مستر ايمن محمد راشد
04-12-2010, 10:16 PM
مقــــــــدمـــــــــــــــــــــــة
لم تكن الهجرة أمرًا سهلًا ميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقد عمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وترك الذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقة جدًا، الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولا فرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجر المهاجرين:
الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيم}[لحج:58، 59]لذلك كانت هجرة الرسول الكريم بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم و أبناءهم وأموالهم، وجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر...
الضعفاء والأقوياء...
الفقراء والأغنياء...
الرجال والنساء...
الأحرار والعبيد...
الكل يهاجر إلى المدينة...هناك مشروع ضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامة أمة إسلامية، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم،فلا مكان للكسل، أو الكلام فقط بل العمل والعمل الجاد، انظر إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:97،100] .صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه صلي الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان؛ فالقيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، القيادة مسئولية،وتضحية، وأمانة.وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجرَ ما نهى الله عنه". [البخاري:كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده/9]، وفي رواية ابن حبان: "المهاجرُ من هجر السيئات، والمسلمُ من سلمَ المسلمون من لسانه ويده".[ابن حبان/196]أما ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"[البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير/2575]، وزاد مسلم في روايته"وإذا استنفرتم فانفروا"، فالمراد بلا هجرة بعد الفتح أي لا هجرة واجبة بعد الفتح، وإذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة المعنوية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الإسلام والجهاد والخير"[مسلم/3466]، وعن أبي هند البجلي قال، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".[أحمد/16301 ]والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل الله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟
والعبادة قد تصل بالإنسان إلى أجر الهجرة، بخاصة إذا كانت العبادة في وقت غفل العباد عن طاعة الله، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "[مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج/5242]والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [البخاري: كتاب الأدب باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه/5671
طبيعة الهجرة وطبيعة المهاجرين:
كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فتنة الإيذاء و التعذيب، فلما أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة؛ أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم، ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم، أمام الفتنة الأولى و الثانية، قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد .
وعندما أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى المؤمنين بمكة أن يهاجروا جميعًا إلى المدينة المنورة، فخرج المسلمون أفرادًا وجماعات إلى هناك، وبدأت المدينة المنورة تستقبل المهاجرين الذين فروا بدينهم من مكة، وتوجهوا إلى المدينة، وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع، فتركوا الأمتعة و الأثقال في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنها بالأخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليؤوهم وينصرونهم .
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله: لا يبالى بالوطن ولا بالمال في سبيل أن يسلم له دينه. يقول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. [الأنفال: 72]
ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
(1) وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
وما يستدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98) } [النساء:97،98]
(2) وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً، فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على إنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك فهم آثمون.
وقصص المهاجرين كثيرة وعظيمة ولكن نقف على أربع قصص فقط تكشف لنا عن طبيعة الهجرة وعن طبيعة المهاجرين:
القصة الأولى :
قصة هجرة آل سلمة رضي الله عنهم أجمعين:
كان أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه من أوائل من هاجر كما كان رضي الله عنه من أوائل من أسلم، وكان هو وزوجته أم سلمة من قبيلة واحدة هي قبيلة بني مخزوم، ومع الشرف والمكانة والوضع الاجتماعي إلا أنهم تركوا كل ذلك، وانطلقوا إلى المدينة المنورة، ولكن بعد أن خرج الرجل وزوجته وابنهما سلمة لحقت بهم عائلة أم سلمة وقالوا لأبي سلمة: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتُركُك تسير بها في البلاد؟ فغلبوه على زوجته فأخذوها، وبالطبع ترك معها ابنهما سلمة ثم انطلق هو وحيدا رضي الله عنه إلى المدينة المنورة؛ امتثالًا لأمر الهجرة إلى هناك، أما السيدة أم سلمة رضي الله عنها فبعد أن هاجر زوجها جاء إليها أقارب زوجها، ومع أنهم من نفس القبيلة- قبيلة بني مخزوم- إلا أنهم قالوا : لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وجاء أقارب أم سلمة يدافعون عن الغلام الصغير، فأخذ الفريقان يتجاذبان الغلام حتى أصابوه بخلع في يده، ثم أخذه في النهاية أقارب أبي سلمة، وتركوا السيدة أم سلمة رضي الله عنها وحيدة في مكة، لقد هاجر زوجها إلى المدينة، وأُخذ ابنها الوحيد منها وبقيت بمفردها تحمل في قلبها كل هذه الآلام، فكانت رضي الله عنها تخرج كل يوم إلى الأبطح - حيث المكان الذي شهد مأساة التفريق بينها و بين زوجها وابنها- وتظل تبكي من الصباح إلى المساء، ثم تعود إلى بيتها آخر الليل، وظلت تفعل ذلك كل يوم، كم بقيت على هذه الحالة الأليمة؟!لقد ظلت سنة كاملة أو قريبًا من سنة...
آلام رهيبة تحملتها السيدة العظيمة أم سلمة، وآلام رهيبة تحملها زوجها الجليل أبو سلمة وهو في ديار الغربة وحيدًا، وآلام رهيبة تحملها الطفل الصغير سلمة وهو معزول عن والديه، لا لشيء إلا لأنهما آمنا بالله رب العالمين، لكن هذا هو الطريق الطبيعي للجنة، وهذه هي الأثمان التي تشترى بها هذه الجنة، "أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".وبعد عام رقَّ قلبُ رجل من بني عم أم سلمة لحالها، فذهب إلى أهلها وقال لهم : ألا تطلقون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها. ومازال بهم حتى قبلوا، ثم ذهبت إلى أهل زوجها، فلما علموا أنها ستذهب إلى زوجها أعطوها الغلام، ورأت ابنها واحتضنته بشده بعد عام من الفراق، ثم ما استطاعت صبرًا على فراق زوجها، فما انتظرت أن يتوفر لها صحبه آمنة إلى المدينة، ولكنها أخذت ابنها سلمة، وانطلقت به بمفردها إلى المدينة، والمسافة تقترب من خمسمائة كـم، ولكنها قررت أن تقطع كل هذه الصحراء في سبيل الله، وخرجت السيدة الكريمة أم سلمة مع ابنها تسرع في خطواتها إلى دار الهجرة، ولكن الله عز وجل الرحيم بعبادة سخر لها من يأخذ بها في صحبة آمنة من مكة إلى المدينة، سخر لها جنديًا من جنوده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، لقد سخر لها رجلًا مشركًا، سبحان الله، رآها عثمان بن طلحة- وكان ما زال على شركه - وهى بالتنعيم على مسافة حوالي خمسة كيلو متر من مكة، فقال لها : إلى أين؟ فقالت: أريد زوجي في المدينة، قال: أوَ معك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله ثم ابني هذا، فتحركت النخوة في قلب الرجل المشرك، وأظهر مروءة عالية وقال لها: والله لا أتركك أبدًا حتى تبلغي المدينة، ثم أخذ بخطام ناقتها وانطلق يسحبها إلى المدينة وهو يسير على قدميه.
خمسمائة كيلو متر وعثمان بن طلحة يسير على قدميه ليصل بامرأة وحيدة من مكة إلى المدينة، وهو لا يرتبط معها بصلة قرابة، وهى وزوجها على دين يكرهه ويحاربه، لكنها النخوة والمروءة، ولما وصلوا إلى قباء قال عثمان لأم سلمة: زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله. فدخلت السيدة أم سلمة إلى المدينة، وعاد عثمان بن طلحة إلى مكة ماشيًا دون أن ينتظر كلمة شكر أو ثناء من زوج السيدة أم سلمة أو أحد المسلمين.
والحمد لله أن الله عز وجل قد منّ عليه بالإسلام في العام السابع من الهجرة، وإلا كنا قد حزنَّا حزنًا كبيرًا على بقاء مثل هذه الأخلاق الرفيعة في معسكر الكافرين.
القصة الثانية:
هجرة صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه:
لم يكن صهيب رضي الله عنه من أهل مكة، ولم تكن له قبيلة تمنعه، وكان يعمل بصناعة السيوف، وكانت هذه الصناعة تدر عليه مالًا وفيرًا، ثم جاء القرار بالهجرة، فقرر صهيب رضي الله عنه أن يترك تجارته، ويتجه إلى المدينة ليبدأ حياة جديدة هناك، وعند خروجه وقف له زعماء الكفر بمكة، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، هنا يفكر صهيب رضي الله عنه، يقول في نفسه: ما قيمة المال ولو كان مال الدنيا، إن أنا خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أنا تخلفت عن صحبة المؤمنين، وإن أنا تركت العمل لله عز وجل؟! وجد صهيب رضي الله عنه أن الثمن الذي سيدفعه زهيد للغاية بالقياس إلى ما سيحصله، لم يكن اختبارًا صعبًا على نفس صهيب، لقد قرر أن يشتري الجنة منذ زمن، وكلما مر عليه الوقت ازداد إصرارًا على قراره، قال لهم صهيب في بساطة: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟
قالوا وقد سال لعابهم لثروة صهيب الطائلة: نعم
قال صهيب: فإني قد جعلت لكم مالي، وأعطاهم كل ما يملك، وهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يقين: "رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ".
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيبًا قال مبشرًا له ومهنئًا: "رَبِحَ الْبَيْعَ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعَ أَبَا يَحْيَى". وفيه وفى أمثاله نزل قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [البقرة:207].
القصة الثالثة:
قصة هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وهى قصة مختلفة جدًا عن هجرة بقية الصحابة، فبينما كان الصحابة عمومًا يهاجرون سرًا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا، لقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع: "يا معشر قريش، من أراد أن تثكله أمه، أو يُوتمَّ ولدُه، أو تُرَمَّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي".
يقول هذا الكلام وهو متقلد سيفه، وفي يده الأخرى عدة أسهم، فلم يخرج خلفه أحد، وهكذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه علانية...
لماذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا بينما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه سرًا كما سنرى بعد ذلك؟
الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، وسوف يتبعه في طريقته عموم المسلمين سواء في زمان مكة أو في الأزمان التي ستلي ذلك إلى يوم القيامة، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه، وليس مطلوبًا منهم ذلك، إنما المطلوب هو الحذر والاحتياط والأخذ بالأسباب الكاملة لضمان سلامة الهجرة، فعملية الهجرة في حد ذاتها ليست هدفًا، إنما الهدف هو الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، فيجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة، ولو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية لأصبح لزامًا على كل المسلمين أن يخرجوا علانية، وهذا ليس من الحكمة.
ومع ذلك فهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الصورة لم تكن مخالفة شرعية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه هذه الطريقة في الهجرة، وكانت هذه الطريقة وسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يرهب به أعداء الله، وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا، ونتائجه عظيمة على الدعوة، وأمرنا الله عز وجل به في كتابه فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] .
وقد وقعت الرهبة فعلًا في قلوب الكافرين، فلم يخرج خلفَ عمر أحدٌ، بل أكثر من ذلك لقد هاجر مع عمر رضي الله عنه عشرون من ضعفاء الصحابة، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ يقول:
إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة.
القصة الرابعة:
هجرة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه:وكان عياش بن أبي ربيعة ممن هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهل من أمه، وبعد أن وصل عياش إلى المدينة علم أبو جهل بهجرته، فماذا فعل أبو جهل؟
لقد أخذ أخاهم الثالث الحارث بن هشام وانطلق إلى المدينة المنورة، سفر بعيد ( خمسمائة كيلو متر ) وعملية خطرة، ومجازفة كبيرة، وبذل ومجهود وعرق ووقت {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وصل أبو جهل إلى قباء والتقى بأخيه عياش بن أبي ربيعة في وجود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال أبو جهل: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرقَّ لها عياش، وكان بارًا جدًا بأمه.
فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال عياش ( وقد خُدِع بكلام أخويه ): أبر أمي، ولي مال هناك آخذه.
فقال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما.
ولكن أبى عياش إلا أن يعود ليبر قسم أمه.
فقال له عمر: أما إذا قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
وخرج عياش وأخواه أبو جهل والحارث بن هشام إلى مكة، حتى إذا ابتعدوا عن المدينة دبر الأخوان الكافران خدعة وأمسكا بعياش وقيداه بالحبال، ودخلوا به مكة موثقًا، ثم قالا لأهل مكة: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
وحُبِس عياش بن أبي ربيعة فترة من الزمان، ولم ينج إلا بعد أن أرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة وهو الوليد بن الوليد لإنقاذه في مغامرة رائعة.
كانت هذه بعض النماذج لهجرة بعض الصحابة من مكة إلى المدينة، وواضح أن الأمر لم يكن بسيطًا، بل كانت الهجرة تعني البذل والعطاء والتعب والنصب، كان في الهجرة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، وفوق ذلك فهم يهاجرون إلى المجهول، فكل الصحابة لم يذهبوا قبل ذلك إلى المدينة المنورة، ولا يعرفون أهلها ولا طباعهم، ولم يلتقوا باليهود من قبل- وهم يتواجدون بأعداد كبيرة في المدينة- غير أن المسلمين يعلمون عنهم أنهم قوم سوء وأهل مخالفة لأنبياء الله ورسله، كما أنهم أهل حرب وقتال وقوتهم الاقتصادية لا يستهان بها.
