The Lord Of The Rings
24-09-2007, 12:01 PM
دي مقالة كتبها الصحفي الكبير محمد ابو كريشة في جريدة الجمهورية بتاريخ 4/9/2007
عقب عودته من اوربا مع رحلة اوائل الثانوية العامة .........
ارجوكم ارجوكم تقروها و تبدوا رايكم فيها ......... ضروري ....
انا عن نفسي عايز اعرف راي كل واحد فيكم
المقالة يمكن تكون طويلة شوية ........ بس قوية
***************
رضا الغرب من رضا الرب !!
بقلم: محمد أبو كريشة
وقف ياوابور أربط عندك.. نزلني في البلد دي.. بلا أميركا.. بلا أوروبا.. مافيش أحسن من بلدي.
الوطن يا ناس ليس سياسة وليس حاكماً وليس حكومة وليس معارضة.. وليس هتافاً وأغنية.. الوطن شيء لا يوصف.. نحبه حتي من طرف واحد.. يكرهنا لأننا فقراء ويقسو علينا لأننا معدمون ويحولنا إلي قطع غيار لأغنيائه وسادته.. قد نعيش فيه بلا كرامة ولا قيمة.. مجرد نكرات وهوامش مهملة في دفتره.. لكننا نحبه.. والحب أعمي.. يلهب ظهورنا بأسعاره وسعاره وفساد نجومه ونخبته.. لكن ما باليد حيلة.. ولا نستطيع لقلوبنا تحويلا.. سموها بلاهة وعبطا.. سموها خيبة أمل راكبة جمل.. سموها ما شئتم.. لكن الوطن قضاء وقدر.. لا أحد يختار أباه ولا أمه ولا وطنه.. الوطن مثل الاستفتاء علي الدستور.. تقبله كله أو ترفضه كله.. ولا تبدي رأيك في كل مادة علي حدة.
أثور وأنفعل وأغضب وأسب وألعن وأقل أدبي إلي أبعد الحدود.. ولكني أحب وطني بناموسه وجاموسه وكابوسه وقاموسه.. أحبه بفساده وكساده.. بتلوثه وتلونه وتمدده وانكماشه وانكساراته وانتصاراته القليلة.. وفي الغربة يزداد حبي له عمي.. لا أطيق أن يمسه لسان بسوء ولو صدق.. ليس عندي تعريف للوطن لكن لدي يقينا بأن من لا يحب وطنه لا يمكن أن يحب عشيقته أو زوجته أو أولاده.. وأعظم العطاء أن تعطي من حرمك.. وأعلي مراتب حسن الخلق أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك.. والوطن يحرمنا ونعطيه.. ويقطعنا ونصله.. ويظلمنا ونعفو عنه.. والوطن قدر الفقراء وقضاؤهم.. مكتوب علي جبينهم.. لا قدرة ولا طاقة لهم علي تغييره وتبديله.. أما الأغنياء فإن وطنهم فلوسهم.. هم مثل البدو الرحل يحطون رحالهم حيث توجد فلوسهم.. وهم قادرون علي تغيير أوطانهم كما يغيرون جواربهم.. الأغنياء لا يعترفون بما يسميه الفقراء "العشرة".. هم لا يعاشرون ولا يضاجعون إلا فلوسهم وأصولهم وأرصدتهم.. الفقير ليس له إلا رب واحد ووطن واحد.. والغني له ألف رب وألف وطن يولي وجهه شطر أمواله وثروته.
يسافر الناس إلي الغرب ويعودون ليكتبوا ويقولوا شعر الغزل والمدح في بلاد العم سام وأوروبا مع قصائد هجاء في الوطن المتخلف المنحط المتراجع المتدني.. ويعقد هؤلاء مقارنات بلا نهاية بين تخلفنا وتقدمهم.. وعلمهم وجهلنا.. وعظمتهم وحقارتنا.. ونظامهم و"هرجلتنا".. الشهادة دائما لهم وعلينا.. الحق عندهم والباطل عندنا.. عندهم إسلام بلا مسلمين وعندنا مسلمون بلا إسلام كما نسبوا ذلك القول إلي الإمام محمد عبده.. وقد تيقنت بأنه قول منحول ومدخول ولم يقله الإمام.. لأنه قول ساذج ولا معني له وفيه ضيق أفق أبريء الإمام منه.. وفيه انبهار رجل ساذج من عامة الناس ولا يمكن أن يكون هذا الرجل هو الإمام محمد عبده.
