مشاهدة النسخة كاملة : أعظم انسان عرفته البشرية
عمروعبده 27-02-2011, 07:03 AM مجموعة مقالات تتحدث عن نبى الرحمة جمعتها من شتى البساتين لتعطينا أحلى الورود لنستنشق منها عبق
أعظم انسان عرفته البشرية
ذلكم رسول الله؛ صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، صاحب الغرّة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيّد بجبريل، خير الخلق في طفولته، وأطهر المطهرين في شبابه، وأنجب البشرية في كهولته، وأزهد الناس في حياته، وأعدل القضاة في قضائه، وأشجع قائد في جهاده؛ اختصه الله بكل خلق نبيل؛ وطهره من كل دنس وحفظه من كل زلل، وأدبه فأحسن تأديبه وجعله على خلق عظيم؛ فلا يدانيه أحد في كماله وعظمته وصدقه وأمانته وزهده وعفته.
اعترف كل من عرفه حق المعرفة بعلو نفسه وصفاء طبعه وطهارة قلبه ونبل خلقه ورجاحة عقله وتفوق ذكائه وحضور بديهته وثبات عزيمته ولين جانبه.
بل اعترف بذلك المنصفون من غير المسلمين؛ ومن هؤلاء:
يقول المستشرق الأمريكي (واشنجتون إيرفنج): «كان محمد خاتم النبيين وأعظم الرسل الذين بعثهم الله تعالى ليدعوا الناس إلى عبادة الله».
ويقول : البروفيسور يوشيودي كوزان ـ مدير مرصد طوكيو: (أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود).
ويقول عالم اللاهوت السويسري د.هانز كونج : (ـ بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم).
ويقول توماس كارليل: (قرأت حياة رسول الإسلام جيدًا مرات ومرات، فلم أجد فيها إلا الخُلُق كما ينبغي أن يكون، وكم ذا تمنيت أن يكون الإسلام هو سبيل العالم).
ويقول المستشرق الفرنسي أميل ردمنغم: "... كان محمد صلى الله عليه وسلم أنموذجًا للحياة الإنسانية بسيرته وصدق إيمانه ورسوخ عقيدته القويمة، بل مثالاً كاملاً للأمانة والاستقامة وإن تضحياته في سبيل بث رسالته الإلهية خير دليل على سمو ذاته ونبل مقصده وعظمة شخصيته وقدسية نبوته".
ويقول المستشرق الإسباني (جان ليك): (أيّ رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثلما أدرك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأيُّ إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ، لقد هدم الرسول المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق".
أما (وليام موير) المؤرخ الإنجليزي فيقول في كتابه (حياة محمد): "لقد امتاز محمد عليه السلام بوضوح كلامه، ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس وأحيى الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد".
هذه مقتطفات من مواقف فلاسفة ومستشرقين أوروبيين وغربيين في حق المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم، أردنا منها إثبات أن أبناء الحضارة الغربية يقرون بدور الإسلام في بنائها وتشييد صروحها، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته الحميدة وفضله المتصل إلى يوم القيامة على البشرية في جميع أقطار المعمور، ذلك أن التعصب الأوروبي المسيحي لم يكن خطًا صاعدًا باستمرار، وإنما وجد هناك منصفون أكدوا الحقيقة بلا لف أو دوران، ولكن الثقافة الغربية السائدة والمتشبعة بقيم التعصب والعناد والتمركز الحضاري حول الذات سعت إلى حجب هذه الحقائق وإخفاء هذه الأصوات حتى لا يتمكن الشخص الأوروبي العادي من الإطلاع على ما أتبثه أبناء جلدته من الكبار في حق الإسلام ونبيه ورسالته العالمية الخالدة، وذلك كله بهدف تحقيق غرضين، الأول إبعاد الأوروبيين المسيحيين عن الإسلام الذي دلل على قدرته على التغلغل في النفوس وملامسة صوت الفطرة في الإنسان، فهو يخيف الغرب المتوجس من تراجع عدد معتنقي المسيحية في العالم ,برغم ما ينفقه من الأموال والوقت لتنصير الشعوب، والغرض الثاني ضمان استمرار الصراع بين الغرب والإسلام والقطيعة بينهما لمصلحة الصهيونية والماسونية التي تعتبر نفسها المتضرر الأول والرئيس من أي تقارب أو حوار بين الإسلام والغرب.
وفي هذه الورقات اليسيرات نكشف جانباً من جوانب عظمته, وأخلاقه الكريمة وخصاله الشريفة لعل الله يهدي بها أقواماً علم منهم الإنصاف إلى الحق، ولعله يرعوي أقوام آخرون ممن تابع عن جهل وتعصب أعمى تلك الحملة الظالمة والتشويه الكاذب لسيرة أعظم إنسان عرفته البشرية.
أخلاق أعظم إنسان:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم، وقد شهد له بذلك ربه جل وعلا وكفى بها فضلا؛ قال تعالى مادحاً وواصفاً خُلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم:((وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ )) [القلم 4].
يقول خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه:" كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا" - رواه البخاري ومسلم.
وتقول زوجه صفية بنت حيي رضي الله عنها: "ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
وقالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
فهذه الكلمة العظيمة من عائشة رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه صلى الله عليه وسلم هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً.... فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.ا.هـ
وقد جاءت صفاته وخصاله الكريمة صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب نفسها قبل تحريفها ؛ فعن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا - رواه البخاري.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله :
كان صلى الله عليه وسلم خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته من طيب كلامه وحُسن معاشرة زوجته بالإكرام والاحترام، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) رواه الترمذي.
وكان من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أهله وزوجه أنه كان يُحسن إليهم ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم، وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يرقّق اسم عائشة ـ رضي الله عنها ـ كأن يقول لها: (يا عائش )، ويقول لها: (يا حميراء) ويُكرمها بأن يناديها باسم أبيها بأن يقول لها: (يا ابنة الصديق) وما ذلك إلا تودداً وتقرباً وتلطفاً إليها واحتراماً وتقديراً لأهلها.
و كان صلى الله عليه وسلم يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي)، وتقول له: دع لي. رواه مسلم
وكان يُسَرِّبُ إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها. وكان إذا هويت شيئاً لا محذورَ فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإِناء أخذه، فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عَرقاً - وهو العَظْمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حَجْرِها، ويقرأ القرآن ورأسه في حَجرِها، وربما كانت حائضاً، وكان يأمرها وهي حائض فَتَتَّزِرُ ثم يُباشرها، وكان يقبلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خُلُقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب.
(عن الأسود قال :سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قال : كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم - رواه أحمد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس : اقدموا فتقدموا، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي : تعالي أسابقك فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول هذا بتلك" رواه أحمد.
بل إنه صلى الله عليه وسلم وضع ركبته لتضع عليها زوجه صفية رضي الله عنها رجلها حتى تركب على بعيرها. رواه البخاري.
ومن دلائل شدة احترامه وحبه ووفائه لزوجته خديجة رضي الله عنها، إن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها (صديقاتها)، وذلك بعد مماتها وقد أقرت عائشة رضي الله عنها بأنها كانت تغير من هذا المسلك منه - رواه البخاري.
عدل النبي صلى الله عليه وسلم:
كان عدله صلى الله عليه وسلم وإقامته شرع الله تعالى مع القريب والبعيد والعدو والصديق والمؤمن والكافر مضرب المثل ؛ كيف لا وهو رسوله صلى الله عليه وسلم، والمبلغ عن ربه ومولاه؟!!
فكان صلى الله عليه وسلم يعدل بين نسائه ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ غيورة.
فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها أنها ـ أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة... ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أُمكم ـ مرتين ـ ) ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة. رواه النسائي وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة المخزومية التي سرقت: (والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد, لقطعت يدها).
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال والصبيان:
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري ومسلم.
و كان صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين وهما ابنا بنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما حتى ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله ورسوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (لأنفال:28) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
و كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بالصبيان سلم عليهم وهم صغار وكان يحمل ابنته أمامه وكان يحمل ابنة ابنته أمامة بنت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس وكان ينزل من الخطبة ليحمل الحسن والحسين ويضعهما بين يديه.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع الخدم والضعفاء والمساكين:
عن أنس رضي الله عنه قال" خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" - رواه البخاري ومسلم.
و عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله. رواه البخاري ومسلم.
و عن عائشة رضي الله عنها قالت "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".
وعن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته. رواه النسائي والحاكم.
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)
وقال تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..) (آل عمران:159)
وعندما قيل له ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم:"إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة" - رواه مسلم.
و كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من وليَ من أمرِ أمتي شيئاً، فشقَّ عليهم، فاشقُق عليه، و من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به)
وقال صلى الله عليه وسلم في فضل الرحمة: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه الترمذي وصححه الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة الذين أخبر عنهم بقوله: (أهل الجنة ثلاثة - وذكر منهم- : ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ) رواه مسلم.
عفو النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت له والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟ قلت نعم، أنا أذهب يا رسول الله – فذهبت" رواه مسلم.
و عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَه مَه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن) قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. رواه مسلم.
تواضعه صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، يتخلق ويتمثل بقوله تعالى: (( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ)) [ القصص 83 ].
وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته فقال صلى الله عليه وسلم: "هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة" رواه ابن ماجه.
وكان صلى الله عليه وسلم يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا عبد الله ورسوله" أخرجه البخاري .
فكان أبعد الناس عن الكبر، كيف لا وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
كيف لا وهو الذي كان يقول صلى الله عليه وسلم: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد) رواه أبو يعلى وحسنه الألباني.
كيف لا وهو القائل بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: (لو أُهدي إليَّ كراعٌ لقبلتُ ولو دُعيت عليه لأجبت) رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب الدعوة ولو إلى خبز الشعير ويقبل الهدية.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي في الشمائل.
والإهالة السنخة: أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث.
مجلسه صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم يجلِس على الأرض، وعلى الحصير، والبِساط.
عن أنس رضي الله عنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه من وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه، ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له" - رواه أبو داود والترمذي بلفظه.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا - رواه أبو داود وإسناده حسن.
زهده صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة، خيره الله تعالى بين أن يكون ملكًا نبيًا أو يكون عبدًا نبيًا فاختار أن يكون عبدًا نبيًا.
فكان صلى الله عليه وسلم ينامُ على الفراش تارة، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ، وتارة على كِساء أسود.
وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعًا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارًا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر قال: ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال: بلى قال: هو كذلك)
وكان من زهده صلى الله عليه وسلم وقلة ما بيده أن النار لا توقد في بيته في الثلاثة أهلة في شهرين .
فعن عروة رضي الله عنه قال: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقول: والله يا ابن أختي كنا لننظر إلى الهلال ثم الهـلال ثـلاثة أهله في شهرين ما أوقـد في أبيـات رسـول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان عيشكم؟ قالت: الأسودان ـ التمر والماء ـ) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
عبادته صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم أعبد الناس، و من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه كان عبداً لله شكوراً؛ فإن من تمام كريم الأخلاق هو التأدب مع الله رب العالمين وذلك بأن يعرف العبد حقّ ربه سبحانه وتعالى عليه فيسعى لتأدية ما أوجب الله عز وجل عليه من الفرائض ثم يتمم ذلك بما يسّر الله تعالى له من النوافل، وكلما بلغ العبد درجةً مرتفعةً عاليةً في العلم والفضل والتقى عرف حق الله تعالى عليه فسارع إلى تأديته والتقرب إليه عز وجل بالنوافل.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه إن الله تعالى قال: (... وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه...) رواه البخاري.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف حق ربه عز وجل عليه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل.
فعن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.
ومن تخلقه صلى الله عليه وسلم بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر به ويحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم.
و كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) رواه البخاري ومسلم .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) رواه النسائي وصححه الألباني.
دعوته صلى الله عليه وسلم:
شملت دعوته عليه الصلاة والسلام جميع الخلق، فكان صلى الله عليه وسلم أكثر رسل الله دعوة وبلاغـًا وجهادًا، لذا كان أكثرهم إيذاءً وابتلاءً، منذ بزوغ فجر دعوته إلى أن لحق بربه جل وعلا .
وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم على مراتب:
المرتبة الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذارُ جميع مَنْ بلغته دعوته من الجن والإِنس إلى آخر الدّهر.
وقد قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم كلها رحمة وشفقة وإحساناً وحرصاً على جمع القلوب وهداية الناس جميعاً مع الترفق بمن يخطئ أو يخالف الحق والإحسان إليه وتعليمه بأحسن أسلوب وألطف عبارة وأحسن إشارة، متمثلاً قول الله عز وجل: (( ادْعُ إِلِىَ سَبِيــلِ رَبّــكَ بِالْحِكْـمَةِ وَالْمَـوْعِظَـةِ الْحَسَنَـةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... )) [ النحل:12] .
ومن ذلك لما جاءه الفتى يستأذنه في الزنى.
فعن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه فقال له: (ادنه)، فدنا منه قريباً، قال: (أتحبّه لأمّك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لبناتهم) قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. رواه أحمد.
كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده:
كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجود الناس لم يمنع يوماً أحداً شيئاً سأله إياه، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنمًا بين جبلين، وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة، ومن كرمه صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل يطلب البردة التي هي عليه فأعطاه إياها صلى الله عليه وسلم وكان لا يردّ طالب حاجة، قد وسع الناس برّه، طعامه مبذول،وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجه بسّام.
وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد ولم يدّخر منها درهمًا ولا دينارًا ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذمّ البخل والإمساك صلى الله عليه وسلم.
بل كان ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم و يوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئًا، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله، ويؤثر المحتاج بذات يده، ويصل القريب بما يملك، ويواسي المحتاج بما عنده، ويقدّم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفًا، وأسخاهم يدًا، غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه، بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، وجلس الأعراب على طعامه، وحفّ المنافقون بسفرته، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب، بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك وأمّك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه.
شجاعته صلى الله عليه وسلم وجهاده:
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأثبتهم قلبًا، لا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل: " والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري.
لا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمّات، فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه، ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده، فكان صلى الله عليه وسلم يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانًا به وهو صامد مجاهد، لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.
وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إلا هو صلى الله عليه وسلم وستة من أصحابه، وكان صدره بارزًا للسيوف والرماح، يصرع الأبطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
وقد شُجّ عليه الصلاة والسلام في وجهه وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة. وكان أول من يهبّ عند سماع المنادي، بل هو الذي سنّ الجهاد وحثّ وأمر به.
وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر وحلّ الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدًا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودًا وباؤوا بالخسران والهوان.
صدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق، و كلامه صلى الله عليه وسلم كله حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادًّا أو مازحًا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه، وكل قوله وعمله وحاله صلى الله عليه وسلم مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقًا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول- لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!-: " ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين" رواه أبو داود والنسائي .
فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بالله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه ونبوّته وإكرام الله له بالاصطفاء والاجتباء والاختيار؟!
صبره صلى الله عليه وسلم:
لا يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسب، صبر على اليتم والفقر والجوع والحاجة، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين.. صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } طه 130، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الأحقاف 35.
مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقتل عمه حمزة فصبر، وأبعد من مكة فصبر، وتوفي ابنه فصبر، ورميت زوجته الطاهرة بالفاحشة كذباً وبهتاناً فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر، وهل يتعلّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.
ضحكه صلى الله عليه وسلم:
وكان صلى الله عليه وسلم ضحاكًا بسامًا مع أهله وأصحابه؛ يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحب والحنان والعطف؛ وكانت تعلو محيّاه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسرًا فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه، وكان يمزح ولا يقول إلا حقًا، فيكون مزحه على أرواح أصحابه ألطف من يد الوالد الحاني على رأس ابنه الوديع، يمازحهم فتنشط أرواحهم وتنشرح صدورهم وتنطلق أسارير وجوههم.
يقول جرير بن عبد الله البجلي: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسّم في وجهي.
