على مراعي المدينة وساق بعض المواشي ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه إلى سفوان من ناحية بدر ، في سبعين رجلاً من المهاجرين ، ولكن كرزاً أفلت ونجح في الفرار ، وهذه الغزوة تسمة بغزوة بدر الأولى .
ثم خرج في جمادي الأولى أو الآخرة سنة 2 ه‍ إلى ذي العشيرة في مائة وخمسين ، أو في مائتين من المهاجرين ، يعترض عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام ، ولكنها فاتته قبل أيام ، وعقد ميثاق عدم العدوان مع بني مدلج .
ثم بعث في شهر رجب سنة 2 ه‍ عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة ، بين مكة والطائف ، في اثني عشر رجلاً من المهاجرين ، ليأتوا بخبر عير قريش ، لكنهم هجموا عليها فقتلوا رجلاً ، وأسروا اثنين ، وساقوا العير ، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يرض به ، فأطلق الأسيرين وأدى دية المقتول .
وكان الحادث في آخر يوم من رجب ، فأثار المشركون ضجة بأن المسلمين انتهكوا حرمة الشهر الحرام . فأنزل الله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) .
وفي شعبان سنة 2 ه‍ حول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة وكان ذلك مما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتظره ، وقد انكشف بذلك بعض المخادعين من المنافقين واليهود الذين دخلوا في الإسلام زوراً فارتدوا وتطهرت صفوف المسلمين منهم .
تلك هي التحركات العسكرية التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون لحفظ أمن المدينة وأطرافها ، ولإشعار قريش بسوء عاقبتها إن لم تكف عن شرها ، ولكنها ازدادت في العلو والإستكبار ، فلاقت جزاء أمرها في بدر ، وكان عاقبة أمرها خسراً .

عمروعبده
30-11-2010, 03:05 PM
القيام بالدعوة والرعيل الأول

وقام رسول الله صلى الله علي وسلم على أثر نزول هذه الآيات بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالىوحيث أن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان ، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك ، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة ، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف ، فقد اختار الله له أن يقوم بالدعوة سراً ، ولا يواجه بها إلا من يعرفه بالخير وحب الحق ، ويثق به ويطمئن إليه ، وأن يقدم أهله وعشيرته وأصدقاءه وندماءه على غيرهم .

الرعيل الأول :
فلما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته بادر إلى الإيمان به عدد ممن كتب الله له السبق إلى السعادة والخير .
1 – وكانت أولهم على الإطلاق أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها ، وكانت قد علمت البشارات ، وسمعت عن الإرهاصات ، وأبصرت ملامح النبوة ، وشاهدت تباشير الرسالة ، وتوقعت أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبي هذه الأمة ، ثم تأكد لها من حديث ورقة أن الذي نزل في حراء هو جبريل عليه السلام وأن الذي جاء به هو وحي النبوة ، ثم شاهدت بنفسها ما مر به النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول أول المدثر ، فكان من الطبيعي أن تكون هي أول المؤمنين .
2 – وبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى صديقه الحميم أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليخبره بما أكرمه الله به من النبوة والرسالة ، ويدعوه إلى الإيمان به ، فآمن به دون تردد ولا تلعثم ، وأسرع إلى التصديق ، وشهد شهادة الحق ، فكان أول من آمن به على الإطلاق أو من الرجال ، وكان أصغر منه صلى الله عليه وسلم بسنتين ، وصديقاً له منذ عهد قديم ، عارفاً بسره وعلانيته ، فكان إيمانه أعدل شاهد على صدقه صلى الله عليه وسلم .
3 – ومن أول من آمن به علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان تحت كفالته صلى الله عليه وسلم مقيماً عنده ، يطعمه ويسقيه ، ويقوم بأمره ، لأن قريشاً أصابتهم مجاعة ، وكان أبو طالب مقلاً كثير الأولاد ، فكفل العباس ابنه جعفراً ، وكفل النبي صلى الله عليه وسلم علياً ، فكان أحد أولاده إلى ان جاءت النبوة وقد ناهز البلوغ ، يقال : كان عمره عشر سنين وكان يتبعه في كل أعماله ، فلما دعاه إلى الإسلام أجاب إليه ، وهو أول من آمن به من الصبيان .
ومن أول من آمن به مولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، كان قد أسر أيام الجاهلية وبيع ، فاشتراه حكيم بن حزام ، ووهبه لعمته خديجة ، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم به أبوه وعمه فجاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلماه ليحسن إليهما في فدائه ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً ، وخيره بين أن يذهب مع أبيه وعمه وبين أن يبقى عنده ، فاختاره عليهما ، وعندئذ ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملأ من قريش ، وقال اشهدوا أن هذا ابني وارثاً وموروثاً ، وذلك قبل النبوة فكان يدعى زيد بن محمد حتى جاء الإسلام وأبطل التبني ، فدعي زيد بن حارثة .
هؤلاء الأربعة كلهم أسلموا في يوم واحد ، يوم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار ، وقام بالدعوة إلى الله ، وقد قيل عن كل واحد منهم إنه أول من أسلم.
ثم نشط للدعوة إلى الله أبو بكر رضي الله عنه وصار الساعد الأيمن للنبي صلى الله عليه وسلم في مهمة رسالته ، وكان رجلاً عفيفاً ، مألفاً محبباً ، سهلاً كريماً جواداً معظماً ، أعلم الناس بأنساب العرب وأخبارها ، يقصده رجال قومه لخلقه ومعروفه ، وعلمه وفضله ، وتجارته وجوده ، وحسن معاملته ومجالسته . فدعا إلى الإسلام من توسم فيه الخير ووثق به من قومه ، فأجابه جمع من فضلاء الناس ، في مقدمتهم عثمان بن عفان الأموي ، والزبير بن العوام الأسدي ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، وسعد بن أبي وقاص الزهري ، وطلحة بن عبيد الله التميمي ، بين لهم أبو بكر رضي الله عنه الإسلام ، وأتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا جميعاً .
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة ، والأرقم بن أبي الأرقم ، وعثمان بن مظعون ، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب ، وخباب بن الأرت ، وجعفر بن أبي طالب ، وامراته أسماء بنت عميس ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وامرأته أمينة بنت خلف ، ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص ، وحاطب بن الحارث ، وامرأته فاطمة بنت المجلل وأخوه حطاب بن الحارث ، وامرأته فكيهة بنت يسار ، وأخوه الآخر معمر بن الحارث ، والمطلب بن أزهر ، وامرأته رملة بنت أبي عوف ، ونعيم بن عبد الله بن أسيد النحام ، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش .
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش : عبد الله بن مسعود الهذلي ، ومسعود بن ربيعة القاري ، وعبد الله بن جحش ، وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وصهيب بن سنان الرومي ، وعمار بن ياسر العنسي ، وأبوه ياسر ، وأمه سمية ، وعامر ابن فهيرة . وبلال بن رباح رضي الله عن الجميع .
وممن سبق إلى الإسلام من النساء من غير من تقدم ذكرهن : أم أيمن بركة الحبشية ، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته ، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية ، زوج العباس بن عبد المطلب ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وقد عرف هؤلاء الأقدمون ومن أسلم معهم بلقب السابقين الأولين ، ويظهر بعد التتبع والإستقراء أن عدد من قيل فيه : إنه قديم الإسلام ، أو قيل فيه : إنه من السابقين الأولين ، يصل إلى مائة وثلاثين صحابياً تقريباً . ولكن لا يعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة ، أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها .
عبادة المؤمنين وتربيتهم :
أما الوحي فقد تتابع نزوله بعد أوائل المدثر ، ويقال : أن أول ما نزل بعدها هي سورة الفاتحة ، وهي سورة تجمع بين الحمد والدعاء ، وتشتمل على جميع المقاصد المهمة من القرآن والإسلام ، كما أن أول ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من العبادات الصلاة ، ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي ، نزل بذلك جبريل فعلمه الوضوء والصلاة .
فكانت الطهارة الكاملة هي سمة المؤمنين ، والوضوء شرط الصلاة ، والفاتحة أصل الصلاة ، والحمد والتسبيح بها في أماكن بعيدة عن الأنظار ، وربما كانوا يقصدون بها الأودية والشعاب .
ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى في أوائل أيام الإسلام ، وإنما كان الوحي يبين لهم جوانب شتى من التوحيد ، ويرغبهم في تزكية النفوس ، ويحثهم على مكارم الخلاق ، ويصف لهم الجنة والنار ، ويعظهم مواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذي الأرواح .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويحدو بهم إلى منازل نقاء القلوب ، ونظافة الأخلاق ، وعفة النفوس ، وصدق المعاملات ، وبالجملة كان يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، ويربيهم على التمسك بدين الله والإعتصام بحبل الله ، والثبات في أمر الله ، والإستقامة عليه .
وهكذا مرت ثلاثة أعوام ، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد ، لم يجهر بها النبي صلى الله عليه وسلم في المجامع والنوادي ، إلا أنها صارت معروفة لدى قريش ، وقد تنكر لها بعضهم أحياناً ، واعتدوا على بعض المؤمنين ، ولكنهم لم يبالوا بها بصفة عامة ، حيث لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم ولم يتكلم في آلهتهم .

عمروعبده
30-11-2010, 03:06 PM
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

كان من سجايا الأنصار وكرمهم أنهم كانوا يتنافسون في إنزال المهاجرين واستضافتهم في بيوتهم ، وكانوا كما قال الله تعالى عنهم : ( والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجرإليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) .
ثم زاد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحب والإيثار قوة بعقد المؤاخاة بينهم وبين المهاجرين ، فجعل كل أنصاري ونزيله أخوين ، وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار ، فآخى بينهم على المؤاساة وأنهم يتوارثون فيما بينهم بعد الموت ، دون ذوي الأرحام ، ثم نسخ التوارث وبقيت المؤاخاة ، وكانت قد عقدت في دار أنس بن مالك رضي الله عنه وعنهم أجمعين .
وكان من حب الأنصار لإخوانهم المهاجرين أنهم عرضوا نخيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليقسم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين ، فأبى فقالوا : إذن تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة فقبل ذلك .
وكان سعد بن الربيع أكثر الناس مالاً ، فقال لأخيه المهاجر عبد الرحمن بن عوف : اقسم مالي نصفين ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي ، أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها ، قال عبد الرحمن : بارك الله في أهلك ومالك ، أين سوقكم ؟ فدلوه على سوق بني قينقاع ، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ، وما هي إلا أيام حتى اكتسب مالاً وتزوج امرأة من الأنصار .

تأسيس المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية :

كانت هذه المؤاخاة ربطاً بين فرد من المهاجرين وبين فرد من الأنصار ، وحيث إن المسلمين صاروا – بعد اجتماعهم بالمدينة – أمة مستقلة فقد كانوا في حاجة إلى تنظيم اجتماعي ، وإلى تعريف بالواجبات والحقوق الإجتماعية ، وإلى إبراز النقاط التي تجعلهم أمة واحدة مستقلة عن الآخرين .
وكانت في المدينة طائفتان أخريان سوى المسلمين ، تختلفان عنهم في العقيدة والدين ، والمصالح والحاجات ، والعواطف والميول ، وهم المشركون واليهود ، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين المسلمين ميثاقاً ، وفيما بينهم وبين المشركين وفيما بينهم وبين اليهود ميثاقاً آخر وكتب بذلك كتاباً قرر فيه :
1 – أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس .
2 – وأن أداء ديتهم وفداء أسيرهم بين المؤمنين يكون حسب العرف السابق وأنهم ينصرون المؤمنين في الفداء والدية .
3 – وأنهم يقومون ضد المفسد والباغي والظالم كيد واحدة ، ولو كان ولد أحدهم .
4 – وأنه لا يقتل مؤمن مؤمناً بكافر ، ولا ينصر كافرأ على مؤمن .
5 – وأن ذمة الله واحدة ، فيجير عليهم أدناهم .
6 – وأن من تبع المسلمين من اليهود فله النصر والأسوة .
7 – وأن سلم المسلمين واحدة .
8 – وأن من قتل مؤمناً قصداً يقتص منه ، إلا أن يرضى ولي المقتول ، ويجب على المؤمنين أن يقوموا ضد القاتل .
9 – وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثاً لأو يؤويه .
10 – وأنهم إذا اختلفوا في شيء فإن مرده إلى الله ورسوله .
زيادة على هذا الميثاق بين النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين حق الأخوة الإسلامية في أوقات ومناسبات شتى ، وحضهم على التعاون والتناصر ، والتعاضد والتكاتف ، والمؤاساة وإسداء الخير ، حتى سمت هذه الأخوة إلى أعلى قمة عرفها التاريخ .
وأما المشركون فكانوا على وشك الإنهيار ، حيث أسلمت أغلبيتهم مع ساداتهم وكبرائهم ، ، فلم يكن في استطاعتهم الوقوف في وجه المسلمين ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم : ( أنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن ) وبذلك انتهى ما كان يخشى منهم .
وأما اليهود فقد تم الإتفاق بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم على الأمور الآتية :
1 – أنهم أمة مع المؤمنين ، ولهم دينهم وللمسلمين دينهم ، وعليهم نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم .
2 – وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وعلى من دهم يثرب ، كل يدافع عن جهته .
3 – وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .
4 – وأن المرء لا يؤخذ بإثم حليفه .
5 – وأن النصرللمظلوم .
6 – وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
7 – وأن يثرب حرام لأهل هذه الصحيفة .
8 - وأن ما يكون بينهم من حدث أو اشتجار فإن مرده إلى الله ورسوله .
9 – وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها .
10 – وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم .
وبهذا الميثاق انتظم المسلمون والمشركون واليهود من سكان يثرب في كيان واحد ، وأصبحت المدينة وضواحيها دولة ذات استقلال وسيادة ، والكلمة النافذة فيها للمسلمين ، ورئيسها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونشط رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه المسلمون في الدعوة إلى الله ، فكان يحضر مجالس المسلمين وغير المسلمين ، يتلو عليهم آيات الله ، ويدعوهم إلى الله ، ويزكي من آمن منهم بالله ، ويعلمهم الكتاب والحكمة .

عمروعبده
30-11-2010, 03:07 PM
المقاطعة العامة وفرض الحصار

زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل ، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ النبي صلى الله عليه وسلم والقيام دونه كائناً ما كان ، فاجتمعوا في خيف بني كنانة ليدرسوا الموقف الراهن ، ويقضوا فيه ، فاستشاروا ثم استشاروا حتى وصلوا إلى حل غاشم تحالفوا عليه ، وهو أنهم لا يناكحون بني هاشم وبني المطلب ، ولا يبايعونهم ولا يجالسونهم ، ولا يخالطونهم ، ولا يدخلون في بيوتهم ، ولا يكلمونهم ، ولا يقبلون منهم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل .
تحالفوا على هذا القرار ، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة ، وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده أو بعض أصابعه .
وانحاز بعض ذلك بنو هاشم وبنو المطلب في شعب أبي طالب ، سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم – إلا أبا لهب – وقطعت عنهم الميرة والمادة ، ومنع التجار من مبايعتهم ، فجهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر ، والجلود ، وواصلوا الضر والفاقة ، حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعاً ، ولم يكن يصل إليهم شيء إلا سراً ، فكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة رضي الله عنها أما هم فكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم ، فكانوا يشترون من العير التي تأتي من الخارج ، إلا أن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في الثمن حتى لا يستطيعوا الشراء .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم كل ذلك مستمراً في دعوته إلى الله ولا سيما في أيام الحج حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كل صوب .

عمروعبده
30-11-2010, 03:08 PM
الهجرة الأولى إلى الحبشة
الخطوة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم أشار على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ، بعد أن تأكد أن النجاشي ملك عادل لا يظلم عنده أحد .
وفي رجب سنة 5 من النبوة هاجر أول دفعة من المسلمين ، وكانوا اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ، رئيسهم عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه ومعه زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام .
خرج هؤلاء الصحابة سراً في ظلام الليل قاصدين ميناء شعيبة جنوب جدة ، وكان من قدر الله أنهم وجدوا سفينتين تجاريتين فركبوهما حتى وصلوا إلى الحبشة .
أما قريش فلما علموا بخروجهم هاجوا وغضبوا ، وأسرعوا في آثارهم حتى يلقوا عليهم القبض ، ويردوهم إلى مكة ، ليواصلوا التنكيل والتعذيب ، ويصرفوهم عن دين الله ، لكن المسلمين فاتوهم إلى البحر ، فرجعوا خائبين بعدما وصلوا إلى الساحل .
موافقة المشركين للمسلمين وسجودهم فيس سورة النجم :
وفي رمضان سنة خمسة من النبوة أي بعد هجرة المسلمين بحوالي شهرين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام ، وحول الكعبة جمع كبير من قريش ، فيهم ساداتهم وكبراؤهم ، وكانت قد نزلت عليه سورة النجم ، فقام فيهم ، وأخذ يتلوها فجاءة ، وكان أروع كلام سمعوه قط ، فاندهشوا لروعة هذا الكلام ، وأخذ منهم كل مأخذ ، فبقوا يستمعون إليه مبهوتين ساكتين ، حتى إذا تلا في خواتم السورة زواجر وقوارع طارت لها القلوب ، وتلا في الأخير ( فاسجدوا لله واعبدوا ) وخر ساجداً سجد الجميع ، ولم يملكوا أنفسهم .
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم ، فسجد بها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه ، وقال : يكفيني هذا ، فلقد رأيته بعد قتل كافراً – وهو أمية بن خلف قتل يوم بدر .
عودة المهاجرين إلى مكة :
وصل هذا الخبر إلى الحبشة ، ولكن في صورة تختلف عن الواقع ، فقد بلغهم أن قريشاً أسلموا ، فرجعوا فرحين مستبشرين إلى مكة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار عرفوا جلية الأمر ، فمنهم من رجع إلى الحبشة ومنهم من دخل مكة سراً أو في جوار أحد من قريش .