* * *
ولم يحدث أن عاد أحد من الغرب هادئا رزينا منصفا.. لكنه يعود دائما مأخوذا مبهورا مصدوما ويفقد حياده وانصافه وقدرته علي الموضوعية.. فنحن كما قلت من قبل ندخل المباراة مهزومين قبل ضربة البداية.. نسافر إلي الغرب ولدينا يقين مسبق بأنه الأفضل والأعظم.. والحديث عن تفوق الغرب وعظمته صار مثل الحديث عن البديهيات والمسلمات والكلام المخالف يثير الاشمئزاز والاستغراب لأنه خرق للمسلمات.
ونحن معذورون لأننا تربينا علي الدنية والدونية.. وقدوتنا في الانبهار بالغرب هم كبار مسئولينا وحكامنا وسادتنا.. فهم لا يكفون عن مقارنتنا بالغرب ودعوتنا للحاق بركب الدول المتقدمة أي الدول الغربية.. وإنني أتحدي هؤلاء أن يحددوا لنا بالضبط معني التقدم وتعريف التخلف.. متي يمكن الحكم عليك بأنك متحضر..؟ ومتي يمكن وصفك بأنك متخلف؟.. وأزمتنا المستحكمة في هذه الأمة هي تضارب وتشوش التعريفات والمفاهيم فالتدين له ألف تعريف ليس بينها تعريف صحيح.. ونفس الشيء ينطبق علي الاستنارة والتحضر والتخلف والظلامية والإرهاب والمصلحة العليا للوطن.. وسادتنا لا يكفون عن مقارنتنا بالغرب حتي في الكوارث.. فهم يبررون لنا المصائب والكوارث بأنها أمور عادية لأنها تحدث في الغرب.. فهناك أيضا فساد وحوادث مروعة.. وانهيار بنايات ضخمة.. وفقر.. ومصادرة حريات وآراء.. ومادام كل ذلك موجودا في الغرب فإن علينا أن نحمد ربنا ونخرس ونفخر بأننا مثل الغرب حتي في الكوارث.
وقد تعرضنا عند زيارتنا لمتحف اللوفر في باريس لموقف سخيف ولا أقول إنه مهين.. عندما رفضوا دخولنا وعاملونا بصلف وأوقفونا طابورا مثل القطيع وعزلونا في ركن بعيد حتي ينظروا في أمرنا.. وأبدينا انصياعا غير عادي وكأننا في انتظار دخول الحرم النبوي.. وكنا مستسلمين ولم يبد أي منا امتعاضا.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل تطوع أحدنا وراح يخطب فينا قائلا: يا سلام علي العظمة.. هؤلاء القوم لديهم قواعد صارمة.. واحترام تام للوائح والقوانين.. انظروا.. تعلموا.. اتعظوا.. ولم أجد شيئا أقوله سوي أنني همست لجاري في الركن البعيد الذي عزلونا فيه: لو حدث نفس المشهد أمام المتحف المصري مثلا أو أي مكان نريد دخوله لصرخنا وثرنا ثورة عارمة وقلنا للواقفين علي الأبواب: ألا تعرفون من نحن؟ نحن صحفيون كبار ونواب رئيس تحرير ولسردنا قائمة ألقاب طويلة.. لن يمر هذا الموقف بسهولة.. اطلب لنا وزير الداخلية أو وزير الثقافة علي الهاتف.. هذه قلة أدب.. وضحك جاري ولم يعقب.. ويبدو لي أنه لم يقتنع بما أقول.. فقد كان مشغولا أكثر ومقتنعا بخطبة زميلنا الذي راح يبرر ما حدث بأن الفرنسيين لا ينطقون عن الهوي.. إن هو إلا وحي يوحي.