وكان صلى الله عليه وسلم في ضحكه ومزاحه ودعابته وسطاً بين من جفّ خلقه ويبس طبعه وتجهّم محيّاه وعبس وجهه، وبين من أكثر من الضحك واستهتر في المزاح وأدمن الدعابة والخفة.
بل كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يمازح بعض أصحابه قال له أحد أصحابه ذات مرة: أريد أن تحملني يا رسول الله على جمل، قال:" لا أجد لك إلا ولد الناقة" فولّى الرجال فدعاه وقال: " وهل تلد الإبل إلا النوق؟" أي أن الجمل أصلا ولد ناقة. أخرجه أحمد عن أنس بن مالك.
و سألته امرأة عجوز قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أُم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: (( إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً)) [ الواقعة 35 – 37 ] رواه الترمذي في الشمائل وحسنه الألباني .
هذا غيض من فيض وقطرة من محيط من خصال وأخلاق أعظم إنسان عرفته البشرية جمعتها على عجل مساهمة متواضعة وكلمات مختصرة لعل الله عز وجل يفتح بها قلوباً غلفًا إلى الحق، ويهدي بها أعيناً عمياً لتدرك جانباً يسيراً من جوانب العظمة في حياة سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. وكتبه
أبو عبد الرحمن هشام محمد سعيد برغش
أعظم إنسان عرفته البشرية
هشام محمد سعيد برغش
عمروعبده 27-02-2011, 07:13 AM محبة النبي- صلى الله عليه وسلم-
حسين بن قاسم القطيش
الحمد لله الذي جعل محبة محمد - صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، وجعل سنته طريق لدخول الجنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بمحبة النبي العدنان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام، - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام, أما بعد: بأبي وأمي أنت يا خير الورى *** وصلاة ربي والسلام معطرا
يا خاتم الرسل الكرام محمد *** بالوحي والقرآن كنت مطهرا
لك يا رسول الله صدق محبة *** وبفيضها شهد اللسان وعبرا
لك يا رسول الله صدق محبة *** فاقت محبة من على وجه الثرى
لك يا رسول الله صدق محبة *** لا تنتهي أبدا ولن تتغيرا([1])
إن محبة محمد- صلى الله عليه وسلم- فرض لازم على كل مسلم حباً صادقاً مخلصاً؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها، واستحقاقه لها-صلى الله عليه وسلم-([2])، فعن أنس -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))([3])، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- يستحق المحبة العظيمة بعد محبة الله -عزوجل-كيف لا وهو من أرانا الله به طريق الخير من طريق الشر، كيف لا وهو من عرفنا بالله –عزوجل-، كيف لا وهو من بسببه اهتدينا إلى الإسلام، أفيكون أحد أعظم محبة بعد الله منه؟!!.
جاء عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: "لأنت أحبَّ إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي" فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : ((لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)). فقال عمر: " والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفس التي بين جنبي". فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: ((الآن يا عمر)), فحب النبي - صلى الله عليه وسلم- يجب أن يكون أعظم حب بعد حب الله تبارك وتعالى، أعظم من حب الولد والوالد، وأعظم من حب الوالدة والإخوة، ومن حب المال والدنيا، وأعظم من حب الزوجة بل أعظم من حب النفس، فإذا لم يكن هذا هو واقع محبة النبي في قلب المسلم فإنه لا يذوق حلاوة سنته، قال سهل: "من لم ير ولاية الرسول- صلى الله عليه وسلم- في جميع الأحوال ويرى نفسه في ملكه - صلى الله عليه وسلم- لا يذوق حلاوة سنته، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)).
إن محبة محمد- صلى الله عليه وسلم- طريق إلى الجنة، وبوابة إلى حب الله عزوجل، وعبور إلى منازل الجنان، ودليل كبير على إيمان المرء وإخلاصه لله، وذلك بتطبيق محبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فاتباع سنة محمد- صلى الله عليه وسلم- أكبر دليل وأعظم برهان على صدق محبته والإخلاص في حبه، ومن كانت محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متربعة في نفسه على بقية الناس فإنه يحضى بثواب من الله عظيم، جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ((ما أعدتت لها؟)) قال: " ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله قال: ((أنت مع من أحببت))([4]).
إذا نحن أولجنا وأنت أمامنا *** كفى بالمطايا طيب ذكرك حاديا
فجزاء محبته- صلى الله عليه وسلم- هي أن مُحِبه سيكون معه- صلى الله عليه وسلم- في الجنة، وسيكون قريباً منه في المنزلة والدرجة، روي أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله؟ لأنت أحب إلي من نفسي ومالي، وإني لأذكرك فما أصبر حتى أجي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك. فأنزل الله تعالى قوله:{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}فدعا به فقرأها عليه. يا لها من منزلة رفيعة، ودرجة عالية، ومكانة عظيمة، إنها ثمرة محبة النبي الكريم، ثمرة محبة الحبيب وطبيب القلوب من تسعد القلوب وترتاح إذا امتلأت بحبه وتسموا النفوس إذا أنست بحبه, وترتاح الأجساد إذا تعبت في اتباع سنته، يقول - صلى الله عليه وسلم- : ((من أحبني كان معي في الجنة))([5]).
إن صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد ضربوا أروع الأمثلة، وصدروا أبرز المشاهد، وبرهنوا أعظم دليل على صدق محبتهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقدموا من أجله الغالي والنفيس، فلم يهن عليهم شيء مقابل حب رسول الله، فالمال يهون والولد والزوجة تهون بل والنفس تهون مقابل حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا عجب ولا غرابة فمحبته خالطة بشاشة قلوبهم فسرت في عروقهم، وجرت في شرايينهم، وتشبعت بها أرواحهم، وسيطرت على أفكارهم، فمحمد- صلى الله عليه وسلم- هو أغلى شيء في حياتهم وليس أدل على ما قلته إلا قول أبي سفيان عندما قال لقومه : "ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا" فهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول: ما كان أحدٌ أحب إلي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهذه إحدى الصحابيات من الأنصار، تبرهن أحسن برهان في أصعب موقف وأشده على صدق حبها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فقالت: ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيراً هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرينه حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت: ((كل مصيبة بعدك جلل))كل مصيبة تهون وتصغر إلا مصيبتك يا رسول الله، يا الله ما أعظمها من نفوس وما أعظمه من حب صادق خالط بشاشة القلوب.
أما ابن عمه وزوج بنته فقد سئل -رضي الله عنه-: كيف كان حُبكم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين فقد تغلغلت محبة رسول الله في قلوبهم فلم يحبوا شيئاً في الدنيا مهما كان أمره ومهما كانت مكانته أعظم من حبهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
أخي الكريم: اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه، وكان مدعياً، فالصادق في حب النبي- صلى الله عليه وسلم- من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله. وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه، وموافقة شهوته([6])فهل أنت كذلك يا من تدعي حب محمد - صلى الله عليه وسلم- ، هل أنت من المُسَلِمين لأمره، الوقافين عند شرعه، المتبعين لسنته، الملتزمين طريقه ونهجه، اسأل نفسك أين أنت من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كيف حبك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، هل هناك دليل وبرهان على صدق حبك لرسول الله، أم أن الأمر ادعاء لا دليل عليه.
اللهم اجعلنا من أحبابك وأحباب رسولك.
اللهم املأ قلوبنا بمحبتك ومحبة نبيك، اللهم اجعلنا لهديه مهتدين ولسنته مقتدون، وعلى طريقه سائرون.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
------------------------------------
[1] - فوزية المطيري
[2] - الشفاء ص271.
[3] - البخاري ومسلم.
[4] - البخاري ومسلم.
[5] - رواه الترمذي.
[6] - الشفاء ص276.
محمد حسين الشربينى 27-02-2011, 07:14 AM (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
عمروعبده 27-02-2011, 07:20 AM منهج الرسول في الحفاظ على سمعة الإسلام
د. خالد بن عبد الرحمن الشايع (http://www.saaid.net/Doat/shaya/khalidshaya.htm)
من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضايا العامة حرصه على سمعة الإسلام، وتنزيهه عن الأقوال والأفعال التي قد تسبب تشويهه أو وصمه بصفات هو منها بريء.