عمروعبده
30-11-2010, 03:10 PM
الهجرة الثانية إلى الحبشة
واشتد البلاء والعذاب على المسلمين من قريش ندماً منهم على ما فرط منهم من السجود مع المسلمين ، وانتقاماً لما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره للمهاجرين ، ونظراً إلى هذه الظروف القاسية أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ، فهاجر اثنان أو ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة ، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من الأولى ، لأن قريشاً كانوا متيقظين يتابعون حركات المسلمين إلا أن المسلمين كانوا أكثر منهم تيقظاً ، وأحسن منهم حكمة ، وأحكم منهم خطوة ، فقد فاتوهم إلى الحبشة رغم كل الجهود .
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة :
شق على المشركون أن أفلت منهم المسلمون ، ووصلوا إلى مأمن يأمنون فيه على أنفسهم وإيمانهم ، فأرسلوا رجلين من دهاتهم ليسترداهم إلى مكة ، وهما : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن ربيعة ، وكانا إذ ذاك على الشرك .
ونزل الرجلان بالحبشة تحت خطة مدبرة ، فاتصلا أولاً بالبطارقة ، وساقا إليهم الهدايا ، وذكرا لهم الهدف ، ولقناهم الحجة ، حتى وافقوهما ، ثم حضرا إلى النجاشي ، فقدما إليه الهدايا ، ثم كلماه فقالا :
أيها الملك : إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دينهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه . وأيدهما البطارقة فيما قالاه حسب الخطة .
ولكن النجاشي احتاط في الأمر ، ورأى أن يسمع القضية من الطرفين حتى يتضح له الحق ، فدعا المسلمين ، وسألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ؟
فتكلم جعفر بن أبي طالب عن المسلمين ، وقال : أيها الملك : كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل منا القوي الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ،فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئاً ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم الله علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان ، عن عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا ، وظلمونا ، وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك !
فلما سمع النجاشي هذا ، طلب من جعفر قراءة شيء من القرآن ، فقرأ عليه صدراً من كهيعص – سورة مريم – فبكى النجاشي حتى اخضلت – أي ابتلت – لحيته ، وبكى الأساقفة حتى أخضلوا – أي بلوا – مصاحفهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .
ثم خاطب مندوبي قريش وقال : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون ، فخرجا .
وفي اليوم الثاني احتال عمرو بن العاص حيلة أخرى ، فقال للنجاشي : إنهم – أي المسلمين - يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً .
فدعاهم النجاشي وسألهم عن ذلك ، فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض ، ثم قال : والله ما عدا – أي ما جاوز – عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود . اذهبوا فأنتم شيوم – أي آمنون – بأرضي ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ما أحب أن لي دبراً – أي جبلاً – من ذهب ، وأني آذيت رجلاً منكم .
ثم أمر برد الهدايا على مندوبي قريش فخرجا مقبوحين ، وأقام المسلمون بخير دار مع خير جار .
حيرة المشركين :
ولما منى المشركون بالخيبة والفشل في استرداد المسلمين من الحبشة استشاطوا غضباً ، وكادوا يتميزون غيظاً ، وينقضون على بقية المسلمين بطشاً ، ولا سيما وقد كانوا يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ماض في دعوته ، ولكنهم رأوا أبا طالب قائم بنصرته رغم التهديد والوعيد الشديد ، فاحتاروا في أمرهم ، ولم يدروا ماذا يفعلون ؟ فربما غلبت عليهم الضراوة ، فعادوا إلى التعذيب والتنكيل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمن بقي معه من المسلمين ، وربما فتحوا باب النقاش والجدال ، وربما عرضوا الرغائب والمغريات ، وربما حاولوا المساومة واللقاء في منتصف الطريق ، وربما فكروا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوة الإسلام ، إلا أن شيئاً من ذلك لم يجد نفعاً ، ولم يوصلهم إلى المراد ، بل كانت نتيجة جهودهم الخيبة والخسران ، وفيما يلي نقدم صورة مصغرة لكل من ذلك .

عمروعبده
30-11-2010, 03:11 PM
بداية النبوة ونزول الوحي

تلك هي قصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أفادت الأحاديث الصحيحة ان ذلك كان ليلة الإثنين قبل أن يطلع الفجر .
وحيث إن ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً أن يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة إنما وقع في اليوم الحادي والعشرين فقد أفاد ذلك أن نبوته صلى الله عليه وسلم إنما بدأت في الليلة الحادية والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده صلى الله عليه وسلم وهي توافق اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 م وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة اشهر واثني عشر يوماً ، وهو يساوي تسعاً وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً فكانت بعثته على رأس أربعين سنة شمسية .

فترة الوحي ثم عودته :
وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أول نزوله في غار حراء كما سبق ودام هذا الإنقطاعأياما ، وقد أعقب ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم شدة وكآبة والحزن ، ولكن المصلحة كانت في هذا الإنقطاع ، فقد ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ، وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجيء الوحي مرة أخرى.
وكان صلى الله عليه وسلم قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء صبيحة غرة شوال ليعود
إلى مكة حسب عادته .
قال صلى الله عليه وسلم فلما استبطنت الوادي – أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة ، فقلت زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصبوا علي ماءً بارداً ، فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) .
وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع .
وهذه الآيات هي بدء رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحي ، وتشمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه .
أما النوع الأول فهو تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله تعالى : ( قم فأنذر ) فإن معناه حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق والأفعال .
واما النوع الثاني فتكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى والالتزام بها في نفسه ، ليحرز بذلك مرضاة الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله ، وذلك في بقية الآيات ، فقوله : ( وربك فكبر ) معناه خصه بالتعظيم ، ولا تشرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله ( وثيابك فطهر ) المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله ( والرجز فاهجر ) معناه ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله : ( ولا تمنن تستكثر ) أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا.
أما الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : ( ولربك فاصبر ) .

عمروعبده
30-11-2010, 03:12 PM
بناء البيت وقصة التحكيم

ولما بلغت سنه صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة جاء سيل جارف صدع جدران الكعبة . وكانت قد وهنت من قبل لأجل حريق ، فاضطرت قريش إلى بنائها من جديد ، وقرروا أن لا يدخلوا في نفقتها إلا طيباً ، فلا يدخلوا فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد . وهابوا عقاب الله على هدمها ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : إن الله لا يهلك المصلحين ، ثم بدأ يهدم ، فتبعوه في هدمها حتى وصلوا بها إلى قواعد إبراهيم .
ثم أخذوا في البناء وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها ، وكان الأشراف يحملون الحجارة على أعناقهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس فيمن يحمل . وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم ، وضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامها على قواعد إبراهيم ، فأخرجوا منها نحو ستة أذرع من جهة الشمال وبنوا عليها جداراً قصيراً علامة أنه من الكعبة ، وهذا الجزء معروف بالحجر والحطيم .
ولما وصل البنيان إلى موضع الحجر الأسود أراد كل رئيس أن يتشرف بوضعه في مكانه ، فوقع بينهم التنازع والخصام ، واستمر أربعة أيام أو خمسة ، وكاد يتحول إلى حرب دامية في الحرم ، إلا أن ابا أمية بن المغيرة المخزومي تداركها بحكمة وكان أسن رجل في قريش فاقترح عليهم أن يحكموا أول رجل يدخل عليهم من باب المسجد ، فقبلوا ذلك ، واتفقوا عليه .
وكان من قدر الله أن أول من دخل بعد هذا القرار هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه هتفوا، وقالوا هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم ، وأخبروه الخبر ، أخذ رداءً ووضع فيه الحجر الأسود ، وأمرهم أن يمسك كل واحد منهم بطرف من الرداء ويرفعه ، فلما وصل الحجر الأسود إلى موضعه أخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ووضعه في مكانه ، وكان حلاً حصيفاً رضي به الجميع . والحجر الأسود يرتفع عن أرض المطاف متراً ونصف متر ، أما الباب فقد رفعوه نحو مترين حتى لا يدخل إلا من أرادوا ، وأما الجدران فرفعوها ثمانية عشر ذراعاً ، وكانت على النصف من ذلك ، ونصبوا في داخل الكعبة ستة أعمدة في صفين ثم سقفوها على ارتفاع خمسة عشر ذراعاً وكانت من قبل بدون سقف ولا عمود .

عمروعبده
30-11-2010, 03:14 PM
بيعة العقبة الأولى
فلما كان حج العام المقبل - سنة 12 من النبوة – قدم اثنا عشر رجلاً منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ، فأما العشرو من الخزرج فخمسة منهم هم الذين جاءوا في العام الماضي غير جابر بن عبد الله بن رئاب وخمسة آخرون هم :
معاذ بن الحارث( معاذ بن العفراء ) .
ذكوان بن عبد القيس .
عبادة بن الصامت .
يزيد بن ثعلبة .
العباس بن عبادة بن نضلة .
وأما الإثنان من الأوس فهما :
أبو الهيثم بن التيهان .
عويم بن ساعدة .
اجتمع هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى ، فعلمهم الإسلام ، وقال لهم : تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببرهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله ، فأمره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ، فبايعوه على ذلك .
دعوة الإسلام في يثرب :
فلما رجعوا إلى يثرب بعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ، ونزل مصعب بن عمير على أبي أمامة أسعد بن زرارة ونشطا في نشر الإسلام ، وبينما هما في بستان إذ قال رئيس الأوس سعد بن معاذ لابن عمه أسيد بن حضير : ألا تقوم إلى هذين الرجلين الذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما ، فأخذ أسيد حربته ، وأقبل إليهما فلما رآه أسعد قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه .
وجاء أسيد فوقف عليهما وقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ، فقال مصعب : أوتجلس فتسمع ، فإن رضيت امراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكرهه فقال : أنصفت ، وركز حربته وجلس ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وتلا عليه القرآن ، فاستحسن أسيد دين الإسلام واعتنقه ، وشهد شهادة الحق .
ثم رجع أسيد ، واحتال ليرسل إليهما سعد بن معاذ ، فقال له : كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت ، ثم قال : وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، لأنه ابن خالتك ، فيردون أن يخفروك .

فغضب سعد ، وقام إليهما متغيظاً ، ففعل معه مصعب مثل ما فعل مع أسيد ، فهداه الله للإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، ثم رجع إلى قومه ، فقال : يا بني عبد الأشهل ‍ كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأياً . قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة ، إلا رجل واحد اسمه الأصيرم ، تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، ثم أسلم وقتل شهيداً في سبيل الله قبل أن يسجد لله سجدة .
وعاد مصعب بن عمير إلى مكة قبل حلول موعد الحج يحمل بشائر مثل هذا الفوز .

عمروعبده
30-11-2010, 03:15 PM
بيعة العقبة الثانية
وفي موسم الحج سنة 13 من النبوة قدم كثير من أهل يثرب من المسلمين والمشركين ، وقد قرر المسلمون أن لا يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يطوف في أيام التشريق ليلاً في الشعب الذي عند جمرة العقبة .
فلما جاء الموعد ناموا في رحالهم مع قومهم ، حتى إذا مضى ثلث الليل الأول أخذوا يتسللون ، فيخرج الرجل والرجلان حتى اجتمعوا عند العقبة ، وهم ثلاثة وسبعون رجلاً اثنان وستون من الخزرج ، وأحد عشر من الأوس ، ومعهم امرأتان : نسيبة بنت كعب من بني النجار ، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة ، وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، كان على دين قومه ، ولكن أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له .
وكان العباس أول من تكلم ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في عز من قومه ومنعة في بلده ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك وإلا فمن الآن فدعوه .
فأجاب المتكلم عنهم – وهو البراء بن معرور – قال : نريد الوفاء والصدق وبذل الأرواح دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم يا رسول الله ‍ ! فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام واشترط لربه :
1 – أن يعبدوه وحده ، ولا يشركوا به شيئاً .
واشترط لنفسه ولربه أيضاً أنهم قالوا له على ما نبايعك ؟ فقال :
2 – على السمع والطاعة في النشاط والكسل .
3 – وعلى النفقة في العسر واليسر .
4 – وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
5 – وعلى أن تقوموا في الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم .
6 – وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم ، ولكم الجنة .
7 – وفي رواية عن عبادة : ( بايعناه ) على أن لا ننازع الأمر أهله .
فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقال : نعم ، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع عنه أزرنا ، فبايعنا ، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة – أي السلاح – ورثناها كابراً عن كابر .
فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان قائلاً : يارسول الله ! إن بيننا وبين الرجال حبالاً – أي عهوداً وروابط - وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم .
وفي هذه اللحظة الحاسمة تقدم العباس بن عبادة بن نضلة وقال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن ، فإنه خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يار سول الله !
قال : الجنة .
قالوا : ابسط يدك .
فبسط يده ، فقاموا ليبايعوه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وقال : رويدأ يا أهل يثرب ! إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما انتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله .
قالوا : يا أسعد ! أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها ، فقاموا إليه رجلاً رجلاً وبايعوه ، وكان أسعد بن زرارة هو أول المبايعين على أرجح الأقوال . وقيل بل أبو الهيثم بن التيهان . وقيل : بل البراء بن معرور . أما بيعة المرأتين فكانت قولاً بدون مصافحة .
اثنا عشر نقيباً :
وبعد البيعة طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا اثني عشر نقيباً يكونون عليهم ، ويكفلون المسؤلية عنهم ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، أما من الخزرج فهم :
1 – سعد بن عبادة بن دليم .
2 – أسعد بن زرارة بن عدس .
3 - سعد بن الربيع بن عمرو .
4 - عبد الله بن رواحة بن ثعلبة .
5 – رافع بن مالك بن عجلان .
6 – البراء بن معرور بن صخر .
7 – عبد الله بن عمرو بن حرام .
8 – عبادة بن الصامت بن قيس .
9 – المنذر بن عمرو بن خنيس .
وأما من الأوس فهم :
10 – أسيد بن حضير بن سماك .
11 – سعد بن خيثمة بن الحارث .
12 – رفاعة بن عبد المنذر بن زبير – وقيل : أبو الهيثم بن التيهان .
فلما تم اختيارهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم .
هذه هي بيعة العقبة الثانية ، وكانت حقاً أعظم بيعة وأهمها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تغير بها مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ .
ولما تمت البيعة وكاد الناس ينفضون اكتشفها أحد الشياطين ، وصاح بأنفذ صوت سمع قط ، يا أهل الأخاشب – المنازل – هل لكم في محمد ، والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ، وأمرهم أن ينفضوا رحالهم فرجعوا وناموا حتى أصبحوا .
وصباحاً جاءت قريش إلى خيام أهل يثرب ليقدموا الإحتجاج إليهم ، فقال المشركون : هذا خبر باطل ، ما كان من شيء ، وسكت المسلمون ، فصدقت قريش المشركين ورجعوا خائبين .
وأخيراً تأكد لدى قريش أن الخبر صحيح ، فأسرع فرسانهم في طلب أهل يثرب ، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو عند أذاخر ، فأما المنذر فأعجز القوم هرباً ، وأما سعد فأخذوه وربطوه وضربوه وجروا شعره حتى أدخلوه مكة ، فخلصه المطعم بن عدي والحارث بن حرب ، إذ كان يجير لهما قوافلهما بالمدينة ، وأراد الأنصار أن يكروا إلى مكة إذ طلع عليهم سعد قادماً ، فرحلوا إلى المدينة سالمين .

عمروعبده
30-11-2010, 03:16 PM
بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى

ومن طبيعة مثل هذا الإجتماع السرية للغاية ، وأن لا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات ، وتغاير العادات المستمرة ، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر ، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضاً ينبىء عن الشر . وكان هذا مكراً من قريش ، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى ، فخيبهم من حيث لا يشعرون ، فقد نزل جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش ، وأذن له في الهجرة ، وحدد له وقت الخروج ، وبين له خطة الرد على مكر قريش فقال : ( لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ) .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحر الظهيرة - حين يستريح الناس في بيوتهم – إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبرم معه أمور الهجرة ، فجهزا الراحلتين أحث الجهاز واستأجرا عبد الله بن أريقط الليثي – وكان على دين قريش – ليكون دليلاًلهما في الطريق ، وكان هادياً ماهراً بالطرق ، وواعده جبل ثور بعد ثلاث ليال ، ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعماله اليومية حسب المعتاد ، حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش .
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء ، ويخرج في النصف الأخير من الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه صلاة التهجد – قيام الليل – فأضجع علياً رضي الله عنه على فراشه تلك الليلة ، وأخبره بأنه لا يصيبه مكروه ، فلما نام عامة الناس وهدأ الليل جاء المتآمرون سراً إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطوقوه ، ورأوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه نائماً على فراشه صلى الله عليه وسلم متسجياً ببرده الحضرمي الأخضر ، فظنوه محمداً فأخذوا يختالون زهواً ويرصدونه حتى إذا قام وخرج يثبوا عليه .
وكان هذا جواب مكرهم من الله سبحانه وتعالى يقول تعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .

عمروعبده
30-11-2010, 03:17 PM
تجارته وزواجه من خديجة واولاده منها

حياة العمل :

معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً ونشأ في كفالة جده ثم عمه ، ولم يرث عن أبيه شيئاً يغنيه ، فلما بلغ سناً يمكن العمل فيه عادة رعى الغنم مع أخوته من الرضاعة في بني سعد ، ولما رجع إلى مكة رعاها لآهلها على قراريط ، والقيراط جزء يسير من الدينار : نصف العشر أو ثلث الثمن منه قيمته في هذا الزمان عشرة ريالات تقريباً . ورعي الغنم من سنن الأنبياء في أوائل حياتهم . فقد قال صلى الله عليه وسلم مرة بعد أن أكرمه الله بالنبوة : ( ما من نبي إلا ورعاها ) . ولما شب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ الفتوة فكأنه كان يتجر ، فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب ، فكان خير شريك له ، لا يجاري ولا يماري . وعرف صلى الله عليه وسلم في معاملاته بغاية الأمانة والصدق والعفاف . وكان هذا هديه صلى الله عليه وسلم في جميع مجالات الحياة حتى لقب بالأمين .

سفره إلى الشام وتجارته في مال خديجة :
وكانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها من أفضل نساء قريش شرفاً ومالاً وكانت تعطي مالها للتجار يتجرون فيه على أجرة ، فلما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه مالها ليخرج فيه إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما أعطته غيره .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة إلى الشام ، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً ، وحصل في مالها من البركة ما لم يحصل من قبل ، ثم رجع إلى مكة وأدى الأمانة .

زواجه بخديجة :
ورأت خديجة من الأمانة والبركة ما يبهر القلوب ، وقص عليها ميسرة ما رأى في النبي صلى الله عليه وسلم من كرم الشمائل وعذوبة الخلال يقال : وبعض الخوارق ، مثل تظليل الملكين له في الحر فشعرت خديجة بنيل بغيتها فيه ، فأرسلت إليه إحدى صديقاتها تبدي رغبتها في الزواج به ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكلم أعمامه ، فخطبوها له إلى عمها عمرو بن أسد ، فزوجها عمها بالنبي صلى الله عليه وسلم في محضر من بني هاشم ورؤساء قريش على صداق قدره عشرون بكرة ، وقيل ست بكرات ،وكان الذي ألقى خطبة النكاح هو عمه ابو طالب فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم ذكر شرف النسب وفضل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر كلمة العقد وبين الصداق .
تم هذا الزواج بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الشام بشهرين وأيام ، وكان عمره إذ ذاك خمساً وعشرين سنة ، أما خديجة فالأشهر أن سنها كانت أربعين سنة ، وقيل ثمان وعشرين سنة ، وقيل غير ذلك ، وكانت أولاً متزوجة بعتيق بن عائذ المخزومي ، فمات عنها ، فتزوجها أبو هالة التيمي ، فمات عنها أيضاً بعد أن ترك له منها ولداً ، ثم حرص على زواجها كبار رؤساء قريش فأبت حتى رغبت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجت به . فسعدت به سعادة يغبط عليها الأولون والآخرون .
وهي أول أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت ، وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية .

أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة :
هم : القاسم ، ثم زينب ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم عبد الله ، وقيل غير ذلك في عددهم وترتيبهم ، وقد مات البنون كلهم صغاراً . أما البنات فقد أدركن كلهن زمن النبوة ، فأسلمن وهاجرن ، ثم توفاهن الموت قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها ، فإنها عاشت بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر .

عمروعبده
30-11-2010, 03:18 PM
تشاور قريش في أمر دعوة الرسول

واشمأزت قريش من كل ذلك ، وساءهم ما رأوه ، وما هي إلا أيام حتى اقترب موعد الحج ، وأهمهم أمر الحجاج ، فاجتمع نفر منهم إلى الوليد بن المغيرة – وكان ذا سن وشرف فيهم – فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً .
قالوا : أنت فقل ، وأقم لنا رأياً نقول به .
قال : لا بل أنتم فقولوا أسمع .
قالوا : نقول : كاهن .
قال : ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم .
قالوا: فنقول : مجنون .
قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقة ولا تخالجه وسوسته .
قالوا: فنقول : شاعر .
قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه . فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول : ساحر .
قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده .
قالوا : فماذا نقول ؟
قال : والله إن لقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا: هو ساحر ، وقوله سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته .
فتفرقوا عنه بذلك ، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا للموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه وذكروا له أمره صلى الله عليه وسلم فعرف الناس أمره قبل أن يروه أو يسمعوا منه .
وجاءت أيام الحج فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجامع الحجاج ورحالهم ومنازلهم ، ودعاهم إلى الإسلام ، وقال لهم : ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وتبعه أبو لهب يكذبه ويؤذيه ، فصدرت العرب من ذلك الموسم وقد عرفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .

عمروعبده
30-11-2010, 03:19 PM
تعذيب المسلمين
فأما تعذيبهم المسلمين فقد أتوا فيه بأنواع تقشعر لها الجلود وتتفطر منها القلوب .
كان بلال بن رباح رضي الله عنه مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي ، فكان أمية يجعل في عنقه حبلاً، ويدفعه إلى الصبيان ، يلعبون به وهو يقول أحد أحد ، وكان يخرج به في وقت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في الرمضاء ، وهي الرمل أو الحجر الشديد الحرارة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول:لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فيقول : أحد أحد .
ومر به أبو بكر رضي الله عنه يوماً وهو يعذب فاشتراه وأعتقه لله .
وكان عامر بن فهيرة يعذب حتى يفقد وعيه ، ولا يدري ما يقول .
وعذب أبو فكيهة واسمه أفلح ، قيل كان من الأزد ، وكان مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد ، وفي رجليه قيد من حديد ، فيجردونه من الثياب ، ويطرحونه في الرمضاء ،ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك ، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل ، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وكانوا مرة قد ربطوا رجليه بحبل ، ثم جروه وألقوه في الرمضاء ، وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات ، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله . وكان خباب بن الأرت ممن سبي في الجاهلية ، فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية وكان حداداً فلما أسلم عذبته مولاته بالنار ، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً وتسليماً ، وكان المشركون أيضاً يعذبونه ، فيلوون عنقه ، ويجذبون شعره ، وقد القوه مراراً على فحم النار ، ثم وضعوا على صدره حجراً ثقيلاً حتى لا يقوم .
وكانت زنيرة أمة رومية، أسلمت ، فعذبت في الله وأصيبت في بصرها حتى عميت ، فقيل لها : أصابتك اللات والعزى ، فقالت : لا والله ما أصابتني ، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه ، فأصبحت من الغد ، وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا بعض سحر محمد .
وأسلمت أم عميس : جارية لبني زهرة ، فكان يعذبها مولاها الأسود بن عبد يغوث ، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المستهزئين به .
وأسلمت جارية عمرو بن مؤمل من بني عدي ، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ،وهو يومئذ على الشرك ، فكان يضربها حتى يفتر ، ثم يدعها ، ويقول : والله ما أدعك إلا سآمة ، فتقول كذلك يفعل بك ربك .
وتذكر فيمن أسلمن وعذبن من الجواري : النهدية ، وابنتها وكانتا لامراة من بني عبد الدار .
واشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه هؤلاء الجواري ، وأعتقهن كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة ، وأبا فكيهة ، ، وقد عاتبه أبوه أبو قحافة ، وقال : أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أعتقت رجالاً جلداً لمنعوك . فقال : إني أريد وجه الله ، فأنزل الله تعالى قرآناً مدحه فيه وذم أعداءه فقال : ( فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى ) وهو أمية بن خلف ، ومن كان على شاكلته ( وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتى ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى وهو
أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمن أعتقهم ، وعن الصحابة أجمعين .
وعذب عمار بن ياسر وأمه وأبوه رضي الله عنهم وكانوا حلفاء بني مخزوم فكان بنو مخزوم وعلى رأسهم أبو جهل يخرجونهم إلى الأبطح ، إذا حمين الرمضاء ، فيعذبونهم بحرها ، ويمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : ( صبراً آل ياسر موعدكم الجنة ، اللهم اغفر لآل ياسر ) .
أما ياسر والد عمار – وهو ياسر بن عامر بن مالك العنسي المذحجي – فقد مات تحت العذاب ، وأما أم عمار – وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة المخزومي ، وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ، فطعنها أبو جهل في قبلها بحربة ، فماتت وهي أول شهيدة في الإسلام .
وأما عمارفثقل عليه العذاب ، فإن المشركين تارة كانوا يلبسونه درعاً من حديد في يوم صائف ، وتارة كانوا يضعون على صدره صخراً أحمر ثقيلاً ، وتارة كانوا يغطونه في الماء ، حتى قال بلسانه بعض ما يوافقهم ، وقلبه مليء بالإيمان ، فأنزل الله : ( من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) .
وعذب في الله مصعب بن عمير ، وكان من أنعم الناس عيشاً ، فلما دخل في الإسلام منعته أمه الطعام والشراب ، وأخرجته من البيت ، فتخشف جلده تخشف الحية .
وعذب صهيب بن سنان الرومي ، حتى فقد وعيه ، ولا يدري ما يقول .
وعذب عثمان بن عفان ، وكان عمه يلفه في حصير من ورق النخيل ، ثم يدخنه من تحته .
وأوذي أبو بكر الصديق ، وطلحة بن عبيد الله ، أخذهما نوفل بن خويلد العدوي وقيل : عثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله ، فشدهما في حبل واحد ، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين ، فلم يجيباه ، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان ، وسميا بالقرينين لكونهما قد شدا في حبل واحد . وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم وله شرف ومنعة ، أنبه ، وأخزاه ،وأوعده بإلحاق الخسارة الفادحة في المال والجاه ، وإذا كان الرجل ضعيفاًضربه وأغرى به ، والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال .
كانت هذه الأعتداءات ضد ضعفاء المسلمين وعامتهم ، أما من أسلم من الكبار والأشراف فإنهم كانوا يحسبون له حساباً ، ولم يكن يجترىء عليهم إلا أمثالهم من رؤساء القبائل وأشرافها ، وذلك مع قدر كبير من الحيطة والحذر .

عمروعبده
30-11-2010, 03:21 PM
جدال المشركين وطلبهم الآيات

وكان من جملة جدال المشركين أنهم كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات تعجيزاً وعناداً وقد تكرر ذلك منهم تكراراًفي أوقات مختلفة ، فمن ذلك أنهم اجتمعوا مرة في المسجد الحرام ، واستشاروا بينهم ، ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك .
وحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على رشدهم غاية الحرص كما قال الله : ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) فقد جاءهم سريعاً يرجو إسلامهم ، فقالوا : إنك تخبرنا أن الرسل كانت لهم آيات ، كانت لموسى عصا ، ولثمود اناقة ، وكان عيسى يحيى الموتى ، فأتنا بآية كما أرسل الأولون .
وكانوا يظنون أن من خواص الرسل أنهم يقدرون على إحداث مثل هذه الخوارق والمعجزات متى شاءوا ، كما يقدر عامة الناس على أعمالهم الطبيعية .
فاقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، أو يسير عنهم الجبال ، ويبسط لهم البلاد ، ويجري فيها الأنهار ، أو يبعث من مضى من آبائهم حتى يشهدوا بأنه رسول : السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتاباً نقرؤه ) وقد أبدوا رغبتهم في الإسلام إذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بما اقترحوه ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) فدعا الله أن يريهم ما طلبوه ، ورجا إسلامهم ، فجاء جبريل وخيره بين أن يريهم الله ما طلبوه فمن كفر بعد ذلك منهم عذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ، وبين أن يفتح لهم أبواب التوبة والرحمة ، فقال بل باب التوبة والرحمة ، فلما اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا أنزل الله عليه جواب مقترحات المشركين فقال له : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً )
والمعنى قل لست أقدر على إحداث الخوارق والإتيان بالمعجزات ، لأن القدرة على ذلك أمر يختص بالله سبحانه وتعالى ، وهو منـزه من أن يكون له شريك في قدرته ، وإنما أنا بشر ، كما أنكم بشر ، فلست أقدر عليه كما أنكم لا تقدرون عليه ، وإنما الذي امتزت به فيما بينكم هو أنني رسول ، يوحى إلي ، وأنتم لستم برسل وليس يوحى إليكم ، فالذي طلبتموه من الآيات ليس في يدي ولا تحت تصرفي ، وإنما هو إلى الله – عز وجل – إن شاء أظهرها لكم ، ويؤيدني بها عليكم وإن شاء أخرها عنكم ، وفي ذلك مصلحتكم .
وقد أكد الله هذا المعنى في سورة الأنعام فقال : ( قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) أي إن الأنبياء والرسل ليسوا بالذين يأتون بالخوارق والمعجزات ، وإنما الله – سبحانه وتعالى – هو الذي يأتي بها . وهو إنما يظهرها على أيدي الأنبياء والمرسلين تكريماً لهم ، وتأييداً وإثباتاً لنبوتهم ورسالتهم .
ثم بين الله – سبحانه وتعالى – أنه لو أراهم وأظهر لهم ما طلبوه من الآيات لا يؤمنون به ، مع كونهم قد أقسموا بالله جهد أيمانهم ليؤمنن به فقال : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ) وقال : ( ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ) وفي ثنايا مثل هذه الآيات أشار الله تعالى إلى سنة من سننه ، وهي أن القوم إذا طلبوا آية معينة ، ثم لم يؤمنوا بها إذا جاءتهم فإنهم يهلكون ولا يمهلون ، وسنة الله لا تتغير ولا تتبدل ، وقد علم الله أن معظم قريش يؤمنون فيما بعد ، فلذلك لم يأت لهم بما اقترحوه من الآيات الخاصة التي مضى ذكرها قريباً .

عمروعبده
30-11-2010, 03:22 PM
سفره إلى الشام وحرب الفجار وحلف الفضول
سفره إلى الشام وبحيرا الراهب :

وأراد أبو طالب أن يخرج بتجارة إلى الشام في عير قريش ، وكان عمره صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة وقيل وشهرين وعشرة أيام فاستعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فراقه فرق عليه وأخذه معه ، فلما نزل الركب قريباً من مدينة بصرى على مشارف الشام خرج إليهم أحد كبار رهبان النصارى – وهو بحيرا الراهب – فتخلل في الركب حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده وقال : ( هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ) .
قالوا وما علمك بذلك ؟
قال : ( إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداًولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنا نجده في كتبنا ) .
ثم أكرمهم بالضيافة ، وسأل أبا طالب أن يرده ولايقدم به يقدم به إلى الشام خوفا من اليهود والرومان ، فرده أبو طالب إلى مكة .

حرب الفجار:
وحين كان عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، وقعت في سوق عكاظ حرب بين قبائل قريش وكنانة من جهة ، وبين قبائل قيس عيلان من جهة أخرى . اشتد فيها البأس ، وقتل عدد من الفريقين، ثم اصطلحوا على أن يحصوا قتلى الفريقين فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد ، ووضعوا الحرب ، وهدموا ما وقع بينهم من العداوة والشر .
وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ينبل على أعمامه ، أي يجهز لهم النبل للرمي .
وسميت هذه الحرب بحرب الفجار لأنهم انتهكوا فيها حرمة مكة والشهر الحرام ، والفجار أربعة : كل في سنة ، وهذه آخرها ، وانتهت الثلاثة الأولى بعد خصام واشتجار طفيف ، ولم يقع القتال إلا في الرابع فقط .

حلف الفضول :
وفي شهر ذي القعدة على إثر هذه الحرب تم حلف الفضول بين خمسة بطون من قبيلة قريش وهم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم . وسببه أن رجلاً من زبيد جاء بسلعة إلى مكة ، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه ببني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني جمح ، وبني سهم ، وبني عدي ، فلم يكترثوا له ، فعلا جبل أبي قبيس ، وذكر ظلامته في أبيات ، ونادى من يعينه على حقه ، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في دار عبد الله بن جدعان رئيس بني تيم ، وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ، ثم قاموا إلى العاص بن وائل السهمي ، فانتزعوا منه حق الزبيدي ، ودفعوه إليه . وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مع أعمامه ، وقال بعد أن شرفه الله بالرسالة : ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت ) .