* * *
مساكين أوائل الثانوية العامة.. ولو أن هدف رحلتهم إلي أوروبا هو حشوهم إحساسا الدونيه والضآلة والتفاهة وبأنهم أبناء وطن وأمة متخلفين.. وبأنهم متخلفون أولاد متخلفين.. فإنني أقول بكل أسف أن الهدف قد تحقق تماما.. فقد ازداد الأبناء كفرا بالوطن والأمة واحتقارا لكل ما هو عربي.. لأن الدرس اليومي لهم كان عن عظمة الغرب وحقارة ودونية العرب.. والأبناء معذورون لأنهم يسمعون ذلك من أساتذة لهم يفترض أن الحق معهم دائما.. وقد جاءني أحدهم يوما وقال لي: هل هناك طريقة تجعلني أبقي هنا ولا أعود إلي بلدي؟ وشعرت بغصة في حلقي وطعنة نجلاء في قلبي ولم أستطع أن أقول للطالب المسكين: إن أساتذتك قوم يجهلون فلا تسمع لم استطع أن أقول له ذلك حتي لا أهز صورة زملائي في أذهان الأبناء.. ووجدتني بين نارين.. وقلت للطالب: يا ولدي إن عين السائح غير عين المقيم.. وأنت هنا علي سطح المجتمع الغربي.. مشاكلك محلولة.. وطلباتك مجابة.. ترتع وتلعب وتتنزه وكل شيء ميسور ومتاح لك.. ولو أنك ذهبت في رحلة سياحية كهذه إلي الصومال أو أنجولا أو حتي إلي جهنم لخرجت بنفس الانطباع الذي خرجت به من رحلتك إلي ألمانيا والنمسا وفرنسا.. وستقول أيضا: أريد أن أبقي هنا في جهنم.. لا أود العودة إلي الوطن.. كل مكان تذهب إليه للسياحة جميل.. وأهل الغرب والشرق الذين يفدون إلي بلادنا سائحين يعشقون هذه البلاد.. لأنهم يدخلون أماكن لا تتاح لنا ويلقون معاملة لا يلقاها أهل الوطن.. نحن نعاني وهم يمرحون وفي خدمتهم جيوش جرارة من البشر ويأكلون ما لا نأكل ويشترون ما لا نقدر علي شرائه.
يا ولدي.. هنا عنصرية وجهل وعنجهية وفساد ورشاوي ووساطات وبشر يعانون ومهاجرون تجمع الغرفة الواحدة اثني عشر شخصا منهم.. يا ولدي لن تجد كرامتك في بلد تسافر إليه ما دمت قد تركت هذه الكرامة في الوطن وضاعت منك علي أرضه.. أنت هنا في الغرب عزيز كريم لأنك خرجت من الوطن عزيزا كريما متفوقا.. ما تراه ليس فرقا بين وطنك والبلد الذي تزوره.. ولكنه الفرق بينك أنت أيها المتفوق العزيز الكريم.. وذلك الذي خرج من وطنه مهاجرا في سفن الموت والهلاك.
* * *
ولا أظن أن الطالب أعجبه كلامي.. فقد تركني أتحدث إلي الهواء وذهب بلا استئذان ليلبي من دعاه إلي التجمع والوقوف في طابور القطيع استعداداً لجولة أخري في بلاد الله.. فقد أجدنا بامتياز إدارة أجساد الطلاب المتفوقين.. كيف ينتظمون.. وكيف يأكلون.. ومتي يستيقظون.. ومتي يستقلون الحافلة.. وكيف ينزلون.. وكيف يرتبون الحقائب.. لكننا فشلنا في إدارة عقولهم وقلوبهم وأفكارهم وأحلامهم.. وساعدنا علي الفشل مسئولون ثقافيون في ألمانيا وفرنسا أسيء اختيارهم وجاءت بهم الوساطة والمحسوبية إلي مواقعهم المهمة وأثاروا سخرية الطلاب بسرد سيرهم الذاتية التي ليس فيها ما يسرد أو يسر وقصص حياتهم التي ليس فيها إلا الانا والغرور واستعراض الأمجاد الوهمية.