وهذا المنهج النبوي واضحٌ وجليٌّ لكل من تأمل في السيرة العطرة.
والأمثلة على هذا متعددة، ومن النماذج: منهج النبي عليه الصلاة والسلام في احتواء المشكلات داخل المدينة المنورة، وتجاوزه عن بعض أفعال المنافقين والزنادقة الذي يتظاهرون بالإسلام ويعيشون في جنبات المدينة النبوية؛ رغم ما كان يصدر عنهم من مواقف الخيانة العظمى، إلى الحد الذي جعل الصحابة يضيقون ذرعاً بأولئك الأفراد، ويطالبون النبي عليه الصلاة والسلام بقتلهم في أكثر من من مرة، غير أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متشبثاً بمنهجية الإغضاء، ويعلل ذلك بقوله: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»، رواه البخاري ومسلم. وفي واقعة أخرى يحدث جابر بن عبد الله يقول: «لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: عدل يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! لقد خبت وخسرت إن لم أعدل»، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: «معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا وأصحاباً له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم». رواه أحمد وأصله في صحيح البخاري.
وفي روايات أو مناسبات أخرى عندما كان الصحابة يرون أن أشخاصاً ممن يعيشون في كنف الدولة الإسلامية ارتكبوا أعمالاً شنيعة، مما يطلق عليه اليوم في قوانين الدول «الخيانة العظمى» نحو أوطانهم، ويطالب الصحابة ومنهم كبار وزراء ومستشاري النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، بتنفيذ الحكم الحاسم نحوهم، إلا أنه كان يرد عليهم: «أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، وبقوله: «فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه».
وتوضيحاً لهذه السياسة النبوية: فإن المجتمع الإنساني آنذاك وهو يشاهد هذا الدين الجديد وهذه الدولة الوليدة على أساسه وتشريعاته فإنهم يرمقون اتجاهات قائدها ويراقبون قراراتها، إلى الحد الذي سبروا معه تاريخ هذا القائد منذ مولده وطبيعة تعاملاته وأخلاقه، بل وتاريخ أجداده، كما جاء في الحوار الشهير بين اثنين من أكبر قادة وساسة ذلك العصر وهما القائد القرشي أبو سفيان والملك الرومي هرقل.
وفي ضوء ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أن الناس من حوله لن يتفهموا سبب الحكم بالإعدام الذي تقضي به الدول نحو من يخونها من رعاياها، فترك ذلك رعايةً لمصلحة أعلى وهي حماية سمعة الرسالة الخاتمة التي كلفه الله بإبلاغها للثقلين.
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم محافظاً على منهجية حماية سمعة الإسلام، وبخاصة لدى التعامل مع الدول وأهل الملل الأخرى، عملاً بالتوجيهات الربانية، كما في قوله سبحانه: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ» [الأنفال:59].
ويوضح هذه الآية الكريمة ما رواه سليم بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، وفي رواية: فأراد ان يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة رضي الله عنه، فأرسل إليه معاوية فسأله؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء»، فرجع معاوية بالناس. رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي من يعينهم من القادة والسفراء ومن يتفاوض مع غير المسلمين ويقول لهم: «إذا أرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله»، رواه مسلم.
قال العلماء: الذمة هنا: العهد، ومعنى: تخفروا، أي نقض عهدهم، والمعنى لا تجعلوا العهد منسوباً إلى الله أو إلى نبيه فإنه قد ينقضه من لا يعرف حقه، وينتهك حرمته بعض الأفراد. ولكن يكون العهد باسم القائد حتى يكون مسؤولاً عنه هو.
وعند النظر في الحملات الجائرة لتشويه تراث الأمة وتاريخها والتي يتبناها اليوم أقوام جعلوا هدفهم الأكبر الصد عن دين الإسلام ومنع الناس من تقبله، وسلكوا في سبيل ذلك مسلك التشويه والافتراء، مستغلين أخطاء بعض من ينتسبون للإسلام، فراحوا يضخمونها ويسخرون لها وسائل الإعلام والاتصالات ليؤكدوا للعالم مزاعمهم نحو الإسلام ونحو نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، على غرار ما تابعناه في الفترة الأخيرة من حملات محاولة الإساءة للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام، إن ذلك كله ليفرض علينا أهل الإسلام أن نجعل من أولويات التعامل مع غير المسلمين مبدأ (حماية سمعة الإسلام) و(حماية سمعة النبي صلى الله عليه وسلم) وأن نوضح الصورة الحقيقية للإسلام وأن نعرف بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عنه: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ». [الأنبياء:107].
عمروعبده 27-02-2011, 07:24 AM الطريق إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم
د/ أحمد محمد زايد
كلية أصول الدين – جامعة الأزهر- القاهرة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد النبي الخاتم الأمين وبعد:
فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زادنا إلى الله , وشفاء قلوبنا , ونور حياتنا , وسعادة أفئدتنا ولكن ما حقيقة المحبة :
يتصور البعض أنه بمجرد الاقتناع بوجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل له الحب,ولا عليه بعد ذلك إن ذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلم تتحرك مشاعره , ولم يلتهب الشوق في قلبه نحو الحبيب, والبعض يظن أنه بمجرد القيام ببعض السنن أو حتى اتباع السنة كاملة يكون قد حقق الحب الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقول مبينا فهمي لقضية المحبة :
إن الحب عمل قلبي تتفاعل فيه الأحاسيس, وتستجيب به المشاعر, وتتفجر معه الأشواق,وتظهر انفعالات الحب مع ذكر المحبوب فيهتز القلب وتدمع العين ويزداد الطلب والشوق لرؤية المحبوب والجلوس بين يديه لتكتحل العين برؤيته, وتأنس النفس بالحديث معه, ويتقطع القلب شوقا, ويتحرق ألما, عندما لا يتمكن من رؤيته, ويطول الفراق والبعاد فلا يبق إلا الحديث والإخبار دون الرؤية واللقاء,فتسهر عين المحب, ويتقلب على فراش الشوق والعشق, حتى إنه لا يصبر إلا إذا وعد موعدا قريبا بلقاء.
فالمحبة ليست قناعة عقلية وفقط بل هي مزيج دموع وأشواق ومشاعر وانفعالات وحركة نفسانية قلبية , أما الاقتناع بعظمة المحبوب وشدة اتباعه فقط دون ما ذكرنا من معاني فهذا عمل سطحي , يحتاج إلى روح تبعثه من مواته, وروح تحركه من سباته.
ومن هنا فلابد من مراقبة النفس عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مراقبة:
- حال القلب من الشوق والانفعال أشد من شوق الإنسان إلى ولده وزوجه وكل حبيب لديه.
- بدمع عينيه أشد ما يكون من مفارقة أحب المحبوبين إلى نفسه.
- عمله واقتدائه وامتثاله أشد ما يكون طاعة وانقيادا لأحب الناس إليه .
لا بدمن مراقبة النفس في هذه الأحوال ليكون الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم أحب الخلق إليه فينفعل نحوه قلبه ,وتدمع شوقا إليه عينه, وتتحرك للاقتداء به جوارحه.
وأرجو أن يكون فهمي في ذلك صائبا صحيحا موافقا لمراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لماذا محبة النبي صلى الله عليه وسلم
1- أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي الطريق لتذوق حلاوة الإيمان ففي الحديث "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وأولها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"
2- أن الإيمان لا يتحقق مطلقا في قلب المؤمن إلا بمحبته صلى الله عليه وسلم" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله ووالده وولده والناس أجمعين"
3- أن الاتباع العملي من غير رابطة قلبية برسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة عن شبح بلا روح فلا يكمل العمل إلا بالمحبة.
4- أن المحبة القلبية هي وقود الاستمرار العملي والثبات عليه والاجتهاد فيه.
5- أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي روح الحياة وزاد الأرواح ومصدر السعادة ومبعث الحب للآخرين. لا تستريح النفس إلا بها, ولا تسكن الأفئدة إلا بتحقيقها.