عمروعبده
30-11-2010, 03:23 PM
سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

نشأ صلى الله عليه وسلم منذ صباه سليم العقل ، وافر القوى ، نزيه الجانب ، فترعرع ، وشب ، ونضج ، وهو جامع للصفات الحميدة والشيم النبيلة ، فكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب والنظر السديد ، ومثالاً نهائياً في مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال ، امتاز بالصدق ، والأمانة ، والمروءة ، والشجاعة والعدل ، والحكمة ، والعفة ، والزهد ، والقناعة ، والحلم ، والصبر والشكر ، والحياء والوفاء ، والتواضع والتناصح .
وكان على أعلى قمة من البر والإحسان كما قال عمه أبو طالب :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكان وصولاً للرحم ، حمولاً لما يثقل كواهل الناس ، يساعد من أعدم العيش حتى يصيب الكسب ، وكان يقري الضيف ، ويعين من نزلت به النوازل .
وقد حاطه الله بالحفظ والرعاية ، وبغض إليه ما كان في قومه من خرافة وسوء ، فلم يشهد أعياد الأوثان واحتفالات الشرك ، ولم يأكل مما ذبح على النصب أو أهل به لغير الله ، وكان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى فضلاً عن مس الأصنام أو التقرب إليها .
وكان أبعد الناس من شرب الخمر وشهود الملاهي حتى لم يحضر مجالس اللهو والسمر ونواديها التي كانت منتزه الشباب وملتقى الأحبة في مكة .

عمروعبده
30-11-2010, 03:25 PM
شق القمر

وكأن قريشاً لما رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجبهم إلى ما اقترحوه من الآيات الخاصة ظنوا أن طلب الآيات أحسن وسيلة لتعجيزه وإسكاته ولإقناع عامة الناس بأنه متقول ، وليس برسول ، فتقدموا خطوة أخرى ، وقرروا أن يطلبوا منه آية بغير تعيين ، ليتبين للناس عجزه ، فلا يؤمنوا به ، فجاءوا إليه ، وقالوا له : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله ؟
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يريهم آية . فأراهم القمر قد انشق فرقتين : فرقة فوق الجبل – أي جبل أبي قبيس – وفرقة دونه ، حتى رأوا حراء بينهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اشهدوا ) .
ورأت قريش هذه الآية جهاراً ، بوضوح ، ولوقت طويل ، فسقط في أيديهم وبهتوا ، ولكنهم لم يؤمنوا ، بل قالوا : هذا سحر ابن أبي كبشة ، لقد سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان قد سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فانظروا ما يأتيكم به السفار ، فجاء السفار فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأيناه ، ولكن قريشاً مع ذلك أصروا على كفرهم واتبعوا أهواءهم .
وكأن انشقاق القمر كان تمهيداً لما هو أكبر وأهم حدثاً من ذلك ، وهو الإسراء والمعراج ، فإن رؤية القمر هكذا منشقاً بعين اليقين تسهل على الذهن قبول إمكان الإسراء والمعراج والله أعلم .

عمروعبده
30-11-2010, 03:26 PM
شق صدره وعودته إلى أمه وجده وعمه

قال أنس بن مالك رضي الله عنه :

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبيريل ، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك . ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه – أي ضمه وجمعه – ثم أعاده في مكانه .
وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني ظئره ( وهي المرضعة ) – فقالوا : إن محمداً قد قتل . فاستقبلوه وهو منتقع اللون . أي متغير اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره .

إلى أمه الحنون :
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث إلى مكة ، فبقي عند أمه وفي أسرته نحو سنتين ، ثم سافرت معه إلى المدينة ، حيث قبر والده وأخوال جده بنو عدي بن النجار ، وكان معها قيمها عبد المطلب ، وخادمتها أم ايمن ، فمكثت شهراً ثم رجعت ، وبينما هي في الطريق لحقها المرض ، واشتد حتى توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة ، ودفنت هناك .

إلى جده العطوف :
وعاد به صلى الله عليه وسلم جده عبد المطلب إلى مكة ، وهو يشعر بأعماق قلبه شدة ألم المصاب الجديد . فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده ن فكان يعظم قدره ، ويقدمه على أولاده ، ويكرمه غاية الإكرام ، ويجلسه على فراشه الخاص الذي لم يكن يجلس عليه غيره . ويمسح ظهره ، ويسر بما يراه يصنع . ويعتقد أن له شأناً عظيماً في المستقبل ، ولكنه توفي بعد سنتين حين كان عمره صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام .

إلى عمه الشفيق:
وقام بكفالته صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب شقيق أبيه ، واختصه بفضل الرحمة والمودة ، وكان مقلاً من المال ، فبارك الله في قليله ، حتى كان طعام الواحد يشبع جميع أسرته ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مثال القناعة والصبر ، يكتفي بما قدر الله له .

عمروعبده
30-11-2010, 03:27 PM
عام الحزن
وفاة أبي طالب :
أما مرض أبي طالب فلم يزل يشتد به حتى حضرته الوفاة ، ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أي عم ‍ قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقالا : يا أبا طالب ‍ أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر ما قال : على ملة عبد المطلب .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنـزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) ونزلت : ( إنك لا تهدي من أحببت )
وكانت وفاته في شهر رجب أو رمضان سنة عشر من النبوة ، وذلك بعد الخروج من الشعب بستة أشهر ، وقد كان عضداً وحرزاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحصناً احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، ولكنه بقي على ملة الأجداد فلم يفلح كل الفلاح .
قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك ؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك . قال : ( هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) .

خديجة إلى رحمة الله :
ولم يندمل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفاة أبي طالب حتى توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وذلك في رمضان من نفس السنة العاشرة بعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام فقط ، وكانت وزير صدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، آزرته على إبلاغ الرسالة ، وآسته بنفسها ومالها ، وقاسمته الأذى والهموم . قال صلى الله عليه وسلم : ( آمنت بي حين كفر الناس ، وصدقتني حين كذبني الناس ، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس ، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها ) .
وورد في فضائلها أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ‍‍! هذه خديجة قد أتت ، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرء عليها السلام من ربها ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها دائماً ، ويترحم عليها ، وتأخذ به الرأفة والرقة لها كلما ذكرها ، وكان يذبح الشاة فيبعث في أصدقائها ، لها مناقب جمة وفضائل كثيرة .
تراكم الأحزان :
واشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه بعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها فقد تجرءوا عليه ، وكاشفوه بالأذى ، وطفق النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر بشدة بكل ما يحدث ، ولو كان أصغر وأهون مما سبق ، حتى إن سفيهاً من سفهاء قريش نثر التراب على رأسه ، فجعلت أحدى بناته تغسله وتبكي ، وهو يقول لها : لا تبكي يا بنية ! فإن الله مانع أباك ، ويقول بين ذلك : ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .
زواجه صلى الله عليه وسلم بسودة ثم بعائشة رضي الله عنهما :
وفي شوال –بعد الشهر الذي توفيت فيه خديجة – تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بسودة بنت زمعة رضي الله عنها وكانت تحت ابن عمها : السكران بن عمرو رضي الله عنه ، وكانا من السابقين الأولين إلى الإسلام ، وقد هاجرا إلى الحبشة ثم رجعا إلى مكة ، فتوفي بها السكران بن عمرو ، فلما حلت تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أعوام وهبت نوبتها لعائشة . أما زواجه بعائشة رضي الله عنها فكان أيضاً في شهر شوال ولكن بعد سودة بسنة ، تزوجها بمكة وهي بنت ست سنين ، ودخل بها في المدينة في شهر شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين ، وكانت أحب أزواجه صلى الله عليه وسلم وأفقه نساء الأمة ، لها مناقب جمة وفضائل وافرة .

عمروعبده
30-11-2010, 03:28 PM
عرض الإسلام على القبائل والأفراد

كان من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أمره الله بالجهر بالدعوة انه كان يخرج في موسم الحج وأيام أسواق العرب إلى منازل القبائل فيدعوهم إلى الإسلام .
وأشهر أسواق العرب في الجاهلية وأقربها إلى مكة ثلاثة : عكاظ ومجنة وذو المجاز ، وعكاظ قرية بين نخلة والطائف ، كانوا يقيمون بها السوق من أول شهر ذي القعدة إلى عشرين منه ، ثم ينتقلون منها إلى مجنة ، فيقيمون بها السوق إلى نهاية شهر ذي القعدة ، وهي موضع في وادي مر الظهران أسفل مكة ، وأما ذو المجاز فهو خلف جبل عرفة أي خلف جبل الرحمة ، وكانوا يقيمون هناك السوق من أول ذي الحجة إلى الثامن منه ، ثم يتفرغون لأداء مناسك الحج .
وممن أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام ، وعرض عليهم نفسه ليؤوه وينصروه : بنو عامر بن صعصعة ، وبنو محارب بن خصفة ، وبنو فزارة ، وغسان ومرة ، وبنو خنيفة ، وبنو سليم ، وبنو عبس ، وبنو نصر ، وبنو البكاء ، وكندة ، وكلب ، وبنو الحارث بن كعب ، وعذرة ، والحضارمة ، فلم يستجب له منهم أحد . ولكنهم اختلفوا في أساليب ردودهم ، فمنهم من رد عليه رداً جميلاً ومنهم من اشترط عليه لنفسه أن تكون له الرئاسة بعده ، ومنهم من قال : أسرتك وعشيرتك أعلم بك ، حيث لم يتبعوك ، ومنهم من رد عليه رداً قبيحاً ، وكان بنو حنيفة رهط مسيلمة الكذاب أقبحهم رداً .

المؤمنون من غير أهل مكة :
وقد الله أن يؤمن رجال من غير أهل مكة في الزمن الذي كانت الدعوة تمر فيه بأصعب مراحلها في مكة ، فكانوا كجذوة أمل أضاءت في ظلام اليأس .فمنهم :
1 – سويد بن الصامت – كان شاعراً لبيباً ، من سكان يثرب ، يسمى بالكامل لشرفه وشعره ، أتى مكة حاجاً أو معتمراً ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فعرض هو على رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمة لقمان ، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فأسلم ، وقال : إن هذا قول حسن ، قتل في وقعة بين الأوس والخزرج قبل يوم بعاث .
2 – إياس بن معاذ – كان غلاماً حدثاً من سكان يثرب قدم مكة في أوائل سنة 11 من النبوة ، في وفد من الأوس كانوا يلتمسون الحلف من قريش على الخزرج ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس : هذا والله خير مما جئتم له ، فرمى أبو الحيسر – أحد أعضاء الوفد – تراب البطحاء في وجه إياس ، وقال : دعنا عنك ، لقد جئنا لغير هذا ، فسكت ، ولم يلبث بعد رجوعهم إلى يثرب أن هلك ، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته ، ولا يشك قومه أنه مات مسلماً .
3 – أبو ذر الغفاري – بلغ إليه خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم – بسبب إسلام سويد بن الصامت وإياس بنم معاذ ، فأرسل أخاه إلى مكة ليأتي بالخبر ، فذهب ورجع ، ولم يشفه ، فخرج بنفسه حتى نزل بمكة في المسجد الحرام ، وبقي فيه نحو شهر ، يشرب ماء زمزم ، وهو طعامه وشرابه ، ولا يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم أحداً خوفاً على نفسه ، ثم استتبعه علي رضي الله عنه حتى دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أبو ذر أن يعرض عليه الإسلام ، فعرضه عليه فأسلم مكانه ، ثم جاء إلى المسجد الحرام وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فانقض عليه قريش ، وضربوه ليموت ، فأنقذه العباس ، فلما أصبح الغد قال مثل ما قال بالأمس ، وضربوه مثل ما ضربوه بالأمس وأنقذه العباس كما أنقذه بالأمس .
ورجع أبو ذر إلى مساكن قومه بني غفار ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليها .
4 - طفيل بن عمرو الدوسي – كان شاعراً لبيباً ، رئيس قبيلته دوس في ناحية اليمن ، قدم مكة سنة 11 من النبوة ، فاستقبله أهل مكة ، وحذروه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى حشا أذنه الكرسف حين جاء إلى المسجد الحرام ، كي لا يسمع منه صلى الله عليه وسلم شيئاً وكان صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي عند الكعبة ، فوقع في أذنه منه شيء ، فاستحسنه ، فقال في نفسه : إني لبيب وشاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان حسناً قبلته ، وإن كان قبيحاً تركته .
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته تبعه حتى دخل بيته ، وذكر قصته ، وطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه أمره ، فعرض عليه الإسلام ، وتلا عليه القرآن فأسلم وشهد شهادة الحق ، وقال : إني مطاع في قومي ، وراجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية ، فدعا له ، فلما قرب من قومه استنار وجهه كالمصباح ، فدعا الله أن يجعله في غير وجهه ، فتحول النور إلى سوطه ، فلما دخل على قومه دعاهم إلى الإسلام ، فأسلم أبوه وزوجته وأبطأ القوم ، لكنه لما هاجر إلى المدينة بعد الحديبية كان معه سبعون أو ثمانون بيتاً من قومه .
5 - ضماد الأزدي – من أزد شنوءة من اليمن ، كان يرقى من الجنون والجن والشياطين ، فجاء مكة فسمع سفهاءها يقولون : إن محمداً مجنون ، فجاء ليرقيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فاستعاد ضماد هذه الكلمات ثلاث مرات ، ثم قال : سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، لقد بلغن قاموس البحر ، هات يدك أبايعك على الإسلام ، فبايعه .
الإسلام في المدينة :
6 – 11 – ستة سعداء من أهل يثرب كلهم من الخزرج وهم :
أسعد بن زرارة .
عوف بن الحارث بن رفاعة ( عوف بن عفراء ) .
رافع بن مالك بن العجلان .
قطبة بن عامر بن حديدة .
عقبة بن عامر بن نابي
جابر بن عبد الله بن رئاب .
جاء هؤلاء للحج في جملة من جاء سنة 11 من النبوة ، وكان أهل يثرب يسمعون من اليهود حينما ينالون منهم في الحرب ونحوها : أن نبياً سيبعث الآن ، قد أطل زمان بعثته ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كانوا بعقبة منى مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً وهم يتكلمون ، فلما سمع الصوت عمدهم حتى لحقهم ، وقال : من أنتم ؟ قالوا: نفر من الخزرج ، قال موالي اليهود ؟ - أي حلفاؤهم – قالوا : نعم ، قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى ! فجلسوا معه ، فشرح لهم حقيقة الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله عز وجل فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأسرعوا إلى الإسلام ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ، ووعدوه القيام بالدعوة إلى دينه ، والمقابلة في الحج القادم .

عمروعبده
30-11-2010, 03:29 PM
عرض الرغائب والمغريات

ولما رأى المشركون قوة المسلمين وشوكتهم بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما اجتمعوا للشروى بينهم ، وليفكروا في أنسب خطوة يقومون بها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين . فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي – من بني عبد شمس بن عبد مناف ، وكان سيداً مطاعاً في قومه – يا معشر قريش ! ألا أقوم لمحمد فأكلمه ، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها ، فنعطيه إياها ويكف عنا ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ! فقم إليه فكلمه ، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد وحده ، فقال : يا ابن أخي ! إنك منا حيث قد علمت ، من خيارنا حسباً ونسباً ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .
فقال عليه الصلاة والسلام : ( قل يا أبا الوليد أسمع ) .
فقال : يا ابن أخي ! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنـزوجك عشراً ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا ، حتى نبرئك منه . فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه .
فقال عليه الصلاة والسلام : ( أوقد فرغت يا أبا الوليد ) !
قال : نعم .
قال : ( فاسمع مني ) .
قال : أفعل .
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنـزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون )
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه ، وهو يستمع منه ، وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) وضع عتبة يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله والرحم مخافة أن يقع ذلك ، وقال حسبك .
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة سجد ، ثم قال : ( سمعت يا أبا الوليد ) ؟
قال : سمعت .
قال : ( فأنت وذاك ) .
فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ! أطيعوني واجعلوها لي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به .
قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد !
قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم .

عمروعبده
30-11-2010, 03:31 PM
غزوة أحد
بينما كانت قريش تستعد للإنتقام من المسلمين بما أصيبت به في غزوة بدر إذا بهم يتلقون ضربة أخرى في القردة ، فازدادوا بها غضباً على غضب فأسرعوا في الإستعداد وفتحوا باب التطوع ، وحشدوا الأحابيش وخصصوا الشعراء للإغراء والتحريض ، حتى تجهز جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، في ثلاثة آلف بعير ومائتي فرس ، وسبعمائة درع ، ومعه عدد من النسوة للتحريض وبث روح البسالة والحماس ، وكان قائده العام أبا سفيان ، وحامل لوائه أبطال بني عبد الدار .
تحرك هذا الجيش في غيظه وغضبه حتى بلغ إلى ضواحي المدينة ، وألقى رحله في ميدان فسيح على شفير وادي قناة قريباً من جبل عينين واحد ، وذلك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة 3 ه‍ .
ونقل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الجيش بنحو أسبوع ، فشكل دوريات عسكرية تحسباً للطواريء ، وحفظاً للمدينة ، فلما وصل الجيش استشار المسلمين حول خطة الدفاع ، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يتحصن المسلمون بالمدينة ، فيقاتل الرجال على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه رأس المنافقين عبد الله بن أبي وكأنه قصد الجلوس في البيت دون أن يتهم بالتخلف ، ولكن تحمس الشباب ، وألحوا على المجالدة بالسيوف في مكان مكشوف ، فقبل رأيهم ، وقسم الجيش إلى ثلاث كتائب ، كتيبة للمهاجرين ، وحمل لواءها مصعب بن عمير ، وأخرى للأوس ، وحمل لواءها أسيد بن حضير ، وثالثة للخزرج ، وحمل لواءها الحباب بن المنذر .
واتجه بعد صلاة العصر إلى جبل أحد فلما بلغ موضع الشيخين استعرض الجيش فرد الصغار ، وأجاز رافع بن خديج على صغره ، لأنه كان ماهراً في رمي السهام ، فقال سمرة بن جندب أنا أقوى منه ، أنا أصرعه فأمرهما بالمصارعة ، فصرع سمرة رافعاً فأجازه أيضاً .
وفي موضع الشيخين صلى المغرب والعشاء ، ثم بات هناك ، وعين خمسين رجلاً لحراسة المعسكر ، فلما كان في آخر الليل ارتحل قبل الفجر فصلاها بالشوط ، وهناك تمرد عبد الله بن أبي فرجع في ثلاثمائة من أصحابه ، وسرى لأجل ذلك الضعف والأضطراب في بني سلمة وبني حارثة ، وكادتا ترجعان ، ولكن ثبتهما الله ، وكان أولاً مجموع عدد المسلمين ألفاً فبقي سبعمائة .
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو جبل أحد من طريق قصير يترك العدو في جانب الغرب ، حتى نزل بالشعب عند منفذ الوادي ، جاعلاً ظهره إلى هضاب أحد ، وبذلك صار العدو حائلاً بين المسلمين وبين المدينة .
وهناك عبأ الجيش ، وعين خمسين رجلاً من الرماة على جبل عينين – وهو الذي يعرف بجبل الرماة – بقيادة عبد الله بن جبير الأنصاري ، وأمرهم أن يدفعوا الخيل ، ويحموا ظهور المسلمين ، وأكد لهم أن لا يتركوا مكانهم حتى يأتي أمره ، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا .
وعبأ المشركون جيشهم ، وتقدموا إلى ساحة القتال ، تحرضهم نسوتهم ، وهن يتجولن في الصفوف ، ويضربن بالدفوف ويثرن الأبطال ، وينشدن الأبيات :
إن تقبلـوا نعانـق ونفـرش النمـارق
أو تدبـروا نفـارق فـراق غير وامـق
ويذكرن أصحاب اللواء بواجبهم قائلات :
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار ضرباً بكل بتار
المبارزة والقتال :
وتقارب الجيشان فطلع طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين وأشجع فرسان قريش ، ودعا إلى المبارزة وهو على بعير ، فتقدم إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ، ووثب وثبة الليث حتى صار معه على جمله ، ثم أخذه واقتحم به الأرض وذبحه بسيفه فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون .
ثم انفجر القتال في كل نقطة وحاول خالد بن الوليد وهو على فرسان المشركين ثلاث مرات ليبلغ إلى ظهور امسلمين ، ولكن رشقه الرماة بسهامهم حتى ردوه .
وركز المسلمون هجومهم على حملة لواء المشركين حتى قتلوهم عن آخرهم وكانوا أحد عشر مقاتلاً فبقي اللواء ساقطاً ، وشدد المسلمون هجومهم على بقية النقاط حتى هدوا الصفوف هداً وحسوا المشركين حساً ، وأبلى أبو دجانة وحمزة رضي الله عنهما في ذلك بلاءً حسناً . وأثناء هذا التقدم والإنتصار قتل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه قتله وحشي بن حرب ، وكان عبداً حبشياً ماهراً في قذف الحربة ، وقد وعده مولاه جبير بن مطعم بالعتق إذا قتل حمزة ، لأن حمزة هو الذي قتل عمه طعيمة بن عدي في بدر ، فاختبأ وحشي وراء صخرة يرصد حمزة ، وبينما حمزة يضرب رأس سباع بن عرفطة – رجل من المشركين – صوب وحشي إليه الحربة ، وقذفها ، وهو على غرة ، فوقعت في أحشائه ، وخرجت من بين رجليه فسقط ولم يستطع النهوض حتى قضى نحبه رضي الله عنه .
ووقعت الهزيمة بالمشركين حتى لاذوا بالفرار ، وفرت النسوة المحرضات ، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ، ويأخذون الغنائم ، وحيئذ أخطأ الرماة ، فنـزل منهم أربعون رجلاً ليصيبوا من الغنيمة ، على رغم ما كان لهم من الأمر المؤكد بالبقاء في أماكنهم ، وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة ، فانقض على العشرة الباقية بجبل الرماة حتى قتلهم ، واستدار هذا الجبل حتى وصل إلى ظهور المسلمين وبدأ بتطويقهم ، وصاح فرسانه صيحة عرفها المشركون فانقلبوا ، ورفعت لواءهم أحدى نسائهم فالتفتوا حوله وثبتوا ، وبذلك وقع المسلمون بين شقي الرحى .
هجوم المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشاعة مقتله :
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤخرة المسلمين ، ومعه سبعة من الأنصار واثنان من المهاجرين ، فلما رأى فرسان خالد تطلع من وراء الجبل نادى أصحابه بأعلى صوت : إلي عباد الله ! وسمع صوته المشركون – ولعلهم كانوا اقرب إليه من المسلمين – فأسرعت مجموعة منهم نحو الصوت ، وهاجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم هجوماً شديداً ، وحاولت القضاء عليه قبل ان يصل إليه المسلمون ، فقال : صلى الله عليه وسلم : من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة ، فتقدم رجل من الأنصار فدفعهم ، وقاتلهم حتى قتل ، ثم رهقوه فأعاد قوله ، فتقدم رجل آخر فدفعهم وقاتلهم حتى قتل ، ثم ثالث ، ثم الرابع ، وهكذا حتى قتل السبعة .
ولما سقط السابع لم يبق حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرشيان طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ، فركز المشركون حملتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابته حجارة وقع لأجلها على شقه ، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وجرحت شفته السفلى وهشمت البيضة على رأسه ، فشجت جبهته ورأسه ، وضرب بالسيف على وجنته فدخلت فيها حلقتان من حلق المغفر ، وضرب أيضاً بالسيف على عاتقه ضربة عنيفة اشتكى لأجلها أكثر من شهر ، وكان قد لبس درعين فلم يتهتكا .
وقع كل هذا على رغم دفاع القرشيين الدفاع المستميت ، فقد رمى سعد بن أبي وقاص حتى نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال : ارم فداك أبي وأمي ، وقاتل طلحة بن عبيد الله وحده قتال مجموع من سبق ، حتى أصابه خمسة وثلاثون أو تسعة وثلاثون جرحاً ، ووقى بيده النبي صلى الله عليه وسلم فأصيبت أصابعه حتى شلت ، ولما أصيبت أصابعه قال : حس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون .
وخلال هذه الساعة الحرجة نزل جبريل وميكائيل فقاتلا عنه أشد قتال ، وفاء إليه صلى الله عليه وسلم عدد من المسلمين فدافعوا عنه أشد الدفاع ، وكان أولهم أبا بكر الصديق ، ومعه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما وتقدم أبوبكر لينـزع حلقة المغفر عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فألح عليه أبو عبيدة حتى نزعها هو ، فسقطت إحدى ثنيتيه ، ثم نزع الحلقة الأخرىفسقطت الثنيةالأخرى ، ثم أقبلا على طلحة بن عبيد الله فعالجاه وهو جريح . وأثناء ذلك وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة ومصعب بن عمير وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهم ، وتضاعف عدد المشركين أيضاً ، واشتدت هجماتهم ، وقام المسلمون ببطولات نادرة ، فمنهم من يرمي ،ومنهم من يدافع ، ومنهم من يقاتل ، ومنهم من يقي السهام على جسده .
وكان اللواء بيد مصعب بن عمير ، فضربوا على يده اليمنى حتى قطعت ، فأخذه بيده اليسرى ، فضربوا عليها حتى قطعت ، فبرك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله عبد الله بن قمئة، فلما قتله ظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مصعب كان يشبهه صلى الله عليه وسلم فانصرف ابن قمئة وصاح : إن محمداً قد قتل ، وشاع الخبر بسرعة ، وبإشاعته تخفف هجوم المشركين ، إذ ظنوا أنهم أصابوا الهدف ، وبلغوا ما أرادوا .
موقف عامة المسلمين بعد التطويق :
ولما رأى المسلمون بداية عملية التطويق تشتتوا وارتبكوا ، ولم يصلوا إلى موقف موحد ، فمنهم من فر إلى الجنوب حتى بلغ المدينة المنورة ، ومنهم من فر إلى شعب أحد ولاذ بالمعسكر ، ومنهم من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرع إليه فدافع عنه كما تقدم ، وبقي معظم المسلمين في دائرة التطويق ، ثابتين في أماكنهم ، يدفعون المطوقين ويقاتلونهم ،وحيث لم يكن بينهم من يقودهم بنظام فقد حصل في صفوفهم خبط وإرباك ، رجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، حتى قتل اليمان والد حذيفة بأيدي المسلمين أنفسهم ، فلما سمعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم طار صواب طائفة منهم ، وخارت عزائمهم ، واستكانوا ، حتى تركوا القتال وتشجع آخرون وقالوا : موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبينما هم كذلك إذ رأى كعب بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشق الطريق إليهم ، فعرفه بعينه ، إذ كان وجهه تحت حلق المغفر والبيضة ، فنادى كعب بصوت عال : يا معشر المسلمين !! أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ المسلمون يرجعون إليه ، حتى تجمع حوله ثلاثون رجلاً من أصحابه ، فشق بهم الطريق بين المشركين ، ونجح في إنقاذ جيشه المطوق ، وسحبه إلى شعب الجبل ، وقد حاول المشركون عرقلة هذا الإنسحاب ، ولكنهم فشلوا تماماً وقتل منهم اثنان أثناء هذه المحاولة .
وبهذه الخطة الحكيمة نجا المسلمون ، ولكن بعد أن دفعوا الثمن غالياً لما ارتكبه الرماة من الخطأ ومخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في الشعب :
وبعدما خرج المسلمون من دائرة التطويق ، ونجحوا في التمكن من الشعب حصل بينهم وبين المشركين بعض المناوشات الخفيفة الفردية ، ولم يجترىء المشركون على التقدم والمواجهة العامة ، وإنما بقوا في الساحة قليلاً ، مثلوا خلاله القتلى ، فقطعوا آذانهم وأنوفهم وفروجهم ، وبقروا بطونهم ، وبقرت هند بنت عتبة عن بطن حمزة حتى أخرجت كبده ، ولا كتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف قلائد وخلاخيل .
وجاء أبي بن خلف متغطرساً إلى الشعب يزعم انه يقتل رسول الله صلى اتلله عليه وسلم ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في ترقوته ، في فرجة بين الدرع والبيضة ، فتدحرج عن فرسه مرمراً ، ورجع إلى قريش وهو يخور خوار الثور ، فلما بلغ سرف – قريباً من مكة – مات لأجله .
ثم جاء رجال من المشركين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ، وعلوا في بعض جوانب الجبل ، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ، وتفيد بعض الروايات أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قتل ثلاثة منهم .
وبلغ عدد قتلى المشركين اثنين وعشرين وقيل : سبعة وثلاثين ،أما المسلمون فقد قتل منهم سبعون : 41 من الخزرج ، و24 من الأوس ، و4 من المهاجرين ، وواحد من اليهود ، وقيل غير ذلك .
وبعد المحاولة الأخيرة الفاشلة من أبي سفيان وخالد بن الوليد أخذ المشركون يستعدون للعودة إلى مكة .
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما تمكن من الشعب واطمأن فيه، جاءه علي رضي الله عنه ، بماء من المهراس وهو ماء بأحد ليشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد له ريحاً فلم يشرب منه ، بل غسل به الوجه ، وصبه على الرأس ، فأخذ الدم ينزف من الجرح ، ولا ينقطع، فأحرقت فاطمة رضي الله عنها قطعة من حصير ، وألصقته ، فاستمسك الدم ، وجاء محمد بن مسلمة بماء سائغ فشرب منه ، ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً ، وصلى المسلمون معه قعود اً .
وجاءت نسوة من المهاجرين والأنصار ، فيهن عائشة ، وأم أيمن ، وام سليم ، وأم سليط ، فكن يملأن القرب بالماء ويسقين الجرحى ، رضي الله عنهن أجمعين .
حوار وقرار :
ولما استعد المشركون للرجوع تماماً أشرف أبو سفيان على الجبل ، ونادى : أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نهاهم عن الإجابة ، فقال أبو سفيان : أما ههؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ! إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك .
فقال أبو سفيان : قد كان فيكم مثلة ، لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم قال : اعل هبل ، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الجواب ، فأجابوه الله أعلى وأجل .
ثم قال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم .
فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الجواب فأجابوه : الله مولانا ولا مولى لكم .
ثم قال أبو سفيان : أنعمت فعال ، يوم بيوم بدر ، والحرب سجال .
فقال عمر رضي الله عنه : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار .
قال أبو سفيان : إنكم لتزعمون ذلك ، لقد خبنا إذن وخسرنا .
ثم دعاه أبو سفيان وقال : أنشدك الله ياعمر ! أقتلنا محمداً ؟
قال عمر رضي الله عنه : لا وإنه ليسمع كلامك الآن .
قال : أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر .
ثم نادى أبو سفيان : إن موعدكم بدر العام القابل . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه أن يقول : نعم هو بيننا وبينك موعد .
رجوع المشركين وقيام المسلمين بتفقد الجرحى ودفن الشهداء :
ثم رجع أبو سفيان إلى الحبشة ، وأخذ الجيش في الإرتحال ، وقد ركب الإبل وجعل الخيل بالجنب ، وكان هذا دليل قصدهم لمكة وكان من فضل الله على المسلمين ، إذ لم يكن بين المشركين وبين المدينة من يمنعهم عن الدخول فيها ، ولكن صرفهم الله الذي يحول بين المرء وقلبه .
فنزل المسلمون إلى ساحة القتال يتفقدون الجرحى والقتلى ، وقد نقل بعضهم بعض الشهداء إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بردهم إلى مضاجعهم ، ودفنهم في ثيابهم ، بغير غسل ولا صلاة ، وقد دفن الإثنين والثلاثة في قبر واحد ، وربما جمع الرجلين في ثوب واحد ، وجعل بينهما الإذخر ، وقدم في اللحد من كان أكثر حفظاً للقرآن ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة .
ووجدوا نعش حنظلة بن أبي عامر في ناحية فوق الأرض ، يقطر منه الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الملائكة تغسله ، وكان من قصته أنه كان حديثعهد بعرس ، وكان معها إذ سمع المنادي ينادي للحرب ، فتركها وخرج إلى ساحة القتال ، وقاتل حتى قتل ، وهو جنب ، فغسلته الملائكة ، فسمي غسيل الملائكة .
وكفن حمزة في برد إن غطى رأسه بدت رجلاه ، وإن غطى رجلاه بدا رأسه فجعلوا على رجليه الإذخر ، وكذلك مصعب بن عمير .
إلى المدينة وفي المدينة :
ولما فرغ رسول اله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من دفن الشهداء ، والدعاء لهم ، رجعوا إلى المدينة ، وقد خرجت نسوة قتل أقاربهن ، فلقين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق ،فعزاهن ودعا لهن ، وجاءت امرأة من بني دينار قتل زوجها وأخوها وأبوها ، فلما نعوا لها سألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها : إنه بحمد الله كما تحبين ، فقالت أرونيه ، فأشاروا لها ، فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل : أي صغيرة .
وبات المسلمون في حالة الطوارىء ، يحرسون المدينة ، ويحرسونه رسول الله صلى ، وهم منهكون من الجرح والتعب ، والألم ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من متابعة حركات العدو حتى يناجزه في الميدان لو حاول العودة إلى المدينة .
غزوة حمراء الأسد :
فلما أصبح نادى في المسلمين ان يخرجوا للقاء العدو ، ولا يخرج إلا من شهد القتال بأحد ، فقالوا : سمعاً وطاعة ، وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة ، وعسكروا هناك .
أما المشركون فكانوا نازلين بالروحاء ، على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة ، يفكرون ويتشاورون في العودة إليها ، ويتأسفون على ما فاتهم من الفرصة الصالحة .
وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي من المناصحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه بحمراء الأسد وعزاه على ما أصابه في أحد فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان ويخذله ، فلحقهم بالروحاء ، وقد أجمعوا ليعودوا إلى المدينة ، فخوفهم أشد التخويف ، وقال : وقال : إن محمداً خرج في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، ولا أرى أن ترتحلوا حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة .
فلما سمعوا هذا خارت عزائمهم ، وانهارت معنوياتهم ، واكتفى أبو سفيان بحرب أعصاب دعائية ، إذ كلف من يقول للمسلمين : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) حتى لا يطاره المسلمون ، وعجل الإرتحال إلى مكة .
أما المسلمون فلم يؤثر فيهم هذا الإنذار ، بل : ( زادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) وبقوا في حمراء الأسد إلى يوم الأربعاء ، ثم رجعوا إلى المدينة : ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) .