ولا يستحق السيئ أن نذكر اسمه.. لكن لاعباً واحداً كان يلعب وحده في صف الوطن أمام منتخب كامل يلعب ضد الوطن والأمة.. انه محمد العرابي سفيرنا في ألمانيا الذي يجب أن نعطيه حقه فقد اتسع صدره للمرارات التي زرعها كثيرون في نفوس الطلاب وحاول واجتهد لرسم صورة أفضل لكنني أظن أنه مثلي لم ينجح في مقاومة تيار الإحباط والتثبيط وبث اليأس.. وله مثلي أجر واحد هو أجر الاجتهاد رغم الفشل.
كان بعض المرافقين يتعامل مثل المطوف في الحج.. كان يعلم الطلاب المناسك والشعائر.. ويرددون من خلفه: لبيك اللهم لبيك.. وكان يقول: لا حج لمن لم يزر برج إيفل أو متحف اللوفر أو مقبرة نابليون.. أو برج التليفزيون في برلين.. كان يطالب بالخشوع عند كل مشعر حرام في فرنسا أو ألمانيا ودائماً هناك مقارنة بين تقدمهم وتخلفنا.. وديمقراطيتهم واستبدادنا.. وحريتهم الجنسية العظيمة وتزمتنا وانغلاقنا.. ولم يبق لدي الطلاب شك في أنه لا جدوي منا ولا نفع لنا وأن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها.. ولم يبق لدي أي شك في أن الجيل القادم سيخلع ولاءه للوطن والأمة من أول خطوة علي الطريق.. لقد كنا مشغولين أكثر بإثارة اعجاب الطلاب بنا وباستنارتنا ولم يشغلنا الوطن ولا الأمة.. كنا مثل المخرج الذي يقدم للجمهور ما يريده لا ما يفيده.. بشعار: "الجمهور عايز كده".
* * *
نحن نفهم معني واحدا للاستنارة والتحضر هو أن تهتف للغرب وتبرر له خطاياه وتبحث له عن ذرائع تقنعك وتقنع غيرك بصواب ما يحدث هناك وتلعن آباء وأجداد وأسلاف الوطن والأمة المتخلفين.. ولو لم تفعل ذلك فإنك متخلف.. نحن نطبق أجندة غريبة ولا يعنينا إن كانت تناسب أولوياتنا أم لا فنحن نشكل جمعيات لمكافحة مرض الإيدز.. وليست لدينا جمعية واحدة لمكافحة وباء الكبد والفشل الكلوي.. نحن مشغولون بالنساء أكثر من انشغالنا بالفقراء لأن الغرب يريد ذلك.. نحن نرقص ونقيم حفلات تنكرية لصالح أطفال الشوارع وأطفال العراق وفلسطين.. نحن نكافح الإرهاب بالعري.. نحن نصنع أحزاباً من ورق وقش ليرضي الغرب عن ديمقراطيتنا.. رضا الغرب خير من رضا الرب عندنا.. هذا علي مستوي القمة والنخبة والشعوب وعامة الناس والدهماء.. هرم الأمة مقلوب "تفكر في اللي ناسيها وتنسي اللي فاكرها".. أهل القمة فيها يستحقون القاع.. وأهل القاع يستحقون القمة.. لا شيء عندنا حقيقي.. لا شيء يقيني.. لذلك ينبغي أن نعتصم بالشك فيما يقال لنا لأن الناس يصدقون الشائعات ويكذبون الحقائق.. الناس أصابهم الملل لذلك يريدون جديداً يهزهم ولو كان كاذباً وشائعات.. وليس في الغرب تميز عنا سوي انهم يصنعون من الحبة قبة ومن الفسيخ شربات ويحسنون عرض توافههم.. أما نحن فعندنا ألف قبة نجعلها بالإهمال حبة.. وعندنا روائع نسيء عرضها.. وعندنا شربات نجعله بالغباء فسيخاً.. وعندنا عيون عاشقة للغرب وكارهة للأمة وساخطة عليها.. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا.. فالغرب مغفور الذنب مسبقاً ولو ارتكب الكبائر.. والأمة مسيئة ولو أحسنت.. عندنا شعار ومبدأ راسخان هما ان رضا الغرب ودخول جحر الضب من رضا الرب!!