وأخيرا – وهو المقصود - كيف الطريق إلى هذه القمة السامقة والمقصد العظيم ( محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم:
أتصور أخي القارئ الحبيب أن الطريق إلى ما قصدناه لا بد فيه من خطوات علمية وأخرى عملية نوجزها في الآتي:
أولا : خطوات علمية وتتلخص في :
- الاطلاع والمعايشة للسيرة النبوية وننصح هنا بالمواهب اللدنية للقسطلاني مع شرحه للزرقاني ومعه فقه السيرة لمحمد الغزالي والرحيق المختوم للمباركفوري .
- الاطلاع والمعايشة للشمائل المحمدية ويكفي هنا الشمائل المحمدية مع شرح وجيز له.
- الاطلاع والمعايشة للخصائص المصطفوية وننصح هنا بالخصائص الكبرى للسيوطي مع الحذر من بعض مروياته.
- معرفة حقوقه صلى الله عليه وسلم وننصح هنا بالكتاب الماتع "الشفا "للقاضي عياض .
- معرفة طرف من أقواله النيرة المربية وننصح هنا برياض الصالحين للنووي.
إن الاطلاع على هذه الجوانب "السيرة – والشمائل - والخصائص – ومعرفة الحقوق- والاطلاع على الأقوال والأحاديث "ليهيئ قلب المؤمن للتعرف على أعظم نبي بل أعظم إنسان على الإطلاق,فالمعرفة هي الخطوة الأولى ولكن بتلك الجوانب المتكاملة التي أشرنا إليها.
ثانيا : الخطوات العملية وتتلخص في الآتي:
- كثرة الصلاة عليه في وقت وحين ,وليرجع في ذلك إلى كتاب "جلاء الأفهام" لابن القيم وهذا موضوع روحاني طويل الذيل عظيم النيل.
- مجالسة محبيه صلى الله عليه وسلم, وهذا سر يلقيه الله تعالى في قلوب المخلصين من عباده والأصفياء من خلقه, قد ينالها الزوج دون زوجته, العبد دون سيده, والغني دون الفقير, والصغير دون الكبير, وما أكثر المحبين المشتاقين الذين يودون لو رأوه صلى الله عليه وسلم وبذلوا لذلك مهجهم وأموالهم ,أعرف أناسا بسطاء ما إن يذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى تفيض أعينهم بالدمع, وتتقطع قلوبهم حبا وحزنا يودون أن لو رأوه وبذلوا الدنيا كلها, وعزاؤهم في ذلك حبهم للمحبوب و"المرء مع من أحب".
- الاطلاع على أحوال محبيه, والصوفية السنية الملتزمة البعيدة عن البدع والخرافات لهم أحوال في ذلك يصعب حصرها.
- ثم الاتباع العملي لكافة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا كاملا بإخلاص تام , ممزوج بحب كامل, واعتزاز وفخر باتباع أشرف الخلق.
- زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم فتلك عبادة مستقلة مندوب إليها, بها يشعر الزائر بالقرب من حبيبه صلى الله عليه وسلم, فتتفجر من قلبه أحاسيس المحبة والشوق,وتسيل عيونه بدمع المحبة , فتفيض على قلبه أنوار من أنوار النبوة المباركة ببركة المكان والعمل.
- الإكثار من الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في المجالس, فكل مجلس لا يذكر فيه الحبيب فهو نقص على الجلساء, ومن أحب شيئا أكثر من ذكره.
وكلمة أخيرة: حول رؤيته صلى الله عليه وسلم مناما, أقول ليست رؤيته صلى الله عليه وسلم دليلا على كمال إيمان الرائي أو أفضليته, فقد يراه صلى الله عليه وسلم المفضول دون الفاضل , فرؤيته لا تدل على أفضلية دائمة ,وعدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لا تدل على بعد عنه صلى الله عليه ولا عدم تعلق به ,وعلى أي حال هي شرف للرائي , ومتعة لقلبه ورسالة ربانية تشرف صاحبها متى استوفت الشروط.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا حبه وحب نبيه صلى الله عليه وسلم, وينفعنا بذلك الحب يوم أن نلقاه
عمروعبده 27-02-2011, 07:30 AM النبي - صلى الله عليه وسلم- زوجاً
حسين بن قاسم القطيش
الحمد لله العلي العظيم، البر الرحيم، جعل الإحسان إلى الزوجة من الدين فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} " وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}, والصلاة والسلام على النبي الحنون العطوف القائل في حجة الوداع: (أوصيكم الله في النساء)، وعلى آله وأصحابه وأزواجه.
أما بعد:
مثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم- في حياته المليئة بالالتزامات أفضل زوج في التاريخ، فلم تمنعه كثرة أعماله ومشاغله من إعطاء أزواجه حقوقهن الواجبة عليه، مع أنه كان قائداً للدولة، ومبلغاً للرسالة وقائداً للجيش، ومعلماً للناس إلا أن هذه الأعمال كلها لم تحلْ بينه وبين أزواجه كما هو حال كثير من المسلمين اليوم يضيع حقوق زوجه بحجة الأعمال الكثيرة والالتزامات العديدة، ويا ليت أن الأمر يتوقف عند هذا بل إن بعض الأزواج يعتدي على زوجه بالشتم والسب والضرب، وهؤلاء الأزواج قد خالفوا سنة نبيهم في هديه مع أزواجه.
فالرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يضرب بيده الشريفة الطاهرة أحداً كما قالت عائشة -رضي الله عنها- : (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ وَلَا خَادِمًا)[1] وإنما كان -عليه الصلاة والسلام- زوجاً حنوناً رحيماً يعطف على أزواجه ويرحمهن ويبتسم لهن ويعاملهن معاملة حسنة, معاملة نبوية كريمة، فقد كان - صلى الله عليه وسلم- متزوجا تسعا من النساء إلا أنه لا يمنعه كثرتهن أن يعطي كل واحدة منهن حقها.
فالنوم عندهن كان بالسوية، ينام عند هذه ليلة وعند الأخرى ليلة وعند الثالثة والرابعة وهكذا بقية نسائه - عليه الصلاة والسلام-، فهو لا يُغّلِبَ إحداهن على الأخريات، وإنما بالسوية إلا من تنازلت عن حقها كما تنازلت زينب بليلتها لعائشة -رضي الله عنه- عنهن أجمعين،وكان عليه الصلاة والسلام يصحب زوجاته في السفر، كما صحّ في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)[2] ، فيحسن إليها ويبتسم لها بل ويمازحها ويضاحكها، ويسابقها كما فعل مع عائشة -رضي الله عنها-.
ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- راعى أموراً في حق الزوجية قد تكون صغيرة في أعين الناس ألا وهي التجمل لأزواجه والتزين لهن فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان - صلى الله عليه وسلم- لا يدخل بيته إلا والسواك على فمه، فهو لا يريد أن تشم منه أزواجه رائحة أكله - صلى الله عليه وسلم- ما أطيبه حياً وميتاً، لم يكن عليه الصلاة والسلام- بحاجة لذلك فهو طيب الريح، بأبي هو وأمي ولكنه قدوة للناس، يهتم بكل صغيرة وكبيرة في الحياة الزوجية لأن هذه الأمور لها أثرها الكبير في الحياة الزوجين سلباً وإيجاباً.
والمزاح مع أزواجه لم يكن غائباً عنه -عليه الصلاة والسلام- بل كان حاضراً في كثير من أوقاته مع أهله فعائشة -رضي الله عنها- تقول: كنت أغتسل أنا والرسول - صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد حتى إنه ليقول دعي لي وأقول دع لي" فكان هذا مزاحاً لطيفاً يدل على حسن العشرة النبوية منه - صلى الله عليه وسلم-مع أزواجه. و عن عائشة قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعطيني العظم فأتعرّقه - أي: آكل ما بقي فيه من اللحم وأمصه - ، ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي)[3]. فأي حب وأي مودة منه - صلى الله عليه وسلم- لأزواجه؟!
وهو في بيته كان -عليه الصلاة والسلام لا يأنف من أن يقوم ببعض عمل البيت ويساعد أهله، سئلت عائشة - رضي الله عنها- : "ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - أي: في خدمتهم - ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"[4]. . وفي رواية عند أحمد: كان بشرًا من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وفي رواية أخرى: كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وهي في صحيح الجامع (4813).
ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- كان يتحمل ما يصدر من نسائه ويعذرهن فيما يصدر منهن فقد دخل إحدى الليالي بيت إحدى نسائه ولم تكن ليلتها وإنما دخل ليبول فلما خرج وذهب إلى الأخرى التي هي ليلتها أغلقت عليه الباب ولم تفتح له فكان يقول لها إنما دخلت من أجل البول وهي مصرة على الإغلاق فلما فتحت لم يغضب عليها ولم يضربها مع أنها فعلت فعلاً كبيراً لكنه -عليه الصلاة والسلام- عذرها وعفى عنها.
و ها هو يحن على أزواجه ويعطف علهن فعن أنس قال: (خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي يُحَوِّي لها -أي: لصفية - وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب)[5].
هذا هو محمد- صلى الله عليه وسلم- زوجاً، وهذه هي بعض معاملاته وأخلاقه مع أزواجه فقد كان أفضل الأزواج على الإطلاق. فهل للأزواج اليوم أن يحسنوا معاملة ومعاشرة أزواجهم كما كان نبيهم- صلى الله عليه وسلم-، هل للأزواج أن يغيروا من أسلوب القهر والظلم على الزوجات. آمل أن تكون حيات النبي - صلى الله عليه وسلم- قدوة لنا نجعلها نصب أعيينا في التعامل مع أزواجنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه.
------------------------------------
[1] - مسند أحمد - (ج 53 / ص 358).
[2] - رواه البخاري ومسلم
[3] - رواه مسلم.
[4] - رواه البخاري.
[5] - رواه البخاري.
عمروعبده 27-02-2011, 07:45 AM رحمة للعالمين
حسين بن قاسم القطيش
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم، أرسل محمدا بالهدى والرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جاء بالرحمة للعالمين، - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الرحماء فيما بينهم.
أما بعد:
أرسل الله تبارك وتعالى محمداً رحمة للعالمين فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، رحمة بالإنسان والحيوان والجمادات، يصفه ربه فيقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، فالرحمة صفة لازمة له، فهي عنوانه، وهي سمته التي يعرف بها، فقلوب الناس تهواه وتغشاه وتحبه لأنه رحمة, بعث بالرحمة والعطف والحنان، بعث بالرفق واللين فما أرحمه من نبي، فهذه سيرته العطرة مليئة بالمشاهد الدالة على رحمته- صلى الله عليه وسلم- يسير يوماً من الأيام خارج مكة فإذا به يجد عجوزاً تحمل الحطب على رأسها قد أنهكها التعب، وشق عليها بعد الطريق، وآلمتها حرارة الشمس، فلما رأى حالها- صلى الله عليه وسلم- رحمها وهو أبو الرحماء، فقال: يا خالة أآخذ معك الحطب إلى البيت ففرحت وسرت، فأعطته- صلى الله عليه وسلم- الحطب فحمله عنها حتى أوصله إلى بيتها, أليست هذه هي الرحمة، أهناك أحد وصلت به رحمته إلى هذا المستوى، أهناك رحمة تعدل هذه الرحمة، أيوجد إنسان يحمل رحمة كرحمة محمد-صلى الله عليه وسلم-؟ لا والله ليس هناك أحد يرحم الناس كما يرحمهم محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولا غرابة فهو أبو الرحماء وهو من أرسل رحمة للعالمين. الراحمون جميعهم كانوا يداً *** هي أنت بل أنت اليد البيضاء
إن رحمة النبي- صلى الله عليه وسلم- تعددت في عدة أمور ومع أصناف الناس فكما رأينا رحمته بالعجوز هاهي رحمته تبرز مع الشيوخ الكبار، فهذا أبو بكر -رضي الله عنه-يأتي بأبيه (أبو قحافة) إلى رسول الله ليبايعه وكان قد كبر سنه فقال - صلى الله عليه وسلم-: هلا تركته في بيته حتى نأتيه، يا الله ما أروعها من رحمة وما أرقه من قلب رحيم، لم يقل أنا رسول فهو أحق أن يأتي إليّ حاشاه أن يقول ذلك - صلى الله عليه وسلم- وهو من بعث بالرحمة والتواضع.
رحمته- صلى الله عليه وسلم-نالت الكبير والصغير والرجل والمرأة فلم تترك أحدا إلا نالته يأتي إليه الطفل الصغير فيقبله ويرق عليه ويرحمه فيقول أحد الحاضرين من الأعراب تقبل الأطفال يا رسول الله؟! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا!! فيقول عليه الصلاة والسلام أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك ثم أعلنها مدوية في سماء الجفاء والغلظة, أطلق منهجاً ربانياً (من لا يرحم لا يرحم)، ولم تقتصر رحمته مع الأطفال أن يقبلهم فحسب بل الأمر أبلغ من ذلك فهو يحملهم على ظهره ويترك أحدهم يلعب بخاتم النبوة على ظهره، وهو يمازحهم فيقول للصغير يا عمير ما فعل النغير, وهو من يحنكهم فهو رحمة على هؤلاء الصغار، لا يرونه إلا رأوا الرحمة في وجهه, فهو يعطيهم ويعطف عليهم ويرق قلبه لهم, فيكون في الصلاة ويسمع صوت طفل يبكي وهو يحب أن يطول في الصلاة فيستعجل فيها رحمة بالطفل الذي يبكي لعله أن يكون جائعاً أو مريضا, ورحمة بقلب أمه الحنون عندما تسمع ولدها يبكي فتحن عليه, فيرق قلب النبي - صلى الله عليه وسلم- ويرحم حالهما جميعاً فيستعجل في الصلاة.
الله أكبر والله لو بحث الناس في قلوب البشر جميعا منذو أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة ما وجدوا أرحم ولا أرق ولا أشفق من قلب محمد - صلى الله عليه وسلم- .
إن محمدا هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة, رأى الناس النور والخير والرحمة بعد أن أرسل، وزاح عنهم ظلام القسوة والغلظة والجفاء، وأشرقت عليهم الدنيا بعد أن جاءتهم رحمته-صلى الله عليه وسلم-, فقد كانوا في ظلمة الظلمة, وقسوة القساة, وغلظة الطغاة الجبارين.
يـا وردةً يـزهـو بـهـا البستانُ *** ورحـيـقَ شـهـدٍ لـذََهُ الـظمآن
يـا نـور مـشـكـاةٍ بـليلٍ مظلمٍ *** كـشَـفَ الـجـمال ففاحت الأفنانُ
يـا رحـمـةً لـلـعـالمين بِعطفه *** نَـصـرَ الضَّعيفَ فأُنْصِفَ الإنسانُ
لم تقتصر رحمته-صلى الله عليه وسلم- على البشر على الإنسان بل إنها وصلت حتى الحيوان والجمادات، فهذا جمل أحد الأنصار عذبه صاحبه وجعل يعاني من شدة الجوع فجاء هذا الجمل إلى نبي الرحمة, إلى الرحمة المهداة يشكو إليه قسوة صاحبه, جاء يذرف الدمع من عينيه فرق رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لحاله ورحمه, وقال أين صاحب هذا الجمل, فجاء الأنصاري فقال شكا إلي أنك تجيعه، اتق الله فيه, حتى الحيوانات تعرف أنه رحمة للعالمين جاء بالرحمة وبعث بها، وها هي الحمامة عندما أخذ أحد الصحابة أفراخها
جاءت تشتكي إلى القلب الرحيم, إلى القلب الحنون, إلى القلب الذي يعطف على الحيوانات والطيور فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رحمها ورق قلبه لها, ِلما رآى من حالها على أفراخها، فقال عليه الصلاة والسلام بقلب يملأه الرحمة, وتغمره الشفقة على هذه الحمامة من فجع هذه بولدها ردوا عليها ولدها، يا الله ما أرحمك يا رسول الله تحن على طائر صغير لا يساوي شيئاً في هذا الكون لكنها الرحمة العالمية{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
لم تكن رحمته-صلى الله عليه وسلم- مواقف وأحداث فحسب بل إنه أمر وشرع ومنهج وأخلاق شرعها للناس فقد قال عليه الصلاة والسلام مرغبا في الرحمة والرفق واللين على الناس: (اللهم من ولي من أمر أمتي فرفق بهم فارفق به), وقال متوعدا من شق عليهم وأغلظ وجفاء (ومن ولي من أمر أمتي فشق عليهم فاشقق عليه), وقال - صلى الله عليه وسلم- : (من لا يرحم لا يرحم), وقال: (الراحمون يرحمهم الله), فالرحمة خلق عظيم من أخلاقه-صلى الله عليه وسلم- وصفة رفيعة من صفاته، وأمر عظيم فطر عليها, فيا لله ما أرحمه بعباد الله فهو أرحم الناس، يحن قلبه على جذع سمعه يحن عليه فيرحمه وينزل إليه ويضمه إليه حتى يسكت.