عمروعبده
30-11-2010, 03:32 PM
غزوة بدر الكبرى

وهي أول معركة فاصلة بين قريش والمسلمين ، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمرصاد للعير التي فاتته إلى الشام حينما خرج إلى ذي العشيرة ، وأرسل لها رجلين إلى الحوراء من أرض الشام ليأتيا بخبرها ، فلما مرت بهما العير أسرعا إلى المدينة ، فندب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، ولم يعزم عليهم الخروج ، فانتدب 313 رجلاً – وقيل 314 وقيل 317 – أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس ، و170 من الخزرج ، ولم يتخذ هؤلاء أهبتهم الكاملة ، فلم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً فقط .
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض دفعه لمصعب بن عمير ، وكان للمهاجرين علم يحمله علي بن أبي طالب ، وللأنصار علم يحمله سعد بن معاذ ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ثم أرسل مكانه من الروحاء أبا لبابة بن عبد المنذر .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يريد بدراً وهو موضع على بعد 155 كيلو متراً جنوب غربي المدينة تحيط به جبال شواهق من كل جانب ، وليس فيه إلا ثلاثة منافذ ، منفذ في الجنوب ، وهو العدوة القصوى ، ومنفذ في الشمال وهو العدوة الدنيا ، ومنفذ في الشرق قريباً من منفذ الشمال يدخل منه أهل المدينة ، وكان طريق القوافل الرئيسي بين مكة والشام يمر من داخل هذا المحيط ، وكان فيه المساكن والآبار والنخيل فكانت تنـزل القوافل ، وتقيم فيه ساعات وأياماً ، فكان من السهل جداً أن يسد المسلمون هذه المنافذ بعد ما تنـزل العير في هذا المحيط ، فتضطر إلى الإستسلام ، ولكن من لوازم هذا التدبير أن لا يشعر أهل العير بخروج المسلمين إطلاقاً ، حتى ينـزلوا ببدر على غرة ، ولذلك سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما سلك طريقاً آخر غير طريق بدر ثم تأنى في التقدم إلى جهة بدر .
أما العير فكان قوامها ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ، وكان رئيسها أبا سفيان ومعه نحو أربعين رجلاً فقط ، وكان أبو سفيان في غاية التيقظ والحذر ، يسأل كل غاد ورائح عن تحركات المسلمين ، حتى علم بخروج المسلمين من المدينة ، وهو على بعد غير قليل من بدر ، فحول اتجاه العير إلى الغرب ليسلك طريق الساحل ، ويترك طريق بدر إطلاقاً ، واستأجر رجلاً يخبر أهل مكة بخروج المسلمين بأسرع ما يمكن ، فلما بلغهم النذير استعدوا سراعاً وأوعبوا في الخروج ، فلم يتخلف من كبرائهم إلا أبو لهب وحشدوا من حولهم من القبائل ولم يتخلف من بطون قريش إلا بني عدي .
ولما وصل هذا الجيش إلى الجحفة بلغتهم رسالة أبي سفيان يخبرهم بنجاته ويطلب منهم العودة إلى مكة وهم الناس بالرجوع ولكن أبى ذلك أبو جهل استكباراً ونخوة ، فلم يرجع إلا بنو زهرة ، أشار عليهم بذلك حليفهم ورئيسهم الأخنس بن شريق الثقفي ، وكانوا ثلاثمائة ، أما البقية ، وهم ألف ، فواصلوا سيرهم حتى نزلوا قريباً من العدوى القصوى ، خارج بدر ، في ميدان فسيح ، وراء الجبال المحيطة ببدر .
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد علم بخروج أهل مكة ، وهو في الطريق ، فاستشار المسلمين ، فقام أبو بكر فتكلم وأحسن ، ثم قام عمر فتكلم وأحسن ، ثم قام المقداد فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك ، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر بذلك .
ثم قال : أشيروا علي أيها المسلمون فقام سعد بن معاذ رئيس الأنصار وقال : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، وقال فيما قال : والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لتبعناك فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم .
ثم تقدم إلى بدر فوصلها في نفس الليلة التي وصل فيها المشركون فنـزل في داخل ميدان بدر قريباً من العدوة الدنيا ، فأشار عليه الحباب بن المنذر أن يتقدم فينـزل على أقرب ماء من العدو حتى يصنع المسلمون حياضاً يجمعون فيها الماء لأنفسهم ، ويغورون الآبار فيبقى العدو ولا ماء له ، ففعل .
وبنى المسلمون عريشاً يكون مقر قيادته صلى الله عليه وسلم وعينوا له حراساً من شباب الأنصار تحت قيادة سعد بن معاذ .
ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش وتجول في ميدان القتال وهو يشير بيده ويقول : ( هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، غداً إن شاء الله ) . ثم بات يصلي إلى جذع شجرة ، وبات المسلمون مستريحين تغمرهم الثقة ، وكان الله قد أنزل المطر كما قال : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) .
وفي الصباح وهو صباح يوم الجمعة 17 من شهر رمضان سنة 2 ه‍ تراآى الجمعان ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هذه قريش ، قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم احنهم الغداة ) . ثم عدل الصفوف ، وأمرهم أن لا يبدؤوا بالقتال حتى يأتيهم أمره . وقال : إذا أكثبوكم – أي اقتربوا منكم – فارموهم ، واستبقوا نبلكم ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ، . ثم رجع إلى العريش ومعه أبو بكر رضي الله عنه فابتهل إلى الله سبحانه وتعالى ودعاه ،وناشده حتى قال : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد أبداً . اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ) وبالغ في التضرع والإبتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فرده عليه الصديق وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك .
أما المشركون فاستفتح منهم أبو جهل فقال :" اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه فاحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم .
المبارزة والقتال :
ثم تقدم ثلاثة من خيرة فرسان المشركين : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وبارزوا المسلمين فخرج ثلاثة من شباب الأنصار ، فقال المشركون : نريد بني عمنا ، فخرج عبيدة بن الحارث ، وحمزة ، وعلي فقتل حمزة شيبة وقتل علي الوليد واختلفت ضربتان بين عبيدة وعتبة وأثخن كل واحد منهما الآخر ، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ، فمات بعد أربعة أو خمسة أيام بالصفراء راجعاً إلى المدينة .
واستاء المشركون بنتيجة المبارزة ، واستشاطوا غضباً ، فهجموا على صفوف المسلمين بعنف ، وشدوا عليهم شدة رجل واحد ، والمسلمون ثابتون في أماكنهم يدافعون عن أنفسهم ، ويقولون أحد . أحد .
وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، ثم رفع رأسه وقال : أبشر أبا بكر . أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النقع – أي على أطرافه الغبار – وكان الله قد أمد المسلمين يومئذ بألف من الملائكة مردفين .
ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدروع ويتلو قوله تعالى : ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) وأخذ حفنة من الحصباء ورمى بها وجوه المشركين ، وهو يقول : شاهت الوجوه . فما من مشرك إلا وأصاب عينيه ومنخريه من تلك الحفنة ، وعن ذلك يقول الله تعالى : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجوم على المشركين ، وقال : شدوا . وحرضهم على القتال ، فشد المسلمون وهم على نشاطهم ، وقد زادهم تحمساً وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين أظهرهم يقاتل قدامهم ، فأخذوا يقلبون الصفوف ، ويقطعون الأعناق ، ونصرهم الملائكة فكانوا يضربون فوق أعناق المشركين ، ويضربون منهم كل بنان ، فكان يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه ، وتندر يد الرجل لا يدرى من قطعها ، حتى نزلت الهزيمة بالمشركين فلاذوا بالفرار ، وأخذ المسلمون يطاردونهم فيقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً .
وكان إبليس قد حضر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم تأييداً للمشركين ، وتحريضاً لهم على قتال المسلمين ، فلما رأى الملائكة وما يفعلون نكص على عقبيه وفر إلى البحر الأحمر وألقى نفسه فيه .
مقتل أبي جهل :
وكان أبو جهل في عصابة جعلت سيوفها ورماحها حوله مثل السياج ، وكان في صفوف المسلمين حول عبد الرحمن بن عوف شابان من الأنصار لم يأمن عبد الرحمن مكانهما ، إذ قال له أحدهما سراً من صاحبه : يا عم أرني أبا جهل قال : وما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، وقال الآخر : مثل ذلك ، فلما تصدعت الصفوف رآه عبد الرحمن يتجول فأراهما فابتدراه بالسيف حتى قتلاه . ضرب أحدهما ساقه فطاحت رجله كما تطير النوى حين تدق ، وأثخنه الآخر حتى تركه وبه رمق ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كل منهما : أنا قتلته فنظر إلى السيفين وقال : كلاكما قتله ، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء ، وقد استشهد معوذ في نفس الغزوة ، وبقي معاذ إلى زمن عثمان ،وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلب أبي جهل .
وبعد انتهاء المعركة خرج الناس في طلبه ، فوجده عبد الله بن مسعود وبه رمق ، فوضع رجله على عنقه وأخذ بلحيته ليحتز رأسه وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ هل فوق رجل قتلتموه ؟ فلو غير أكار قتلني ، ثم قال : أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال لله ولرسوله ، قال أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم ! وقطع عبد الله بن مسعود رأسه ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وقال : هذا فرعون هذه الأمة .
يوم الفرقان :
كانت هذه المعركة معركة بين الكفر والإيمان ، قاتل فيها الرجل عمه وأباه ، وابنه وأخاه ، وخاله وأدناه ، قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام ، وواجه فيها أبو بكر ابنه عبد الرحمن ، وأسر فيها المسلمون العباس ، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا انقطعت فيها صلة القرابة وأعلى الله فيها كلمة الإيمان على كلمة الكفر ، وفرق بين الحق والباطل ، فسمى ذلك اليوم بيوم الفرقان ، وهو يوم بدر ، اليوم السابع عشر من شهر رمضان .
قتلى الفريقين :
قتل في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً من المسلمين ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، ودفنوا في ساحة بدر ومقابرهم لا تزال معروفة .
أما المشركون فقتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، ومعظمهم كانوا من الصناديد ، وقد سحبت جثث أربع وعشرين من صناديدهم وقذفت في قليب – بئر – خبيث مخبث في بدر .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام ، فلما استعد للرجوع جاء القليب وقام على شفته ، وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ! ويا فلان بن فلان ! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟
فقال له عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها . قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكن لا يجيبون .
خبر المعركة في مكة والمدينة :

وصل نبأ الهزيمة إلى مكة بفلول المشركين ، فكبتهم الله وأخزاهم ، حتى نهوا عن النياحة على القتلى ، كيلا يشمت بهم المسلمون ، وكان الأسود بن المطلب قتل له ثلاثة بنين ، فكان يحب أن ينوح ، فسمع ليلاً صوت نائحة ، فظن الإذن ، وبعث غلامه ، فجاء وأ خبر أنها تبكي على بعير أضلته ، فلم يتمالك أن قال :
أتبكـي أن يضـل لهـا بعيـر ويمنعهـا من النـوم السهـود
فلا تبكـي على بكـر ولكـن على بـدر تقاصـرت الجـدود
وذلك في أبيات ندب فيها أبناءه :
أما أهل المدينة فقد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين : عبد الله بن رواحة إلى العالية ، وزيد بن حارثة إلى السافلة ، وكان اليهود قد أرجفوا في المدينة بدعايات كاذبة ، فلما وصل نبأ الفتح عمت الفرحة والسرور ، واهتزت المدينة تهليلاً وتكبيراً ، وتقدم رؤوس المسلمين إلى طريق بدر يهنئون رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة :
وتقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة متوجاً بنصر الله ، ومعه الغنائم والأسارى ، فلما وصل قريباً من الصفراء نزل حكم الغنيمة ، فأخذ منها الخمس ، وقسمها سوياً بين الغزاة ، فلما حل بالصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ، فضرب عنقه علي بن أبي طالب ، ولما حل بعرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، فقتله عاصم بن ثابت الأنصاري ، وقيل علي بن أبي طالب ،
أما رؤوس المسلمين الذين خرجوا لتهنئته فلقوه صلى الله عليه وسلم بالروحاء ثم رافقوه يشيعونه إلى المدينة ، فدخل فيها مظفراً منصوراً قد خافه كل عدو ، وأسلم بشر كثير وتظاهر عبد الله بن أبي وزملاؤه بالإسلام .
قضية الأسارى :
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار في الأسارى ، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم
وأشار عمر بقتلهم ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية ، وكانت من أربعة إلى ثلاثة آلاف إلى ألف درهم ، ومن كان منهم يقرأ ويكتب فجعل فديته أن يعلم عشرة غلمان من المسلمين ، وأحسن إلى بعض الأسارى فأطلقهم بغير فدية .
وبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بمال فيه قلادة لها ، كانت عند خديخة فأدخلتها بها على أبي العاص ، فلما رأها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة ، فاستأذن الصحابة في إطلاقه بغير فدية ، ففعلوا ، فأطلقه بعد أن اشترط عليه أن يخلي سبيل زينب ، فخلاها فهاجرت إلى المدينة .
وفاة ابنته صلى الله عليه وسلم رقية وزواج ابنته أم كلثوم بعثمان :

وكانت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم مريضة حين خرج لغزوة بدر ، وكانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه فأمره أن يتخلف عليها ليمرضها ، وله أجر من حضر بدراً ونصيبه ، وخلف عليها أيضاً أسامة بن زيد ، فتوفيت قبل رجوعه صلى الله عليه وسلم قال أسامة : أتانا الخبر – أي بشارة الفتح – حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واطمأن بها زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه ابنته الأخرى : أم كلثوم ، فلذلك سمى عثمان رضي الله عنه بذي النورين ، وقد بقيت معه حتى توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة ، ودفنت بالبقيع .
ساء المشركون ومن معهم ما أكرم الله به على المسلمين من النصر والفتح ، فأخذوا يدبرون مكائد يضرون بها المسلمين ، وينتقمون منهم ، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وأيد المؤمنين بفضله .
تحشد بنو سليم لغزو المدينة بعد أسبوع من رجوع المسلمين من غزوة بدر ، أو في المحرم سنة 3 ه‍ فدهمهم المسلمون في منازلهم ، وأصابوا غنائم ، ورجعوا إلى المدينة سالمين ، ثم تآمر عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عمير لذلك إلى المدينة ، فألقى عليه القبض وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما تآمر عليه فأسلم .
غزوة بني قينقاع :
ثم كاشف يهود بني قينقاع بالشر والعداوة ، فنصحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجواب ، فازدادت جرأتهم ، حتى أثاروا في سوقهم فتنة قتل فيها رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 ه‍ ، واستسلموا بعد خمسة عشر يوماً لهلال ذي القعدة ، فأجلاهم إلى أذرعات الشام ، حيث مات أكثرهم بعد قليل .
غزوة السويق :
ونذر أبو سفيان بعد غزوة بدر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم فخرج في مائتي راكب ، وأغار بالعريض في ناحية المدينة ، فقطعوا أسواراً من النخيل ، وأحرقوها ، وقتلوا رجلين وفروا .
وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطارهم ، ولكنهم أفلتوا ، وطرحوا أثناء فرارهم كثيراً من السويق والأزواد ليتخففوا ، وبلغ المسلمون في مطاردتهم إلى قرقرة الكدر ، ولكنهم فاتوا ، وحمل المسلمون السويق ، فسميت بغزوة السويق وبغزوة قرقرة الكدر .
قتل كعب بن الأشرف :

كان كعب من أثرياء اليهود وشعرائهم ومن أشد أعداء المسلمين فكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويشبب بنسائهم ، ويمدح أعداءهم ويحرضهم عليهم ، ونزل بعد بدر على قريش ، فأغراهم على حرب المسلمين ، وأنشد لهم في ذلك أبياتاً ، وقال : أنتم أهدى منهم سبيلاً ، ولم يعتبر بما حل ببني قينقاع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف ؟ فانتدب له محمد بن مسلمة وعبادبن بشروأبو نائلةوالحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر ، وأميرهم محمد بن مسلمة ، وقد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول شيئاً .
ثم أتى كعباً وقال : إن هذا الرجل – إشارة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم قد سألنا صدقة ، وإنه قد عنانا ، أي أوقعنا في المشقة والعناء .
فاستبشر كعب وقال : والله لتملنه ، فاستقرضه محمد بن مسلمة طعاماً أو تمراً ، واتفق معه على أنه يرهنه السلاح .
وجاءه أبو نائلة فتحاور معه بمثل حوار محمد بن مسلمة ، وقال : إن معي أصحاباً على مثل رأيي أريد أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم فقبل ذلك منه .
وفي الليلة الرابعة عشرة من شهر ربيع الأول سنة 3 ه‍ جاءه المذكورون ومعهم السلاح ، فنادوه فقام لينـزل ، وكان في حصنه ، وكان حديث عهد بعرس ، فقالت له زوجته : أين تخرج هذه الساعة ؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم ، فلم يبال بقولها، ولما نزل ورأى السلاح لم يستنكر، لما سبق بينهم وبينه من العهد .
وأخذوا يمشون ليتنـزهوا ، ومدح أبو نائلة رائحة عطره ، واستأذنه ليشم رأسه . فأذن له في زهو وخيلاء ، فشمه وأدخل فيه يده وأشم أصحابه ، ثم استأذنه ثانياً وفعل مثل ما فعل ، ثم ثالثاً أيضاً ، فلما استمكن من رأسه في المرة الثالثة قال : دونكم عدو الله فاختلفت عليه الأسياف دون جدوى ، فوضع ابنمسلمة معولاً في ثنيته ، وتحامل عليه حتى بلغ العانة ، فصاح صيحة أفزعت من حوله ، وسقط قتيلاً ، وأوقدت النيران على الحصون ، ولكن رجع المسلمون بسلام ، وقد خمدت نار الفتنة التي طالما أقلقت المسلمين ، وكمنت أفاعي اليهود في أجحارهم لفترة من الزمان .
سرية القردة :
وفي جمادي الآخرة سنة 3 ه‍ أرسلت قريش عيراً لهم إلى الشام عن طريق العراق ، لتخترق نجداً إلى الشام ، ولا تمر بقرب المدينة ، وكان يقودها صفوان بن أمية ، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب ، فدهمها زيد وهي تنـزل على ماء في نجد يسمى بقردة ، فاستولى على العير بكل ما فيها ، وفر رجال العير بأجمعهم ، وأسر الدليل فرات بن حيان فأسلم ، وقدرت الغنيمة بمائة ألف وكانت أوجع ضربة تلقتها قريش بعد غزوة بدر .