************
انتهى !!!!!!!!
عقب عودته من اوربا مع رحلة اوائل الثانوية العامة .........
ارجوكم ارجوكم تقروها و تبدوا رايكم فيها ......... ضروري ....
انا عن نفسي عايز اعرف راي كل واحد فيكم
المقالة يمكن تكون طويلة شوية ........ بس قوية
***************
رضا الغرب من رضا الرب !!
بقلم: محمد أبو كريشة
وقف ياوابور أربط عندك.. نزلني في البلد دي.. بلا أميركا.. بلا أوروبا.. مافيش أحسن من بلدي.
الوطن يا ناس ليس سياسة وليس حاكماً وليس حكومة وليس معارضة.. وليس هتافاً وأغنية.. الوطن شيء لا يوصف.. نحبه حتي من طرف واحد.. يكرهنا لأننا فقراء ويقسو علينا لأننا معدمون ويحولنا إلي قطع غيار لأغنيائه وسادته.. قد نعيش فيه بلا كرامة ولا قيمة.. مجرد نكرات وهوامش مهملة في دفتره.. لكننا نحبه.. والحب أعمي.. يلهب ظهورنا بأسعاره وسعاره وفساد نجومه ونخبته.. لكن ما باليد حيلة.. ولا نستطيع لقلوبنا تحويلا.. سموها بلاهة وعبطا.. سموها خيبة أمل راكبة جمل.. سموها ما شئتم.. لكن الوطن قضاء وقدر.. لا أحد يختار أباه ولا أمه ولا وطنه.. الوطن مثل الاستفتاء علي الدستور.. تقبله كله أو ترفضه كله.. ولا تبدي رأيك في كل مادة علي حدة.
أثور وأنفعل وأغضب وأسب وألعن وأقل أدبي إلي أبعد الحدود.. ولكني أحب وطني بناموسه وجاموسه وكابوسه وقاموسه.. أحبه بفساده وكساده.. بتلوثه وتلونه وتمدده وانكماشه وانكساراته وانتصاراته القليلة.. وفي الغربة يزداد حبي له عمي.. لا أطيق أن يمسه لسان بسوء ولو صدق.. ليس عندي تعريف للوطن لكن لدي يقينا بأن من لا يحب وطنه لا يمكن أن يحب عشيقته أو زوجته أو أولاده.. وأعظم العطاء أن تعطي من حرمك.. وأعلي مراتب حسن الخلق أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك.. والوطن يحرمنا ونعطيه.. ويقطعنا ونصله.. ويظلمنا ونعفو عنه.. والوطن قدر الفقراء وقضاؤهم.. مكتوب علي جبينهم.. لا قدرة ولا طاقة لهم علي تغييره وتبديله.. أما الأغنياء فإن وطنهم فلوسهم.. هم مثل البدو الرحل يحطون رحالهم حيث توجد فلوسهم.. وهم قادرون علي تغيير أوطانهم كما يغيرون جواربهم.. الأغنياء لا يعترفون بما يسميه الفقراء "العشرة".. هم لا يعاشرون ولا يضاجعون إلا فلوسهم وأصولهم وأرصدتهم.. الفقير ليس له إلا رب واحد ووطن واحد.. والغني له ألف رب وألف وطن يولي وجهه شطر أمواله وثروته.
يسافر الناس إلي الغرب ويعودون ليكتبوا ويقولوا شعر الغزل والمدح في بلاد العم سام وأوروبا مع قصائد هجاء في الوطن المتخلف المنحط المتراجع المتدني.. ويعقد هؤلاء مقارنات بلا نهاية بين تخلفنا وتقدمهم.. وعلمهم وجهلنا.. وعظمتهم وحقارتنا.. ونظامهم و"هرجلتنا".. الشهادة دائما لهم وعلينا.. الحق عندهم والباطل عندنا.. عندهم إسلام بلا مسلمين وعندنا مسلمون بلا إسلام كما نسبوا ذلك القول إلي الإمام محمد عبده.. وقد تيقنت بأنه قول منحول ومدخول ولم يقله الإمام.. لأنه قول ساذج ولا معني له وفيه ضيق أفق أبريء الإمام منه.. وفيه انبهار رجل ساذج من عامة الناس ولا يمكن أن يكون هذا الرجل هو الإمام محمد عبده.