كل هذا كان يصعب من الهجرة، ولكنها كانت خطوة لا بد منها ـ على خطورتها ـ لبناء الأمة الإسلامية، وهكذا هاجر المسلمون في مكة، وقد هاجر معظم المسلمين الذين استطاعوا الهجرة في شهري المحرم وصفر من السنة الرابعة عشر من النبوة أي بعد بيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان بقاء أبي بكر وعلي رضي الله عنهما بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هجرة الرسول ووضع الخطة
القلق يغزو قريشا
أما قريش فإنها كانت ترقب الموقف على وجل، فإنها تفاجئ كل يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير من ديار مكة من سكانها، وقد أثر ذلك في قريش وزعمائها ،فما منهم من أحد إلا وله قريب أو ابن مهاجر مما مزقهم بين الحب الفطري لأبنائهم وأقاربهم وبين كراهيتهم وتغيظهم على هذا الدين الذي تسبب في هذا الفراق - من وجهة نظرهم، وإلا فإن جهلهم وعنادهم هو السبب في كل ما يحدث - كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة سيسلب قريشا زعامتها التي تكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام أيضا يدعو لتعظيم البيت الحرام، كما سيقضي على تجارة بيع الأصنام والخمور وعلى الربا والبغاء.
ولم يكن يخفى على قريش أن الهجرة تمت إلى المدينة المنورة، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة من هناك، ولم تكن هجرة المؤمنين راحةً لأهل مكة المشركين، أبدًا، كان المشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون لبناء أمة مسلمة في المدينة المنورة، ولو تمَّ ذلك فلا شك أنهم سيعودون إلى مكة، لا لمجرد السكن فيها، ولكن لحكمها، ووقت يحكمونها فلن يقبلوا أن يظل العرب وغيرهم يتحاكمون إلى( هُبَل) وسدنته، بل سيُحكِّمون رب العالمين كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة عشر عاما قضاها في مكة لهذا الغرض؛ ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم، أضف إلى ذلك علم أهل قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال وأن المدينة حصينة جدًا، وأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثمَ فإن المدينة تستطيع أن تخنق مكة اقتصاديًا، وكانت مكة تتاجر بربع مليون دينار من الذهب سنويًا مع الشام في رحلة الشتاء، وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمنَ اليهود، وانضمت قوتهم إلى قوة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوة كبيرة عسكريا وماديا، والعقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لا عقل لهم.
كل هذه الأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكة، لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويوحد صفوفه، ويجهز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكة، إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم القبيلة العزيزة الشريفة؟!
مجلس شورى قريش يقرر اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
احتار القرشيون المشركون، فقرروا عقد اجتماع عاجل لكبار الزعماء في مكة لتدارس هذا الأمر، وذلك في دار الندوة، المقر الرئيس لاجتماعات قريش.
وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشر للبعثة تم عقد أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، و كان اجتماعًا طارئًا حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية عدا بني هاشم، وكانت أبرز الأسماء في هذا الاجتماع الخطير:
- أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم.شيبة و عتبة أبناء ربيعة وأبو سفيان بن حرب عن بني عبد شمس. النضر بن الحارث عن بني عبد الدار. أبو البختري بن هشام عن بني أسد. أمية بن خلف عن بني جمح. جبير بن مطعم عن بني نوفل. نبيه ومنبه ابنا الحجاج عن بني سهم.
وغيرهم، والجميع كانوا من قريش؛ لأنه لم يكن مسموحًا لأحد من غير قريش أن يدخل دار الندوة، ولم أجد دليلًا صحيحًا يؤكد القصة التي جاء فيها أن إبليس قد حضر معهم الاجتماع في صورة الشيخ النجدي، وإن كان- في رأيي- أنه أحيانًا تسبق شياطين الإنس بأفعالها شياطين الجن، ألم تروا أن الله عز وجل قد قدم ذكر شياطين الإنس في عداوتهم للأنبياء على شياطين الجن فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
تم الاجتماع الآثم، وبدأت الأفكار الإجرامية تخرج من زعماء قريش، وتطرح للمداولة، منهم من اقترح أن يقيدوه في بيته بالحبال، فلا يستطيع هجرة ولا حراكًا، ومنهم من اقترح نفيه خارج مكة إلى مكان بعيد، وكانت هذه الأفكار الإجرامية تخرج من الطائفة التي يسمونها بالمعتدلين من زعماء قريش، لكن كانت هناك طائفة أشد إجرامًا وهي ما يسمونها بالطائفة المتشددة، قال رجل من هذه الطائفة- لعله أبو جهل- لا بد من قتل هذا الرجل، يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ووافقت هذه الفكرة هوى عند المعظم، فقلوبهم السوداء كانت تحترق غيظًا وحسدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن عندهم الشجاعة للنطق بمثل هذا الرأي، وفوق ذلك فهم يخشون من بني هاشم، غير أن أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شابًا قويًا، فيحاصرون بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا تجد بنو هاشم أمامها حلًا إلا قبول الدية في قتيلها؛ فليست لهم طاقة بحرب كل القبائل.صوَّت الحاضرون على القرار، وسألهم أبو جهل: موافقون؟ قالوا: موافقون.وخرج زعماء قريش ينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
هجرة الرسول ووضع الخطة
نزل جبريل عليه السلام فورًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق. وذلك كما جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكون في فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمة للهجرة.
تعالوا نَعِشْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات النادرة،
وهو يدبر ويخطط ويرتب لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكة هو والصديق رضي الله عنه دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلًا:
أولًا: إنه يريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليخبره بأمر الهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.
ثانيًا: هل يا ترى سيكون الصديق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، والتي ستكون بعد ساعات فقط؟
ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكة، ولو خرجوا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله عليه وسلم حركة المطاردة المشركة له؟
رابعًا: في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير مازال مشغولًا برد الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظل محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.على الفور بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في حل هذه المشاكل فقرر أولًا أن يذهب إلى الصديق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرج في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصديق، وفي ذات الوقت هو وقت تخلو فيه شوارع مكة من المارة لشدة الحر، والأمر الثاني الذي قرره صلى الله عليه وسلم هو جَعْل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقد تغطى ببردة رسول الله عليه وسلم، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًا نائمًا في غطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظنونه الرسول صلى الله عليه وسلم، أي إنها عملية تمويه وإخفاء، وبهذا يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي للابتعاد عن مكة، وإلى جانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ رضي الله عنه أن يعيد الأمانات إلى أصحابها في اليوم التالي. فلا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غطى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله عليه وسلم، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على الصديق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصديق من قبل طيلة الأعوام السابقة حتى إن ذلك لفت نظر الصديق رضي الله عنه، فقال كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها وكما جاء في صحيح البخاري : فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ.وحتى هذه اللحظات والصديق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ:"أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. زيادة في الحذر "
فقال الصديق في اطمئنان:إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ.
هنا لم يستطع أبو بكر رضي الله عنه أن يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى...!!سبحان الله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي.فبكى من شدة الفرح؛ لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمه دون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصديق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًا حقيقيًا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات رضي الله عنه، حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تغير حبه في قلب الصديق أبدًا، وبهذا الحب وصل الصديق رضي الله عنه إلى ما وصل إليه، وقبل أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصديق رضي الله عنه يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ.كان الصديق رضي الله عنه يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعد السفر كان الصديق جاهزًا تمامًا لم يجهز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: بِالثَّمَنِ.
نعم الصديق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد وللإنفاق على الفقراء، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يريد من أحد أن ينفق عليه هو شخصيًا، فأصر أن تكون الراحلة مملوكة له بماله.
وقفة مع الصديق رضي الله عنه
وأنا أريد أن أقف هنا مع رد فعل الصديق رضي الله عنه لقرار الهجرة:
إنه كان مستعدًا تمامًا، استعدادا نفسيا كاملا للرحيل وترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنه أب وأنه زوج وأنه كذا وكذا لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنه رضي الله عنه كان يعطي العمل لله عز وجل قدره الحقيقي، ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.
وكان مستعدًا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلب منه.
وكان مستعدًا استعدادًا عائليًا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكة بنات صغارًا. وكان مستعدًا استعدادًا ماليًا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.هذا رجل يعيش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاته عالية...هذا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبان لكل خطوة حسابها، فوضعا سويًا خطة بارعة توفر أفضل الفرص للنجاة.خطة بارعة لتضليل المشركين
فما عناصر هذه الخطة؟
أولًا: سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصديق في بيته؛ وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه جزءًا من الليل، حتى تهدأ الحركة في مكة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق الراحلتين وينطلقان في الرحلة.
ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصديق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛ لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرج الصِّدِّيق الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه إلى الهجرة.
رابعًا: ستتم الهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر وهو طريق وعر غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.
خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف، والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًا على السر، وفي ذات الوقت لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذا في منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكة، وهو في ذات الوقت رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهاية صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.
سادسًا: سيتجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلو مترات، وهى مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكة وليست في جنوبها، ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
سابعًا: سيتم الذهاب إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينة إلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم، فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، على أن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور المخابرات الإسلامية في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه كل يوم بأخبار مكة، وتحركات القرشيين، وردود الأفعال لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق طوال الليل ثم يعود إلى مكة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
تاسعًا: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعام والماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها الصديق رضي الله عنه، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسير في الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو مترات في الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة...!!قد تظن هذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصديق رضي الله عنه.
وبذلك استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهما إلى الله عز وجل أن يكتب لهما النجاة.عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد وضع الخطة المحكمة، وجهز نفسه، واستقدم عليا رضي الله عنه لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصديق رضي الله عنه، ولكن اكتشف رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاجأة، أحاط المشركون ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسول الله صلى الله عليه سلم أنهم يجيئون فيه.فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}لقد استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم الوسع في الخطة هو والصديق رضي الله عنه، ولكن الطابع المميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكن إذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله عز وجل يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكمل العجز البشري بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسد الله هذه الثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكلًا على الله، بل تواكلا، وشتَّانَ بين التوكل والتواكل.ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج، عشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلًا بالقتل، وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟لقد نزل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل، فسوف يأخذ الله عز وجل بأبصارهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصديق رضي الله عنه لاستكمال تنفيذ الخطة، فهي بحمد الله إلى الآن تسير على ما يرام.
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله عز وجل أراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه دون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وأيضا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله عز وجل أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلا الجزور، ورحم الشاه، وسب بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أحد أكثر من إصابة، لم يأخذ الله عز وجل بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين، وعيون أعداء الله عز وجل، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله عز وجل، والله عز وجل يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله عز وجل {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] .ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يحاصرون البيت، وفيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانطلق إلى الصديق رضي الله عنه، ومكث عنده إلى منتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور، ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر رضي الله عنه الغار أولًا ليرى إن كان به أي شيء يضر، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، وتم الجزء الأول من الخطة بنجاح.نعود إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون يحاصرونه، وعلي رضي الله عنه نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مر عليهم رجل من المشركين لم يكن معهم؛ فقال لهم قولًا خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد. إذن الرجل شاهد محمدًا صلى الله عليه وسلم في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلًا لمح محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبه لرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه على رءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مر عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهم كانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم، قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدوا عليًا ينام في الفراش وهو يتغطى ببردة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله إن هذا محمدا نائم.
فتحير القوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم على ذلك، أتدرون لماذا؟
لقد قالوا: والله إنها لسُبة في العرب أن يتُحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ، وهتكنا سترَ حرمتنا.
سبحان الله، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، لا يقتحمون حرمات الديار.
وانتظر المشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فراشه، فرآه القوم، وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرام ويضربونه.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتحمل الإيذاء
وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يبلغ آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتىً عزيزًا، وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم، لماذا؟
أولًا: لم يؤذن بعدُ للمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.
ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كل المشركين على بني هاشم.
ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعد، وهى رد الأمانات إلى أهلها، ولابد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.
أخذ المشركون عليًا رضي الله عنه وحبسوه ساعة واحدة، لم يحبسوه شهرًا، أو عامًا، أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث رضي الله عنه في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينة المنورة.
قريش تعلن حالة الطوارئ
أعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكة، استنفار عام لكل العناصر المشركة، واتخذت السلطة في مكة القرارات الآتية:
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان يتولى شئون الإنفاق على المسلمين فمن المحتمل أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مازال مختبئًا في بيته، أو لعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هاجر بمفرده، وأبو بكر يعرف طريقه، فلا بد من التأكد من ذلك، وقد قام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين، ذهب إلى بيت الصديق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟
قالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها، فعلة شنيعة من سيد مكة، لكنه لم يفكر أن يدخل البيت ليقلب محتوياته رأسًا على عقب، ليفتش عن الصديق رضي الله عنه أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ليجد أي دليل يشير إلى مكانهما، لماذا لم يفعل ذلك؟ تذكروا: كفار مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
كان هذا هو القرار الأول الذي اتخذه زعماء قريش، وهو البحث عن الصديق.
القرار الثاني: هو إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مازال مختبئًا في أحد البيوت في مكة.
القرار الثالث: إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، تعطى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًا أو ميتًا، والجائزة هي مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن.
القرار الرابع: استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة من مكة.
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}
وسبحان الله، مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ومع كون الخطة بارعة جدًا ومحكمة جدًا، إلا أنه كما ذكرنا من قبل: ليس طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، لا بد من ثغرات، اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي به غار ثور، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى باب غار ثور.