عمروعبده
30-11-2010, 03:33 PM
قريش في دار الندوة وقرارهم بقتل النبي صل الله عليه وسلم
وجن جنون قريش لما رأوا أن المسلمين وجدوا دار حفظ ومنعة ، ورأوا في هجرتهم واجتماعهم بالمدينة خطراً على دينهم وكيانهم وتجارتهم ، فاجتمعوا في دار الندوة صباح يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة ، ليدرسوا خطة تفيد التخلص من هذا الخطر ، خاصة وأن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم لا يزال في مكة ، ويخشى أن يخرج منها في عشية أو ضحاها ، وقد حضر الإجتماع وجوه بارزة من سادات قريش ، وحضره أيضاً إبليس في صورة شيخ جليل من أهل نجد بعد أن استأذنهم .
وطرحت القضية على المجتمعين ، فقال أبو الأسود نخرجه من أرضنا ، ونصلح أمرنا ، ولا نبالي أين ذهب .
قال الشيخ النجدي : إنكم ترون حسن حديثه ، وحلاوة منطقه ، وغلبته على قلوب الرجال ، فإذا خرج فلا غرو أن يحل على حي من العرب فتجتمع حوله الجموع ، فيطأكم بهم في بلادكم ، ثم يفعل بكم ما أراد ، رؤافيه رأياً غير هذا .
قال أبو البختري : احبسوه وأغلقوا عليه الباب ، حتى يدركه ما أدركه الشعراء قبله من الموت .
قال الشيخ النجدي : والله لئن حبستموه ليخرجن أمره إلى أصحابه ، وهم يفضلونه على الآباء والأبناء ، فأوشكوا أن يثبوا عليكم ، وينـزعزه منكم ، ثم يكاثروكم به ، حتى يغلبوا على أمركم ، فانظروا في غير هذا الرأي .
قال الطاغية أبو جهل : إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد ، نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ، ونعطي كلاً منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه ويضربوه ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ، فيتفرق دمه فيب القبائل ، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم ، فيرضون بالدية فنعطيعا لهم .
قال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي الذي لا رأي غيره .
وأقر المجتمعون هذا الرأي ، وانفضوا ،وأخذوا يستعدون ويرتبون أنفسهم لتنفيذ هذا القرار .

عمروعبده
30-11-2010, 03:34 PM
لحوق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم
وهجرة أهل البيت والمستضعفين

هجرة علي ولحوقه برسول الله صلى الله عليه وسلم :

ومكث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ، وأدى ودائع كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة ، ثم خرج ماشياً على قدميه حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ، ونزل على كلثوم بن الهدم
هجرة أهل البيت :
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ، فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتي النبي صلى الله عليه وسلم وبأم المؤمنين سودة وأم أيمن وأسامة بن زيد ، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر : أم رومان ، وأسماء ، وعائشة ، رضي الله عنهم أجمعين وذلك بعد ستة أشهر من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هجرة صهيب :
وهاجر صهيب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أراد الهجرة حجزه المشركون ، فتخلى عن أمواله لهم – وكانت كثيرة – فخلوا سبيله ، فلما وصل المدينة ، وقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصته قال : ربح البيع أبا يحيى ! وأبو يحيى كنية صهيب رضي الله عنه .
المستضعفون :
وحبس المشركون بعض المسلمين عن الهجرة ، وعذبوهم وفتنوهم عن دينهم ، منهم الوليد بن الوليدوعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم في الصلوات ، ويدعو على من حبسهم من كفار قريش ، وهذا أصل القنوت ، وبعد حين قام بعض المسلمون بعمل بطولي جريء ، أخرجهم بذلك من قيد الكفار ، فهاجروا إلى المدينة .
مناخ المدينة :
ولما نزل المهاجرون بالمدينة أصابهم هم وحزن ، لفراقهم أرضهم وديارهم التي نشأوا بها وترعرعوا فيها فأخذوا يذكرون تلك الأرض ويحنون إليها ، وزاد ذلك شدة أن المدينة كانت من أوبأ أرض الله ، فلما نزلوا بها أصابتهم حمى وأنواع من المرض ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل وقال : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها ، وبارك في صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ) وأجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم فاستراح المسلمون من الأمراض ، وأحبوا المدينة .

عمروعبده
30-11-2010, 03:36 PM
مساومات وتنازلات
ولما فشل المشركون في هذا الإغراء والترغيب ، فكروا في المساومة في الدين ، فقالوا له : صلى الله عليه وسلم : نعرض عليك خصلة واحدة لك فيها صلاح .
قال : ( وما هي ) ؟ .
قالوا : تعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة ، فإن كنا على الحق أخذت منه حظاً ، وإن كنت على الحق أخذنا منه حظاً ، فأنزل الله تعالى : ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) إلى آخر السورة وأنزل : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) وأنزل أيضاً : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) .
وكان المشركون حريصين على حسم الخلاف ، آملين ما رجاه عتبة بن ربيعة ، فأبدوا مزيداً من التنازل ، ومالوا إلى قبول ما يعرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اشترطوا بعض التعديل والتبديل فيما أوحى إليه ، فقالوا : ( ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) فأمره الله تعالى : ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ونبهه الله على عظم هذا ، فقال وهو يذكر بعض ما دار في خلد النبي صلى الله عليه وسلم من الخواطر حول ذلك : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً ) وبهذه المواقف الصارمة تبين للمشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم قائم بالدعوة إلى الدين ، وليس بتاجر حتى يقبل المساومة أو التنازل في الثمن . فأرادوا التأكد من ذلك عن طريق أخرى ، فأرسلوا إلى يهود يسألونهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لهم أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث ، فإن أخبر فهو نبي مرسل ، وإلا فهو متقول . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإن لهم حديثاً عجباً ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟
فسألت عظماء قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . فنـزلت سورة الكهف فيها قصة أولئك الفتية ، وهم أصحاب الكهف ، وقصة ذلك الرجل الطواف ، وهو ذو القرنين . ونزل في سورة الإسراء الرد على سؤالهم عن الروح ، وهو قوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) .
وكان هذا الإختبار يكفي لاقناع قريش بأن محمدأ صلى الله عليه وسلم رسول حقاً ، لو أرادوا الحق ، ولكن أبى الظالمون إلا كفوراً
وكأنهم لما اتضحت لهم الحقائق ، وتبين لهم الحق ، أبدوا بعض المرونة ، فقد أبدوا استعدادهم لاستماع ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم علهم يستجيبون ويقبلون ، ولكن اشترطوا أن يخصص لهم مجلس لا يحضره ضعفاء المسلمين ، وهم العبيد والمساكين الذين سبقوا إلى الإسلام ، وذلك لأن هؤلاء الكفار الذين طالبوا بذلك كانوا سادات مكة وأشرافها ، فأبوا واستنكفوا أن يجلسوا مع هؤلاء المساكين الذين كانوا أصحاب الإيمان والتقوى .
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في استجابة مطلبهم هذا بعض الرغبة رجاء أن يؤمنوا به ، فنهاه الله عن ذلك ، وأنزل قوله : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) .

عمروعبده
30-11-2010, 03:37 PM
مقدمات النبوة
مقدمات النبوة وتباشير السعادة :

وبما تقدم ذكره اتسعت الشقة الفكرية والعملية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومه ، وطفق يقلق مما يراهم عليه من الشقاوة والفساد ، ويرغب في الاعتزال عنهم والخلوة بنفسه مع تفكيره في سبيل ينجيهم من التعاسة والبوار .
واشتد هذا القلق ، وقويت هذه الرغبة مع تقدم السن حتى كان حادياً يحدوه إلى الخلوة و الانقطاع ، فأخذ يخلو بغار حراء ، يتعبد الله فيه على بقايا دين إبراهيم عليه السلام وذلك من كل سنة شهراً ، وهو شهر رمضان ، فإذا قضى جواره بتمام هذا الشهر انصرف إلى مكة صباحاً ، فيطوف بالبيت ، ثم يعود إلى داره ، وقد تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات .
فلما تكامل له أربعون سنة وهي سن الكمال ، ولها بعثت الرسل غالباً ، بدأت طلائع النبوة وتباشير السعادة في الظهور ، فكان يرى رؤيا صالحة تقع كما يرى ، وكان يرى الضوء ويسمع الصوت ، وقال : ( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ) .

بداية النبوة ونزول الوحي :
فلما كان في رمضان من السنة الحادية والأربعين وهو معتكف بغار حراء ، يذكر الله ويتعبده ، فجئه جبريل ، عليه السلام بالنبوة والوحي ، ولنستمع إلى عائشة رضي الله عنها تروي لنا هذه القصة بتفاصيلها ، قالت عائشة رضي الله عنها :
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث – أي يتعبد – فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينـزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقاريء..
قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقاريء . فأخذني ، فغطني الثالثة . ثم أرسلني فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم )
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال : زملوني ، زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، ابن عم خديجة ، وكان امرأً تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً قد عمي .
فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى . يا ليتني فيها جزعاً – أي قوياً جلداً – ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .
ثم لم يلبث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي .

عمروعبده
30-11-2010, 03:38 PM
موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له من الشهامة والشرف والوقار ما وقاه الله به كثيراًمن اعتداءات الناس ، وقد كان يحوطه ويمنعه أبو طالب ، وكان سيداً مطاعاً معظماً في قريش ، لا يستهان بذمته ولا تخفر ، كان من ذروة بني عبد مناف ، ولم تعرف لها قريش بل العرب إلا الإجلال والتكريم ، فاضطر المشركون بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ خطوات سلمية ، واختاروا سبيل المفاوضات مع عمه أبي طالب ، ولكن مع نوع من أسلوب القسوة والتحدي .
بين قريش وأبي طالب :
فقد مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، وقالوا له : إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ،وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه . فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو إليه .
إنذار قريش وتحديهم لأبي طالب :
ولم تصبر قريش طويلاً حين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ماضياً في عمله ودعوته إلى الله ، فقد أكثروا ذكره وتذامروا فيه ، ثم مشوا إلى أبي طالب ، وقالوا :يا أبا طالب إن لك سناً ، وشرفاً ومنـزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك الله أحد الفريقين ، ثم انصرفوا . وعظم على أبي طالب هذا التحدي والإنذار ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له ما قالوه ، وقال له : أبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفه قال : يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته ،ثم استعبر وبكى ، وعادت إلى أبي طالب الرقة والثقة ، فقال : اذهب يا ابن أخي ! فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً .

عمروعبده
30-11-2010, 03:39 PM
مولده ورضاعه وبركاته في بيت الرضاعة
المولد :
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم في مكة ، صبيحة يوم الاثنين ، التاسع ويقال : الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل والتاريخ الأول أصح والثاني أشهر وهو يوافق اليوم الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة 571 م .
وكانت قابلته أي دايته : الشفاء بنت عمرو أم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ولما ولدته أمه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وأرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بولادته صلى الله عليه وسلم فجاء عبد المطلب مستبشراً مسروراً وحمله فأدخله الكعبة وشكر الله ، ودعاه وسماه محمداً رجاء أن يحمد ، وعق عنه وختنه يوم سابعه ، وأطعم الناس كما كان العرب يفعلون .
وكانت حاضنته أم أيمن : بركة الحبشية ، مولاة والده عبد الله ، وقد بقيت حتى أسلمت ، وهاجرت وتوفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر ، أو بستة أشهر .

الرضاع :
وأول من أرضعته صلى الله عليه وسلم بعد أمه ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها ، يقال له مسروح ، وكانت قد أرضعت قبله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وبعده صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، فهم إخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة .
وقد أعتق أبو لهب أمته هذه فرحاً بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه صار من ألد أعدائه حينما قام بالدعوة إلى الإسلام .

في بني سعد:
كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ، إبعاداً لهم عن أمراض الحواضر حتى تشتد أعصابهم ، وليتقنوا اللسان العربي في مهدهم .
وقدر الله أن جاءت نسوة من بني سعد بن بكر بن هوازن يطلبن الرضعاء فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهن كلهن ، فأبين أن يرضعنه لأجل يتمه ، ولم تجد أحدى النسوة وهي حليمة بنت أبي ذويب رضيعاً فأخذته صلى الله عليه وسلم وحظيت به حظوة اغتبط لها الآخرون .
واسم أبي ذويب والد حليمة : عبد الله بن الحارث ، واسم زوجها الحارث ابن عبد العزى وكلاهما من سعد بن بكر بن هوازن . وأولاد الحارث بن عبد العزى إخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة هم عبد الله وانيسة وجدامة ، وهي الشيماء ، لقب غلب على اسمها وكانت تحضن النبي صلى الله عليه وسلم

بركات في بيت الرضاعة :
وقد درت البركات على أهل هذا البيت مدة وجوده صلى الله عليه وسلم بينهم .
ومما روي من هذه البركات : أن حليمة لما جاءت إلى مكة كانت الأيام أيام جدب وقحط ، وكانت معها أتان كانت أبطأ دابة في الركب مشياً لأجل الضعف والهزال ، وكانت معها ناقة لا تدر بقطرة من لبن ، وكان لها ولد صغير يبكي ويصرخ طول الليل لأجل الجوع ، لا ينام ، ولا يترك أبويه ينامان .
فلما جاءت حليمة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحلها ووضعته في حجرها أقبل عليه ثدياها بما شاء من لبن ، فشرب حتى روي ، وشرب معه ابنها الصغير حتى روي ثم ناما .
وقام زوجها إلى الناقة فوجدها حافلاً باللبن ، فحلب منها ما انتهيا بشربه رياً وشبعاً ثم باتا بخير ليلة . ولما خرجا راجعين إلى بادية بني سعد ركبت حليمة تلك الأتان ، وحملت معها النبي صلى الله عليه وسلم فأسرعت الأتان حتى قطعت الركب ولم يستطع لحوقها شيء من الحمر .
ولما قدما في ديارهما ديار بني سعد – وكان أجدب أرض الله – كانت غنمهما تروح عليهما شباعاً ممتلئة الخواصر بالعلف ، وممتلئة الضروع باللبن . فكانا يحلبان ويشربان ، وما يحلب إنسان قطرة لبن .
فلم يزالا يعرفان من الله الزيادة والخير حتى اكتملت مدة الرضاع ومضت سنتان ففطمته حليمة ، وقد اشتد وقوي في هذه الفترة .

بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في بني سعد بعد الرضاعة :
وكانت حليمة تأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه وأسرته كل ستة أشهر ، ثم ترجع به إلى باديتها في بني سعد ، فلما اكتملت مدة الرضاعة وفطمته ، وجاءت به إلى أمه حرصت على بقائه صلى الله عليه وسلم عندها ، لما رأت من البركة والخير . فطلبت من أم النبي صلى الله عليه وسلم أن تتركه عندها حتى يغلظ ، فإنها تخاف عليه وباء مكة ، فرضيت أمه صلى الله عليه وسلم بذلك ، ورجعت به حليمة إلى بيتها مستبشرة مسرورة ، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم عندها بعد ذلك نحو سنتين ، ثم وقعت حادثة غريبة أحدثت خوفاً في حليمة وزوجها حتى ردا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه . وتلك الحادثة هي شق صدره صلى الله عليه وسلم .