* * *
ولم يحدث أن عاد أحد من الغرب هادئا رزينا منصفا.. لكنه يعود دائما مأخوذا مبهورا مصدوما ويفقد حياده وانصافه وقدرته علي الموضوعية.. فنحن كما قلت من قبل ندخل المباراة مهزومين قبل ضربة البداية.. نسافر إلي الغرب ولدينا يقين مسبق بأنه الأفضل والأعظم.. والحديث عن تفوق الغرب وعظمته صار مثل الحديث عن البديهيات والمسلمات والكلام المخالف يثير الاشمئزاز والاستغراب لأنه خرق للمسلمات.
ونحن معذورون لأننا تربينا علي الدنية والدونية.. وقدوتنا في الانبهار بالغرب هم كبار مسئولينا وحكامنا وسادتنا.. فهم لا يكفون عن مقارنتنا بالغرب ودعوتنا للحاق بركب الدول المتقدمة أي الدول الغربية.. وإنني أتحدي هؤلاء أن يحددوا لنا بالضبط معني التقدم وتعريف التخلف.. متي يمكن الحكم عليك بأنك متحضر..؟ ومتي يمكن وصفك بأنك متخلف؟.. وأزمتنا المستحكمة في هذه الأمة هي تضارب وتشوش التعريفات والمفاهيم فالتدين له ألف تعريف ليس بينها تعريف صحيح.. ونفس الشيء ينطبق علي الاستنارة والتحضر والتخلف والظلامية والإرهاب والمصلحة العليا للوطن.. وسادتنا لا يكفون عن مقارنتنا بالغرب حتي في الكوارث.. فهم يبررون لنا المصائب والكوارث بأنها أمور عادية لأنها تحدث في الغرب.. فهناك أيضا فساد وحوادث مروعة.. وانهيار بنايات ضخمة.. وفقر.. ومصادرة حريات وآراء.. ومادام كل ذلك موجودا في الغرب فإن علينا أن نحمد ربنا ونخرس ونفخر بأننا مثل الغرب حتي في الكوارث.
وقد تعرضنا عند زيارتنا لمتحف اللوفر في باريس لموقف سخيف ولا أقول إنه مهين.. عندما رفضوا دخولنا وعاملونا بصلف وأوقفونا طابورا مثل القطيع وعزلونا في ركن بعيد حتي ينظروا في أمرنا.. وأبدينا انصياعا غير عادي وكأننا في انتظار دخول الحرم النبوي.. وكنا مستسلمين ولم يبد أي منا امتعاضا.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل تطوع أحدنا وراح يخطب فينا قائلا: يا سلام علي العظمة.. هؤلاء القوم لديهم قواعد صارمة.. واحترام تام للوائح والقوانين.. انظروا.. تعلموا.. اتعظوا.. ولم أجد شيئا أقوله سوي أنني همست لجاري في الركن البعيد الذي عزلونا فيه: لو حدث نفس المشهد أمام المتحف المصري مثلا أو أي مكان نريد دخوله لصرخنا وثرنا ثورة عارمة وقلنا للواقفين علي الأبواب: ألا تعرفون من نحن؟ نحن صحفيون كبار ونواب رئيس تحرير ولسردنا قائمة ألقاب طويلة.. لن يمر هذا الموقف بسهولة.. اطلب لنا وزير الداخلية أو وزير الثقافة علي الهاتف.. هذه قلة أدب.. وضحك جاري ولم يعقب.. ويبدو لي أنه لم يقتنع بما أقول.. فقد كان مشغولا أكثر ومقتنعا بخطبة زميلنا الذي راح يبرر ما حدث بأن الفرنسيين لا ينطقون عن الهوي.. إن هو إلا وحي يوحي.