لم يبق إلا أن ينظروا فقط إلى داخل الغار، والغار صغير جدًّا.
الرسول يجلس في داخل الغار في سكينه تامة، وكأنه يجلس في بيته، والصديق رضي الله عنه في أشد حالات قلقه واضطرابه، يقول الصديق رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصْرَهُ رَآنَا.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيِنْ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
الله، الله، لو استشعر الدعاة إلى الله هذه المعية لهانت عليهم كل الشدائد، وكل المصاعب، وكل الآلام، بل لهانت عليهم الدنيا بأسرها، لكن الصديق رضي الله عنه لم يكن خائفا على نفسه، لم يكن قلقًا على حياته، ليس الصديق الذي يفعل ذلك، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، إنما كان يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه في رواية يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ أَنَا فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ.
ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور، بعد أن قطعوا هذا المشوار الطويل الصعب، وقد انتهت آثار الأقدام أمام فتحة باب الغار؟!
إن الله عز وجل قد ألقى في روعهم ألا ينظروا إلى داخل الغار، مع أن هذه النظرة لن تأخذ أكثر من دقيقة واحدة وربما ثوانٍ أقل، ولا شك أنهم قد أخذوا ساعات طويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان، لكن هذا فعل الله عز وجل...
روى الإمام أحمد والطبراني وعبد الرازق والخطيب أن عنكبوتا قد نسج خيطًا كثيفًا حول الباب، وهذه معجزة ظاهرة، فقال الكفار: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا من كل طرقه إلا أن كثرة طرقه يقوى بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديث الحسن، أما قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًا لا تصح، وأنا أرى أنه حتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضًا من رب العالمين، إذ كيف لا ينظر الناس في داخل الغار مع كونه مفتوحًا، فسواء نسجت العنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من رب العالمين، والنتيجة واحدة: نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه من هذه المطاردة المكثفة.
مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقررًا في الخطة المرسومة، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر بدوره، وحان وقت الرحيل إلى المدينة، وجاء عبد الله بن أريقط الدليل بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وجاء بناقة ثالثة له، وجاء معه أيضًا عامر بن فهيرة ليرافق الراكب المهاجر إلى المدينة، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة غرة ربيع الأول من سنة 14 من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتخُِّذَتْ بعض الإجراءات الأخرى:
أولًا: الخروج ليلًا من الغار. ثانيًا: الإمعان في اتجاه ناحية اليمن.
ثالثًا: الاتجاه غربًا ناحية سحل البحر الأحمر، ثم الاتجاه شمالًا في الطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.
رابعًا: كانت هذه نقطة تأمينية من الصديق رضي الله عنه لم يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطة المسبقة، ولكن استحدثها الصديق رضي الله عنه لزيادة حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يسير أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ثم يسير خلفه تارة، وهكذا طوال الطريق، ولما تنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك سأله عن ذلك فقال الصديق رضي الله عنه في حب عميق: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ (المطاردة) فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ (الكمائن) فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
يتمنى أن لو جاء سهم أن يدخل في ظهره أو في صدره، ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء.
سراقة بن مالك وسواري كسرى
وهكذا سارت القافلة المباركة من مكة إلى المدينة، وعلى الجانب الآخر نشط الكفار في تحفيز أهل مكة جميعًَا للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ونشط الوصوليون، و أصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع، وبحثوا في كل مكان، ولم يوفقوا جميعًا إلا واحدًا...إنه سراقة بن مالك
بعض الناس رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هكذا ظنوا، فذكروا ذلك أمام سراقة فضللهم عنه ليفوز هو بمائة الناقة، ثم أمر بفرسه وسلاحه وخرج في إثر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى رآهم من بعيد، واقترب منهم حتى كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت كما يقول سراقة وكما جاء في البخاري، وأبو بكر يكثر الالتفات، ثم حدثت المعجزة بأن بدأت أقدام الفرس تسوخ في الأرض، مرة والثانية والثالثة، حتى أدرك سراقة أن القوم ممنوعون، فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وأخبرهم أن القوم قد جعلوا فيهم الدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْفِ عَنَّا". ثم قال له قولًا عجيبًا، قال: "كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سُوَارَيْ كِسْرَى".
فطلب سراقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابًا بذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا ؛ فكتب له على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق، فكان في أول اليوم جاهدًا في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، و في آخر اليوم مدافعًا عنه، وسبحان الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر:31] .
وسبحان الله، مرت الأيام، وأسلم سراقة بعد فتح مكة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب، وفيها سوارا كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه لعمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:3، 4] .
لم يعكر صفو الرحلة بعد ذلك شيء إلى أن اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ففوجئ برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة، وكانوا في أول اليوم من المشركين فأصبحوا في آخره من الصحابة، فانظر إلى عظيم فضل الله عليهم وعلى الدعوة، فقد كانت السنوات تمضي في مكة حتى يؤمن عدد مثل هذا هناك، وهاهو الآن هذا العدد يؤمن في لحظة.
المهم أنه في النهاية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالمًا، وذلك في يوم 12 من ربيع الأول سنة 14 من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمة جدًا في الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة
من أبطال الهجرة
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميمي، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصِّدِّيق، وكنية أبيه أبو قحافة.
كان أبو بكر رضي الله عنه يسمَّى أيضًا: عتيقًا، وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أنت عتيق من النار"، وقيل: إنه سُمِّي كذلك لحسن وجهه وجماله، ولقب بالصديق لتصديقه بكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وخاصة تصديقه لحديث الإسراء وقد أنكرته قريش كلها، وأبو بكر الصديق أفضل الأمة مكانة ومنزلة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أول من أسلم من الرجال، وهو رفيق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هجرته، وخليفته على المسلمين.
هجرتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــه:
لما أذن الله -عز وجل- لنبيه بالهجرة إلى المدينة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يهاجروا، وجعل أبو بكر يستأذنه في الهجرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يمهله ويقول له: "لا تعجل لعلّ الله يجعل لك صاحبًا"، حتى نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أن قريشًا قد خططت لقتله، وأمره ألا يبيت ليلته بمكة وأن يخرج منها مهاجرًا، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وفتيان قريش وفرسانها محيطون ببيته ينتظرون خروجه ليقتلوه، ولكن الله أخذ أبصارهم فلم يروه، وتناول النبي -صلى الله عليه وسلم- حفنة من التراب فنثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون، وذهب -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكر -وكان نائمًا فأيقظه- وأخبره أن الله قد أذن له في الهجرة، تقول عائشة: "لقد رأيت أبا بكر عندها يبكي من الفرح"، ثم خرجا فاختفيا في غار ثور، واجتهد المشركون في طلبهما حتى شارفوا الغار، وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم:
ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!"، وأقاما في الغار ثلاثة أيام ثم انطلقا، وكان أبو بكر أعرف بالطريق، وكان الناس يلقونهما فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: "إنه رجل يهديني الطريق"، وبينما هما في طريقهما إذ أدركهما سراقة بن مالك، وكان قد طمع في النياق المائة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أو رمحين فكرر أبو بكر مقولته على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبكى، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِمَ تبكي؟)، فقال أبو بكر: "يا رسول الله والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك"، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم اكفناه بما شئت"؛ فساخت قوائم الفرس ووقع سراقة وقال: "يا محمد إن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمّينَّ على مَن ورائي"، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام ووعده إن أسلم بسواري كسرى، واستمرا في طريقهما حتى بلغا المدينة، واستقبل الصحابة مهاجرين وأنصار رسول الله وصاحبه بسرورٍ وفرحٍ عظيمين، وانطلق الغلمان والجواري ينشدون الأنشودة الشهيرة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.
اضطهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــاده:
كان أبو بكر ذا مكانة ومنعة في قريش، فلم ينله من أذاهم ما نال المستضعفين، ولكن ذلك لم يمنع أبا بكر من أن يأخذ حظه وقسطه من الأذى، فقد دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة واجتمع المشركون عليه وسألوه عن آلهتهم وهو لا يكذب، فأخبرهم فاجتمعوا عليه يضربونه، وجاء الصريخ أبا بكر يقول له: أدرك صاحبك فأسرع أبو بكر إليه وجعل يخلصه من أيديهم وهو يقول: "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا يضربونه حتى حمل أبا بكر أهل بيته وقد غابت ملامحه من شدة الأذى.
أعمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــاله:
لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- مواقف وأعمال عظيمة في نصرة الإسلام منها:
إنفاقه كثيرًا من أمواله في سبيل الله؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال أبي بكر)، فبكى أبو بكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه)، وقد أعتق أبو بكر من ماله الخاص سبعة من العبيد أسلموا وكانوا يعذبون بسبب إسلامهم منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة. عندما مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن حوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت عائشة: يا رسول الله لو أمرت غيره، فقال: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"، وقال عليّ بن أبي طالب: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر فصلى بالناس وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض ولو شاء أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا".
- عندما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- فتن الناس حتى أن عمر بن الخطاب قال: "إن رسول الله لم يمت ولا يتكلم أحد بهذا إلا ضربته بسيفي هذا"، فدخل أبو بكر وسمع مقالة عمر فوقف وقال قولته الشهيرة: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت...".
- بعد مبايعة أبي بكر بالخلافة أصر على إنفاذ جيش أسامة الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جهّزه وولى عليه أسامة بن زيد، وكان فريق من الصحابة منهم عمر قد ذهبوا لأبي بكر وقالوا له: إن العرب قد انتفضت عليك، فلا تفرق المسلمين عنك فقال: "والذي نفسي بيده لو علمت أن السباع تأكلني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر الرسول بإنفاذه ولا أحلّ لواءً عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده"، واتخذ الجيش سبيله إلى الشام تحت إمرة أسامة. واجه أبو بكر في بدء خلافته محنة كبرى تمثلت في ردة كثير من قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنعت بعض القبائل زكاة أموالها، وأمام هذه الردة جهز أبو بكر الجيش، وقرّر حرب المرتدين جميعًا، واعتزم أن يخرج بنفسه على قيادة الجيش غير أن علىّ بن أبى طالب لقيه وقد تجهز للخروج فقال له: "إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ضم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك ما يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع أبو بكر، وولى خالدًا على الجيش، وسار خالد فقضى على ردة طليحة الأسديّ ومن معه من بني أسد وفزارة، ثم توجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة بن خسر ومن معه من بني حنيفة، وكان يوم اليمامة يومًا خالدًا كتب الله فيه النصر لدينه وقتل مسيلمة وتفرق جنوده ومضى المسلمون يخمدون نار الفتنة والردة حتى أطفأها الله تعالى، ثم استمر جيش خالد في زحفه حتى حقق نصرًا عظيمًا على الروم في معركة اليرموك.
لما أحس أبو بكر بقرب أجله شاور بعض كبار الصحابة سرًّا في أن يولي عمر بن الخطاب الخلافة من بعده فرحبوا جميعًا، غير أن بعضهم اعترض على غلظة عمر فقال أبو بكر: "نعم الوالي عمر، أما إنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد، إن عمر رأى لينـًا فاشتد، ولو كان واليًا للان لأهل اللين على أهل الريب"، ثم أمر أبو بكر عثمان فكتب كتابًا باستخلاف عمر.
من أقوالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــه:
- كان أبو بكر إذا مدحه أحد قال: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون". لما بايعه الناس خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم خطب فيهم فقال: "أما بعد.. أيها الناس فإني قد ولِّيت عليكم -ولست بخيركم- فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ألا إن الضعيف فيكم هو القوي عندنا حتى نأخذ له بحقه، والقوي فيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
- عندما امتنع بعض المسلمين عن أداء الزكاة قرّر أبو بكر قتالهم فذهب عمر إليه وقال له: "كيف تقاتلهم وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، فقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة من حق الله، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه"، قال عمر: "فلما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أن الحق معه".
من مواعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــظه:
إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة".
وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد".
اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه فصدقوا قوله، وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة".
قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: "إني مستخلفك على أصحاب رسول الله، يا عمر: إن لله حقـًّا في الليل لا يقبله في النهار، وحقًّا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفـًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقي فيها ما بيديك، يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟، فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه".
وفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات ه:
توفِّي أبو بكر -رضي الله عنه- في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة قيل: يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى، وقيل: مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة، وصلّى عليه عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر قد ولد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وأشهر، ومات بعده بسنتين وأشهر مستوفيًا ثلاثة وستين عامًا وهو نفس العمر الذي مات عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستمرت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا.
وقال عمر في حقه: "رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا".
رثاه علي بن أبى طالب وهو يبكي بكاء عظيمًا يوم موته بكلام طويل منه: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانـًا، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتـًا... سمّاك الله في تنزيله صدِّيقـًا فقال: "والذي جاء بالصدق وصدق به..."، فالذي جاء بالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي صدق به أبو بكر، واسيته حين بخل الناس، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي...".
مصعب بن عمير
مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي، كنيته أبو عبد الله، وُلد في الجاهلية، كان شابًّا جميلاً عطرًا، حسن الكسوة، وكان أبواه ينعمانه.
أسلم ورسول الله r في دار الأرقم، وكتم إسلامه؛ خوفًا من أمّه، وكان يختلف إلى رسول الله r سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري، فأعلم أهله، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، رجع مع من هاجر إلى مكة ثانية، والتقى رسول الله r.
