الأستاذ الدكتور
22-02-2011, 08:40 PM
حـكــم الغــــناء فـي الإســــــلام
P
.
ملحوظة : هذا البحث كتبته منذ فترة بسبب خلاف حدث بين بعض الإخوة كاد أن يتحول إلى معركة في مسألة الغناء فقررت أن أبحث المسألة بحثاً علمياً دقيقاً فكان هذا البحث الذي بين أيدي حضراتكم اليوم
من المسائل التي دار حولها جدل واسع النطاق وتباينت فيها الآراء مسألة الغناء والاستماع إليه وانقسمت آراء الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال كالتالى :-
1- القول بالحرمة المطلقة . 2- القول بالكراهة . 3- القول بأنه حلال .
وقد طال الجدل بين القائلين بالحرمة والقائلين بالحل خاصة في زماننا هذا وإن كانت المسألة مطروحة في كل العصور ولكن في عصرنا هذا رأينا تشدداًَ من بعض من يتصدى للفتوى تكاد تصل بالمسألة إلى حد التكفير إذا أصر صاحبه عليه ونحن في هذه المقالة سنحاول أن نعرض هذه المسألة عرضاً موضوعياً بعيداً عن الهوى والتعصب وسأذكر أدلة كل فريق في المسألة بأمانة وحَيْدَة قدر المستطاع والله المستعان .
أولاً : رأي المانعـين للغـناء .
يرى فريق من العلماء أن الغناء ممنوع وأنه لا يجوز الاشتغال به ولا الاستماع إليه واستدلوا بأدلة كثيرة سنذكرها فيما يلى :-
أدلـــة المـانعــين
إن أقوى الأدلة التي تمسك بها المانعون قول الله تعالى : " ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين " .([1] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn1))
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية :
(لهو الحديث ) : الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ، وهذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه والآية الأخرى :" أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون " .([2] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn2)) والسمد بلغة حمير هو : الغناء .
والآية الثالثة قوله تعالى لإبليس : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك ". قال مجاهد : صوته الغناء والمزامير . وأقسم ابن مسعود ثلاثاً أن المقصود بلهو الحديث في الآية هو الغناء ، وروى ذلك سعيد بن جبير عن أبى الصهباء البكري وعن ابن عمر أنه الغناء ، وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . ويلاحظ على كلام القرطبي أنه قال إن هذه الآية إحدى الآيات التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء ، فكلام القرطبي على الكراهة لا على التحريم .
ومـن أدلـة المانعـين أيضـاً :
ما رواه الترمذي عن أبى أمامة عن رسول الله - r - قال : " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية " ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " وقال : هذا حديث غريب ، وبعض أهل العلم يضعفون هذا الحديث .
وكذلك اعتمد المانعون على ما روى عن ابن مسعود قال : (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ) هذا من كلام ابن مسعود وفي بعض الروايات يرفعونه إلى رسول الله - r - وقال مجاهد : إن لهو الحديث الاستماع إلى الغناء و إلى مثله من الباطل ، وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء .
وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار .
وقال ابن القاسم : سألت مالكاً عنه فقال : قال الله تعالى :" فماذا بعد الحق إلا الضلال " أفنحق هو ؟.
وقال الثعالبى والواحدى : ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ).
وهذا الكلام من وجهة نظرى غير صحيح ؛ لأن الغناء إذا كان حراماً فلماذا يضرب الشيطان المغنى على منكبيه حتى يسكت ، إن الشيطان ليفرح بمعصية ابن آدم فالمفروض أن يسير بذلك لا أن يضربه حتى يسكت .
وقال- r - : " صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما صوت مزمار ورنة شيطان ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ".
وروى الترمذي عن النبي - r - قال:" إذا فعلت أمتى خمس عشرة خصلة حل بها البلاء من هذه الخصال واتخذت القينات والمعازف .
وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن رسول الله - r - قال :" من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة " .
وروى محمد بن المنكدر قال :( بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة أين عبادى الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك وأخبروهم أنى قد أحللت عليهم رضوانى ).
وروى الترمذي : "من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ، قيل ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : قراء أهل الجنة " .
وبعد أن ذكر القرطبي كل هذه الأقوال والأحاديث قال : ( ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويعينها على الهوى والغزل والمجون فهذا النوع إذا كان في شعر لا يختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق .
وأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما قال في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع . وكلام القرطبي يلاحظ عليه أنه حرم الغناء بشروط ولم يحرمه مطلقاً ، وإنما الغناء المحرم عنده هو الغناء الماجن ، وهذا لا يختلف أحد على تحريمه ولكنه عاد بعد ذلك ليبرأ ساحة الغناء العفيف ويبيحه في أوقات معينة ، وهذا القدر فيه الكفاية لتحليل أصل الغناء ، إذ لو كان حراماً لما أحله الشرع في أي وقت خاصة الأوقات التي لها ميزة كالأفراح والأعياد ، فإذا أحل الغناء فيهما فهذا مما يدل على أن أصل الغناء حلال .
والغناء إذا كان حراماً لم يحل منه القليل ولا الكثير .
ومما ورد في المنع من الغناء أيضاً ما ورد عن الإمام مالك حينما سئل عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : ( يفعله عندنا الفساق ).
وقال الضحاك : الغناء منفذة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب .
وسئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال للسائل : ( أنهاك عنه وأكرهه لك ، فقال السائل : أحرام هو ؟ قال : انظر يا ابن أخى إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء ؟ ) ونحن نقول في هذا : إن الأمر ليس محصورا في الحق والباطل فقط ، فهناك اللغو الذي لا يؤاخذ الله عليه ، وكثير من الأشياء من هذا القبيل ، فلم لا يكون الغناء من اللغو .
وفي تفسير روح المعانى :
" وقيل الغناء جاسوس القلب وسارق المروءة والعقول ، يتغلغل في سويداء القلوب ، ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سَمْت الوقار ، وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم ، كلامه حكمة وسكونه عبرة ، فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مرؤته وبهاؤه ، فَيَسْتَحْسِن ما كان قبل السماع يستقبحه ، ويبدء من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهزيان والاهتزاز كأنه جان ، وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه ، وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك ، ثم يقول الآلوسى بعد ذلك : واختلف العلماء في حكمه فحكى تحريمه عن الإمام أبو حنيفة t وفي الدر المختار وهو من كتب الأحناف التغنى لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به عند العامة. قال : ولو فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقاً ، ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقاً ، ومنهم من كرهه مطلقاً .
وكلام الآلوسى الذي حكاه عن العلماء ليس فيه ما يحرم الغناء إلا ما حكى عن أبى حنيفة ، أما غيره فيدور كلامهم بين الحل والكراهة .
وللحق لا نكاد نجد في كلام العلماء من يحرم الغناء ، ويجعله من الذنوب التي يعاقب عليها إلا ما روى عن أبى حنيفة ، أما غيره من العلماء فمنهم من يقول : إنه مكروه يشبه الباطل ومنهم من يقول : أكرهه ، أو لا أحبه ، وسيأتى هذا بعد ذلك .
ويحسن بنا أن نذكر هنا رأي الأئمة الأربعة في هذه المسألة :
· الإمـام أبـو حنـيفة : حكى عنه - كما سبق وذكرنا - القول بالحرمة ، وليس هذا هو رأى كل علماء المذهب فقد ذكرنا ما قاله صاحب الدر المختار من أن التغنى لدفع الوحشة لا بأس به عند العامة ، وإذا كان الغناء يشتمل على وعظ وحكمة فهو جائز بالاتفاق ، ومنهم من أجازه في العرس ومنهم من أباحه مطلقاً ، ومنهم من كرهه مطلقاً فأقصى ما نقله صاحب الدر المختار أنه مكروه والكراهة لا تعنى الحرمة .
· أمـا الإمـام مالـك فقد قال : من اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، ونحن نقول : إذا كان له ردها فله أيضاً أن يستبقيها ؛ فالكلام ليس فيه إشارة إلى الحرمة إنما المشترى بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أبقاها .
· وأمـا الإمـام أحـمد فقد سئل عن الغناء فقال : ينبت النفاق في القلب ، لا يعجبنى . وقوله لا يعجبنى لا يعنى الحرمة وإنما هو مما تنزه عنه الإمام أحمد فقد كرهه .
· وأمـا الشـافـعى فقد قال في الغناء : هو لهو مكروه يشبه الباطل ، من استكثر منه ترد شهادته ، وكلام الإمام الشافعى رحمه الله واضح جلي في أنه مكروه . وهذا ما صرح به المناوى في الشرح الكبير للجامع الصغير حيث قال : إن مذهب الشافعى أنه مكروه تنزيهاً عند أمن الفتنة والشافعى لم يقل هو حرام أو هو باطل وإنما قال : يشبه الباطل ثم إنه لم يرد شهادة من لم يكن مستكثراً من الغناء وإنما قال : ترد شهادة من استكثر منه فقليل الغناء عنده لا يسقط المروءة .
والآن ننتقل إلى الفريق الثانى : وهم المبيحون للغناء وأدلتهم وردهم على أدلة المانعين .
المبيحون للغناء وأدلتهم :
يرى كثير من العلماء أن الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، فإذا كان الكلام الذي يتغنى به مما يباح للإنسان أن يقوله فلا بأس به ، أما إذا كان الكلام قبيحاً ماجناً فإنه لا يجوز التغنى به ولا التلفظ به من غير غناء فهو محرم في كل حال ، وقد بدأ هذا الفريق كلامه بالرد على الآية التي استدل بها المانعون وهى قوله تعالى :" ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً ألئك لهم عذاب مهين " فبدأوا بتفسير اللهو هنا قال البيضاوى : لهو الحديث ما يلهى عما يفيد كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها ، والمضاحك وفضول الكلام ولم يذكر الغناء هنا . وكذلك قالوا : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث فقد اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشاً ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عادٍ وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسقنديار والأكاسرة . وقيل كان يشترى القيان ويحملهن على معاشرة من أراد …الإسلام ومنعه عنه ليضل عن سبيل الله فنزلت هذه الآية فيه .
ثم إن ابن حزم رد على استدلالهم بهذه الآية قائلاً : إن الكلام مشروط بشرط حيث إن الله تعالى يقول :" ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ". فإذا ما اشترى لهو ولم يضل به عن سبيل الله فليس ممن ينطبق عليه هذا الكلام ، وكذلك لو اشترى انسان مصحفاً ليضل به عن سبيل الله لكان معذباً بذلك . وقد حكى لنا القرآن أن قوماً بنوا مسجداً ليكيدوا فيه للمسلمين ، فمنع الله نبيه من الدخول إلى هذا المسجد لأنه قصد به الإضلال عن سبيل الله فمن قصد الإضلال عن سبيل الله ولو بشىء حلال فهو معاقب على ذلك .
وأما قوله تعالى :" أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون "
والسمد قيل : هو الغناء بلغة حمير فقد رد المبيحون على هذه الآية بأنها ليس فيها ما يشير إلى حرمة الغناء وإلا لو حرم الغناء لحرم أيضاً الضحك ولحرم عدم البكاء ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عاب عليهم أنهم يضحكون ولا يبكون ويغنون في وقت نزول الآيات عليهم فلماذا حرم الغناء دون الضحك وعدم البكاء ؟.
واستدلوا أيضاً بما ورد عن البخاري حيث ذكر باباً بعنوان ( كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ) فالبطلان والحرمة هنا ليست مُنصبة على أصل اللهو وإنما على نوع منه وهو ما يلهى عن ذكر الله بغض النظر عن كونه غناءً أو غير ذلك فهو حرام ، أما إذا لم يشغل عن ذكر الله فليس بباطل . فقول البخاري :" إذا شغل عن طاعة الله مأخوذ من قوله تعالى :" ليضل عن سبيل الله " . ورى عن الحسن قال : لهو الحديث هو الكفر والشرك ولم يذكر الغناء ، وقيل الآية نزلت في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل .
وقال القرطبي : [ والقرطبي من الذين يميلون إلى كراهة الغناء ] ومع ذلك يقول المسألة الثالثة الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة فإن لم يدم لم ترد . فالقرطبي هنا يرى أن المداومة على الاشتغال بالغناء سفه ولم يقل حرام ، وترد به ، أما إذا لم يكن كل همه الغناء فلا ترد شهادته ولا تسقط مروءته .