* * *
مساكين أوائل الثانوية العامة.. ولو أن هدف رحلتهم إلي أوروبا هو حشوهم إحساسا الدونيه والضآلة والتفاهة وبأنهم أبناء وطن وأمة متخلفين.. وبأنهم متخلفون أولاد متخلفين.. فإنني أقول بكل أسف أن الهدف قد تحقق تماما.. فقد ازداد الأبناء كفرا بالوطن والأمة واحتقارا لكل ما هو عربي.. لأن الدرس اليومي لهم كان عن عظمة الغرب وحقارة ودونية العرب.. والأبناء معذورون لأنهم يسمعون ذلك من أساتذة لهم يفترض أن الحق معهم دائما.. وقد جاءني أحدهم يوما وقال لي: هل هناك طريقة تجعلني أبقي هنا ولا أعود إلي بلدي؟ وشعرت بغصة في حلقي وطعنة نجلاء في قلبي ولم أستطع أن أقول للطالب المسكين: إن أساتذتك قوم يجهلون فلا تسمع لم استطع أن أقول له ذلك حتي لا أهز صورة زملائي في أذهان الأبناء.. ووجدتني بين نارين.. وقلت للطالب: يا ولدي إن عين السائح غير عين المقيم.. وأنت هنا علي سطح المجتمع الغربي.. مشاكلك محلولة.. وطلباتك مجابة.. ترتع وتلعب وتتنزه وكل شيء ميسور ومتاح لك.. ولو أنك ذهبت في رحلة سياحية كهذه إلي الصومال أو أنجولا أو حتي إلي جهنم لخرجت بنفس الانطباع الذي خرجت به من رحلتك إلي ألمانيا والنمسا وفرنسا.. وستقول أيضا: أريد أن أبقي هنا في جهنم.. لا أود العودة إلي الوطن.. كل مكان تذهب إليه للسياحة جميل.. وأهل الغرب والشرق الذين يفدون إلي بلادنا سائحين يعشقون هذه البلاد.. لأنهم يدخلون أماكن لا تتاح لنا ويلقون معاملة لا يلقاها أهل الوطن.. نحن نعاني وهم يمرحون وفي خدمتهم جيوش جرارة من البشر ويأكلون ما لا نأكل ويشترون ما لا نقدر علي شرائه.
يا ولدي.. هنا عنصرية وجهل وعنجهية وفساد ورشاوي ووساطات وبشر يعانون ومهاجرون تجمع الغرفة الواحدة اثني عشر شخصا منهم.. يا ولدي لن تجد كرامتك في بلد تسافر إليه ما دمت قد تركت هذه الكرامة في الوطن وضاعت منك علي أرضه.. أنت هنا في الغرب عزيز كريم لأنك خرجت من الوطن عزيزا كريما متفوقا.. ما تراه ليس فرقا بين وطنك والبلد الذي تزوره.. ولكنه الفرق بينك أنت أيها المتفوق العزيز الكريم.. وذلك الذي خرج من وطنه مهاجرا في سفن الموت والهلاك.
* * *
ولا أظن أن الطالب أعجبه كلامي.. فقد تركني أتحدث إلي الهواء وذهب بلا استئذان ليلبي من دعاه إلي التجمع والوقوف في طابور القطيع استعداداً لجولة أخري في بلاد الله.. فقد أجدنا بامتياز إدارة أجساد الطلاب المتفوقين.. كيف ينتظمون.. وكيف يأكلون.. ومتي يستيقظون.. ومتي يستقلون الحافلة.. وكيف ينزلون.. وكيف يرتبون الحقائب.. لكننا فشلنا في إدارة عقولهم وقلوبهم وأفكارهم وأحلامهم.. وساعدنا علي الفشل مسئولون ثقافيون في ألمانيا وفرنسا أسيء اختيارهم وجاءت بهم الوساطة والمحسوبية إلي مواقعهم المهمة وأثاروا سخرية الطلاب بسرد سيرهم الذاتية التي ليس فيها ما يسرد أو يسر وقصص حياتهم التي ليس فيها إلا الانا والغرور واستعراض الأمجاد الوهمية.