كان مصعب بن عمير أوّل من هاجر إلى المدينة، وذلك أنَّ الأنصار كتبوا إلى رسول الله r أن ابعث لنا رجلاً يفقهنا في الدين ويقرئنا القرآن، فبعثه r إليهم.
حينما قدم المدينة نزل على أسعد بن زرارة، وكان يأتي الأنصار في دُورهم أو قبائلهم فيدعوهم إلى الإسلام.
أسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وبعث إليه عمرو بن الجموح بعد أن قدم المدينة ليسأله عن أمر الدين الجديد، فأجابه مصعب، وأسمعه صدر سورة يوسف، فأسلم على يده.
خرج من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله r في العقبة الثانية، وأقام مع رسول الله r بمكة بقية ذي الحجّة ومحرّم وصفر.شهد بدرًا وأحدًا مع رسول اللّه r، وكان لواء الرسول r معه.
استُشهد في معركة أحد سنة 3هـ، قتله ابن قثمة الليثي. قال رسول اللّه r: "ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أنعم نعمة، من مصعب بن عمير".قال سعد بن أبي وقاص: "كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّ لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا، حتّى لقد رأيت جلده يسقط كما يسقط جلد الحية".
قال عنه البراء بن عازب: "أول المهاجرين مصعب بن عمير". وقال عنه أبو هريرة t: "رجل لم أَرَ مثله كأنه من رجال الجنة".صارت قصة مصعب في الإسلام درسًا من دروس السماء الغالية لبني البشر؛ ليتعلموا حياة الرجال مع مبادئهم، واستعلائهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخاذ، بل والأكثر من هذا، أن يتقدم الولاء للعقائد قبل وفوق كل علائق وقرابات الدنيا.
أسماء بن أبى بكر
هي أسماء ابنة أبي بكر الصدِّيق، وأخت عائشة أم المؤمنين لأبيها، زوج الزبير بن العوَّام حواري رسولِ الله وابن عمته، وأم الفارس المغوار الخليفة عبد الله بن الزبير. أسلمت مع السابقين الأولين وكان ترتيبها في الإسلام (الثامن عشر)، وظلَّت في مكَّة تشارك المسلمين لنشر الدعوة، ومرارة الأذى في سبيل الله، حتى كانت الهجرة إلى المدينة، فكان لها ثلاثةُ مواقفَ سجَّلها لها تاريخ السيرة النبوية بفخار وإعزاز.
أسماء وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم حدَّثت عن أوَّلها، فقالت: صنعت سفرة للنبي r حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرة السفرة.وروي أن النبي قال لها حين فعلت ذلك: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة". فقيل لها: (ذات النطاقين).حدَّثت عن ثانيها: لما خرج رسول الله وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا عند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشًا خبيثًا- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.وحدثت عن الموقف الثالث، فقالت: لما خرج رسول الله r إلى الهجرة، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيد جدي فقلت: يا أبت.. ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم ها فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني لأردت أن أسكن الشيخ بذلك.
أسماء المســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلمة
ليست امرأة فارغة همها زينتها، وإنما هي مؤمنة همها رسالتها، فلا عجب أن تكتم السر في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشق نطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وتحسن الحيلة لإرضاء جدها، وهي سعيدة بما تصنع من أجل دينها ورسالتها.
أسماء الزوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــة
تزوجت أسماء الزبير قبل الهجرة، وكلاهما مسلم خالطت بشاشة الإيمان قلبه، وامتزج الإسلام بلحمه ودمه، فكانا مثال الزوجين المتوافقين ضمهما هدف واحد، وطريقة واحدة، تحت لواء واحد.. هاجر إلى المدينة فهاجرت، وجاهد فشدت أزره، وصبرت في ضرائه، وشكرت في سرائه. لم يمنعها مكان أبيها، ولا شرف قومها، أن تقف إلى جانبه في أيام الشدة والفقر، تعمل وتكدح وتُعَمِّرَ عش الزوجية بكدِّ اليمين، وعرق الجبين.
قالت أسماء: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيت كله، وأعلف فرسه، وأسوسه وأكفيه مئونته، وأحشُّ له وأقوم عليه، وأدق النوى لناضحه (إبله)، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير، على ثلثي فرسخ، وكنت أعجن وأسقي الماء، وأخزر الدلو.
ولم تطل المدة حتى انتشرت دعوة الإسلام، وفاض الخير على المسلمين، وكان للزبير -فيما له- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وتمت كلمة ربك على المؤمنين بما صبروا، وصدق الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41].
أسمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــاء الأم
ظل المسلمون بعد الهجرة بمدة لا يولد لهم ولد، وأشاع اليهود أنهم سحروهم فلن ينجبوا، حتى كذبهم القدر، فولدت أسماء ابنها "عبد الله"، فكان أول مولود في المدينة، فاستبشر المسلمون وكبَّروا، وولدت بعد ذلك "عروة" و"المنذر"، وما منهم إلا عالم أو فارس، على أن موقفها مع ابنها عبد الله هو الذي جعل التاريخ يصغي لها سمعه، ويكتبها في سجل الأمهات الخالدات.
محنة ابنها عبد الله بن الزبير
بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة في معظم بلاد الشام: في الحجاز، واليمن، والعراق وخراسان، وظل تسع سنوات ينادى بأمير المؤمنين، حتى شاءت الأقدار -لحظ بني أمية- أن تزول الخلافة من أرض الحجاز.جاء الحجاج بجند الشام فحاصر ابن الزبير في مكة، وطال المدى، واشتد الحصار، وتفرق عنه أكثر من كان معه، فدخل عبد الله على أمه قبل قتله بعشرة أيام، فقال لها: إن في الموت لراحة. قالت: لعلك تمنيته لي؟ ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت فأحتسبك، وإما ظفرت فتقر عيني. فلما كان اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه، فقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولداي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فماذا ترين؟
وهناك أمسك التاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، من لحظة حاسمة من لحظات الخلود: الأم التي شاب رأسها ولم يشب قلبها، وشاخ جسدها ولم يشخ إيمانها، وانحنى ظهرها ولكن عقلها ظل مستقيمًا مسددًا.. قالت أسماء: أنت والله يا بني أعلم بنفسك: إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟!.. القتل أحسن.قال: إني أخاف أن يُمَثِّل بي أهل الشام.قالت: إن الكبش لا يؤلمه سلخه بعد ذبحه.
فدنا ابن الزبير فقبَّل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.
قالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا.
قال: جزاك الله خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد.قالت: لا أدعه أبدًا، فمن قتل على باطل فقد قُتِلتُ على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. وذهب عبد الله فقاتل الساعات الأخيرة قتال الأبطال، وهو يتمثَّل صورة أمه في عينيه، وصوتها في أذنيه، مرتجزًا منشدًا:
أسماء يا أسماء لا تبكنيلم يبق إلا حسبي ودينيوصارم لأنت بـه يميني وما زال على ثباته حتى قُتل، فكبر أهل الشام لمقتله، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الذين كبروا لمولده خير من الذين كبروا لموته.
مع الحجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــاج
صلب الحجاج عبد الله بن الزبير مبالغة في التشفي والإرهاب، ثم أرسل إلى أمه أسماء فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول: لتأتينني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني.
فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخل عليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟
قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهاه.
قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله.
قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
قال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم.قالت: كذبت! كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وكان برًّا بأبويه صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحرم الله، مبغضًا لمن يعصي الله، أما إن رسول الله حدثني أن في ثقيف كذَّبًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه (تعني المختار بن عبيد الثقفي)، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.فخرج الحجاج من عندها منكسرًا يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليها مزهوًّا يريد أن يتشفَّى.هذه أسماء العجوز في سن المائة، وهذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه. إن الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئًا صغيرًا كالهباء، وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالمارد العملاق.وبلغ عبد الملك بن مروان ما صنع الحجاج مع أسماء فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول: ما لك وابنة الرجل الصالح؟ وأوصاه بها خيرًا. ودخل عليها الحجاج فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟
قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة.
وأخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــيرًا..
آن للفارس المصلوب أن يترجل، وينزل من فوق خشبته ويسلَّم إلى أمه فتحنّطه وتكفنه وتصلي عليه وتودعه جوف الثرى، ليلتقي في دار الخلود بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدته صفية، وخالته عائشة،
وهكذا استقبلت المصيبة الكبيرة بنفس أكبر، وإيمان أقوى!!
دخل عليها عبد الله بن عمر، وابنها مصلوب. فقال لها: إن هذا الجسد ليس بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري.
ما هي حقيقة المعجزات الحسية التي جرت أثناء الهجرة النبوية الشريفة؟
حيث إن الله أعمى أبصار المشركين الواقفين حول بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الهجرة حتى خرج من بينهم سالمًا، وإن العنكبوت نَسَجَتْ على الغار فلم يستطيعوا رؤيته؟ فهل هذا صحيح؟ وقد أجاب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي قائلاً:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:
فالصنف الأول: يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب سواء كانت للمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافق ذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه. المهم أن يروي ذلك في كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحو ذلك.
وهذه عقلية عامية لا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيح والمختلق الموضوع.وقد ابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بها بطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريح المعقول.
وبعض المؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك. ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا في الأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيب والترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلوا وتسامحوا.
ومؤلفون آخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها، فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرون قيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها : أهم ثقات مقبولون أم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأوا أنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصور الأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلى السند.
وهذا هو موقف جمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أو غيرها .يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية ، وعمدته في ذلك : أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم وهو الذي وقع به التحدي: أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله.
ولما طلب المشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفض القاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟) . سورة الإسراء 90 – 93.وفي موضع آخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) . (سورة الإسراء( 59 :وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كل الكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى ) :أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . (سورة العنكبوت(51:وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقلية أدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".ويبدو لي أن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:
أولاً : افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمة على ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لا يتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أن ينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الثاني : غلو الصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسباب والسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلو مثله.وهنا يظهر الرأي الوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحه وأتبناه. وخلاصة هذا الرأي:
-1- أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوة محمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته ؛ وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب : ماضيه وحاضره ومستقبله.-2 أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانت تكريمًا من الله له، أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد؛ فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين، وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشار إليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لم يصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك.
3 إننا لا نثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة الثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأ به.
فمن الصحيح الثابت:
أ) ما رواه جماعة من الصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلما صنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت.قال العلامة تاج الدين السبكي : حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين، من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنه متواتر.
ب) ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضة الماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثل غزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه به جميعًا.
وروى البخاري عن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربع عشرة مائة ( أي 1400) وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال : فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا )سقتنا وروتنا( ماشيتنا نحن وركابنا.والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة، ومروية بأصح الطرق.جـ)ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه .. إلخ.
د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم -، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن : إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينية وغيرها.
ونكتفي هنا بما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة من المدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف.أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون .
وظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولاشك والنصر بجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر
الخاتـمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــة:
هل الهجرة كانت أمرًا خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ،أم هاجر غيره من الأنبياء؟.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلم تكن الهجرة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هاجر عدد من أنبياء الله تعالى ، ولكن اختلفت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن هجرة الأنبياء، ، فلم يكن الهدف منها فرارًا من العذاب، ولكن كان الهدف منها إقامة دولة الإسلام ، من خلال هذه الهجرة المباركة.
وفي ذلك يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
لقد هاجر رسل الله عامة أو عدد كبير منهم ، ولكن لم تكن هجرتهم مثل هجرة محمد عليه الصلاة والسلام ، هاجر إبراهيم، قال الله تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) ، وفي آية أخرى وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فخرج من بلد إلى بلد إلى أن استقر به المقام في فلسطين، وفي المدينة التي دفن فيها وسميت باسمه -عليه الصلاة والسلام- مدينة الخليل إبراهيم .
وهاجر موسى عليه السلام ، ولكن كانت هجرته قبل البعثة حينما خرج من مصر بعد أن قتل ذلك القبطي خطأ واستغفر الله وقال له من قال (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ، فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين)، وذهب إلى مدين وتزوج فيها وعاش فيها عشر سنوات مع ذلك الشيخ الكبير بعد أن تزوج ابنته، ولم يكن له في هذه المدة- السنوات العشر- عمل يذكر، كان شاباً صالحاً، وزوجاً طيباً، و صهراً كريماً، عاش مع هذا الرجل عشر سنوات ولكن لم يقم فيها بدور .
ولم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام كهجرة موسى حينما قال (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين) ، لم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام لمجرد الفرار من الفتنة أو الهرب من الإيذاء والتضييق ، لا ، لقد كانت الهجرة سعياً حثيثاً لإقامة مجتمع جديد ، مجتمع إسلامي بمعنى الكلمة ، كانت سعياً لإقامة مجتمع وبناء أمة، وإنشاء دولة جديدة تقوم على الربانية والإنسانية والأخلاقية والعالمية، كان هذا هو هدف محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الهجرة ، وفعلاً استطاع أن يقيم هذه الدولة، وأن يؤسس هذا المجتمع، وينشئ هذه الأمة الجديدة خير أمة أخرجت للناس.انتهى
والخلاصة أن عددًا من أنبياء الله هاجروا، ولكن كان لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم سمات خاصة، فلم يكن الهدف منها فرارًا من العذاب، ولكن كان الهدف منها إقامة دولة الإسلام ، من خلال هذه الهجرة المباركة
.