وفي كتاب فتح القدير للشوكاني قال : وفي الباب [ أي في باب الغناء والمنع منه ] أحاديث في كل حديث منها مقال أي أن جميع الأحاديث الواردة في ذلك فيها ضعف .
وفي كتاب كشف الظنون لحاجى خليفة يقول : ولم يرد في تحريمه وإباحته نص صريح ، والعلماء اختلفوا فيه على وجوه وهى مسألة طويلة اختلفت فيها الآراء وتباينت فيها الأقوال حتى خصها الكثير من المتقدمين بالتضعيف .
أما قول ابن مسعود : (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل )- وبعض العلماء يرفع الحديث إلى رسول الله - فقد ضعفه ابن القطان ، وقال النووي : لا يصح ، وقال العراقى : رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم .
ويقول ابن حجر في هذه المقولة المروية عن ابن مسعود (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل )قال : إنه لا دلالة فيه على كراهيته ؛ لأنه بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ، ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه .
وقال الماوردى : وإذا قلنا بتحريم الأغانى والملاهى فهى من الصغائر دون الكبائر وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة ، وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سبباً للازدراء به وهتك مرؤته ، ولا لاجتماع الرجال والنساء على وجه محظور ، وإن كان سبباً لمحرم فهو حرام .
فكلام الماوردى هنا يوضح أن الغناء يحرم لا لذاته وإنما لعارض خارج عنه بأن كان سبباً لاختلاط النساء بالرجال أو سقوط مروءة المغنى أو الاستهزاء به ، فإذا لم يؤد إلى شىء محرم فلا يحرم .
وقال الماوردى أيضاً : والاكباب على المباح من الغناء يخرم المروءة كاتخاذه حرفة .
وقال الرافعى : لا يخرمها إذا كان ممن يليق بهم ذلك .
وسئل الحسن ما تقول في الغناء ؟ فقال : نعم الشىء الغناء يوصل به الرحم ، وينفس به عن المكروب ، ويفعل به المعروف .
وإن سماعه عند أمن الفتنة وكون ما يقضى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية مباح والإكباب عليه كما قال النووي مسقط للمروءة .
وقيل أيضاً : إن صوت الجارية الغير مملوكة بالغناء المباح إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به .
وقال بعض العلماء في كلام ابن مسعود ( الغناء ينبت النفاق في القلب ) إن مساق هذا الخبر كان للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثى عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ، ويُجْتَمع عليه في مجالس الشرب والسكر ، ووجه إنباته للنفاق إذ ذاك أن كثيراً منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العِشار إليه ويكره لذلك .
وأما الآية فإن كان وجه الاستدلال بها على حرمة الغناء هو تسمية الغناء لهواً فكم من لهو هو حلال ، فإن الكلام مع الأصدقاء فيما لا يحرم هو لهو ، واللعب بالمباح لهو ، والتنزه في وقت الفراغ لهو ، وليس شئ من ذلك حرام . ويقول تاج الدين السبكى : ( لم يقر عندى دليل على تحريم اليراع [ آلة موسيقية تستخدم مع الغناء ] مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن انضم إليه محرم كشرب الخمر مثلاً فلكل منهما حكمه أي أن الغناء حلال والشرب حرام ).
ومن الأدلة التي استدل بها المبيحون للغناء أن عبد الله بن عوف قال : أتيت عمر -t- فسمعته يغنى ويقول :
فكيف ثوائى بالمدينة بعدما قضى وطراً منها جميل بن معمر
فهذا عمر يتغنى في بيته مما يدل على إباحة الغناء .
ومن أقوى ما تمسك به المبيحون الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضى الله عنها قالت : دخل علي النبي- r - وعندى جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث فاضجع على الفراش وحول وجهه . وفي رواية لمسلم تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرنى وقال : مزمارة الشيطان عند النبي r فأقبل عليه رسول - r - فقال : دعهما فلما غفل غمزتهما تخرجان وكان يوم عيد .
وفي يوم من أيام التشريق دخل النبي - r - على عائشة رضى الله عنها فألفاها على حالة من المسرة والانشراح ومعها زينب وحمامة وهما جاريتان كانتا مشتهرتين بالغناء في الأفراح بالمدينة المنورة وبيد كل منهما دف تضرب عليه وتغنيان شعراً من شعر البطولة " ذكره ابن حجر في فتح الباري ، والنووى في شرحه لصحيح مسلم .
ومما تمسك به المبيحون للغناء ما ذكره النووي : من أن الصحابة قد استجازت غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي - r - وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه وهذا مثله ليس بحرام . ثم قال النووى : واختلف العلماء في الغناء فأباحه جماعة من أهل الحجاز وهو رواية عن مالك وكرهه الشافعى وهو المشهور من مذهب مالك [ أي الكراهة ]. وذهب أبو حنيفة وأهل العراق إلى تحريم الغناء وأجابوا عن حديث عائشة رضى الله عنها بأن هذا الغناء كان في الشجاعة والحرب مما لا مفسدة فيه ، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر ويحملها على البطالة والقبح ، فالنووى هنا يوضح أن أبا حنيفة وحده ومن وافقه من أهل العراق هم الذين حرموا الغناء ، ومع ذلك انتهى كلام الأحناف إلى أن أصل الغناء ليس بحرام إلا إذا كان الكلام قبيحاً مفسداً ، وهذا يتفق فيه الجميع وليس الأحناف وحدهم .
ومما استدل به المبيحون للغناء ما رواه ابن ماجة عن خالد بن زكوان قال :( كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجوارى يضربن بالدف ويتغنين فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها فقالت: دخل علىّ رسول الله - r - صبيحة عرسى وعندى جاريتان تتغنيان وتندبان آبائى الذين قُتلوا يوم بدر إذ قالت إحداهن وفينا نبى يعلم ما في غدٍ فقال - r -: لا يعلم ما في غدٍ إلا الله دعى هذه وقولى بالذي كنت تقولين . فلم يمنعهما النبى r من الغناء .
وروى النسائى عن عامر بن سعد البجلى قال :( دخلت على قرظة بن كعب وأبى مسعود الأنصارى في عرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت أنتما صاحبا رسول الله - r - ومن أهل بدر يُفعل هذا عندكم ؟. فقال : اجلس إن شئت فاسمع معنا وإن شئت اذهب فقد رخص في الغناء في العرس والبكاء على الميت .
ويقول الشوكانى في نيل الأوتار :( وفي ذلك دليل على أنه يجوز في النكاح ضرب الأدفاف ورفع الأصوات بشئ من الكلام [ الغناء ] نحو أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ونحوه لا بالأغانى المهيجة للشرور المشتمل على وصف الجمال والفجور ومعاقر الخمور ، فإن ذلك يحرم في النكاح وفي غيره .
وروى البخاري عن عائشة رضى الله عنها " أنها زفت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال النبي - r - : يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو .
وفي رواية ابن ماجة فقال- r - : " أهديتم الفتاة ؟ قالوا نعم قال : أرسلتم معها من يغنى ؟ قالت : لا ، فقال رسول الله - r - : إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول :
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
فهذا رسول الله - r - يحبذ أن يكون غناء في العرس لإدخال السرور على القلوب .
وفي رواية لهذا الحديث أن النبي - r - لما علم أن الفتاة ذهبت لزوجها وليس معها من يغنى فقال لزينب : - وهى امرأة كانت تغنى بالمدينة - أدركيها يا زينب .
ومن الأدلة القوية التي تمسك بها المبيحون للغناء ما رواه الترمذي عن بريدة قال :" خرج رسول الله - r - في بعض مغازيه فلما انصرف [ أي حينما عاد من الغزو ] جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إنى كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال - r - أوف بنذرك ، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهى تضرب ، ثم دخل على وهى تضرب ، ثم دخل عثمان وهى تضرب ، ثم دخل عمر فألفت الدف وقعدت عليه فقال رسول الله - r - : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر إنى كنت جالساً وهى تضرب فدخل أبو بكر وهى تضرب ثم دخل على وهى تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ".
وهذا الحديث خصوصاً توقف عنده المانعون للغناء طويلاً وقالوا : هو حالة مستثناه لأنها تسرعت بنذر الغناء بين يدى النبي - r - ولم يشأ النبي - r - أن يفسد عليها فرحتها ولكن يبقى حكم الغناء على حرمته .
ونحن نقول : إن هذا الكلام في منتهى الضعف فمتى كان رسول الله - r - يسمح بانتهاك حرمات الله ؟! إنه لا يتصور من النبي - r - أن يحل حراماً من أجل نذر نذرته امرأة وهو القائل :" من نذر أن يطع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه " . وهل معنى هذا أن هذه المرأة لو نذرت أن تشرب الخمر بين يدى الرسول - r - هل كان سيسمح لها بذلك ؟ . إن هذا التبرير مرفوض عندنا رفضاً قاطعاً .
ومما استدل به المجوزون أيضاً ما رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك - t - أن النبي r مرّ ببعض المدينة ، فإذا هو بجوارٍ يضربن بدفهن ويتغنين ويقلن :
نحن بنو النجار يا حبذا محمد من جار
فقال النبي - r - : الله يعلم إنى لأحبكن " .
وقد روى أنهن قلن هذا يوم دخول النبي - r - للمدينة فَهَمَّ أبو بكر أن يمنعهن فقال النبي - r - : دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن في ديننا سعة ، أي أن ديننا لا يضيق على الناس ولا يمنعهم من اللهو ما دام حلالاً .
ولقد استقبل النبي - r - يوم دخل المدينة بالغناء المشهور الذي رددته الدنيا بعد ذلك :
طلـع البـدر علـينا من ثنيات الــوداع
وجـب الشـكر علينا مـا دعــا لله داع
أيـها المبعوث فيـنا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفـت المدينة مرحباً يا خـير داع
ودخلت امرأة على النبي - r - فقال لعائشة أتعرفين هذه ؟ قالت لا يا نبي الله فقال : هذه قينة بنى فلان [ أي مغنية بنى فلان ] تحبين أن تغنيك ؟ قالت نعم ، قال : فأعطاها طبقاً فغنتها فقال النبي - r - : نفخ الشيطان في منخريها ومع ذلك تركها تغنى حتى انصرفت .
ثم إن المجوزين للغناء استدلوا بألوان من الغناء لم يقل أحد بتحريمها مثل جواز الحداء للإبل وهو غناء يغنى للإبل في الأسفار حتى يعينها على تحمل التعب والمشقة فإذا ما سمعت الإبل الحداء من الحادى فإنها تسرع في السير ، وقد اشتهر في عهد النبي- r - حادٍ يدعى أنجشة وكان ذا صوت حسن فكان يحدو بالإبل فتسرع الإبل السير وعليها النساء فكان النبي - r - يقول : " يا أنجشة رفقاً بالقوارير ". وهناك أراجيز كان الصحابة رضوان الله عليهم يرددونها ، ومن ذلك أرجوزة عبد الله بن رواحة حيث كان يقول :
خلـو بنى الكـفار عن سبيله قد أنـزل الرحمن في تنزيله
بأن خـير القتل فـي سبيله
ومن ذلك أيضاً ما رواه البخاري رضى الله عنه عن سلمة بن الأكوع t قال :" خرجنا مع النبي r إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا شيئاً من هنيهاتك
[ أي أراجيزك ] وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
إلى أخر هذه الأرجوزة فقال رسول الله- r - : من هذا السائق ؟ قالوا :عامر بن الأكوع ، قال: يرحمه الله ، قال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به .
وكان النبي - r - لا يقول في غزوة لأحد يرحمه الله إلا استشهد فيها ، فلما قال ذلك لعامر بن الأكوع علم الصحابة أنه سيستشد في هذه الغزوة فقال أحدهم : لولا متعتنا به وفي رواية للحديث أن النبي - r - هو الذي طلب من سلمة بن الأكوع أن يغنى حيث قال له - r - :" انزل يا بن الأكوع فاحد لنا من هنيهاتك ".