ولا يستحق السيئ أن نذكر اسمه.. لكن لاعباً واحداً كان يلعب وحده في صف الوطن أمام منتخب كامل يلعب ضد الوطن والأمة.. انه محمد العرابي سفيرنا في ألمانيا الذي يجب أن نعطيه حقه فقد اتسع صدره للمرارات التي زرعها كثيرون في نفوس الطلاب وحاول واجتهد لرسم صورة أفضل لكنني أظن أنه مثلي لم ينجح في مقاومة تيار الإحباط والتثبيط وبث اليأس.. وله مثلي أجر واحد هو أجر الاجتهاد رغم الفشل.
كان بعض المرافقين يتعامل مثل المطوف في الحج.. كان يعلم الطلاب المناسك والشعائر.. ويرددون من خلفه: لبيك اللهم لبيك.. وكان يقول: لا حج لمن لم يزر برج إيفل أو متحف اللوفر أو مقبرة نابليون.. أو برج التليفزيون في برلين.. كان يطالب بالخشوع عند كل مشعر حرام في فرنسا أو ألمانيا ودائماً هناك مقارنة بين تقدمهم وتخلفنا.. وديمقراطيتهم واستبدادنا.. وحريتهم الجنسية العظيمة وتزمتنا وانغلاقنا.. ولم يبق لدي الطلاب شك في أنه لا جدوي منا ولا نفع لنا وأن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها.. ولم يبق لدي أي شك في أن الجيل القادم سيخلع ولاءه للوطن والأمة من أول خطوة علي الطريق.. لقد كنا مشغولين أكثر بإثارة اعجاب الطلاب بنا وباستنارتنا ولم يشغلنا الوطن ولا الأمة.. كنا مثل المخرج الذي يقدم للجمهور ما يريده لا ما يفيده.. بشعار: "الجمهور عايز كده".
* * *
نحن نفهم معني واحدا للاستنارة والتحضر هو أن تهتف للغرب وتبرر له خطاياه وتبحث له عن ذرائع تقنعك وتقنع غيرك بصواب ما يحدث هناك وتلعن آباء وأجداد وأسلاف الوطن والأمة المتخلفين.. ولو لم تفعل ذلك فإنك متخلف.. نحن نطبق أجندة غريبة ولا يعنينا إن كانت تناسب أولوياتنا أم لا فنحن نشكل جمعيات لمكافحة مرض الإيدز.. وليست لدينا جمعية واحدة لمكافحة وباء الكبد والفشل الكلوي.. نحن مشغولون بالنساء أكثر من انشغالنا بالفقراء لأن الغرب يريد ذلك.. نحن نرقص ونقيم حفلات تنكرية لصالح أطفال الشوارع وأطفال العراق وفلسطين.. نحن نكافح الإرهاب بالعري.. نحن نصنع أحزاباً من ورق وقش ليرضي الغرب عن ديمقراطيتنا.. رضا الغرب خير من رضا الرب عندنا.. هذا علي مستوي القمة والنخبة والشعوب وعامة الناس والدهماء.. هرم الأمة مقلوب "تفكر في اللي ناسيها وتنسي اللي فاكرها".. أهل القمة فيها يستحقون القاع.. وأهل القاع يستحقون القمة.. لا شيء عندنا حقيقي.. لا شيء يقيني.. لذلك ينبغي أن نعتصم بالشك فيما يقال لنا لأن الناس يصدقون الشائعات ويكذبون الحقائق.. الناس أصابهم الملل لذلك يريدون جديداً يهزهم ولو كان كاذباً وشائعات.. وليس في الغرب تميز عنا سوي انهم يصنعون من الحبة قبة ومن الفسيخ شربات ويحسنون عرض توافههم.. أما نحن فعندنا ألف قبة نجعلها بالإهمال حبة.. وعندنا روائع نسيء عرضها.. وعندنا شربات نجعله بالغباء فسيخاً.. وعندنا عيون عاشقة للغرب وكارهة للأمة وساخطة عليها.. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا.. فالغرب مغفور الذنب مسبقاً ولو ارتكب الكبائر.. والأمة مسيئة ولو أحسنت.. عندنا شعار ومبدأ راسخان هما ان رضا الغرب ودخول جحر الضب من رضا الرب!!
************
انتهى !!!!!!!!