عمروعبده
30-11-2010, 03:41 PM
نسبه الشريف ، وقبيلته ، وأسرته
uالنسب الشريف :
هو أكرم خلق الله ، وأفضل رسله ، وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وعدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بالإتفاق ، ولكن لم يعرف بالضبط عدد ولا أسماء من بينه وبين إسماعيل عليه السلام .
أما أمه صلى الله عليه وسلم فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وكلاب هو الجد الخامس للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه ، فأبوه وأمه من أصل واحد ، يجتمعان في كلاب وأسمه حكيم . وقيل : عروة ، لكنه كان كثير الصيد بالكلاب فعرف بها .

uقبيلته :
وقبيلته هي قبيلة قريش المشهود لها بالشرف ، ورفعة الشأن ، والمجد الأصيل ، وقداسة المكان بين سائر العرب ، وهو لقب فهر بن مالك أو النضر بن كنانة .
وكل من رجالات هذه القبيلة كانوا سادات وأشراف في زمانهم ، وقد امتاز منهم قصي وأسمه زيد بعدة ميزات ، فهو أول من تولى الكعبة من قريش ، فكانت إليه حجابتها وسدانتها ، أي كان بيده مفتاح الكعبة يفتحها لمن شاء ومتى شاء ، وهو الذي أنزل قريشاً ببطن مكة ، وأسكنهم في داخلها ، وكانوا قبل ذلك في ضواحيها وأطرافها ، متفرقين بين قبائل أخرى ، وهو الذي أنشأ السقاية والرفادة .
والسقاية : ماء عذب من نبيذ التمر أو العسل أو الزبيب ونحوه ، كان يعده في حياض من الأديم يشربه الحجاج .
والرفادة : طعام كان يصنع لهم في الموسم . وقد بنى قصي بيتاً بشمالي الكعبة ، عرف بدار الندوة ، وهي دار شورى قريش ، ومركز تحركاتهم الإجتماعية ، فكان لا يعقد نكاح ، ولا يتم أمر إلا في هذه الدار ، وكان بيده اللواء والقيادة ، فلا تعقد راية حرب إلا بيده ، وكان كريماً وافر العقل ، صاحب كلمة نافذة في قومه .

uأسرته :
أما أسرته صلى الله عليه وسلم فتعرف بالأسرة الهاشمية ، نسبة إلى جده الثاني هاشم ، وقد ورث هاشم من مناصب قصي : السقاية والرفادة ، ثم ورثهما أخوه المطلب ، ثم أولاد هاشم إلى أن جاء الإسلام وهم على ذلك ، وكان هاشم أعظم أهل زمانه ، كان يهشم الخبز ، أي يفتته في اللحم ، فيجعله ثريداً ، ثم يتركه تأكله الناس ، فلقب بهاشم ، واسمه عمرو . وهو الذي سن الرحلتين : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وكان يعرف بسيد البطحاء .
ومن حديثه : أنه مر بيثرب ، وهو في طريق تجارته إلى الشام ، فتزوج سلمى بنت عمرو من بني عدي بن النجار ، وأقام عندها فترة ، ثم مضى إلى الشام وهي حامل ، فمات بغزة من أرض فلسطين ، وولدت سلمى ابناً بالمدينة سمته : شيبة ، لشيب في رأسه ، ونشأ هذا الطفل بين أخواله في المدينة ، ولم يعلم به أعمامه بمكة حتى بلغ نحو سبع سنين أو ثماني سنين ، ثم علم به عمه المطلب ، فذهب به إلى مكة ، فلما رآه الناس ظنوه عبده فقالوا : عبد المطلب ، فاشتهر بذلك .
وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأجملهم ، وأعظمهم قدراً ، وقد شرف في زمانه شرف لم يبلغه أحد ، كان سيد قريش وصاحب عير مكة ، شريفاً مطاعاً جواداً يسمى بالفياض لسخائه ، كان يرفع من مائدته للمساكين والوحوش والطيور ، فكان يلقب بمطعم الناس في السهل ، والوحوش والطيور في رؤوس الجبال. وقد تشرف بحفر بئر زمزم بعد أن كان قد درسها جرهم عند جلائهم من مكة ، وكان قد أمر بحفرها في المنام ، ووصف له موضعها فيه .
وفي عهده وقعت حادثة الفيل ، جاء أبرهة الأشرم من اليمن بستين ألف جندي من الأحباش ، ومعه بعض الفيلة ، ليهدم الكعبة ، فلما وصل إلى وادي محسر بين المزدلفة ومنى ، وتهيأ الهجوم على مكة أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول ، وكان ذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من شهرين فقط .
وأما والده صلى الله عليه وسلم عبد الله فكان أحسن أولاد عبد المطلب ، وأعفهم ، وأحبهم إليه ، وهو الذبيح ، وذلك أن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم ، وبدت آثارها نازعته قريش ، فنذر لئن آتاه الله عشرة أبناء ، وبلغوا أن يمنعوه ، ليذبحن أحدهم ، فلما تم له ذلك أقرع بين أولاده ، فوقعت القرعة على عبد الله، فذهب إلى الكعبة ليذبحه ، فمنعته قريش ، ولا سيما إخوانه وأخواله ، ففداه بمائة من الإبل ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين : إسماعيل عليه السلام وعبد الله ، وابن المفديين ، فدي إسماعيل عليه السلام بكبش ، وفدي عبد الله بمائة من الإبل .
واختار عبد المطلب لابنه عبد الله آمنة بنت وهب ، وكانت أفضل نساء قريش شرفاً وموضعاً ، وكان أبوها وهب سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، وبنى بها عبد الله بمكة فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد فترة أرسله عبد المطلب إلى المدينة ، أو الشام في تجارة فتوفي بالمدينة راجعاً من الشام ودفن في دار النابغة الذبياني ، وذلك قبل ولادته صلى الله عليه وسلم على الأصح .

عمروعبده
30-11-2010, 03:42 PM
نقض الصحيفة وفك الحصار
وبعد نحو ثلاث سنوات قدر الله أن ينتهي هذا العدوان ، فألقى في قلوب خمسة من أشراف قريش أن يقوموا بنقض الصحيفة وفك الحصار ، وأرسل الأرضة ، فأكلت كل ما في الصحيفة من القطيعة والجور ، ولم تترك إلا ذكر الله سبحانه وتعالى .
فأما أشراف قريش الخمسة فأولهم : هشام بن عمرو بن الحارث من بني عامر بن لؤي ، ذهب هذا الرجل إلى زهير بن أبي أمية المخزومي – وهو ابن عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلىالمطعم بن عدي ، ثم إلى أبي البختري بن هشام ثم إلى زمعة بن الأسود ، فذكر كل واحد منهم القرابة والرحم ، ولامهم على قبول الجور ، وحضهم على نقض الصحيفة ، فاجتمعوا عند خطم الحجون ، واتفقوا على خطة يقومون بها لنقض الصحيفة .
وصباحاً حين قامت أندية قريش في المسجد الحرام جاء زهير وعليه حلة ، فطاف بالبيت ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة ! نحن نأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم وبنو المطلب هلكى ، لا يبيعون ولا يبتاعون ، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة .
فقال أبو جهل : كذبت ، والله لا تشق .
فقال زمعة : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حين كتبت .
فقال أبو البختري : صدق والله زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقربه .
وقال المطعم بن عدي : صدقتما ، وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ، وصدقه أيضاً هشام بن عمرو .
فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل ، وتشوروا فيه بغير هذا المكان .
وكان أبو طالب جالساً في ناحية المسجد ، جاء ليخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن الله سلط على صحيفتهم الأرضة ، فأكلت ما فيها من جور وقطيعة وظلم ، ولم تترك إلا ذكر الله ، وقال بعد ما أخبرهم بذلك : فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا ، قالوا : أنصفت .
وقام المطعم على إثر رده على أبي جهل ليشق الصحيفة ، فوجدها قد أكلتها الأرضة ، إلا ( باسمك اللهم ) وما فيها من اسم الله . فكان ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله رآها المشركون بأعينهم ، لكنهم لم يزالوا مسترسلين في الغي .
أما الحصار فقد انتهى بعد ذلك ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب .
وفد قريش بين يدي أبي طالب :
عادت الأمور بعد فك الحصار إلى ما كانت عليه من قبل ، ولكن ما هي إلا أشهر حتى لحق أبا طالب المرض ، وأخذ يشتد ويزداد ، وكان قد جاوز الثمانين ، فشعرت قريش أنه لا قيام له من هذا المرض ، فاستشاروا فيما بينهم وقالوا : انطلقوا بنا إلى أبي طالب ، فليأخذ على ابن أخيه وليعطه منا ، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب ، يقولون : تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه ، فانطلقوا ودخلوا عليه وطلبوا منه أن يكف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آلهتهم ، وهم يدعونه وإلهه ، فدعاه أبو طالب وعرض عليه ما قاله القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم العجم الجزية ، ففزعوا وقالوا: كلمة واحدة ؟ نعم ! وأبيك عشراً ، فما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ، يقولون : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) .

عمروعبده
30-11-2010, 03:44 PM
هجرة المسلمين إلى المدينة
بعد هذه البيعة – بيعة العقبة الثانية – بدأت هجرة عامة المسلمين إلى المدينة ، بينما كان بعض الصحابة قد هاجر قبلها ، وقد أري رسول الله صلى الله عليه وسلم دار هجرة المسلمين وأخبرهم بها ، قال : رأيت أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلى – أي ظني – إلى اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب ، وفي رواية : أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين ، فإما أن يكون هجر أو يثرب .
وأول من هاجر أبو سلمة المخزومي زوج أم سلمة ، خرج مع زوجته وابنه ، فمنعها قومها منه ، وانتزع آل أبي سلمة ولده منها ، فانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة ، وذلك قبل بيعة العقبة بنحو سنة ثم أطلقوا زوجته بعد نحو سنة فلحقت به .
وهاجر بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة وزوجته ليلى بنت أبي حثمة ، وعبد الله بن أم مكتوم ، فلما تمت البيعة تتابع المسلمون في الهجرة ، وكانوا يتسللون خفية ، خشية قريش ، حتى هاجر عمر بن الخطاب ، فخرج علناً ، وتحدى قريشاً ، فلم يجترىء أحد على الوقوف في وجهه ، وقدم المدينة في عشرين من الصحابة .
وهاجر المسلمون كلهم إلى المدينة ، ورجع إليها عامة من كان بأرض الحبشة ولم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلي وصهيب وزيد بن حارثة وقليل من المستضعفين الذين لم يقدروا على الهجرة ، وتجهز أبو بكر للهجرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك ، فإني أرجو أن يؤذن لي ، فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : نعم . فحبس أبو بكر نفسه عليه ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر ، استعداداً لذلك .

عمروعبده
30-11-2010, 03:45 PM
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت :
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته وهم مطوقون به ، فذر تراب البطحاء على رؤوسهم وهو يتلو قوله سبحانه تعالى : ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) فأخذ الله بأبصارهم فلم يشعروا به صلى الله عليه وسلم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر ، ومن خوخة داره خرجا حتى لحقا بغار ثور قبل بزوغ الفجر ، على بعد نحو خمسة أميال في اتجاه اليمن .

ثلاث ليال في الغار :
ولما انتهيا إلى الغار دخله أبو بكر أولاً حتى إذا كان فيه شيء يصيبه هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسحه ووجد فيه ثقوباً فسدها بشق إزاره ، وبقي جحر واحد أو جحران ألقمهما رجليه ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام في حجره ولدغ أبو بكر في رجله ، ولكنه لم يتحرك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجهه صلى الله عليه وسلم فاستيقظ وسأل فقال : لدغت ، فداك أبي وأمي ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب الألم .
وكمنا في الغار ثلاث ليال ، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما ، وكان شاباً فطناً ذكياً ، فيخرج من عندهما حتى يصبح في قريش كأنه بات في مكة ، وكان يسمع مكائد قريش وأخبارهم فكان يأتيهما بها حين يختلط الظلام .
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم ، فكان يأتيهما بها حين تذهب ساعة من الليل ، فيبيتان في لبنها ، ثم ينعق بها في غلس ويتبه بها أثر عبد الله بن أبي بكر ليعفي عليه
أما قريش فبقيت فتيانها منتظرين قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه حتى أصبحوا ، فلما أصبحوا قام علي من فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقط في أيديهم وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا علم لي به ، فضربوه وسحبوه إلى الكعبة ، وحبسوه ساعة ، ولكن بدون جدوى ، ثم جاءوا إلى بيت أبي بكر وسألوا ابنته أسماء عنه فقالت : لا أدري ، فلطمها الخبيث أبو جهل لطمة طرح منها قرطها ، ثم أرسلوا الطلب في كل جهة ، وجعلوا مائة ناقة عن كل واحد منها لمن يأتي بهما حيين أو ميتين .
وقد وصلوا في الطلب إلى باب الغار بحيث لو طأطأ أحدهم رأسه ونظر إلى قدميه لرأهما ، حتى اشتد حزن أبي بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا .
في الطريق إلى المدينة :
وفي ليلة الإثنين غرة ربيع الأول سنة واحد ه‍ جاء الدليلعبد الله بن أريقط الليثي بالراحلتين إلى جبل ثور حسب الموعد ، فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وصحبهما عامر بن فهيرة ، وسلك بهما الدليل في اتجاه الجنوب نحو اليمن حتى أبعد ، ثم اتجه إلى الغرب نحو ساحل البحر الأحمر ، ثم اتجه إلى الشمال على مقربة من الساحل ، وسلك طريقاً لا يسلكه الناس إلا نادراً . وواصلوا السير تلك الليلة ، ثم النهار إلى نصفه ، حتى خلا الطريق ، فاستراح النبي صلى الله عليه وسلم تحت ظل صخرة ، واستكشف أبو بكر ما حوله وجاء راع فاستحلب منه أبو بكر ، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم سقاه حتى رضي ، ثم ارتحلوا .
وفي اليوم الثاني مرا بخيمتي أم معبد وكانت بالمشلل في ناحية قديد على بعد نحو 130 كيلوا متراً من مكة ، فسألاها هل عندها شيء ؟ فاعتذرت عن القرى وأخبرت أن الشاء عازب – أي بعيدة المرعى والكلأ – وكانت في جانب الخيمة شاة خلفها الجهد عن قطيع الغنم ، ولم تكن فيها قطرة من لبن ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحلبها ، فلما حلبها درت باللبن حتى امتلأ منه إناء كبير يحمله الرهط بمشقة ، فسقاه أم معبد حتى رويت ، ثم سقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب ، ثم حلب فيه ثانيا ، حتى ملاً الإناء ، وتركه عندها وارتحلوا .
وجاء زوجها فتعجب حين رأى اللبن وسألها عنه ، فأخبرته الخبر ، ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم من مفرقه إلى قدمه ومن كلامه إلى أطواره وصفاً دقيقاً جداً فقال أبو معبد : هذا والله صاحب قريش ، لقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً .
وفي اليوم الثالث سمع أهل مكة صوتاً بدأ من أسفلها ومر حتى خرج من أعلاها وتبعوه فلم يروا شخصه يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حـلا خيمتي أم معبـد

همـا نـزلابالبـر وارتحـلا به وأفلح من من أمسى رفيق محمد

فيـا لقصي ما زوى الله عنكـم به من الأفعال لا تجاري وسودد

ليهـن بني كعب مكان فتاتهـم ومقعـدها للمؤمنين بمرصـد

ثم لما جاوزا قديداً تبعهما سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، على فرس له ، طمعاً في جائزة قريش ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى خر عنها ، ثم قام واستقسم بالأزلام : يضرهم أم لا ؟ فخرج الذي يكره ، ولكنه عصى الأزلام وركب حتى إذا دنا منهم بحيث يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر الإلتفات ساخت يدا فرسه في الأرض حتى بلغتا الركبتين وخر عنها ، ثم زجرها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة صار لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره ، وداخله رعب عظيم ، وعلم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر ، فناداهم بالأمان ، فوقفوا حتى جاءهم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قررته قريش ، وما يريد بهما الناس ، وعرض عليه الزاد والمتاع فلم يأخذ منه شيئاً ، وطلب منه أن يخفي أمره عن الناس ، واستكتبه سراقة كتاب أمن ، فأمر عامر بن فهيرة فكتبه في أديم ، ورجع سراقة فقال لمن وجده في الطلب قد استبرأت لكم الخبر ، قد كفيتم ما ههنا حتى أرجعهم .
وفي الطريق لقيه بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه في سبعين راكباً فأسلم هو ومن معه ، وصلوا خلفه صلاة العشاء الآخرة .
ولقيهما في بطن ريم – اسم واد – الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا قافلين من الشام ، فكساهما الزبير ثياباً بياضاً .

النزول بقباء :
وفي يوم الإثنين – الثامن من شهر ربيع الأول سنة 14 من النبوة – وهي السنة الأولى من الهجرة – نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء .
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجون كل غداة إلى الحرة ، حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوماً بعد طول الإنتظار ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ‍ ! هذا جدكم – أي حظكم – الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح ، وسمعت فيهم الوجبة والتكبير فرحاً بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا للقائه بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء .
ولما نزل بقباء جلس صامتاً ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر رضي الله عنه ظناً منه أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم لظهور الشيب في شعره – حتى أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم – الشمس ، فظلل عليه أبو بكر بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم ، وقيل على سعد بن خيثمة ، ومكث بها أربعة أيام ، أسس أثناءها مسجد قباء ، وصلى فيه ، فلما كان اليوم الخامس – يوم الجمعة – ركب بأمر الله ، وأبو بكر ردفه ،وأرسل إلى أخواله بني النجار ، فجاءوا متقلدين السيوف ،فسار نحو المدينة ، وهم حوله وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في بطن الوادي ، وهم مائة رجل
الدخول في المدينة :
ثم اتجه نحو المدينة ، وقد زحف الناس للإستقبال ، وارتجت البيوت والسكك بالتحميد والتقديس ، وخروج النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلــع البــدر علينــا مــن ثنيــات الــوداع

وجــب الشكــر علينـا مــا دعــــا للـه داع

أيهــاالمبعــوث فينــا جئــت بالأمــر المطــاع

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام ناقته يقولون : هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة ، فكان يقول لهم : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فلما وصلت الناقة إلى موضع المسجد النبوي بركت ، فلم ينـزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنـزل عنها ، فجعل الناس يكلمونه في النـزول عليهم ، وبادر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فأدخل رحله في بيته ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المرء مع رحله ، وأخذ أسعد بنزرارة بزمام راحلته فكانت عنده .
وسابق سراة الأنصار في استضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت الجفان تأتيه منهم كل ليلة ، فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاث أو الأربع منها .

graph2005
03-12-2010, 11:11 AM
جزاك الله خيرا

graph2005
03-12-2010, 11:14 AM
جزاك الله خيراا