واستدل قوم بذلك على إباحة الغناء مطلقاً . وقال الماوردى : الحداء والنَصَب [ غناء الركبان ] هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين : أن يكثر منه جداً ، وأن يصحبه ما يمنعه [ كشرب خمر ونحو ذلك ] . وقال المبيحون له إن فيه ترويحاً للنفس فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع ، أو على المعصية فهو عاصٍ ، وإن لم يفعله لا ليقوى على الطاعة ولا على المعصية فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة .. لهو مباح .
واستدل المجوزون على إباحة الغناء بما أخرجه أبو داود عن نافع قال : سمع ابن عمر مزماراً فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لى :يا نافع هل تسمع شيئاً فقلت : لا ، فرفع أصبعيه من أذنيه وقال : كنت مع رسول الله - r - فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا " . قال أبو داود وهذا حديث منكر ، وهذا الحديث كان المانعون قد استدلوا به على حرمة الغناء ؛ لأن الغناء لو كان حراماً حرمةً قاطعة لأمر ابن عمر غلامه نافع أن يضع إصبعه في أذنه ، أما إنه سمح له أن يسمع وكان يسأله هل تسمع شيئاً فإن ذلك دليل على عدم حرمة الغناء .
ومما يدل على إباحة اللهو عموماً ما روى من أن الحبشة لعبت في مسجد النبي - r - فزجرهم عمر فقال النبي - r - دعهم يا عمر أمناً بنى أرفِدة أي لكم الأمان واستمروا في اللعب وهؤلاء الحبشة عاداتهم الرقص وكانت السيدة عائشة تنظر إليهم والرسول يسترها حتى تكون هى التي تنصرف وقالت : ما قدر وقدر الجارية حديثة السن الحريصة على اللهو .
وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث أن النبي - r - قال لعمر : دعهم يا عمر حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة وأنى بعثت بحنيفية سمحة .
رأي إمـام الغـزالى فـي الغـناء
لقد تحدث الإمام الغزالى في كتابه (إحياء علوم الدين)عن حكم الغناء في الإسلام ، وذكر كلاماً طيباً في ذلك في باب ( آداب السماع والوجد ) في الجزء الثانى من هذا الكتاب وسوف نحاول في فيما يلى عرض رأي الغزالى بشئ من الإيجاز :
يقول الغزالى : لقد دل النص والقياس جميعاً على إباحته ( أي الغناء ).
· أما القياس فإن الغناء يتألف من عدة أجزاء هى :
سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب ، هذه هى أركان الغناء : صوت طيب ، والصوت الطيب منه ما هو موزون وغير موزون ، والموزون ينقسم إلى : المفهوم كالأشعار ، وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات ، ثم أخذ الغزالى يبحث عن كل جزئية على حده فبدأ أولاً بالصوت الطيب هل هو حرام ؟ فقال : إن الصوت الطيب الحسن هو ما تلتذ به الأذن وهى إحدى حواس الإنسان ، وكل حاسة من حواسه لها ما تلتذ به فالعين تلتذ بالنظر إلى المناظر الحسنة والألوان المستحبة كالخضرة والماء الجارى والوجه الحسن ، وتستقذر العين الألوان القبيحة والمناظر المستبشعة ، وكذلك الشم يلتذ بالرائحة الطيبة ويشمئذ من الروائح الكريهة وهكذا ، فكذلك الأصوات التي تدرك بالسمع تنقسم إلى : أصوات مستلذة مستحسنة كأصوات العنادل [جمع عندليب] والمزامير ومستكرهة كأصوات الحمير مثلاً ، فما الذى جعل الحواس جميعاً تستلذ بما تحبه دون أن يحكم بحرمته ثم تحرم الأذن مما تلتذ به ؟. هذا بالقياس العقلى لا يجوز ، ثم هناك نصوص تمدح الصوت الحسن من ذلك قول الله تعالى :"يزيد في الخلق ما يشاء " قيل هو الصوت الحسن ، وفي الحديث
" ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت ".
ولقد مدح النبي - r - أبا موسى الأشعري على حسن صوته حيث قال : لقد أُوتى مزماراً من مزامير آل داود.
وقال تعالى في ذم الأصوات القبيحة : " إن أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِير ". وإذا جاز سماع صوت العندليب وهو صوت لا معنى له نفهمه ولكننا نستلذ به وليس فيه حرمة ، فإن سماع صوت آدمى حسن نفهم منه الحكمة والمعانى الصحيحة أولى بعدم الحرمة .
وأما كون الصوت الطيب موزوناً فإن الوزن لا يخرج عن كونه حلالاً ؛ لأن أصوات العندليب ،
والغمارى وذات السجع من الطيور فهى مع طيب أصواتها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها ، إذ لو كانت غير موزونة فربما لم تستحسن ، ولم يقل أحد بحرمة الاستماع إلى الصوت الموزون من هذه الطيور ذات الأصوات الجميلة فبالأولى ما خرج من حنجرة الإنسان أو من آلة موسيقية تحاكى أصوات مثل هذه المخلوقات إلا ما ورد الشرع بالنهى عنه ، فإن بعض الآلات منهى عنها لا لذاتها ولكن مما كان يصاحبها من مجون وشرب خمر وغير ذلك .
وقد ضرب الغزالى مثلاً على أن الشئ قد يكون حلالاً في نفسه ولكن يحرم لشئ خارج عنه فقال : لو اجتمع جماعة وزينوا مجلساً وأحضروا آلات الشرب وأقداحه [ شرب الخمر ] وصبوا فيه السكنجبين [ مشروب مثل العرقسوس حلال ] ونصبواساقياً يدور عليهم ويسقيهم ، فيأخذون من الساقى ويشربون ويحيي بعضهم بعضاً بكلماتهم المعهودة بينهم حُرم ذلك عليهم ، وإن كان المشروب مباحاً في نفسه ؛ لأن في هذا تشبيه بأهل الفساد ، فالآلات الموسيقية التي اعتادها أهل الشرب والفسق تحرم لذلك ولا يحرم غيرها مما اعتاده أهل الفسق والشرب .
ثم يقول الغزالى بعد ذلك : لم يبق إلا أن يكون الصوت الحسن موزوناً ومفهوماً أيضاً وهو الشعر ولا يخرج إلا من الإنسان ، والكلام المفهوم غير حرام والصوت الطيب الموزون غير حرام ، فإذا كانت آحاد الغناء وأجزاؤه حلال ، والكلام المفهوم إذا كان كلاماً سيئاً ماجناً فهو حرام نثره وشعره .
والحق ما قاله الشافعى رحمه الله : الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح . وإذا كان الشعر كلاماً طيباً يجوز إنشاده من غير ألحان فإنه يجوز إنشاده مع الألحان أيضاً .
ثم أخذ الغزالى يذكر أحاديث كثيرة جداً سمع فيها النبي - r - الإنشاد أو الشعر ، وكان يقول :" إن من البيان لسحراً " ،وقد سمع شعر أمية بن أبى الصلت واستزاده حتى سمع منه مائة بيت ، ثم قال : " إنه كاد شعره ليسلم ". وقد رويت أشعار عن عائشة وبلال ، بل وبعض الأراجيز عن النبي - r - مثل :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة .
وقد بنى النبي - r - لحسان بن ثابت منبرا ًفي المسجد يدافع من فوقه عن رسول الله - r - وكان النبي - r - يقول إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله - r - وكان الصحابة يتناشدون الأشعار عنده - r - وهو يبتسم كما رواه الترمذى عن عائشة .
وكان الحداء من عادة العرب على عهد رسول الله وزمان الصحابة ولم يمنع ، وما هو إلا أشعار تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره .
ثم يقول الغزالى لم يبق إلا أن الغناء محرك للقلب فيقول الغزالى : إن لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ، ومنها ما ينوم ومنها ما يطرب ويضحك ، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس وهذا يكون في الصوت المفهوم وغير المفهوم مثل أصوات الأوتار وغيرها حتى قيل : من لم يحركه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج . إن هذه الأصوات الحسنة تؤثر في الصبى في مهده ، فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه فيصغى لصوت أمه وهى تغنى له ، والجمل مع بَلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ، ويستقصر المسافات الطويلة فتراها إذا طالت عليها البوادى واعتراها الإعياء والكَلَال [ التعب ] تحت المحامل والأحمال الثقيلة إذا سمعت منادى الحداء تمد أعناقها وتصغى إلى الحادى ناصتة آذانها وتسرع في سيرها ، وربما تتلف أنفسها من شدة السير ، وثقل الحمل وهى لا تشعر به لنشاطها حينما تسمع الحداء .
فتأثير السماع في القلب أمر محسوس ، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية ، أكثر بَلادة في الطبع من الطيور والجمال ، بل جميع البهائم فكلها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه وعلى نبينا السلام لاستماع صوته.
ثم بدأ الغزالى - رحمه الله - يرد على أدلة المانعين للغناء ، فبدأ بحديث عائشة :" إن الله تعالى حرم القينة - أي المغنية – وبيعها وثمنها وتعليمها " فقال : إن القينة المراد بها الجارية التي تغنى للرجال في مجلس الشرب ، وهذا حرام ؛ لأنه غناء للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة وفي مجلس من مجالس الشيطان ، أما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم من هذا الحديث تحريمه ، بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة بدليل الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة والرسول يسمع صوتهما .
ثم إن الحديث السابق إن الله حرم القينة وبيعها …إلخ حديث ضعيف ، قال العراقى : أخرجه الطبرانى في الأوسط بإسناد ضعيف ، وقال البيهقى : ليس بمحفوظ .
وأما استدلالهم بالآية :" ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " فقد قال الغزالى في ذلك : وأما شراء لهو الحديث بدلاً من الدين ليضل عن سبيل الله فهو حرام مذموم ، ولكن ليس كل غناء هو بديل عن الدين ومقصود به الإضلال عن سبيل الله ، فليس إذن كل غناء حرام ، وإنما ما قصد به الإضلال عن سبيل الله ، وهذا ليس خاصاً بالغناء فقط ، فلو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله لكان حراماً . وحكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب لرسول الله - r - فَهَمَّ عمر بقتله ورأى فعله .
وأما استدلال المانعين بقوله تعالى:" أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون " قال ابن عباس : السمد هو الغناء بلغة حمير .
ورد الغزالى على استدلالهم بهذه الآية إننا نقر بأن السمد هو الغناء ولكن لو حرم الغناء فلماذا لم تحرم بقية الأشياء المذكورة معه فكان ينبغى أن يحرم الضحك وأن يحرم عدم البكاء وأيضاً وإن رد المانعون للغناء بأن الضحك الممنوع هو الضحك إستهزاء بالمسلمين من إسلامهم فنقول : أيضاً إن الغناء المحرم هو الغناء الذي يستهزأ فيه بالدين وبالمسلمين وأما غيره من الغناء فلا.
ثم ذكر الغزالى أن المانعين للغناء استدلوا بقول النبي - r - :" كل شى يلهو به الرجل فهو باطل إلا ثلاث : تأديبه فرسه ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته لإمرأته " والغناء خارج عن هذه الثلاثة فهو حرام .
ورد الغزالى على ذلك بأن قول النبي - r - ( باطل ) لا يعنى حرام بل يعنى لا فائدة فيه فللإنسان أن يتفرج في البساتين ، ويسمع أصوات الطيور إلى غير ذلك مما يلهو به الرجل ،وليس بحرام وهو خارج عن الثلاثة المذكورة في الحديث .
أما قول ابن مسعود : ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل )فقال الغزالى في الجواب عن ذلك إن ذلك في حق المغنى صحيح ، وهذا ما قصده ابن مسعود ، فإنالغناء في حق المغنى ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على الناس ، ويروج صوته عليهم ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه ، وذلك أيضاً لا يوجب تحريما ، فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المسرجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك ينبت النفاق والرياء في القلب ولم يقل أحد بتحريم هذه الأشياء ، فلا يحرم أن يلبس الإنسان الثياب الجميلة أو أن يركب الخيل المسرجة أو يمتلك الحرث والأنعام والزرع وإنما يقال له جاهد نفسك حتى لا يدخلك الرياء بها . إذن هو في حد ذاتها ليست حراماً ، كذلك الغناء ، ولقد شعر عمر رضى الله عنه يوماً بالخيلاء وكان راكباً على فرس مزين فنزل عنه وقطع ذيله ؛ لأنه استشعر الخيلاء لحُسن مطيته ومع ذلك لم يحرم على أحد ركوبها وأما وضع ابن عمر إصبعيه في أذنيه لما سمع المزمار وقال هكذا فعل النبي - r - مما يدل على حرمة الاستماع إلى الغناء والموسيقى فقد أجاب الغزالى عن ذلك بأن فعل النبي - r - لا يدل على الحرمة ؛ لأنه ترك ابن عمر يسمع فليس في ذلك دليل على التحريم بل يدل على أن الأولى والأفضل تركه ، وهذا لا خلاف فيه بل أكثر مباحات الدنيا الأَوْلَى تركها إذا علم أن ذلك يؤثر في القلب .