لم تكن الهجرة أمرًا سهلًا ميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقد عمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وترك الذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقة جدًا، الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولا فرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجر المهاجرين:
الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيم}[لحج:58، 59]لذلك كانت هجرة الرسول الكريم بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم و أبناءهم وأموالهم، وجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر...
الضعفاء والأقوياء...
الفقراء والأغنياء...
الرجال والنساء...
الأحرار والعبيد...
الكل يهاجر إلى المدينة...هناك مشروع ضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامة أمة إسلامية، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم،فلا مكان للكسل، أو الكلام فقط بل العمل والعمل الجاد، انظر إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:97،100] .صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه صلي الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان؛ فالقيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، القيادة مسئولية،وتضحية، وأمانة.وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجرَ ما نهى الله عنه". [البخاري:كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده/9]، وفي رواية ابن حبان: "المهاجرُ من هجر السيئات، والمسلمُ من سلمَ المسلمون من لسانه ويده".[ابن حبان/196]أما ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"[البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير/2575]، وزاد مسلم في روايته"وإذا استنفرتم فانفروا"، فالمراد بلا هجرة بعد الفتح أي لا هجرة واجبة بعد الفتح، وإذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة المعنوية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الإسلام والجهاد والخير"[مسلم/3466]، وعن أبي هند البجلي قال، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".[أحمد/16301 ]والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل الله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟
والعبادة قد تصل بالإنسان إلى أجر الهجرة، بخاصة إذا كانت العبادة في وقت غفل العباد عن طاعة الله، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "[مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج/5242]والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [البخاري: كتاب الأدب باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه/5671
طبيعة الهجرة وطبيعة المهاجرين:
كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فتنة الإيذاء و التعذيب، فلما أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة؛ أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم، ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم، أمام الفتنة الأولى و الثانية، قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد .
وعندما أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى المؤمنين بمكة أن يهاجروا جميعًا إلى المدينة المنورة، فخرج المسلمون أفرادًا وجماعات إلى هناك، وبدأت المدينة المنورة تستقبل المهاجرين الذين فروا بدينهم من مكة، وتوجهوا إلى المدينة، وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع، فتركوا الأمتعة و الأثقال في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنها بالأخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليؤوهم وينصرونهم .
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله: لا يبالى بالوطن ولا بالمال في سبيل أن يسلم له دينه. يقول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. [الأنفال: 72]
ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
(1) وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
وما يستدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98) } [النساء:97،98]
(2) وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً، فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على إنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك فهم آثمون.
وقصص المهاجرين كثيرة وعظيمة ولكن نقف على أربع قصص فقط تكشف لنا عن طبيعة الهجرة وعن طبيعة المهاجرين:
القصة الأولى :
قصة هجرة آل سلمة رضي الله عنهم أجمعين:
كان أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه من أوائل من هاجر كما كان رضي الله عنه من أوائل من أسلم، وكان هو وزوجته أم سلمة من قبيلة واحدة هي قبيلة بني مخزوم، ومع الشرف والمكانة والوضع الاجتماعي إلا أنهم تركوا كل ذلك، وانطلقوا إلى المدينة المنورة، ولكن بعد أن خرج الرجل وزوجته وابنهما سلمة لحقت بهم عائلة أم سلمة وقالوا لأبي سلمة: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتُركُك تسير بها في البلاد؟ فغلبوه على زوجته فأخذوها، وبالطبع ترك معها ابنهما سلمة ثم انطلق هو وحيدا رضي الله عنه إلى المدينة المنورة؛ امتثالًا لأمر الهجرة إلى هناك، أما السيدة أم سلمة رضي الله عنها فبعد أن هاجر زوجها جاء إليها أقارب زوجها، ومع أنهم من نفس القبيلة- قبيلة بني مخزوم- إلا أنهم قالوا : لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وجاء أقارب أم سلمة يدافعون عن الغلام الصغير، فأخذ الفريقان يتجاذبان الغلام حتى أصابوه بخلع في يده، ثم أخذه في النهاية أقارب أبي سلمة، وتركوا السيدة أم سلمة رضي الله عنها وحيدة في مكة، لقد هاجر زوجها إلى المدينة، وأُخذ ابنها الوحيد منها وبقيت بمفردها تحمل في قلبها كل هذه الآلام، فكانت رضي الله عنها تخرج كل يوم إلى الأبطح - حيث المكان الذي شهد مأساة التفريق بينها و بين زوجها وابنها- وتظل تبكي من الصباح إلى المساء، ثم تعود إلى بيتها آخر الليل، وظلت تفعل ذلك كل يوم، كم بقيت على هذه الحالة الأليمة؟!لقد ظلت سنة كاملة أو قريبًا من سنة...
آلام رهيبة تحملتها السيدة العظيمة أم سلمة، وآلام رهيبة تحملها زوجها الجليل أبو سلمة وهو في ديار الغربة وحيدًا، وآلام رهيبة تحملها الطفل الصغير سلمة وهو معزول عن والديه، لا لشيء إلا لأنهما آمنا بالله رب العالمين، لكن هذا هو الطريق الطبيعي للجنة، وهذه هي الأثمان التي تشترى بها هذه الجنة، "أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".وبعد عام رقَّ قلبُ رجل من بني عم أم سلمة لحالها، فذهب إلى أهلها وقال لهم : ألا تطلقون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها. ومازال بهم حتى قبلوا، ثم ذهبت إلى أهل زوجها، فلما علموا أنها ستذهب إلى زوجها أعطوها الغلام، ورأت ابنها واحتضنته بشده بعد عام من الفراق، ثم ما استطاعت صبرًا على فراق زوجها، فما انتظرت أن يتوفر لها صحبه آمنة إلى المدينة، ولكنها أخذت ابنها سلمة، وانطلقت به بمفردها إلى المدينة، والمسافة تقترب من خمسمائة كـم، ولكنها قررت أن تقطع كل هذه الصحراء في سبيل الله، وخرجت السيدة الكريمة أم سلمة مع ابنها تسرع في خطواتها إلى دار الهجرة، ولكن الله عز وجل الرحيم بعبادة سخر لها من يأخذ بها في صحبة آمنة من مكة إلى المدينة، سخر لها جنديًا من جنوده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، لقد سخر لها رجلًا مشركًا، سبحان الله، رآها عثمان بن طلحة- وكان ما زال على شركه - وهى بالتنعيم على مسافة حوالي خمسة كيلو متر من مكة، فقال لها : إلى أين؟ فقالت: أريد زوجي في المدينة، قال: أوَ معك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله ثم ابني هذا، فتحركت النخوة في قلب الرجل المشرك، وأظهر مروءة عالية وقال لها: والله لا أتركك أبدًا حتى تبلغي المدينة، ثم أخذ بخطام ناقتها وانطلق يسحبها إلى المدينة وهو يسير على قدميه.
خمسمائة كيلو متر وعثمان بن طلحة يسير على قدميه ليصل بامرأة وحيدة من مكة إلى المدينة، وهو لا يرتبط معها بصلة قرابة، وهى وزوجها على دين يكرهه ويحاربه، لكنها النخوة والمروءة، ولما وصلوا إلى قباء قال عثمان لأم سلمة: زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله. فدخلت السيدة أم سلمة إلى المدينة، وعاد عثمان بن طلحة إلى مكة ماشيًا دون أن ينتظر كلمة شكر أو ثناء من زوج السيدة أم سلمة أو أحد المسلمين.
والحمد لله أن الله عز وجل قد منّ عليه بالإسلام في العام السابع من الهجرة، وإلا كنا قد حزنَّا حزنًا كبيرًا على بقاء مثل هذه الأخلاق الرفيعة في معسكر الكافرين.
القصة الثانية:
هجرة صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه:
لم يكن صهيب رضي الله عنه من أهل مكة، ولم تكن له قبيلة تمنعه، وكان يعمل بصناعة السيوف، وكانت هذه الصناعة تدر عليه مالًا وفيرًا، ثم جاء القرار بالهجرة، فقرر صهيب رضي الله عنه أن يترك تجارته، ويتجه إلى المدينة ليبدأ حياة جديدة هناك، وعند خروجه وقف له زعماء الكفر بمكة، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، هنا يفكر صهيب رضي الله عنه، يقول في نفسه: ما قيمة المال ولو كان مال الدنيا، إن أنا خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أنا تخلفت عن صحبة المؤمنين، وإن أنا تركت العمل لله عز وجل؟! وجد صهيب رضي الله عنه أن الثمن الذي سيدفعه زهيد للغاية بالقياس إلى ما سيحصله، لم يكن اختبارًا صعبًا على نفس صهيب، لقد قرر أن يشتري الجنة منذ زمن، وكلما مر عليه الوقت ازداد إصرارًا على قراره، قال لهم صهيب في بساطة: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟
قالوا وقد سال لعابهم لثروة صهيب الطائلة: نعم
قال صهيب: فإني قد جعلت لكم مالي، وأعطاهم كل ما يملك، وهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يقين: "رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ".
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيبًا قال مبشرًا له ومهنئًا: "رَبِحَ الْبَيْعَ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعَ أَبَا يَحْيَى". وفيه وفى أمثاله نزل قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [البقرة:207].
القصة الثالثة:
قصة هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وهى قصة مختلفة جدًا عن هجرة بقية الصحابة، فبينما كان الصحابة عمومًا يهاجرون سرًا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا، لقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع: "يا معشر قريش، من أراد أن تثكله أمه، أو يُوتمَّ ولدُه، أو تُرَمَّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي".
يقول هذا الكلام وهو متقلد سيفه، وفي يده الأخرى عدة أسهم، فلم يخرج خلفه أحد، وهكذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه علانية...
لماذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا بينما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه سرًا كما سنرى بعد ذلك؟
الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، وسوف يتبعه في طريقته عموم المسلمين سواء في زمان مكة أو في الأزمان التي ستلي ذلك إلى يوم القيامة، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه، وليس مطلوبًا منهم ذلك، إنما المطلوب هو الحذر والاحتياط والأخذ بالأسباب الكاملة لضمان سلامة الهجرة، فعملية الهجرة في حد ذاتها ليست هدفًا، إنما الهدف هو الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، فيجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة، ولو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية لأصبح لزامًا على كل المسلمين أن يخرجوا علانية، وهذا ليس من الحكمة.
ومع ذلك فهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الصورة لم تكن مخالفة شرعية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه هذه الطريقة في الهجرة، وكانت هذه الطريقة وسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يرهب به أعداء الله، وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا، ونتائجه عظيمة على الدعوة، وأمرنا الله عز وجل به في كتابه فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] .
وقد وقعت الرهبة فعلًا في قلوب الكافرين، فلم يخرج خلفَ عمر أحدٌ، بل أكثر من ذلك لقد هاجر مع عمر رضي الله عنه عشرون من ضعفاء الصحابة، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ يقول:
إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة.
القصة الرابعة:
هجرة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه:وكان عياش بن أبي ربيعة ممن هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهل من أمه، وبعد أن وصل عياش إلى المدينة علم أبو جهل بهجرته، فماذا فعل أبو جهل؟
لقد أخذ أخاهم الثالث الحارث بن هشام وانطلق إلى المدينة المنورة، سفر بعيد ( خمسمائة كيلو متر ) وعملية خطرة، ومجازفة كبيرة، وبذل ومجهود وعرق ووقت {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وصل أبو جهل إلى قباء والتقى بأخيه عياش بن أبي ربيعة في وجود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال أبو جهل: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرقَّ لها عياش، وكان بارًا جدًا بأمه.
فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال عياش ( وقد خُدِع بكلام أخويه ): أبر أمي، ولي مال هناك آخذه.
فقال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما.
ولكن أبى عياش إلا أن يعود ليبر قسم أمه.
فقال له عمر: أما إذا قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
وخرج عياش وأخواه أبو جهل والحارث بن هشام إلى مكة، حتى إذا ابتعدوا عن المدينة دبر الأخوان الكافران خدعة وأمسكا بعياش وقيداه بالحبال، ودخلوا به مكة موثقًا، ثم قالا لأهل مكة: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
وحُبِس عياش بن أبي ربيعة فترة من الزمان، ولم ينج إلا بعد أن أرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة وهو الوليد بن الوليد لإنقاذه في مغامرة رائعة.
كانت هذه بعض النماذج لهجرة بعض الصحابة من مكة إلى المدينة، وواضح أن الأمر لم يكن بسيطًا، بل كانت الهجرة تعني البذل والعطاء والتعب والنصب، كان في الهجرة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، وفوق ذلك فهم يهاجرون إلى المجهول، فكل الصحابة لم يذهبوا قبل ذلك إلى المدينة المنورة، ولا يعرفون أهلها ولا طباعهم، ولم يلتقوا باليهود من قبل- وهم يتواجدون بأعداد كبيرة في المدينة- غير أن المسلمين يعلمون عنهم أنهم قوم سوء وأهل مخالفة لأنبياء الله ورسله، كما أنهم أهل حرب وقتال وقوتهم الاقتصادية لا يستهان بها.