ولعل ابن عمر أراد أن ينزه سمعه وقلبه في هذا الوقت عن سماع الموسيقى مما يحرك فيه اللهو ويمنعه عن فكر أو ذكر كان فيه ، ولم يأمر غلامه بذلك ولا نهاه عن الاستماع ولا أنكر عليه ذلك .
وينتهى الغزالى بعد ذلك إلى أن الغناء لهو ولعب ولكن ليس كل لهو ولعب حرام فملاعبة الرجل زوجته وأولاده والمزاح الذى لا فحش فيه وغير هذه الأشياء هى لهو مباح وأي شىء أكثر من لعب الحبشة في مسجد رسول الله - r - فهذا أشد اللهو ، ويقف النبي - r - الساعات الطوال ينظر إليهم وتنظر إليهم السيدة عائشة من وراءه حتى تمل .
بل اللهو أحيانا يكون مطلوباً فهو يروح القلب ويخفف عنه أعبائه ، والقلوب إذا أكرهت وأجبرت عميت ، وترويحها إعانة لها على الجد فالمواظب على التعلم ينبغى أن يتعطل يوم الجمعة ؛ لأن عطلة يوم تبعث على النشاط في سائر الأيام ، والمواظب على النوافل في الصلوات في سائر الأوقات ينبغى أن يتعطل في بعض الأوقات حتى تكون هناك فرصة للهو المباح فاللهو دواء القلب من داء الإعياء والمَلاَلَ فينبغى أن يكون مباحاً ولكن ينبغى أن لا يستكثر منه كما لا يستكثر من الدواء ، فإذا كثر الدواء فإن ضرره سوف يكون شديداً . فاللهو على هذه النية وهى نية ترويح القلب حتى لا يمل يصير قربة ، هذا إذا لم يحرك فيه السماع شيئاً خبيثاً بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة فينبغى أن يستحب ذلك له ليتوصل به مقصوده وهو التقوى على العمل والجد والعبادة بعد ذلك ، نعم إن هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وهكذا نرى الغزالى وقد أفاض في شرح هذه المسألة من جميع جوانبها وانتهى إلى أن الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، فالقبيح لا يجوز غناؤه ولا يجوز التحدث به في غير غناء وكل ما جاز أن يتكلم به جاز غناؤه وما لا يجوز التكلم به لا يجوز غناؤه .. والله أعلم .
أما الشوكانى في كتابه نيل الأوتار فقد تحدث عن مسألة الغناء في باب بعنوان ( باب ما جاء في آلة اللهو ) وذكر حديثاً رواه البخارى عن عبد الرحمن بن غنم قال : حدثنى أبو عامر أو أبو مالك الأشعري سمع النبي - r - يقول :" ليكونن من أمتى قوم يستحلون الحِرَّ ([3] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn3)) والحرير والخمر والمعازف([4] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn4)) " وفي لفظ ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير " ([5] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn5)) .
يقول الشوكانى في شرحه لهذا الحديث وغيره وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهى وبدونها ، فريق يرى الحرمة مستدلين بالحديث السابق وبكلام ابن مسعود في الآية وغير ذلك من الأدلة التى ذكرناها سابقاً ، وفريق آخر يرى أن الغناء مباح وأخذ يعدد الأدلة على إباحته فقالوا : إن أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر كابن حزم مثلاً وجماعة من العلماء ومن الأسماء التي ذكرها الشوكانى ممن قالوا بالإباحة عبد الله بن جعفر فقد كان لا يرى بالغناء بأساً ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتار العود ، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين على بن أبى طالب ونقل القول بإباحة الغناء عن القاضى شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن رباح والزهري والشعبي ، ونقل عن عبد الله بن الزبير أنه كانت له جوارٍ عوادات يضربن بالعود وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود فقال : ما هذا يا صاحب رسول الله فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال : هذا ميزان شامى قال ابن الزبير : يوزن به العقول ، وروى عن ابن عمر أنه قال : لا بأس بالعود ، نقل ذلك صاحب كتاب ( العقد الفريد ) وروى أن معاوية وعمرو بن العاص سمعا العود عند أبى جعفر ، وروى الأصبهانى في الأغانى أن حسان بن ثابت سمع من مغنية تسمى عزة الميلاء كانت تغنى بشعر من شعره على المزهر وهو : العود . ورخص في الغناء قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين وابن الماجشون مفتى المدينة ، وروى عن مالك إباحة الغناء بالمعازف وذكر عن مالك جواز العود ، وروى إجماع أهل المدينة على جواز الغناء وكذلك إجماع أهل الظاهر الذين يتمسكون بظاهر النصوص دون تأويل ، وحكى الماوردى إباحة العود عن بعض الشافعية .وحكى ابن النحوي في كتابه ( العمدة ) قال ابن طاهر في كتابه
( السماع ) إنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود وحكى جواز الغناء عن جمع من العلماء منهم الإسنوى والرويانى والماوردى وأبو الفضل بن طاهر والغز بن عبد السلام وابن حزم وكلهم قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة ، أما مجرد الغناء من غير آلة فقال الإدفوى في كتابه ( الإمتاع ) : إن الغزالى في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله ، وكذلك نقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين على تحليل الغناء من غير آلة وكذلك نقل الفزارى إجماع أهل الحرمين على جواز الغناء بلا آلة . وقال الماوردى لم يزل أهل الحجاز يجوزونه ويرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر كالأعياد .
وقال ابن النحوى في كتابه العمدة : وقد روى إباحة الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين مثل عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبى وقاص وأبو مسعود الأنصارى وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد وابن عمر والبراء بن مالك وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وحسان بن ثابت وعبد الله بن عمرو وقرظة بن كعب والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وعائشة والربيع بنت معوذ ، وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو وابن حسبان وخارجة بن زيد وشريح القاضى وسعيد بن جبير وعامر والشعبي وعبد الله بن أبى عتيق وعطاء بن أبى رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمربن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري ، وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية ، وإن كان هؤلاء المجوزين اختلفوا فمنهم من قال بكراهيته كراهة تنزيهية ، ومنهم من قال باستحبابه ؛ لكونه يرقق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله وقال المجوزون : ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضى تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات .
ثم ذكر الشوكانى رأي المانعين للغناء وأنهم استدلوا بالحديث المذكور وهو قوله- r - :" ليكونن من أمتى قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف ……." وذكر رد المجوزين على هذا الحديث بأن فيه اضطراب في السند والمتن . ففى السند روى عند البخارى بالشك في الراوى حيث قال : حدثنى أبو عامر أو أبو مالك الأشعري ، ثم إن في السند صدفة بن خالد وهو مختلف فيه ، وأما متن الحديث فقد رويت كلمة الحر بالحاء والراء ورويت في رواية أخرى بالخاء والزاى الخز ، وفي بعض روايات الحديث لم تذكر كلمة المعازف وهى رواية أبى داود ، كما أن كلمة المعازف اختلف في تفسيرها فقد فسرت على أنها آلات اللهو ، وفسرت على أنها اللهو أو الملاهى .
وقال المجوزون أيضاً : إنه يمكن أن يكون التحريم واقعاً على من يستحلون الغناء مع كل ما ذكر من الزنا وشرب الخمر كالمجالس الماجنة التي يجلس فيها للشرب والغناء والرقص والزنا بدليل ما جاء في الرواية الثانية :" ليشربن أناس من أمتى الخمر تروح عليهم القيان أي المغنيات وتغدو عليهم المعازف " ثم ذكر الشوكانى أن المانعين للغناء استدلوا بعدة أحاديث ذكرها وأجاب عنها المجوزون للغناء بأنها كلها لا تسلم وأن أسانيدها ضعيفة ، وقد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية وقال أبو بكر العربي في كتابه (الاحكام ) : لم يصح في تحريم الغناء شئ ، وكذلك قال الغزالى وابن النحوى في كتابه (العمدة).
وقال الفاكهانى : لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثاً صحيحاً صريحاً في تحريم الملاهى وإنما هى ظواهر وعمومات يقاس بها لا أدلة قطعية .
ثم يقول الشوكانى بعد أن عرض رأى الفريقين :
وإذا تقرر ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر رأي المتفكر المتدبر – أن محل النزاع –
(أي الغناء ) إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح ومن تركها – أي الشبهات – فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ولاسيما إذا كان الغناء مشتملاً على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال ومعافرة العقار – أي شرب الخمر – وخلع العذار والوقار فإن من يسمع ذلك لا يخلو عن بلية مهما كان تدينه .
وبعد أن عرضنا كل هذه الآراء نريد أن نختم كلامنا في هذا المقال برأينا في غناء هذا الزمان وما يحدث فيه هل هو حلال أم حرام .
نقول : إن الغناء كما رأينا مسألة خلافية وأن المجوزين للغناء ربما كانوا أكثر بكثير من المحرمين له ، والغناء اليوم لا يختلف حكمه عن الماضى ؛ لأن أصل الغناء واحد ، وربما يقول قائل : إن الغناء اليوم يشتمل على كلمات الحب والغزل .
ونحن نقول : إن هناك غزل عفيف لا يخدش الحياء وهو الذي كانت تصدر به قصائد العرب قديما قبل الإسلام وبعده ، وقد سمع النبي - r - قصيدة كعب بن زهير الذي جاء يعتذر فيها للنبي
- r - حينما أهدر النبي دمه ؛ لأنه كان قد هجا النبي - r - فجاءه بقصيدة يعتذر بها وصدرها بعدة أبيات في الغزل قبل أن يدخل إلى الغرض الأساسى للقصيدة وقد كان مطلعها :
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
ولم ينكر عليه النبي هذا اللون من الغزل العفيف وهذا لا شئ في التغنى به عند من يبيح الغناء ، أما الغزل الماجن الذي يخدش الحياء ويدعو للفاحشة فإنه رجس من عمل الشيطان وتعف آذان المؤمنين عن الاستماع إليه ، فإذا اشتملت كلمات الأغانى على المعانى القبيحة التي تثير الغرائز والشهوات وتحرض على الحب المحرم وتشجع على البطالة بما تنتجه لأهل المغنى والطرب من فرص وحظوظ في الحياة قلما ينالها العاملون المجدون ، والعلماء المجتهدون فهذا حرام ؛ لأنه يغرى بالبطالة ويدعو إليها حيث ينصرف الفتيان والفتيات عن العمل البناء والتفكير المبدع الخلاق إلى احتراف هذه الأعمال التى تجمع كثيراً من الرزائل فالخطأ ليس في أصل الغناء ولكن فيما يصاحبه من محرمات ، وإننا إذا نظرنا اليوم إلى ما يسمى غناءً نجد خلاعة وميوعة وتقعراً وخضوعاً بالقول وتحريض على الحب المحرم ، حب المعشوقة المتزوجة أو التسلية بالفتيات ، كما أن الغناء الحديث يعتمد على الحركات الجنونية والتعبيرات الهستيرية ، واستعمال الآلات الكهربائية التي تصم الآذان وتؤذى الناس وتلوث البيئة وتساعد على بعث الشر والعنف في نفوس الشباب بالإضافة إلى أن المغنيات يرقصن ويملن وتظهر مع المغنين الراقصات وبنات الهوى مع عرى الصدور والنحور وابداء المفاتن والعورات مما يستحيل مع هذا ..القول بحل هذا أو جوازه ، بل مثله حرام .
هـذا والله أعلـم .
([1]) سورة لقمان الآية (6) .
([2]) سورة النجم الآيات 59 - 61 .
([3]) الحر : الفرج ( أي الزنا ) .
(1) المعازف : الملاهى .
(2) رواه ابن ماجة عن أبى مالك الأشعري .
P
.
ملحوظة : هذا البحث كتبته منذ فترة بسبب خلاف حدث بين بعض الإخوة كاد أن يتحول إلى معركة في مسألة الغناء فقررت أن أبحث المسألة بحثاً علمياً دقيقاً فكان هذا البحث الذي بين أيدي حضراتكم اليوم
من المسائل التي دار حولها جدل واسع النطاق وتباينت فيها الآراء مسألة الغناء والاستماع إليه وانقسمت آراء الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال كالتالى :-
1- القول بالحرمة المطلقة . 2- القول بالكراهة . 3- القول بأنه حلال .
وقد طال الجدل بين القائلين بالحرمة والقائلين بالحل خاصة في زماننا هذا وإن كانت المسألة مطروحة في كل العصور ولكن في عصرنا هذا رأينا تشدداًَ من بعض من يتصدى للفتوى تكاد تصل بالمسألة إلى حد التكفير إذا أصر صاحبه عليه ونحن في هذه المقالة سنحاول أن نعرض هذه المسألة عرضاً موضوعياً بعيداً عن الهوى والتعصب وسأذكر أدلة كل فريق في المسألة بأمانة وحَيْدَة قدر المستطاع والله المستعان .
أولاً : رأي المانعـين للغـناء .
يرى فريق من العلماء أن الغناء ممنوع وأنه لا يجوز الاشتغال به ولا الاستماع إليه واستدلوا بأدلة كثيرة سنذكرها فيما يلى :-
أدلـــة المـانعــين
إن أقوى الأدلة التي تمسك بها المانعون قول الله تعالى : " ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين " .([1] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn1))
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية :
(لهو الحديث ) : الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ، وهذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه والآية الأخرى :" أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون " .([2] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn2)) والسمد بلغة حمير هو : الغناء .
والآية الثالثة قوله تعالى لإبليس : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك ". قال مجاهد : صوته الغناء والمزامير . وأقسم ابن مسعود ثلاثاً أن المقصود بلهو الحديث في الآية هو الغناء ، وروى ذلك سعيد بن جبير عن أبى الصهباء البكري وعن ابن عمر أنه الغناء ، وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . ويلاحظ على كلام القرطبي أنه قال إن هذه الآية إحدى الآيات التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء ، فكلام القرطبي على الكراهة لا على التحريم .
ومـن أدلـة المانعـين أيضـاً :
ما رواه الترمذي عن أبى أمامة عن رسول الله - r - قال : " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية " ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " وقال : هذا حديث غريب ، وبعض أهل العلم يضعفون هذا الحديث .
وكذلك اعتمد المانعون على ما روى عن ابن مسعود قال : (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ) هذا من كلام ابن مسعود وفي بعض الروايات يرفعونه إلى رسول الله - r - وقال مجاهد : إن لهو الحديث الاستماع إلى الغناء و إلى مثله من الباطل ، وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء .
وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار .
وقال ابن القاسم : سألت مالكاً عنه فقال : قال الله تعالى :" فماذا بعد الحق إلا الضلال " أفنحق هو ؟.
وقال الثعالبى والواحدى : ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ).
وهذا الكلام من وجهة نظرى غير صحيح ؛ لأن الغناء إذا كان حراماً فلماذا يضرب الشيطان المغنى على منكبيه حتى يسكت ، إن الشيطان ليفرح بمعصية ابن آدم فالمفروض أن يسير بذلك لا أن يضربه حتى يسكت .
وقال- r - : " صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما صوت مزمار ورنة شيطان ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ".
وروى الترمذي عن النبي - r - قال:" إذا فعلت أمتى خمس عشرة خصلة حل بها البلاء من هذه الخصال واتخذت القينات والمعازف .
وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن رسول الله - r - قال :" من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة " .
وروى محمد بن المنكدر قال :( بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة أين عبادى الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك وأخبروهم أنى قد أحللت عليهم رضوانى ).
وروى الترمذي : "من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ، قيل ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : قراء أهل الجنة " .
وبعد أن ذكر القرطبي كل هذه الأقوال والأحاديث قال : ( ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويعينها على الهوى والغزل والمجون فهذا النوع إذا كان في شعر لا يختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق .
وأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما قال في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع . وكلام القرطبي يلاحظ عليه أنه حرم الغناء بشروط ولم يحرمه مطلقاً ، وإنما الغناء المحرم عنده هو الغناء الماجن ، وهذا لا يختلف أحد على تحريمه ولكنه عاد بعد ذلك ليبرأ ساحة الغناء العفيف ويبيحه في أوقات معينة ، وهذا القدر فيه الكفاية لتحليل أصل الغناء ، إذ لو كان حراماً لما أحله الشرع في أي وقت خاصة الأوقات التي لها ميزة كالأفراح والأعياد ، فإذا أحل الغناء فيهما فهذا مما يدل على أن أصل الغناء حلال .
والغناء إذا كان حراماً لم يحل منه القليل ولا الكثير .
ومما ورد في المنع من الغناء أيضاً ما ورد عن الإمام مالك حينما سئل عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : ( يفعله عندنا الفساق ).
وقال الضحاك : الغناء منفذة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب .
وسئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال للسائل : ( أنهاك عنه وأكرهه لك ، فقال السائل : أحرام هو ؟ قال : انظر يا ابن أخى إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء ؟ ) ونحن نقول في هذا : إن الأمر ليس محصورا في الحق والباطل فقط ، فهناك اللغو الذي لا يؤاخذ الله عليه ، وكثير من الأشياء من هذا القبيل ، فلم لا يكون الغناء من اللغو .
وفي تفسير روح المعانى :
" وقيل الغناء جاسوس القلب وسارق المروءة والعقول ، يتغلغل في سويداء القلوب ، ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سَمْت الوقار ، وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم ، كلامه حكمة وسكونه عبرة ، فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مرؤته وبهاؤه ، فَيَسْتَحْسِن ما كان قبل السماع يستقبحه ، ويبدء من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهزيان والاهتزاز كأنه جان ، وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه ، وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك ، ثم يقول الآلوسى بعد ذلك : واختلف العلماء في حكمه فحكى تحريمه عن الإمام أبو حنيفة t وفي الدر المختار وهو من كتب الأحناف التغنى لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به عند العامة. قال : ولو فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقاً ، ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقاً ، ومنهم من كرهه مطلقاً .
وكلام الآلوسى الذي حكاه عن العلماء ليس فيه ما يحرم الغناء إلا ما حكى عن أبى حنيفة ، أما غيره فيدور كلامهم بين الحل والكراهة .
وللحق لا نكاد نجد في كلام العلماء من يحرم الغناء ، ويجعله من الذنوب التي يعاقب عليها إلا ما روى عن أبى حنيفة ، أما غيره من العلماء فمنهم من يقول : إنه مكروه يشبه الباطل ومنهم من يقول : أكرهه ، أو لا أحبه ، وسيأتى هذا بعد ذلك .
ويحسن بنا أن نذكر هنا رأي الأئمة الأربعة في هذه المسألة :
· الإمـام أبـو حنـيفة : حكى عنه - كما سبق وذكرنا - القول بالحرمة ، وليس هذا هو رأى كل علماء المذهب فقد ذكرنا ما قاله صاحب الدر المختار من أن التغنى لدفع الوحشة لا بأس به عند العامة ، وإذا كان الغناء يشتمل على وعظ وحكمة فهو جائز بالاتفاق ، ومنهم من أجازه في العرس ومنهم من أباحه مطلقاً ، ومنهم من كرهه مطلقاً فأقصى ما نقله صاحب الدر المختار أنه مكروه والكراهة لا تعنى الحرمة .
· أمـا الإمـام مالـك فقد قال : من اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، ونحن نقول : إذا كان له ردها فله أيضاً أن يستبقيها ؛ فالكلام ليس فيه إشارة إلى الحرمة إنما المشترى بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أبقاها .
· وأمـا الإمـام أحـمد فقد سئل عن الغناء فقال : ينبت النفاق في القلب ، لا يعجبنى . وقوله لا يعجبنى لا يعنى الحرمة وإنما هو مما تنزه عنه الإمام أحمد فقد كرهه .
· وأمـا الشـافـعى فقد قال في الغناء : هو لهو مكروه يشبه الباطل ، من استكثر منه ترد شهادته ، وكلام الإمام الشافعى رحمه الله واضح جلي في أنه مكروه . وهذا ما صرح به المناوى في الشرح الكبير للجامع الصغير حيث قال : إن مذهب الشافعى أنه مكروه تنزيهاً عند أمن الفتنة والشافعى لم يقل هو حرام أو هو باطل وإنما قال : يشبه الباطل ثم إنه لم يرد شهادة من لم يكن مستكثراً من الغناء وإنما قال : ترد شهادة من استكثر منه فقليل الغناء عنده لا يسقط المروءة .
والآن ننتقل إلى الفريق الثانى : وهم المبيحون للغناء وأدلتهم وردهم على أدلة المانعين .
المبيحون للغناء وأدلتهم :
يرى كثير من العلماء أن الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، فإذا كان الكلام الذي يتغنى به مما يباح للإنسان أن يقوله فلا بأس به ، أما إذا كان الكلام قبيحاً ماجناً فإنه لا يجوز التغنى به ولا التلفظ به من غير غناء فهو محرم في كل حال ، وقد بدأ هذا الفريق كلامه بالرد على الآية التي استدل بها المانعون وهى قوله تعالى :" ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً ألئك لهم عذاب مهين " فبدأوا بتفسير اللهو هنا قال البيضاوى : لهو الحديث ما يلهى عما يفيد كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها ، والمضاحك وفضول الكلام ولم يذكر الغناء هنا . وكذلك قالوا : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث فقد اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشاً ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عادٍ وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسقنديار والأكاسرة . وقيل كان يشترى القيان ويحملهن على معاشرة من أراد …الإسلام ومنعه عنه ليضل عن سبيل الله فنزلت هذه الآية فيه .
ثم إن ابن حزم رد على استدلالهم بهذه الآية قائلاً : إن الكلام مشروط بشرط حيث إن الله تعالى يقول :" ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ". فإذا ما اشترى لهو ولم يضل به عن سبيل الله فليس ممن ينطبق عليه هذا الكلام ، وكذلك لو اشترى انسان مصحفاً ليضل به عن سبيل الله لكان معذباً بذلك . وقد حكى لنا القرآن أن قوماً بنوا مسجداً ليكيدوا فيه للمسلمين ، فمنع الله نبيه من الدخول إلى هذا المسجد لأنه قصد به الإضلال عن سبيل الله فمن قصد الإضلال عن سبيل الله ولو بشىء حلال فهو معاقب على ذلك .
وأما قوله تعالى :" أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون "
والسمد قيل : هو الغناء بلغة حمير فقد رد المبيحون على هذه الآية بأنها ليس فيها ما يشير إلى حرمة الغناء وإلا لو حرم الغناء لحرم أيضاً الضحك ولحرم عدم البكاء ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عاب عليهم أنهم يضحكون ولا يبكون ويغنون في وقت نزول الآيات عليهم فلماذا حرم الغناء دون الضحك وعدم البكاء ؟.
واستدلوا أيضاً بما ورد عن البخاري حيث ذكر باباً بعنوان ( كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ) فالبطلان والحرمة هنا ليست مُنصبة على أصل اللهو وإنما على نوع منه وهو ما يلهى عن ذكر الله بغض النظر عن كونه غناءً أو غير ذلك فهو حرام ، أما إذا لم يشغل عن ذكر الله فليس بباطل . فقول البخاري :" إذا شغل عن طاعة الله مأخوذ من قوله تعالى :" ليضل عن سبيل الله " . ورى عن الحسن قال : لهو الحديث هو الكفر والشرك ولم يذكر الغناء ، وقيل الآية نزلت في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل .
وقال القرطبي : [ والقرطبي من الذين يميلون إلى كراهة الغناء ] ومع ذلك يقول المسألة الثالثة الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة فإن لم يدم لم ترد . فالقرطبي هنا يرى أن المداومة على الاشتغال بالغناء سفه ولم يقل حرام ، وترد به ، أما إذا لم يكن كل همه الغناء فلا ترد شهادته ولا تسقط مروءته .