كل هذا كان يصعب من الهجرة، ولكنها كانت خطوة لا بد منها ـ على خطورتها ـ لبناء الأمة الإسلامية، وهكذا هاجر المسلمون في مكة، وقد هاجر معظم المسلمين الذين استطاعوا الهجرة في شهري المحرم وصفر من السنة الرابعة عشر من النبوة أي بعد بيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان بقاء أبي بكر وعلي رضي الله عنهما بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هجرة الرسول ووضع الخطة
القلق يغزو قريشا
أما قريش فإنها كانت ترقب الموقف على وجل، فإنها تفاجئ كل يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير من ديار مكة من سكانها، وقد أثر ذلك في قريش وزعمائها ،فما منهم من أحد إلا وله قريب أو ابن مهاجر مما مزقهم بين الحب الفطري لأبنائهم وأقاربهم وبين كراهيتهم وتغيظهم على هذا الدين الذي تسبب في هذا الفراق - من وجهة نظرهم، وإلا فإن جهلهم وعنادهم هو السبب في كل ما يحدث - كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة سيسلب قريشا زعامتها التي تكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام أيضا يدعو لتعظيم البيت الحرام، كما سيقضي على تجارة بيع الأصنام والخمور وعلى الربا والبغاء.
ولم يكن يخفى على قريش أن الهجرة تمت إلى المدينة المنورة، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة من هناك، ولم تكن هجرة المؤمنين راحةً لأهل مكة المشركين، أبدًا، كان المشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون لبناء أمة مسلمة في المدينة المنورة، ولو تمَّ ذلك فلا شك أنهم سيعودون إلى مكة، لا لمجرد السكن فيها، ولكن لحكمها، ووقت يحكمونها فلن يقبلوا أن يظل العرب وغيرهم يتحاكمون إلى( هُبَل) وسدنته، بل سيُحكِّمون رب العالمين كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة عشر عاما قضاها في مكة لهذا الغرض؛ ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم، أضف إلى ذلك علم أهل قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال وأن المدينة حصينة جدًا، وأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثمَ فإن المدينة تستطيع أن تخنق مكة اقتصاديًا، وكانت مكة تتاجر بربع مليون دينار من الذهب سنويًا مع الشام في رحلة الشتاء، وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمنَ اليهود، وانضمت قوتهم إلى قوة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوة كبيرة عسكريا وماديا، والعقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لا عقل لهم.
كل هذه الأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكة، لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويوحد صفوفه، ويجهز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكة، إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم القبيلة العزيزة الشريفة؟!
مجلس شورى قريش يقرر اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
احتار القرشيون المشركون، فقرروا عقد اجتماع عاجل لكبار الزعماء في مكة لتدارس هذا الأمر، وذلك في دار الندوة، المقر الرئيس لاجتماعات قريش.
وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشر للبعثة تم عقد أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، و كان اجتماعًا طارئًا حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية عدا بني هاشم، وكانت أبرز الأسماء في هذا الاجتماع الخطير:
- أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم.شيبة و عتبة أبناء ربيعة وأبو سفيان بن حرب عن بني عبد شمس. النضر بن الحارث عن بني عبد الدار. أبو البختري بن هشام عن بني أسد. أمية بن خلف عن بني جمح. جبير بن مطعم عن بني نوفل. نبيه ومنبه ابنا الحجاج عن بني سهم.
وغيرهم، والجميع كانوا من قريش؛ لأنه لم يكن مسموحًا لأحد من غير قريش أن يدخل دار الندوة، ولم أجد دليلًا صحيحًا يؤكد القصة التي جاء فيها أن إبليس قد حضر معهم الاجتماع في صورة الشيخ النجدي، وإن كان- في رأيي- أنه أحيانًا تسبق شياطين الإنس بأفعالها شياطين الجن، ألم تروا أن الله عز وجل قد قدم ذكر شياطين الإنس في عداوتهم للأنبياء على شياطين الجن فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
تم الاجتماع الآثم، وبدأت الأفكار الإجرامية تخرج من زعماء قريش، وتطرح للمداولة، منهم من اقترح أن يقيدوه في بيته بالحبال، فلا يستطيع هجرة ولا حراكًا، ومنهم من اقترح نفيه خارج مكة إلى مكان بعيد، وكانت هذه الأفكار الإجرامية تخرج من الطائفة التي يسمونها بالمعتدلين من زعماء قريش، لكن كانت هناك طائفة أشد إجرامًا وهي ما يسمونها بالطائفة المتشددة، قال رجل من هذه الطائفة- لعله أبو جهل- لا بد من قتل هذا الرجل، يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ووافقت هذه الفكرة هوى عند المعظم، فقلوبهم السوداء كانت تحترق غيظًا وحسدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن عندهم الشجاعة للنطق بمثل هذا الرأي، وفوق ذلك فهم يخشون من بني هاشم، غير أن أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شابًا قويًا، فيحاصرون بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا تجد بنو هاشم أمامها حلًا إلا قبول الدية في قتيلها؛ فليست لهم طاقة بحرب كل القبائل.صوَّت الحاضرون على القرار، وسألهم أبو جهل: موافقون؟ قالوا: موافقون.وخرج زعماء قريش ينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
هجرة الرسول ووضع الخطة
نزل جبريل عليه السلام فورًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق. وذلك كما جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكون في فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمة للهجرة.
تعالوا نَعِشْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات النادرة،
وهو يدبر ويخطط ويرتب لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكة هو والصديق رضي الله عنه دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلًا:
أولًا: إنه يريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليخبره بأمر الهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.
ثانيًا: هل يا ترى سيكون الصديق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، والتي ستكون بعد ساعات فقط؟
ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكة، ولو خرجوا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله عليه وسلم حركة المطاردة المشركة له؟
رابعًا: في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير مازال مشغولًا برد الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظل محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.على الفور بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في حل هذه المشاكل فقرر أولًا أن يذهب إلى الصديق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرج في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصديق، وفي ذات الوقت هو وقت تخلو فيه شوارع مكة من المارة لشدة الحر، والأمر الثاني الذي قرره صلى الله عليه وسلم هو جَعْل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقد تغطى ببردة رسول الله عليه وسلم، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًا نائمًا في غطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظنونه الرسول صلى الله عليه وسلم، أي إنها عملية تمويه وإخفاء، وبهذا يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي للابتعاد عن مكة، وإلى جانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ رضي الله عنه أن يعيد الأمانات إلى أصحابها في اليوم التالي. فلا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غطى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله عليه وسلم، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على الصديق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصديق من قبل طيلة الأعوام السابقة حتى إن ذلك لفت نظر الصديق رضي الله عنه، فقال كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها وكما جاء في صحيح البخاري : فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ.وحتى هذه اللحظات والصديق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ:"أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. زيادة في الحذر "
فقال الصديق في اطمئنان:إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ.
هنا لم يستطع أبو بكر رضي الله عنه أن يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى...!!سبحان الله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي.فبكى من شدة الفرح؛ لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمه دون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصديق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًا حقيقيًا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات رضي الله عنه، حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تغير حبه في قلب الصديق أبدًا، وبهذا الحب وصل الصديق رضي الله عنه إلى ما وصل إليه، وقبل أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصديق رضي الله عنه يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ.كان الصديق رضي الله عنه يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعد السفر كان الصديق جاهزًا تمامًا لم يجهز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: بِالثَّمَنِ.
نعم الصديق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد وللإنفاق على الفقراء، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يريد من أحد أن ينفق عليه هو شخصيًا، فأصر أن تكون الراحلة مملوكة له بماله.
وقفة مع الصديق رضي الله عنه
وأنا أريد أن أقف هنا مع رد فعل الصديق رضي الله عنه لقرار الهجرة:
إنه كان مستعدًا تمامًا، استعدادا نفسيا كاملا للرحيل وترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنه أب وأنه زوج وأنه كذا وكذا لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنه رضي الله عنه كان يعطي العمل لله عز وجل قدره الحقيقي، ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.
وكان مستعدًا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلب منه.
وكان مستعدًا استعدادًا عائليًا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكة بنات صغارًا. وكان مستعدًا استعدادًا ماليًا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.هذا رجل يعيش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاته عالية...هذا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبان لكل خطوة حسابها، فوضعا سويًا خطة بارعة توفر أفضل الفرص للنجاة.خطة بارعة لتضليل المشركين
فما عناصر هذه الخطة؟
أولًا: سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصديق في بيته؛ وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه جزءًا من الليل، حتى تهدأ الحركة في مكة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق الراحلتين وينطلقان في الرحلة.
ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصديق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛ لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرج الصِّدِّيق الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه إلى الهجرة.
رابعًا: ستتم الهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر وهو طريق وعر غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.
خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف، والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًا على السر، وفي ذات الوقت لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذا في منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكة، وهو في ذات الوقت رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهاية صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.
سادسًا: سيتجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلو مترات، وهى مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكة وليست في جنوبها، ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
سابعًا: سيتم الذهاب إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينة إلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم، فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، على أن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور المخابرات الإسلامية في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه كل يوم بأخبار مكة، وتحركات القرشيين، وردود الأفعال لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق طوال الليل ثم يعود إلى مكة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
تاسعًا: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعام والماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها الصديق رضي الله عنه، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسير في الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو مترات في الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة...!!قد تظن هذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصديق رضي الله عنه.
وبذلك استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهما إلى الله عز وجل أن يكتب لهما النجاة.عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد وضع الخطة المحكمة، وجهز نفسه، واستقدم عليا رضي الله عنه لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصديق رضي الله عنه، ولكن اكتشف رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاجأة، أحاط المشركون ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسول الله صلى الله عليه سلم أنهم يجيئون فيه.فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}لقد استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم الوسع في الخطة هو والصديق رضي الله عنه، ولكن الطابع المميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكن إذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله عز وجل يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكمل العجز البشري بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسد الله هذه الثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكلًا على الله، بل تواكلا، وشتَّانَ بين التوكل والتواكل.ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج، عشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلًا بالقتل، وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟لقد نزل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل، فسوف يأخذ الله عز وجل بأبصارهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصديق رضي الله عنه لاستكمال تنفيذ الخطة، فهي بحمد الله إلى الآن تسير على ما يرام.
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله عز وجل أراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه دون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وأيضا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله عز وجل أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلا الجزور، ورحم الشاه، وسب بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أحد أكثر من إصابة، لم يأخذ الله عز وجل بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين، وعيون أعداء الله عز وجل، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله عز وجل، والله عز وجل يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله عز وجل {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] .ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يحاصرون البيت، وفيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانطلق إلى الصديق رضي الله عنه، ومكث عنده إلى منتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور، ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر رضي الله عنه الغار أولًا ليرى إن كان به أي شيء يضر، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، وتم الجزء الأول من الخطة بنجاح.نعود إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون يحاصرونه، وعلي رضي الله عنه نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مر عليهم رجل من المشركين لم يكن معهم؛ فقال لهم قولًا خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد. إذن الرجل شاهد محمدًا صلى الله عليه وسلم في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلًا لمح محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبه لرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه على رءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مر عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهم كانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم، قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدوا عليًا ينام في الفراش وهو يتغطى ببردة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله إن هذا محمدا نائم.
فتحير القوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم على ذلك، أتدرون لماذا؟
لقد قالوا: والله إنها لسُبة في العرب أن يتُحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ، وهتكنا سترَ حرمتنا.
سبحان الله، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، لا يقتحمون حرمات الديار.
وانتظر المشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فراشه، فرآه القوم، وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرام ويضربونه.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتحمل الإيذاء
وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يبلغ آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتىً عزيزًا، وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم، لماذا؟
أولًا: لم يؤذن بعدُ للمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.
ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كل المشركين على بني هاشم.
ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعد، وهى رد الأمانات إلى أهلها، ولابد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.
أخذ المشركون عليًا رضي الله عنه وحبسوه ساعة واحدة، لم يحبسوه شهرًا، أو عامًا، أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث رضي الله عنه في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينة المنورة.
قريش تعلن حالة الطوارئ
أعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكة، استنفار عام لكل العناصر المشركة، واتخذت السلطة في مكة القرارات الآتية:
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان يتولى شئون الإنفاق على المسلمين فمن المحتمل أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مازال مختبئًا في بيته، أو لعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هاجر بمفرده، وأبو بكر يعرف طريقه، فلا بد من التأكد من ذلك، وقد قام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين، ذهب إلى بيت الصديق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟
قالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها، فعلة شنيعة من سيد مكة، لكنه لم يفكر أن يدخل البيت ليقلب محتوياته رأسًا على عقب، ليفتش عن الصديق رضي الله عنه أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ليجد أي دليل يشير إلى مكانهما، لماذا لم يفعل ذلك؟ تذكروا: كفار مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
كان هذا هو القرار الأول الذي اتخذه زعماء قريش، وهو البحث عن الصديق.
القرار الثاني: هو إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مازال مختبئًا في أحد البيوت في مكة.
القرار الثالث: إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، تعطى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًا أو ميتًا، والجائزة هي مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن.
القرار الرابع: استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة من مكة.
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}
وسبحان الله، مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ومع كون الخطة بارعة جدًا ومحكمة جدًا، إلا أنه كما ذكرنا من قبل: ليس طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، لا بد من ثغرات، اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي به غار ثور، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى باب غار ثور.
لم يبق إلا أن ينظروا فقط إلى داخل الغار، والغار صغير جدًّا.