وفي كتاب فتح القدير للشوكاني قال : وفي الباب [ أي في باب الغناء والمنع منه ] أحاديث في كل حديث منها مقال أي أن جميع الأحاديث الواردة في ذلك فيها ضعف .
وفي كتاب كشف الظنون لحاجى خليفة يقول : ولم يرد في تحريمه وإباحته نص صريح ، والعلماء اختلفوا فيه على وجوه وهى مسألة طويلة اختلفت فيها الآراء وتباينت فيها الأقوال حتى خصها الكثير من المتقدمين بالتضعيف .
أما قول ابن مسعود : (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل )- وبعض العلماء يرفع الحديث إلى رسول الله - فقد ضعفه ابن القطان ، وقال النووي : لا يصح ، وقال العراقى : رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم .
ويقول ابن حجر في هذه المقولة المروية عن ابن مسعود (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل )قال : إنه لا دلالة فيه على كراهيته ؛ لأنه بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ، ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه .
وقال الماوردى : وإذا قلنا بتحريم الأغانى والملاهى فهى من الصغائر دون الكبائر وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة ، وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سبباً للازدراء به وهتك مرؤته ، ولا لاجتماع الرجال والنساء على وجه محظور ، وإن كان سبباً لمحرم فهو حرام .
فكلام الماوردى هنا يوضح أن الغناء يحرم لا لذاته وإنما لعارض خارج عنه بأن كان سبباً لاختلاط النساء بالرجال أو سقوط مروءة المغنى أو الاستهزاء به ، فإذا لم يؤد إلى شىء محرم فلا يحرم .
وقال الماوردى أيضاً : والاكباب على المباح من الغناء يخرم المروءة كاتخاذه حرفة .
وقال الرافعى : لا يخرمها إذا كان ممن يليق بهم ذلك .
وسئل الحسن ما تقول في الغناء ؟ فقال : نعم الشىء الغناء يوصل به الرحم ، وينفس به عن المكروب ، ويفعل به المعروف .
وإن سماعه عند أمن الفتنة وكون ما يقضى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية مباح والإكباب عليه كما قال النووي مسقط للمروءة .
وقيل أيضاً : إن صوت الجارية الغير مملوكة بالغناء المباح إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به .
وقال بعض العلماء في كلام ابن مسعود ( الغناء ينبت النفاق في القلب ) إن مساق هذا الخبر كان للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثى عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ، ويُجْتَمع عليه في مجالس الشرب والسكر ، ووجه إنباته للنفاق إذ ذاك أن كثيراً منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العِشار إليه ويكره لذلك .
وأما الآية فإن كان وجه الاستدلال بها على حرمة الغناء هو تسمية الغناء لهواً فكم من لهو هو حلال ، فإن الكلام مع الأصدقاء فيما لا يحرم هو لهو ، واللعب بالمباح لهو ، والتنزه في وقت الفراغ لهو ، وليس شئ من ذلك حرام . ويقول تاج الدين السبكى : ( لم يقر عندى دليل على تحريم اليراع [ آلة موسيقية تستخدم مع الغناء ] مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن انضم إليه محرم كشرب الخمر مثلاً فلكل منهما حكمه أي أن الغناء حلال والشرب حرام ).
ومن الأدلة التي استدل بها المبيحون للغناء أن عبد الله بن عوف قال : أتيت عمر -t- فسمعته يغنى ويقول :
فكيف ثوائى بالمدينة بعدما قضى وطراً منها جميل بن معمر
فهذا عمر يتغنى في بيته مما يدل على إباحة الغناء .
ومن أقوى ما تمسك به المبيحون الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضى الله عنها قالت : دخل علي النبي- r - وعندى جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث فاضجع على الفراش وحول وجهه . وفي رواية لمسلم تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرنى وقال : مزمارة الشيطان عند النبي r فأقبل عليه رسول - r - فقال : دعهما فلما غفل غمزتهما تخرجان وكان يوم عيد .
وفي يوم من أيام التشريق دخل النبي - r - على عائشة رضى الله عنها فألفاها على حالة من المسرة والانشراح ومعها زينب وحمامة وهما جاريتان كانتا مشتهرتين بالغناء في الأفراح بالمدينة المنورة وبيد كل منهما دف تضرب عليه وتغنيان شعراً من شعر البطولة " ذكره ابن حجر في فتح الباري ، والنووى في شرحه لصحيح مسلم .
ومما تمسك به المبيحون للغناء ما ذكره النووي : من أن الصحابة قد استجازت غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي - r - وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه وهذا مثله ليس بحرام . ثم قال النووى : واختلف العلماء في الغناء فأباحه جماعة من أهل الحجاز وهو رواية عن مالك وكرهه الشافعى وهو المشهور من مذهب مالك [ أي الكراهة ]. وذهب أبو حنيفة وأهل العراق إلى تحريم الغناء وأجابوا عن حديث عائشة رضى الله عنها بأن هذا الغناء كان في الشجاعة والحرب مما لا مفسدة فيه ، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر ويحملها على البطالة والقبح ، فالنووى هنا يوضح أن أبا حنيفة وحده ومن وافقه من أهل العراق هم الذين حرموا الغناء ، ومع ذلك انتهى كلام الأحناف إلى أن أصل الغناء ليس بحرام إلا إذا كان الكلام قبيحاً مفسداً ، وهذا يتفق فيه الجميع وليس الأحناف وحدهم .
ومما استدل به المبيحون للغناء ما رواه ابن ماجة عن خالد بن زكوان قال :( كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجوارى يضربن بالدف ويتغنين فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها فقالت: دخل علىّ رسول الله - r - صبيحة عرسى وعندى جاريتان تتغنيان وتندبان آبائى الذين قُتلوا يوم بدر إذ قالت إحداهن وفينا نبى يعلم ما في غدٍ فقال - r -: لا يعلم ما في غدٍ إلا الله دعى هذه وقولى بالذي كنت تقولين . فلم يمنعهما النبى r من الغناء .
وروى النسائى عن عامر بن سعد البجلى قال :( دخلت على قرظة بن كعب وأبى مسعود الأنصارى في عرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت أنتما صاحبا رسول الله - r - ومن أهل بدر يُفعل هذا عندكم ؟. فقال : اجلس إن شئت فاسمع معنا وإن شئت اذهب فقد رخص في الغناء في العرس والبكاء على الميت .
ويقول الشوكانى في نيل الأوتار :( وفي ذلك دليل على أنه يجوز في النكاح ضرب الأدفاف ورفع الأصوات بشئ من الكلام [ الغناء ] نحو أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ونحوه لا بالأغانى المهيجة للشرور المشتمل على وصف الجمال والفجور ومعاقر الخمور ، فإن ذلك يحرم في النكاح وفي غيره .
وروى البخاري عن عائشة رضى الله عنها " أنها زفت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال النبي - r - : يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو .
وفي رواية ابن ماجة فقال- r - : " أهديتم الفتاة ؟ قالوا نعم قال : أرسلتم معها من يغنى ؟ قالت : لا ، فقال رسول الله - r - : إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول :
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
فهذا رسول الله - r - يحبذ أن يكون غناء في العرس لإدخال السرور على القلوب .
وفي رواية لهذا الحديث أن النبي - r - لما علم أن الفتاة ذهبت لزوجها وليس معها من يغنى فقال لزينب : - وهى امرأة كانت تغنى بالمدينة - أدركيها يا زينب .
ومن الأدلة القوية التي تمسك بها المبيحون للغناء ما رواه الترمذي عن بريدة قال :" خرج رسول الله - r - في بعض مغازيه فلما انصرف [ أي حينما عاد من الغزو ] جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إنى كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال - r - أوف بنذرك ، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهى تضرب ، ثم دخل على وهى تضرب ، ثم دخل عثمان وهى تضرب ، ثم دخل عمر فألفت الدف وقعدت عليه فقال رسول الله - r - : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر إنى كنت جالساً وهى تضرب فدخل أبو بكر وهى تضرب ثم دخل على وهى تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ".
وهذا الحديث خصوصاً توقف عنده المانعون للغناء طويلاً وقالوا : هو حالة مستثناه لأنها تسرعت بنذر الغناء بين يدى النبي - r - ولم يشأ النبي - r - أن يفسد عليها فرحتها ولكن يبقى حكم الغناء على حرمته .
ونحن نقول : إن هذا الكلام في منتهى الضعف فمتى كان رسول الله - r - يسمح بانتهاك حرمات الله ؟! إنه لا يتصور من النبي - r - أن يحل حراماً من أجل نذر نذرته امرأة وهو القائل :" من نذر أن يطع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه " . وهل معنى هذا أن هذه المرأة لو نذرت أن تشرب الخمر بين يدى الرسول - r - هل كان سيسمح لها بذلك ؟ . إن هذا التبرير مرفوض عندنا رفضاً قاطعاً .
ومما استدل به المجوزون أيضاً ما رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك - t - أن النبي r مرّ ببعض المدينة ، فإذا هو بجوارٍ يضربن بدفهن ويتغنين ويقلن :
نحن بنو النجار يا حبذا محمد من جار
فقال النبي - r - : الله يعلم إنى لأحبكن " .
وقد روى أنهن قلن هذا يوم دخول النبي - r - للمدينة فَهَمَّ أبو بكر أن يمنعهن فقال النبي - r - : دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن في ديننا سعة ، أي أن ديننا لا يضيق على الناس ولا يمنعهم من اللهو ما دام حلالاً .
ولقد استقبل النبي - r - يوم دخل المدينة بالغناء المشهور الذي رددته الدنيا بعد ذلك :
طلـع البـدر علـينا من ثنيات الــوداع
وجـب الشـكر علينا مـا دعــا لله داع
أيـها المبعوث فيـنا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفـت المدينة مرحباً يا خـير داع
ودخلت امرأة على النبي - r - فقال لعائشة أتعرفين هذه ؟ قالت لا يا نبي الله فقال : هذه قينة بنى فلان [ أي مغنية بنى فلان ] تحبين أن تغنيك ؟ قالت نعم ، قال : فأعطاها طبقاً فغنتها فقال النبي - r - : نفخ الشيطان في منخريها ومع ذلك تركها تغنى حتى انصرفت .
ثم إن المجوزين للغناء استدلوا بألوان من الغناء لم يقل أحد بتحريمها مثل جواز الحداء للإبل وهو غناء يغنى للإبل في الأسفار حتى يعينها على تحمل التعب والمشقة فإذا ما سمعت الإبل الحداء من الحادى فإنها تسرع في السير ، وقد اشتهر في عهد النبي- r - حادٍ يدعى أنجشة وكان ذا صوت حسن فكان يحدو بالإبل فتسرع الإبل السير وعليها النساء فكان النبي - r - يقول : " يا أنجشة رفقاً بالقوارير ". وهناك أراجيز كان الصحابة رضوان الله عليهم يرددونها ، ومن ذلك أرجوزة عبد الله بن رواحة حيث كان يقول :
خلـو بنى الكـفار عن سبيله قد أنـزل الرحمن في تنزيله
بأن خـير القتل فـي سبيله
ومن ذلك أيضاً ما رواه البخاري رضى الله عنه عن سلمة بن الأكوع t قال :" خرجنا مع النبي r إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا شيئاً من هنيهاتك
[ أي أراجيزك ] وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
إلى أخر هذه الأرجوزة فقال رسول الله- r - : من هذا السائق ؟ قالوا :عامر بن الأكوع ، قال: يرحمه الله ، قال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به .
وكان النبي - r - لا يقول في غزوة لأحد يرحمه الله إلا استشهد فيها ، فلما قال ذلك لعامر بن الأكوع علم الصحابة أنه سيستشد في هذه الغزوة فقال أحدهم : لولا متعتنا به وفي رواية للحديث أن النبي - r - هو الذي طلب من سلمة بن الأكوع أن يغنى حيث قال له - r - :" انزل يا بن الأكوع فاحد لنا من هنيهاتك ".
واستدل قوم بذلك على إباحة الغناء مطلقاً . وقال الماوردى : الحداء والنَصَب [ غناء الركبان ] هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين : أن يكثر منه جداً ، وأن يصحبه ما يمنعه [ كشرب خمر ونحو ذلك ] . وقال المبيحون له إن فيه ترويحاً للنفس فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع ، أو على المعصية فهو عاصٍ ، وإن لم يفعله لا ليقوى على الطاعة ولا على المعصية فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة .. لهو مباح .