الرسول يجلس في داخل الغار في سكينه تامة، وكأنه يجلس في بيته، والصديق رضي الله عنه في أشد حالات قلقه واضطرابه، يقول الصديق رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصْرَهُ رَآنَا.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيِنْ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
الله، الله، لو استشعر الدعاة إلى الله هذه المعية لهانت عليهم كل الشدائد، وكل المصاعب، وكل الآلام، بل لهانت عليهم الدنيا بأسرها، لكن الصديق رضي الله عنه لم يكن خائفا على نفسه، لم يكن قلقًا على حياته، ليس الصديق الذي يفعل ذلك، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، إنما كان يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه في رواية يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ أَنَا فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ.
ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور، بعد أن قطعوا هذا المشوار الطويل الصعب، وقد انتهت آثار الأقدام أمام فتحة باب الغار؟!
إن الله عز وجل قد ألقى في روعهم ألا ينظروا إلى داخل الغار، مع أن هذه النظرة لن تأخذ أكثر من دقيقة واحدة وربما ثوانٍ أقل، ولا شك أنهم قد أخذوا ساعات طويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان، لكن هذا فعل الله عز وجل...
روى الإمام أحمد والطبراني وعبد الرازق والخطيب أن عنكبوتا قد نسج خيطًا كثيفًا حول الباب، وهذه معجزة ظاهرة، فقال الكفار: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا من كل طرقه إلا أن كثرة طرقه يقوى بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديث الحسن، أما قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًا لا تصح، وأنا أرى أنه حتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضًا من رب العالمين، إذ كيف لا ينظر الناس في داخل الغار مع كونه مفتوحًا، فسواء نسجت العنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من رب العالمين، والنتيجة واحدة: نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه من هذه المطاردة المكثفة.
مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقررًا في الخطة المرسومة، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر بدوره، وحان وقت الرحيل إلى المدينة، وجاء عبد الله بن أريقط الدليل بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وجاء بناقة ثالثة له، وجاء معه أيضًا عامر بن فهيرة ليرافق الراكب المهاجر إلى المدينة، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة غرة ربيع الأول من سنة 14 من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتخُِّذَتْ بعض الإجراءات الأخرى:
أولًا: الخروج ليلًا من الغار. ثانيًا: الإمعان في اتجاه ناحية اليمن.
ثالثًا: الاتجاه غربًا ناحية سحل البحر الأحمر، ثم الاتجاه شمالًا في الطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.
رابعًا: كانت هذه نقطة تأمينية من الصديق رضي الله عنه لم يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطة المسبقة، ولكن استحدثها الصديق رضي الله عنه لزيادة حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يسير أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ثم يسير خلفه تارة، وهكذا طوال الطريق، ولما تنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك سأله عن ذلك فقال الصديق رضي الله عنه في حب عميق: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ (المطاردة) فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ (الكمائن) فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
يتمنى أن لو جاء سهم أن يدخل في ظهره أو في صدره، ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء.
سراقة بن مالك وسواري كسرى
وهكذا سارت القافلة المباركة من مكة إلى المدينة، وعلى الجانب الآخر نشط الكفار في تحفيز أهل مكة جميعًَا للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ونشط الوصوليون، و أصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع، وبحثوا في كل مكان، ولم يوفقوا جميعًا إلا واحدًا...إنه سراقة بن مالك
بعض الناس رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هكذا ظنوا، فذكروا ذلك أمام سراقة فضللهم عنه ليفوز هو بمائة الناقة، ثم أمر بفرسه وسلاحه وخرج في إثر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى رآهم من بعيد، واقترب منهم حتى كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت كما يقول سراقة وكما جاء في البخاري، وأبو بكر يكثر الالتفات، ثم حدثت المعجزة بأن بدأت أقدام الفرس تسوخ في الأرض، مرة والثانية والثالثة، حتى أدرك سراقة أن القوم ممنوعون، فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وأخبرهم أن القوم قد جعلوا فيهم الدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْفِ عَنَّا". ثم قال له قولًا عجيبًا، قال: "كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سُوَارَيْ كِسْرَى".
فطلب سراقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابًا بذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا ؛ فكتب له على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق، فكان في أول اليوم جاهدًا في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، و في آخر اليوم مدافعًا عنه، وسبحان الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر:31] .
وسبحان الله، مرت الأيام، وأسلم سراقة بعد فتح مكة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب، وفيها سوارا كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه لعمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:3، 4] .
لم يعكر صفو الرحلة بعد ذلك شيء إلى أن اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ففوجئ برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة، وكانوا في أول اليوم من المشركين فأصبحوا في آخره من الصحابة، فانظر إلى عظيم فضل الله عليهم وعلى الدعوة، فقد كانت السنوات تمضي في مكة حتى يؤمن عدد مثل هذا هناك، وهاهو الآن هذا العدد يؤمن في لحظة.
المهم أنه في النهاية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالمًا، وذلك في يوم 12 من ربيع الأول سنة 14 من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمة جدًا في الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة
من أبطال الهجرة
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميمي، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصِّدِّيق، وكنية أبيه أبو قحافة.
كان أبو بكر رضي الله عنه يسمَّى أيضًا: عتيقًا، وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أنت عتيق من النار"، وقيل: إنه سُمِّي كذلك لحسن وجهه وجماله، ولقب بالصديق لتصديقه بكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وخاصة تصديقه لحديث الإسراء وقد أنكرته قريش كلها، وأبو بكر الصديق أفضل الأمة مكانة ومنزلة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أول من أسلم من الرجال، وهو رفيق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هجرته، وخليفته على المسلمين.
هجرتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــه:
لما أذن الله -عز وجل- لنبيه بالهجرة إلى المدينة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يهاجروا، وجعل أبو بكر يستأذنه في الهجرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يمهله ويقول له: "لا تعجل لعلّ الله يجعل لك صاحبًا"، حتى نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أن قريشًا قد خططت لقتله، وأمره ألا يبيت ليلته بمكة وأن يخرج منها مهاجرًا، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وفتيان قريش وفرسانها محيطون ببيته ينتظرون خروجه ليقتلوه، ولكن الله أخذ أبصارهم فلم يروه، وتناول النبي -صلى الله عليه وسلم- حفنة من التراب فنثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون، وذهب -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكر -وكان نائمًا فأيقظه- وأخبره أن الله قد أذن له في الهجرة، تقول عائشة: "لقد رأيت أبا بكر عندها يبكي من الفرح"، ثم خرجا فاختفيا في غار ثور، واجتهد المشركون في طلبهما حتى شارفوا الغار، وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم:
ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!"، وأقاما في الغار ثلاثة أيام ثم انطلقا، وكان أبو بكر أعرف بالطريق، وكان الناس يلقونهما فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: "إنه رجل يهديني الطريق"، وبينما هما في طريقهما إذ أدركهما سراقة بن مالك، وكان قد طمع في النياق المائة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أو رمحين فكرر أبو بكر مقولته على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبكى، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِمَ تبكي؟)، فقال أبو بكر: "يا رسول الله والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك"، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم اكفناه بما شئت"؛ فساخت قوائم الفرس ووقع سراقة وقال: "يا محمد إن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمّينَّ على مَن ورائي"، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام ووعده إن أسلم بسواري كسرى، واستمرا في طريقهما حتى بلغا المدينة، واستقبل الصحابة مهاجرين وأنصار رسول الله وصاحبه بسرورٍ وفرحٍ عظيمين، وانطلق الغلمان والجواري ينشدون الأنشودة الشهيرة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.
اضطهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــاده:
كان أبو بكر ذا مكانة ومنعة في قريش، فلم ينله من أذاهم ما نال المستضعفين، ولكن ذلك لم يمنع أبا بكر من أن يأخذ حظه وقسطه من الأذى، فقد دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة واجتمع المشركون عليه وسألوه عن آلهتهم وهو لا يكذب، فأخبرهم فاجتمعوا عليه يضربونه، وجاء الصريخ أبا بكر يقول له: أدرك صاحبك فأسرع أبو بكر إليه وجعل يخلصه من أيديهم وهو يقول: "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا يضربونه حتى حمل أبا بكر أهل بيته وقد غابت ملامحه من شدة الأذى.
أعمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــاله:
لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- مواقف وأعمال عظيمة في نصرة الإسلام منها:
إنفاقه كثيرًا من أمواله في سبيل الله؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال أبي بكر)، فبكى أبو بكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه)، وقد أعتق أبو بكر من ماله الخاص سبعة من العبيد أسلموا وكانوا يعذبون بسبب إسلامهم منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة. عندما مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن حوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت عائشة: يا رسول الله لو أمرت غيره، فقال: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"، وقال عليّ بن أبي طالب: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر فصلى بالناس وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض ولو شاء أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا".
- عندما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- فتن الناس حتى أن عمر بن الخطاب قال: "إن رسول الله لم يمت ولا يتكلم أحد بهذا إلا ضربته بسيفي هذا"، فدخل أبو بكر وسمع مقالة عمر فوقف وقال قولته الشهيرة: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت...".
- بعد مبايعة أبي بكر بالخلافة أصر على إنفاذ جيش أسامة الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جهّزه وولى عليه أسامة بن زيد، وكان فريق من الصحابة منهم عمر قد ذهبوا لأبي بكر وقالوا له: إن العرب قد انتفضت عليك، فلا تفرق المسلمين عنك فقال: "والذي نفسي بيده لو علمت أن السباع تأكلني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر الرسول بإنفاذه ولا أحلّ لواءً عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده"، واتخذ الجيش سبيله إلى الشام تحت إمرة أسامة. واجه أبو بكر في بدء خلافته محنة كبرى تمثلت في ردة كثير من قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنعت بعض القبائل زكاة أموالها، وأمام هذه الردة جهز أبو بكر الجيش، وقرّر حرب المرتدين جميعًا، واعتزم أن يخرج بنفسه على قيادة الجيش غير أن علىّ بن أبى طالب لقيه وقد تجهز للخروج فقال له: "إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ضم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك ما يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع أبو بكر، وولى خالدًا على الجيش، وسار خالد فقضى على ردة طليحة الأسديّ ومن معه من بني أسد وفزارة، ثم توجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة بن خسر ومن معه من بني حنيفة، وكان يوم اليمامة يومًا خالدًا كتب الله فيه النصر لدينه وقتل مسيلمة وتفرق جنوده ومضى المسلمون يخمدون نار الفتنة والردة حتى أطفأها الله تعالى، ثم استمر جيش خالد في زحفه حتى حقق نصرًا عظيمًا على الروم في معركة اليرموك.
لما أحس أبو بكر بقرب أجله شاور بعض كبار الصحابة سرًّا في أن يولي عمر بن الخطاب الخلافة من بعده فرحبوا جميعًا، غير أن بعضهم اعترض على غلظة عمر فقال أبو بكر: "نعم الوالي عمر، أما إنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد، إن عمر رأى لينـًا فاشتد، ولو كان واليًا للان لأهل اللين على أهل الريب"، ثم أمر أبو بكر عثمان فكتب كتابًا باستخلاف عمر.
من أقوالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــه:
- كان أبو بكر إذا مدحه أحد قال: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون". لما بايعه الناس خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم خطب فيهم فقال: "أما بعد.. أيها الناس فإني قد ولِّيت عليكم -ولست بخيركم- فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ألا إن الضعيف فيكم هو القوي عندنا حتى نأخذ له بحقه، والقوي فيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
- عندما امتنع بعض المسلمين عن أداء الزكاة قرّر أبو بكر قتالهم فذهب عمر إليه وقال له: "كيف تقاتلهم وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، فقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة من حق الله، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه"، قال عمر: "فلما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أن الحق معه".
من مواعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــظه:
إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة".
وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد".
اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه فصدقوا قوله، وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة".
قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: "إني مستخلفك على أصحاب رسول الله، يا عمر: إن لله حقـًّا في الليل لا يقبله في النهار، وحقًّا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفـًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقي فيها ما بيديك، يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟، فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه".
وفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات ه:
توفِّي أبو بكر -رضي الله عنه- في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة قيل: يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى، وقيل: مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة، وصلّى عليه عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر قد ولد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وأشهر، ومات بعده بسنتين وأشهر مستوفيًا ثلاثة وستين عامًا وهو نفس العمر الذي مات عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستمرت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا.
وقال عمر في حقه: "رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا".
رثاه علي بن أبى طالب وهو يبكي بكاء عظيمًا يوم موته بكلام طويل منه: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانـًا، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتـًا... سمّاك الله في تنزيله صدِّيقـًا فقال: "والذي جاء بالصدق وصدق به..."، فالذي جاء بالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي صدق به أبو بكر، واسيته حين بخل الناس، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي...".
مصعب بن عمير
مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي، كنيته أبو عبد الله، وُلد في الجاهلية، كان شابًّا جميلاً عطرًا، حسن الكسوة، وكان أبواه ينعمانه.
أسلم ورسول الله r في دار الأرقم، وكتم إسلامه؛ خوفًا من أمّه، وكان يختلف إلى رسول الله r سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري، فأعلم أهله، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، رجع مع من هاجر إلى مكة ثانية، والتقى رسول الله r.