واستدل المجوزون على إباحة الغناء بما أخرجه أبو داود عن نافع قال : سمع ابن عمر مزماراً فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لى :يا نافع هل تسمع شيئاً فقلت : لا ، فرفع أصبعيه من أذنيه وقال : كنت مع رسول الله - r - فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا " . قال أبو داود وهذا حديث منكر ، وهذا الحديث كان المانعون قد استدلوا به على حرمة الغناء ؛ لأن الغناء لو كان حراماً حرمةً قاطعة لأمر ابن عمر غلامه نافع أن يضع إصبعه في أذنه ، أما إنه سمح له أن يسمع وكان يسأله هل تسمع شيئاً فإن ذلك دليل على عدم حرمة الغناء .
ومما يدل على إباحة اللهو عموماً ما روى من أن الحبشة لعبت في مسجد النبي - r - فزجرهم عمر فقال النبي - r - دعهم يا عمر أمناً بنى أرفِدة أي لكم الأمان واستمروا في اللعب وهؤلاء الحبشة عاداتهم الرقص وكانت السيدة عائشة تنظر إليهم والرسول يسترها حتى تكون هى التي تنصرف وقالت : ما قدر وقدر الجارية حديثة السن الحريصة على اللهو .
وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث أن النبي - r - قال لعمر : دعهم يا عمر حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة وأنى بعثت بحنيفية سمحة .
رأي إمـام الغـزالى فـي الغـناء
لقد تحدث الإمام الغزالى في كتابه (إحياء علوم الدين)عن حكم الغناء في الإسلام ، وذكر كلاماً طيباً في ذلك في باب ( آداب السماع والوجد ) في الجزء الثانى من هذا الكتاب وسوف نحاول في فيما يلى عرض رأي الغزالى بشئ من الإيجاز :
يقول الغزالى : لقد دل النص والقياس جميعاً على إباحته ( أي الغناء ).
· أما القياس فإن الغناء يتألف من عدة أجزاء هى :
سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب ، هذه هى أركان الغناء : صوت طيب ، والصوت الطيب منه ما هو موزون وغير موزون ، والموزون ينقسم إلى : المفهوم كالأشعار ، وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات ، ثم أخذ الغزالى يبحث عن كل جزئية على حده فبدأ أولاً بالصوت الطيب هل هو حرام ؟ فقال : إن الصوت الطيب الحسن هو ما تلتذ به الأذن وهى إحدى حواس الإنسان ، وكل حاسة من حواسه لها ما تلتذ به فالعين تلتذ بالنظر إلى المناظر الحسنة والألوان المستحبة كالخضرة والماء الجارى والوجه الحسن ، وتستقذر العين الألوان القبيحة والمناظر المستبشعة ، وكذلك الشم يلتذ بالرائحة الطيبة ويشمئذ من الروائح الكريهة وهكذا ، فكذلك الأصوات التي تدرك بالسمع تنقسم إلى : أصوات مستلذة مستحسنة كأصوات العنادل [جمع عندليب] والمزامير ومستكرهة كأصوات الحمير مثلاً ، فما الذى جعل الحواس جميعاً تستلذ بما تحبه دون أن يحكم بحرمته ثم تحرم الأذن مما تلتذ به ؟. هذا بالقياس العقلى لا يجوز ، ثم هناك نصوص تمدح الصوت الحسن من ذلك قول الله تعالى :"يزيد في الخلق ما يشاء " قيل هو الصوت الحسن ، وفي الحديث
" ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت ".
ولقد مدح النبي - r - أبا موسى الأشعري على حسن صوته حيث قال : لقد أُوتى مزماراً من مزامير آل داود.
وقال تعالى في ذم الأصوات القبيحة : " إن أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِير ". وإذا جاز سماع صوت العندليب وهو صوت لا معنى له نفهمه ولكننا نستلذ به وليس فيه حرمة ، فإن سماع صوت آدمى حسن نفهم منه الحكمة والمعانى الصحيحة أولى بعدم الحرمة .
وأما كون الصوت الطيب موزوناً فإن الوزن لا يخرج عن كونه حلالاً ؛ لأن أصوات العندليب ،
والغمارى وذات السجع من الطيور فهى مع طيب أصواتها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها ، إذ لو كانت غير موزونة فربما لم تستحسن ، ولم يقل أحد بحرمة الاستماع إلى الصوت الموزون من هذه الطيور ذات الأصوات الجميلة فبالأولى ما خرج من حنجرة الإنسان أو من آلة موسيقية تحاكى أصوات مثل هذه المخلوقات إلا ما ورد الشرع بالنهى عنه ، فإن بعض الآلات منهى عنها لا لذاتها ولكن مما كان يصاحبها من مجون وشرب خمر وغير ذلك .
وقد ضرب الغزالى مثلاً على أن الشئ قد يكون حلالاً في نفسه ولكن يحرم لشئ خارج عنه فقال : لو اجتمع جماعة وزينوا مجلساً وأحضروا آلات الشرب وأقداحه [ شرب الخمر ] وصبوا فيه السكنجبين [ مشروب مثل العرقسوس حلال ] ونصبواساقياً يدور عليهم ويسقيهم ، فيأخذون من الساقى ويشربون ويحيي بعضهم بعضاً بكلماتهم المعهودة بينهم حُرم ذلك عليهم ، وإن كان المشروب مباحاً في نفسه ؛ لأن في هذا تشبيه بأهل الفساد ، فالآلات الموسيقية التي اعتادها أهل الشرب والفسق تحرم لذلك ولا يحرم غيرها مما اعتاده أهل الفسق والشرب .
ثم يقول الغزالى بعد ذلك : لم يبق إلا أن يكون الصوت الحسن موزوناً ومفهوماً أيضاً وهو الشعر ولا يخرج إلا من الإنسان ، والكلام المفهوم غير حرام والصوت الطيب الموزون غير حرام ، فإذا كانت آحاد الغناء وأجزاؤه حلال ، والكلام المفهوم إذا كان كلاماً سيئاً ماجناً فهو حرام نثره وشعره .
والحق ما قاله الشافعى رحمه الله : الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح . وإذا كان الشعر كلاماً طيباً يجوز إنشاده من غير ألحان فإنه يجوز إنشاده مع الألحان أيضاً .
ثم أخذ الغزالى يذكر أحاديث كثيرة جداً سمع فيها النبي - r - الإنشاد أو الشعر ، وكان يقول :" إن من البيان لسحراً " ،وقد سمع شعر أمية بن أبى الصلت واستزاده حتى سمع منه مائة بيت ، ثم قال : " إنه كاد شعره ليسلم ". وقد رويت أشعار عن عائشة وبلال ، بل وبعض الأراجيز عن النبي - r - مثل :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة .
وقد بنى النبي - r - لحسان بن ثابت منبرا ًفي المسجد يدافع من فوقه عن رسول الله - r - وكان النبي - r - يقول إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله - r - وكان الصحابة يتناشدون الأشعار عنده - r - وهو يبتسم كما رواه الترمذى عن عائشة .
وكان الحداء من عادة العرب على عهد رسول الله وزمان الصحابة ولم يمنع ، وما هو إلا أشعار تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره .
ثم يقول الغزالى لم يبق إلا أن الغناء محرك للقلب فيقول الغزالى : إن لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ، ومنها ما ينوم ومنها ما يطرب ويضحك ، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس وهذا يكون في الصوت المفهوم وغير المفهوم مثل أصوات الأوتار وغيرها حتى قيل : من لم يحركه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج . إن هذه الأصوات الحسنة تؤثر في الصبى في مهده ، فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه فيصغى لصوت أمه وهى تغنى له ، والجمل مع بَلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ، ويستقصر المسافات الطويلة فتراها إذا طالت عليها البوادى واعتراها الإعياء والكَلَال [ التعب ] تحت المحامل والأحمال الثقيلة إذا سمعت منادى الحداء تمد أعناقها وتصغى إلى الحادى ناصتة آذانها وتسرع في سيرها ، وربما تتلف أنفسها من شدة السير ، وثقل الحمل وهى لا تشعر به لنشاطها حينما تسمع الحداء .
فتأثير السماع في القلب أمر محسوس ، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية ، أكثر بَلادة في الطبع من الطيور والجمال ، بل جميع البهائم فكلها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه وعلى نبينا السلام لاستماع صوته.
ثم بدأ الغزالى - رحمه الله - يرد على أدلة المانعين للغناء ، فبدأ بحديث عائشة :" إن الله تعالى حرم القينة - أي المغنية – وبيعها وثمنها وتعليمها " فقال : إن القينة المراد بها الجارية التي تغنى للرجال في مجلس الشرب ، وهذا حرام ؛ لأنه غناء للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة وفي مجلس من مجالس الشيطان ، أما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم من هذا الحديث تحريمه ، بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة بدليل الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة والرسول يسمع صوتهما .
ثم إن الحديث السابق إن الله حرم القينة وبيعها …إلخ حديث ضعيف ، قال العراقى : أخرجه الطبرانى في الأوسط بإسناد ضعيف ، وقال البيهقى : ليس بمحفوظ .
وأما استدلالهم بالآية :" ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " فقد قال الغزالى في ذلك : وأما شراء لهو الحديث بدلاً من الدين ليضل عن سبيل الله فهو حرام مذموم ، ولكن ليس كل غناء هو بديل عن الدين ومقصود به الإضلال عن سبيل الله ، فليس إذن كل غناء حرام ، وإنما ما قصد به الإضلال عن سبيل الله ، وهذا ليس خاصاً بالغناء فقط ، فلو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله لكان حراماً . وحكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب لرسول الله - r - فَهَمَّ عمر بقتله ورأى فعله .
وأما استدلال المانعين بقوله تعالى:" أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون " قال ابن عباس : السمد هو الغناء بلغة حمير .
ورد الغزالى على استدلالهم بهذه الآية إننا نقر بأن السمد هو الغناء ولكن لو حرم الغناء فلماذا لم تحرم بقية الأشياء المذكورة معه فكان ينبغى أن يحرم الضحك وأن يحرم عدم البكاء وأيضاً وإن رد المانعون للغناء بأن الضحك الممنوع هو الضحك إستهزاء بالمسلمين من إسلامهم فنقول : أيضاً إن الغناء المحرم هو الغناء الذي يستهزأ فيه بالدين وبالمسلمين وأما غيره من الغناء فلا.
ثم ذكر الغزالى أن المانعين للغناء استدلوا بقول النبي - r - :" كل شى يلهو به الرجل فهو باطل إلا ثلاث : تأديبه فرسه ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته لإمرأته " والغناء خارج عن هذه الثلاثة فهو حرام .
ورد الغزالى على ذلك بأن قول النبي - r - ( باطل ) لا يعنى حرام بل يعنى لا فائدة فيه فللإنسان أن يتفرج في البساتين ، ويسمع أصوات الطيور إلى غير ذلك مما يلهو به الرجل ،وليس بحرام وهو خارج عن الثلاثة المذكورة في الحديث .
أما قول ابن مسعود : ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل )فقال الغزالى في الجواب عن ذلك إن ذلك في حق المغنى صحيح ، وهذا ما قصده ابن مسعود ، فإنالغناء في حق المغنى ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على الناس ، ويروج صوته عليهم ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه ، وذلك أيضاً لا يوجب تحريما ، فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المسرجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك ينبت النفاق والرياء في القلب ولم يقل أحد بتحريم هذه الأشياء ، فلا يحرم أن يلبس الإنسان الثياب الجميلة أو أن يركب الخيل المسرجة أو يمتلك الحرث والأنعام والزرع وإنما يقال له جاهد نفسك حتى لا يدخلك الرياء بها . إذن هو في حد ذاتها ليست حراماً ، كذلك الغناء ، ولقد شعر عمر رضى الله عنه يوماً بالخيلاء وكان راكباً على فرس مزين فنزل عنه وقطع ذيله ؛ لأنه استشعر الخيلاء لحُسن مطيته ومع ذلك لم يحرم على أحد ركوبها وأما وضع ابن عمر إصبعيه في أذنيه لما سمع المزمار وقال هكذا فعل النبي - r - مما يدل على حرمة الاستماع إلى الغناء والموسيقى فقد أجاب الغزالى عن ذلك بأن فعل النبي - r - لا يدل على الحرمة ؛ لأنه ترك ابن عمر يسمع فليس في ذلك دليل على التحريم بل يدل على أن الأولى والأفضل تركه ، وهذا لا خلاف فيه بل أكثر مباحات الدنيا الأَوْلَى تركها إذا علم أن ذلك يؤثر في القلب .