كان مصعب بن عمير أوّل من هاجر إلى المدينة، وذلك أنَّ الأنصار كتبوا إلى رسول الله r أن ابعث لنا رجلاً يفقهنا في الدين ويقرئنا القرآن، فبعثه r إليهم.
حينما قدم المدينة نزل على أسعد بن زرارة، وكان يأتي الأنصار في دُورهم أو قبائلهم فيدعوهم إلى الإسلام.
أسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وبعث إليه عمرو بن الجموح بعد أن قدم المدينة ليسأله عن أمر الدين الجديد، فأجابه مصعب، وأسمعه صدر سورة يوسف، فأسلم على يده.
خرج من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله r في العقبة الثانية، وأقام مع رسول الله r بمكة بقية ذي الحجّة ومحرّم وصفر.شهد بدرًا وأحدًا مع رسول اللّه r، وكان لواء الرسول r معه.
استُشهد في معركة أحد سنة 3هـ، قتله ابن قثمة الليثي. قال رسول اللّه r: "ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أنعم نعمة، من مصعب بن عمير".قال سعد بن أبي وقاص: "كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّ لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا، حتّى لقد رأيت جلده يسقط كما يسقط جلد الحية".
قال عنه البراء بن عازب: "أول المهاجرين مصعب بن عمير". وقال عنه أبو هريرة t: "رجل لم أَرَ مثله كأنه من رجال الجنة".صارت قصة مصعب في الإسلام درسًا من دروس السماء الغالية لبني البشر؛ ليتعلموا حياة الرجال مع مبادئهم، واستعلائهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخاذ، بل والأكثر من هذا، أن يتقدم الولاء للعقائد قبل وفوق كل علائق وقرابات الدنيا.
أسماء بن أبى بكر
هي أسماء ابنة أبي بكر الصدِّيق، وأخت عائشة أم المؤمنين لأبيها، زوج الزبير بن العوَّام حواري رسولِ الله وابن عمته، وأم الفارس المغوار الخليفة عبد الله بن الزبير. أسلمت مع السابقين الأولين وكان ترتيبها في الإسلام (الثامن عشر)، وظلَّت في مكَّة تشارك المسلمين لنشر الدعوة، ومرارة الأذى في سبيل الله، حتى كانت الهجرة إلى المدينة، فكان لها ثلاثةُ مواقفَ سجَّلها لها تاريخ السيرة النبوية بفخار وإعزاز.
أسماء وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم حدَّثت عن أوَّلها، فقالت: صنعت سفرة للنبي r حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرة السفرة.وروي أن النبي قال لها حين فعلت ذلك: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة". فقيل لها: (ذات النطاقين).حدَّثت عن ثانيها: لما خرج رسول الله وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا عند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشًا خبيثًا- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.وحدثت عن الموقف الثالث، فقالت: لما خرج رسول الله r إلى الهجرة، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيد جدي فقلت: يا أبت.. ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم ها فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني لأردت أن أسكن الشيخ بذلك.
أسماء المســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلمة
ليست امرأة فارغة همها زينتها، وإنما هي مؤمنة همها رسالتها، فلا عجب أن تكتم السر في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشق نطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وتحسن الحيلة لإرضاء جدها، وهي سعيدة بما تصنع من أجل دينها ورسالتها.
أسماء الزوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــة
تزوجت أسماء الزبير قبل الهجرة، وكلاهما مسلم خالطت بشاشة الإيمان قلبه، وامتزج الإسلام بلحمه ودمه، فكانا مثال الزوجين المتوافقين ضمهما هدف واحد، وطريقة واحدة، تحت لواء واحد.. هاجر إلى المدينة فهاجرت، وجاهد فشدت أزره، وصبرت في ضرائه، وشكرت في سرائه. لم يمنعها مكان أبيها، ولا شرف قومها، أن تقف إلى جانبه في أيام الشدة والفقر، تعمل وتكدح وتُعَمِّرَ عش الزوجية بكدِّ اليمين، وعرق الجبين.
قالت أسماء: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيت كله، وأعلف فرسه، وأسوسه وأكفيه مئونته، وأحشُّ له وأقوم عليه، وأدق النوى لناضحه (إبله)، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير، على ثلثي فرسخ، وكنت أعجن وأسقي الماء، وأخزر الدلو.
ولم تطل المدة حتى انتشرت دعوة الإسلام، وفاض الخير على المسلمين، وكان للزبير -فيما له- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وتمت كلمة ربك على المؤمنين بما صبروا، وصدق الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41].
أسمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــاء الأم
ظل المسلمون بعد الهجرة بمدة لا يولد لهم ولد، وأشاع اليهود أنهم سحروهم فلن ينجبوا، حتى كذبهم القدر، فولدت أسماء ابنها "عبد الله"، فكان أول مولود في المدينة، فاستبشر المسلمون وكبَّروا، وولدت بعد ذلك "عروة" و"المنذر"، وما منهم إلا عالم أو فارس، على أن موقفها مع ابنها عبد الله هو الذي جعل التاريخ يصغي لها سمعه، ويكتبها في سجل الأمهات الخالدات.
محنة ابنها عبد الله بن الزبير
بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة في معظم بلاد الشام: في الحجاز، واليمن، والعراق وخراسان، وظل تسع سنوات ينادى بأمير المؤمنين، حتى شاءت الأقدار -لحظ بني أمية- أن تزول الخلافة من أرض الحجاز.جاء الحجاج بجند الشام فحاصر ابن الزبير في مكة، وطال المدى، واشتد الحصار، وتفرق عنه أكثر من كان معه، فدخل عبد الله على أمه قبل قتله بعشرة أيام، فقال لها: إن في الموت لراحة. قالت: لعلك تمنيته لي؟ ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت فأحتسبك، وإما ظفرت فتقر عيني. فلما كان اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه، فقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولداي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فماذا ترين؟
وهناك أمسك التاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، من لحظة حاسمة من لحظات الخلود: الأم التي شاب رأسها ولم يشب قلبها، وشاخ جسدها ولم يشخ إيمانها، وانحنى ظهرها ولكن عقلها ظل مستقيمًا مسددًا.. قالت أسماء: أنت والله يا بني أعلم بنفسك: إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟!.. القتل أحسن.قال: إني أخاف أن يُمَثِّل بي أهل الشام.قالت: إن الكبش لا يؤلمه سلخه بعد ذبحه.
فدنا ابن الزبير فقبَّل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.
قالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا.
قال: جزاك الله خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد.قالت: لا أدعه أبدًا، فمن قتل على باطل فقد قُتِلتُ على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. وذهب عبد الله فقاتل الساعات الأخيرة قتال الأبطال، وهو يتمثَّل صورة أمه في عينيه، وصوتها في أذنيه، مرتجزًا منشدًا:
أسماء يا أسماء لا تبكنيلم يبق إلا حسبي ودينيوصارم لأنت بـه يميني وما زال على ثباته حتى قُتل، فكبر أهل الشام لمقتله، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الذين كبروا لمولده خير من الذين كبروا لموته.
مع الحجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــاج
صلب الحجاج عبد الله بن الزبير مبالغة في التشفي والإرهاب، ثم أرسل إلى أمه أسماء فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول: لتأتينني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني.
فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخل عليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟
قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهاه.
قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله.
قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
قال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم.قالت: كذبت! كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وكان برًّا بأبويه صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحرم الله، مبغضًا لمن يعصي الله، أما إن رسول الله حدثني أن في ثقيف كذَّبًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه (تعني المختار بن عبيد الثقفي)، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.فخرج الحجاج من عندها منكسرًا يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليها مزهوًّا يريد أن يتشفَّى.هذه أسماء العجوز في سن المائة، وهذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه. إن الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئًا صغيرًا كالهباء، وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالمارد العملاق.وبلغ عبد الملك بن مروان ما صنع الحجاج مع أسماء فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول: ما لك وابنة الرجل الصالح؟ وأوصاه بها خيرًا. ودخل عليها الحجاج فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟
قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة.
وأخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــيرًا..
آن للفارس المصلوب أن يترجل، وينزل من فوق خشبته ويسلَّم إلى أمه فتحنّطه وتكفنه وتصلي عليه وتودعه جوف الثرى، ليلتقي في دار الخلود بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدته صفية، وخالته عائشة،
وهكذا استقبلت المصيبة الكبيرة بنفس أكبر، وإيمان أقوى!!
دخل عليها عبد الله بن عمر، وابنها مصلوب. فقال لها: إن هذا الجسد ليس بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري.
ما هي حقيقة المعجزات الحسية التي جرت أثناء الهجرة النبوية الشريفة؟
حيث إن الله أعمى أبصار المشركين الواقفين حول بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الهجرة حتى خرج من بينهم سالمًا، وإن العنكبوت نَسَجَتْ على الغار فلم يستطيعوا رؤيته؟ فهل هذا صحيح؟ وقد أجاب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي قائلاً:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:
فالصنف الأول: يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب سواء كانت للمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافق ذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه. المهم أن يروي ذلك في كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحو ذلك.
وهذه عقلية عامية لا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيح والمختلق الموضوع.وقد ابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بها بطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريح المعقول.
وبعض المؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك. ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا في الأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيب والترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلوا وتسامحوا.
ومؤلفون آخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها، فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرون قيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها : أهم ثقات مقبولون أم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأوا أنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصور الأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلى السند.
وهذا هو موقف جمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أو غيرها .يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية ، وعمدته في ذلك : أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم وهو الذي وقع به التحدي: أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله.
ولما طلب المشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفض القاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟) . سورة الإسراء 90 – 93.وفي موضع آخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) . (سورة الإسراء( 59 :وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كل الكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى ) :أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . (سورة العنكبوت(51:وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقلية أدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".ويبدو لي أن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:
أولاً : افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمة على ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لا يتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أن ينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الثاني : غلو الصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسباب والسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلو مثله.وهنا يظهر الرأي الوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحه وأتبناه. وخلاصة هذا الرأي:
-1- أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوة محمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته ؛ وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب : ماضيه وحاضره ومستقبله.-2 أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانت تكريمًا من الله له، أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد؛ فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين، وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشار إليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لم يصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك.
3 إننا لا نثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة الثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأ به.
فمن الصحيح الثابت:
أ) ما رواه جماعة من الصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلما صنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت.قال العلامة تاج الدين السبكي : حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين، من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنه متواتر.
ب) ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضة الماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثل غزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه به جميعًا.
وروى البخاري عن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربع عشرة مائة ( أي 1400) وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال : فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا )سقتنا وروتنا( ماشيتنا نحن وركابنا.والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة، ومروية بأصح الطرق.جـ)ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه .. إلخ.
د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم -، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن : إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينية وغيرها.
ونكتفي هنا بما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة من المدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف.أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون .
وظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولاشك والنصر بجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر
الخاتـمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــة:
هل الهجرة كانت أمرًا خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ،أم هاجر غيره من الأنبياء؟.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلم تكن الهجرة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هاجر عدد من أنبياء الله تعالى ، ولكن اختلفت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن هجرة الأنبياء، ، فلم يكن الهدف منها فرارًا من العذاب، ولكن كان الهدف منها إقامة دولة الإسلام ، من خلال هذه الهجرة المباركة.
وفي ذلك يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
لقد هاجر رسل الله عامة أو عدد كبير منهم ، ولكن لم تكن هجرتهم مثل هجرة محمد عليه الصلاة والسلام ، هاجر إبراهيم، قال الله تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) ، وفي آية أخرى وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فخرج من بلد إلى بلد إلى أن استقر به المقام في فلسطين، وفي المدينة التي دفن فيها وسميت باسمه -عليه الصلاة والسلام- مدينة الخليل إبراهيم .
وهاجر موسى عليه السلام ، ولكن كانت هجرته قبل البعثة حينما خرج من مصر بعد أن قتل ذلك القبطي خطأ واستغفر الله وقال له من قال (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ، فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين)، وذهب إلى مدين وتزوج فيها وعاش فيها عشر سنوات مع ذلك الشيخ الكبير بعد أن تزوج ابنته، ولم يكن له في هذه المدة- السنوات العشر- عمل يذكر، كان شاباً صالحاً، وزوجاً طيباً، و صهراً كريماً، عاش مع هذا الرجل عشر سنوات ولكن لم يقم فيها بدور .
ولم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام كهجرة موسى حينما قال (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين) ، لم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام لمجرد الفرار من الفتنة أو الهرب من الإيذاء والتضييق ، لا ، لقد كانت الهجرة سعياً حثيثاً لإقامة مجتمع جديد ، مجتمع إسلامي بمعنى الكلمة ، كانت سعياً لإقامة مجتمع وبناء أمة، وإنشاء دولة جديدة تقوم على الربانية والإنسانية والأخلاقية والعالمية، كان هذا هو هدف محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الهجرة ، وفعلاً استطاع أن يقيم هذه الدولة، وأن يؤسس هذا المجتمع، وينشئ هذه الأمة الجديدة خير أمة أخرجت للناس.انتهى
والخلاصة أن عددًا من أنبياء الله هاجروا، ولكن كان لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم سمات خاصة، فلم يكن الهدف منها فرارًا من العذاب، ولكن كان الهدف منها إقامة دولة الإسلام ، من خلال هذه الهجرة المباركة
.