ولعل ابن عمر أراد أن ينزه سمعه وقلبه في هذا الوقت عن سماع الموسيقى مما يحرك فيه اللهو ويمنعه عن فكر أو ذكر كان فيه ، ولم يأمر غلامه بذلك ولا نهاه عن الاستماع ولا أنكر عليه ذلك .
وينتهى الغزالى بعد ذلك إلى أن الغناء لهو ولعب ولكن ليس كل لهو ولعب حرام فملاعبة الرجل زوجته وأولاده والمزاح الذى لا فحش فيه وغير هذه الأشياء هى لهو مباح وأي شىء أكثر من لعب الحبشة في مسجد رسول الله - r - فهذا أشد اللهو ، ويقف النبي - r - الساعات الطوال ينظر إليهم وتنظر إليهم السيدة عائشة من وراءه حتى تمل .
بل اللهو أحيانا يكون مطلوباً فهو يروح القلب ويخفف عنه أعبائه ، والقلوب إذا أكرهت وأجبرت عميت ، وترويحها إعانة لها على الجد فالمواظب على التعلم ينبغى أن يتعطل يوم الجمعة ؛ لأن عطلة يوم تبعث على النشاط في سائر الأيام ، والمواظب على النوافل في الصلوات في سائر الأوقات ينبغى أن يتعطل في بعض الأوقات حتى تكون هناك فرصة للهو المباح فاللهو دواء القلب من داء الإعياء والمَلاَلَ فينبغى أن يكون مباحاً ولكن ينبغى أن لا يستكثر منه كما لا يستكثر من الدواء ، فإذا كثر الدواء فإن ضرره سوف يكون شديداً . فاللهو على هذه النية وهى نية ترويح القلب حتى لا يمل يصير قربة ، هذا إذا لم يحرك فيه السماع شيئاً خبيثاً بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة فينبغى أن يستحب ذلك له ليتوصل به مقصوده وهو التقوى على العمل والجد والعبادة بعد ذلك ، نعم إن هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وهكذا نرى الغزالى وقد أفاض في شرح هذه المسألة من جميع جوانبها وانتهى إلى أن الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، فالقبيح لا يجوز غناؤه ولا يجوز التحدث به في غير غناء وكل ما جاز أن يتكلم به جاز غناؤه وما لا يجوز التكلم به لا يجوز غناؤه .. والله أعلم .
أما الشوكانى في كتابه نيل الأوتار فقد تحدث عن مسألة الغناء في باب بعنوان ( باب ما جاء في آلة اللهو ) وذكر حديثاً رواه البخارى عن عبد الرحمن بن غنم قال : حدثنى أبو عامر أو أبو مالك الأشعري سمع النبي - r - يقول :" ليكونن من أمتى قوم يستحلون الحِرَّ ([3] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn3)) والحرير والخمر والمعازف([4] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn4)) " وفي لفظ ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير " ([5] (http://www.thanwya.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=900#_ftn5)) .
يقول الشوكانى في شرحه لهذا الحديث وغيره وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهى وبدونها ، فريق يرى الحرمة مستدلين بالحديث السابق وبكلام ابن مسعود في الآية وغير ذلك من الأدلة التى ذكرناها سابقاً ، وفريق آخر يرى أن الغناء مباح وأخذ يعدد الأدلة على إباحته فقالوا : إن أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر كابن حزم مثلاً وجماعة من العلماء ومن الأسماء التي ذكرها الشوكانى ممن قالوا بالإباحة عبد الله بن جعفر فقد كان لا يرى بالغناء بأساً ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتار العود ، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين على بن أبى طالب ونقل القول بإباحة الغناء عن القاضى شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن رباح والزهري والشعبي ، ونقل عن عبد الله بن الزبير أنه كانت له جوارٍ عوادات يضربن بالعود وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود فقال : ما هذا يا صاحب رسول الله فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال : هذا ميزان شامى قال ابن الزبير : يوزن به العقول ، وروى عن ابن عمر أنه قال : لا بأس بالعود ، نقل ذلك صاحب كتاب ( العقد الفريد ) وروى أن معاوية وعمرو بن العاص سمعا العود عند أبى جعفر ، وروى الأصبهانى في الأغانى أن حسان بن ثابت سمع من مغنية تسمى عزة الميلاء كانت تغنى بشعر من شعره على المزهر وهو : العود . ورخص في الغناء قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين وابن الماجشون مفتى المدينة ، وروى عن مالك إباحة الغناء بالمعازف وذكر عن مالك جواز العود ، وروى إجماع أهل المدينة على جواز الغناء وكذلك إجماع أهل الظاهر الذين يتمسكون بظاهر النصوص دون تأويل ، وحكى الماوردى إباحة العود عن بعض الشافعية .وحكى ابن النحوي في كتابه ( العمدة ) قال ابن طاهر في كتابه
( السماع ) إنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود وحكى جواز الغناء عن جمع من العلماء منهم الإسنوى والرويانى والماوردى وأبو الفضل بن طاهر والغز بن عبد السلام وابن حزم وكلهم قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة ، أما مجرد الغناء من غير آلة فقال الإدفوى في كتابه ( الإمتاع ) : إن الغزالى في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله ، وكذلك نقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين على تحليل الغناء من غير آلة وكذلك نقل الفزارى إجماع أهل الحرمين على جواز الغناء بلا آلة . وقال الماوردى لم يزل أهل الحجاز يجوزونه ويرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر كالأعياد .
وقال ابن النحوى في كتابه العمدة : وقد روى إباحة الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين مثل عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبى وقاص وأبو مسعود الأنصارى وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد وابن عمر والبراء بن مالك وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وحسان بن ثابت وعبد الله بن عمرو وقرظة بن كعب والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وعائشة والربيع بنت معوذ ، وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو وابن حسبان وخارجة بن زيد وشريح القاضى وسعيد بن جبير وعامر والشعبي وعبد الله بن أبى عتيق وعطاء بن أبى رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمربن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري ، وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية ، وإن كان هؤلاء المجوزين اختلفوا فمنهم من قال بكراهيته كراهة تنزيهية ، ومنهم من قال باستحبابه ؛ لكونه يرقق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله وقال المجوزون : ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضى تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات .
ثم ذكر الشوكانى رأي المانعين للغناء وأنهم استدلوا بالحديث المذكور وهو قوله- r - :" ليكونن من أمتى قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف ……." وذكر رد المجوزين على هذا الحديث بأن فيه اضطراب في السند والمتن . ففى السند روى عند البخارى بالشك في الراوى حيث قال : حدثنى أبو عامر أو أبو مالك الأشعري ، ثم إن في السند صدفة بن خالد وهو مختلف فيه ، وأما متن الحديث فقد رويت كلمة الحر بالحاء والراء ورويت في رواية أخرى بالخاء والزاى الخز ، وفي بعض روايات الحديث لم تذكر كلمة المعازف وهى رواية أبى داود ، كما أن كلمة المعازف اختلف في تفسيرها فقد فسرت على أنها آلات اللهو ، وفسرت على أنها اللهو أو الملاهى .
وقال المجوزون أيضاً : إنه يمكن أن يكون التحريم واقعاً على من يستحلون الغناء مع كل ما ذكر من الزنا وشرب الخمر كالمجالس الماجنة التي يجلس فيها للشرب والغناء والرقص والزنا بدليل ما جاء في الرواية الثانية :" ليشربن أناس من أمتى الخمر تروح عليهم القيان أي المغنيات وتغدو عليهم المعازف " ثم ذكر الشوكانى أن المانعين للغناء استدلوا بعدة أحاديث ذكرها وأجاب عنها المجوزون للغناء بأنها كلها لا تسلم وأن أسانيدها ضعيفة ، وقد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية وقال أبو بكر العربي في كتابه (الاحكام ) : لم يصح في تحريم الغناء شئ ، وكذلك قال الغزالى وابن النحوى في كتابه (العمدة).
وقال الفاكهانى : لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثاً صحيحاً صريحاً في تحريم الملاهى وإنما هى ظواهر وعمومات يقاس بها لا أدلة قطعية .
ثم يقول الشوكانى بعد أن عرض رأى الفريقين :
وإذا تقرر ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر رأي المتفكر المتدبر – أن محل النزاع –
(أي الغناء ) إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح ومن تركها – أي الشبهات – فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ولاسيما إذا كان الغناء مشتملاً على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال ومعافرة العقار – أي شرب الخمر – وخلع العذار والوقار فإن من يسمع ذلك لا يخلو عن بلية مهما كان تدينه .
وبعد أن عرضنا كل هذه الآراء نريد أن نختم كلامنا في هذا المقال برأينا في غناء هذا الزمان وما يحدث فيه هل هو حلال أم حرام .
نقول : إن الغناء كما رأينا مسألة خلافية وأن المجوزين للغناء ربما كانوا أكثر بكثير من المحرمين له ، والغناء اليوم لا يختلف حكمه عن الماضى ؛ لأن أصل الغناء واحد ، وربما يقول قائل : إن الغناء اليوم يشتمل على كلمات الحب والغزل .
ونحن نقول : إن هناك غزل عفيف لا يخدش الحياء وهو الذي كانت تصدر به قصائد العرب قديما قبل الإسلام وبعده ، وقد سمع النبي - r - قصيدة كعب بن زهير الذي جاء يعتذر فيها للنبي
- r - حينما أهدر النبي دمه ؛ لأنه كان قد هجا النبي - r - فجاءه بقصيدة يعتذر بها وصدرها بعدة أبيات في الغزل قبل أن يدخل إلى الغرض الأساسى للقصيدة وقد كان مطلعها :
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
ولم ينكر عليه النبي هذا اللون من الغزل العفيف وهذا لا شئ في التغنى به عند من يبيح الغناء ، أما الغزل الماجن الذي يخدش الحياء ويدعو للفاحشة فإنه رجس من عمل الشيطان وتعف آذان المؤمنين عن الاستماع إليه ، فإذا اشتملت كلمات الأغانى على المعانى القبيحة التي تثير الغرائز والشهوات وتحرض على الحب المحرم وتشجع على البطالة بما تنتجه لأهل المغنى والطرب من فرص وحظوظ في الحياة قلما ينالها العاملون المجدون ، والعلماء المجتهدون فهذا حرام ؛ لأنه يغرى بالبطالة ويدعو إليها حيث ينصرف الفتيان والفتيات عن العمل البناء والتفكير المبدع الخلاق إلى احتراف هذه الأعمال التى تجمع كثيراً من الرزائل فالخطأ ليس في أصل الغناء ولكن فيما يصاحبه من محرمات ، وإننا إذا نظرنا اليوم إلى ما يسمى غناءً نجد خلاعة وميوعة وتقعراً وخضوعاً بالقول وتحريض على الحب المحرم ، حب المعشوقة المتزوجة أو التسلية بالفتيات ، كما أن الغناء الحديث يعتمد على الحركات الجنونية والتعبيرات الهستيرية ، واستعمال الآلات الكهربائية التي تصم الآذان وتؤذى الناس وتلوث البيئة وتساعد على بعث الشر والعنف في نفوس الشباب بالإضافة إلى أن المغنيات يرقصن ويملن وتظهر مع المغنين الراقصات وبنات الهوى مع عرى الصدور والنحور وابداء المفاتن والعورات مما يستحيل مع هذا ..القول بحل هذا أو جوازه ، بل مثله حرام .
هـذا والله أعلـم .
([1]) سورة لقمان الآية (6) .
([2]) سورة النجم الآيات 59 - 61 .
([3]) الحر : الفرج ( أي الزنا ) .
(1) المعازف : الملاهى .
(2) رواه ابن ماجة عن أبى مالك الأشعري .