فيا من تسب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وتسخر منه وتستهزئ به هذا هو نبينا، وهذه أخلاق محمد-صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو منهج محمد- صلى الله عليه وسلم- فاخسأ عدو الله فلن تضره بكلامك ورسومك، فإن الله قد رفع مكانته وأعلى قدره وأعظم شأنه ورفع ذكره، فقال سبحانه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
سقطـت مكانـة شاتـم، وجـزاؤه * * * إن لـم يتـب ممـا جـنـاه الـنـار
لكأننـي بخطـاه تـأكـل بعضـهـا* * *وهنـاً، وقـد ثَقُلَـتْ بـهـا الأوزار
مـا نـال منـك منافـق أو كـافـر * * *بـل منـه نالـت ذلــة وصَـغَـار
اللهم من استهزأ بنبيك بالرسوم أو بالنشر لها فشل يده، وقطع صلبه وجمد الدماء في عروقه ومزقه شر ممزق واجعله أبتر أقطع يا قوي يا متين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين,,,
عمروعبده 27-02-2011, 07:48 AM في بيت النبوة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغر الميامين.
أما بعد:
إن التوسع في المآكل والمشارب من عادات الحكام والملوك والأمراء، فأحسن الأكل وأطيبه تجده بين أيديهم، وأفضل الشراب وألذه وتنوعه تجده عندهم، فهم يعيشون حياة ترف وبذخ، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- خليفة المسلمين سلك مسلكاً يختلف تماما عن هؤلاء الملوك، فقد اختار لنفسه أن يعيش في تقشف وتواضع وبساطة في الطعام والشراب فهذا خادمة أنس -رضي الله عنه- يصف لنا شيئاً من معيشته- صلى الله عليه وسلم- فيقول: ((لم يجتمع عند النبي - صلى الله عليه وسلم- غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على الضفيف[1]))، وفي رواية عن مالك بن دينار -رضي الله عنه- قال: ((ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من خبز قط ولا لحم إلا على ضفف))، قالت عائشة -رضي الله عنها- تصف حالته المعيشية : ((ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)) بأبي أنت وأمي يا رسول الله عشت حياة الفقراء وسلكت طريق المساكين، في مأكلك ومشربك فكنت خير قدوة.
ذكرت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يأتيها فيقول : ((أعندك غداء)) فتقول: لا فيقول: ((إني صائم)).
وقال قتادة -رضي الله عنه-: ((كنا نأتي أنس بن مالك وخبازه قائم، ويقول: كلوا، فما أعلمُ النبي - صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سَميطاً[2] بعينه قط))[3]، و روي عن عمر أنه قال عندما رأى ما أصاب الناس من الدنيا: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يظلّ اليوم يَلْتَوي، ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه))[4]. فأين حكام المسلمين وأين تجارهم وأين أغنياهم الذين يأكلون في الوجبة الواحدة أنواعاً وأصنافاً عديدة من الطعام والشراب، أينهم من الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم- في تقشفه، يمر عليه اليوم واليومان ولا يأكل شيء قال أنس -رضي الله عنهم-: (جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- بكسرة خبز، فقال لها: من أين لك هذه الكسرة؟ قالت: قُرْصاً خبزتُ، فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : أما إن هذا أول شيء دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام))[5].
هذه هي حياته - صلى الله عليه وسلم- المعيشية فقد عاش في فقر وجوع - صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي عاش هذه الحالة من الجوع والفقر ليكون قدوة لأصحابه وأتباعه فهل اقتداء به من يعمل الموائد الطويلة اليوم من المآكل والمشارب والفقير بجواره لا يجد لقمة عيش يسد بها رمقه هو وأهله. بيت يموت الفأر خلف جداره * * * جوعا وبيت بالموائد متخم
أما أثاثه وفراشه - صلى الله عليه وسلم- فبيته لم يكن مليئاً بالفراش والأثاث، ولم تكن له غرف نوم ومجالس عربية من أغلى الأقمشة كما هي حال بيوت كثير من المسلمين اليوم فهو - صلى الله عليه وسلم- لم يكن يجد شيئاً من هذا قالت عائشة -رضي الله عنها- تصف فراشه وأثاث بيته عليه الصلاة والسلام: ((إنما كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أدَمَاًَ حشوُهُ ليف))[6]، ودخل عمر ذات يوم على النبي - صلى الله عليه وسلم- ووجده على حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قَرُطاً مَضبوراً[7] وعند رأسه أَهَبٌ مُعَلَّقة[8]ورأى أثر الحصير في جنبه فبكى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم- : ((ما يبكيك؟)) فقال عمر: يا رسول الله، إن كسرى وقصير فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟))[9]، لم تكن زخارف الدنيا ومتاعها وأثاثها الفاني تهمه- صلى الله عليه وسلم- فقد اكتفى بالقليل منها وإنما كانت الآخرة هي همه وهي شغله الشاغل أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة.
تقول عائشة -رضي الله عنها -: ((كان لنا حَصَيرٌ نَبْسُطُهَا بالنهار، ونَحْتَجِرُهَا علينا بالليل))[10]، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-قال: (نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على حصير، فأثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله!، ألا آذنتنا فنبسط تحتك ألين منه؟ فقال: ((مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف، فَقَال تحت شجرة، ثم راح وتركها))[11]، فيا لله من هذا النبي الكريم المتواضع آثر الآخرة على الدنيا ورضي بالقليل من هذه الفانية، وبهذا التواضع وهذه البساطة التي عاشها عليه الصلاة والسلام ملك قلوب الناس فكان خير قدوة للناس أجمعين.
أما ملبسه- صلى الله عليه وسلم- فلم يكن بأحسن مما سبق من طعامه وفراشه فالأمر عنده سوى فالتواضع هديه وخلقه لا يمتلك كثير من الملابس فقد روى عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في شَمْلَة[12] أراد أن يَتَوشَّح بها فضاقت، فعقدها في عنقه هكذا، وأشار عبادة إلى قفاه، ليس عليه غيرها))[13], وروى ابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: ((كان طول ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أربعة أذرع وشبراً في ذراع وشبر)[14].
هذا هو بيت النبوة وهذه هي حاله - صلى الله عليه وسلم- في بيته فقد كان- عليه الصلاة والسلام- متقشفاً في كل جوانب حياته، وهو القائل: ((البذَاذَةُ[15] من الإيمان))[16]، وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجْلفُ[17] الخبز والماء))[18].
عرفنا كيف كانت حياته- صلى الله عليه وسلم- في بيته تقشف في الطعام واللباس والفراش فكانت حياته طيبة هنيئة، وهو بهذه الحياة المتواضعة قدوة لأمته من بعده، لكن وللأسف يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وينال منه وأمته تلهث وراء الكماليات تلهث وراء المسكن الفاره والملبس الأنيق، والمأكل اللذيذ والشراب الهنيء فهانت في قلوب أعدائها، التفتت للدنيا وتركت الآخرة -إلا من رحم الله-.
الأمة اليوم أو كثير من أبناء الإسلام يعيش اليوم همه مأكله وملبسه ومسكنه فإذا حصل له هذا استراح وإن حصل ما حصل للأمة, وإن نيل من رسول الله, وإن ديست كرامة الأمة وذبحت وأهينت فهو لا يبالي وهو لا يهمه ذلك فالدنيا هي أهم شيء في حياته!!
فأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الاقتداء به، وماذا عملنا لنصرته فإن كنا نحبه- صلى الله عليه وسلم- كما نقول فالنقتدي به ولنتبع سنته ونقتفي أثره، ونُحكّم سنته في حياتنا كلها.
اللهم إنا نسأل يا قوي يا متين أن تنتصر لنبيك من الكفرة الحاقدين، اللهم أشف صدورنا بهلاك الرسامين الذين أساءوا إلى نبينا وحبيبنا محمد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين,,,
------------------------------------
[1] - أي عند نزول الضيف.
[2] - التي أزيل شعرها بالماء الحار.
[3] - رواه البخاري.
[4] - رواه مسلم.
[5] - ذكره أبو الشيخ : الأخلاق ص 297برقم (856)، بواسطة السيرة النبوية للصلابي.
[6] - البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
[7] - أي مجموعاً
[8] - جمع إهاب وهو الجلد قبل الدبغ.
[9] - البخاري ومسلم،
[10] - البخاري.
[11] - أحمد في المسند وصحح أحمد شاكر سنده، والترمذي قال حسن صحيح.
[12] - أي بردة مخططة.
[13] - الشامي: السبل(7/481)،
[14] - المصدر السابق.
[15] - أي التواضع في ترك الزينة.
[16] - رواه أبو داود، وصححه الألباني.
[17] - أي الخبز بلا إدام أو غليظة.
[18] - رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
حسين بن قاسم القطيش
عمروعبده 27-02-2011, 07:55 AM الجذع يحن إليه !!.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
- قصة:
فحنّ الجذع، وسمع الناس له صوتا كصوت العشار، حتى تصدع وانشق، حتى جاء فوضع يده عليه فسكت، وكثر بكاء الناس لما رأوا به، فقال: (إن هذا بكى لما فقد من الذكر، والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه، لم يزل هكذا إلى يوم القيامة)، فأمر به فدفن تحت المنبر.
* * *
- محبة مفترضة.
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم محبته، وقد ورد الأمر بها في القرآن، قال الله تعالى:
- { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
وموضع الشاهد: ما في الآية من الوعيد، لمن كانت محبته لشيء، أكثر من محبته لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، في كلمتين هما:
أولا: قوله: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}. والتربص هنا للعقوبة، ولا تكون العقوبة إلا لترك واجب.
ثانيا: قوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين}. فقد وصفهم بالفسق، وذلك لا يكون إلا بفعل كبيرة فما فوقها، من كفر وشرك، لا في صغيرة.
فمن قدم شيئا من المحبوبات على محبة النبي صلى الله عليه وسلم فهو فاسق، متربص ببلية تنزل عليه.
وقد اقترنت محبته صلى الله عليه وسلم بمحبة الله تعالى، وذلك يفيد التعظيم، كاقتران طاعته بطاعة الله تعالى.
وثمة نصوص نبوية صريحة، في وجوب تقديم محبته عليه الصلاة والسلام على كل المحبوبات الدنيوية:
- النص الأول:
كان النبي آخذا بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر:
- (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.
- فقال النبي: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك.
- فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي.
- فقال النبي: الآن يا عمر). [البخاري، الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي].
النفي المؤكد بالقسم يدل على وجوب تقديم محبته عليه الصلاة والسلام على النفس..
فأَمْرُه بتأخير محبة النفس، وتقديم هذه المحبة النبوية عليها، مع كون محبة النفس جبلة في الإنسان، يقدمها على كل شيء، ولا يلام على ذلك في أصل الأمر، إلا إذا تجاوز بها إلا محظور: دليل وجوب، لا استحباب.
إذ لا يؤمر الإنسان بترك فطرة فطر عليها، وليست مذمومة في أصلها، إلا إذا قادته إلا محظور. وتقديم محبة النفس على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، تقود إلى فعل المحظورات، كما هو مجرب، فلذا وجب التقديم.
أمر ثان: النفس هالكة، لولا فضل الله تعالى على الناس بهذا النبي، فهو سبب نجاتها، فمحبته أحق بالتقديم.
- النص الثاني:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) البخاري، الإيمان.
هذا نص في وجوب أن يكون عليه الصلاة والسلام أحب إلى المرء من كل شيء دنيوي، وذلك لأمور:
- كونه نفى حصول الإيمان إلا بكونه أحب شيء، والإيمان واجب، وما تعلق به فهو واجب.
- ثم إن الخطاب جاء في حق الأعيان في قوله: (أحدكم)، فكل مؤمن مخاطب بهذه المحبة.
- ثم إنه أتى بصيغة التفضيل: (أحب)، وهو صريح في تقديم محبته مطلقا على كل شيء دنيوي.
وهذه المحبة الواجبة من فرط فيها فهو آثم مذنب، ومن قدم عليه محبة: الآباء، أو الأبناء، أو الإخوان، أو الأزواج، أو شيء من متاع الدنيا، فهو آثم فاسق، مستحق للعقوبة، فقوله: (لا يؤمن أحدكم..) نفي للإيمان الواجب، بمعنى أن من فعل ذلك فقد نقص إيمانه، نقصا يستحق به الإثم والعقوبة.
فالشارع لا ينفي واجبا، ثبت وجوبه، إلا لترك واجب فيه.
والإيمان واجب، ولا ينفى بقوله: (لا يؤمن.. ) إلا لترك واجب فيه، كالصلاة لا تنفى إلا لترك واجب فيها، كقوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له). [رواه أحمد]
والإثم والعقوبة متفاوت بحسب نوع التقديم:
- فتارة يكون كفرا، وذلك في حالين:
- الأول: إذا كان التقديم مطلقا، فلا يتعارض شيء مع محبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا قدم ذلك الشيء، وهكذا في كل شيء، فهذا يعبد هواه، ولا يعبد الله تعالى في شيء.
- الثاني: إذا كان التقديم في بعض الأحوال، لكن في أمور كفرية، ينقض بها أصل دينه، فيقدم محبة الأمور الكفرية على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، كمن نصر الكافرين على المسلمين.
- وتارة يكون كبيرة، وذلك إذا قدم محبة الكبائر على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فشرب الخمر وزنا، ولم يطع النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عنها، فهذا قدم محبة هذه الكبائر.
- وتارة صغيرة، وذلك إذا فعل الصغائر، فقدم حبها على حبه للنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته.
* * *
- عبودية لا إلهية.
وليس فوق محبة النبي صلى الله عليه إلا محبة الله تعالى، فإن محبة الله تعالى هي أعلى المحبوبات وأوجبها على الإطلاق، ولا يجوز أن يساوى بينه تعالى وبين غيره في المحبة، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن محبته وإن كانت عظيمة مقدمة على المحبوبات الدنيوية، لكنها تبقى في مرتبة البشرية، لا تبلغ مرتبة الألوهية، فلله تعالى محبة تخصه تسمى محبة: التأله، والخلة. ويقال كذلك: المحبة الذاتية. فلا يجب شيء لذاته إلا الله تعالى.
ومن هنا يفهم خطأ من بالغ في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جعله كمحبة الله تعالى، فنسب إليه خصائص الخالق سبحانه:
- من علم الغيب.
- وتدبير الخلق.
- ونسبة إجابة الدعوات إليه.
- ودعاؤه والاستغاثة به من دون الله تعالى، في قضاء الحوائج، وتفريج الكربات.
- وسؤاله شيئا لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وإن اقترنت بمحبة الله تعالى، إلا أنها كاقتران طاعته بطاعته، أما المحبة الإلهية فشيء وراء المحبة البشرية، وما أرسل النبي صلى الله عليه إلا ليعلق القلوب بالله تعالى، ويخلص الناس محبتهم لله تعالى فلا يشركوا فيها معه غيره، وهذه هي العبودية، التي قال تعالى فيها:
- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، أي ليخلصوا المحبة والخضوع والطاعة لله تعالى.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك غاية التحذير، وحرص على منع كل ذريعة تفضي إلى مساواته بالله تعالى في المحبة، فقال عليه الصلاة والسلام:
- (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله).
ومعنى الأثر: لا تبالغوا في مدحي، وتغلوا كغلو النصارى في عيسى عليه السلام.
فإن النصارى زعموا فيه أنه إله، وأنه ابن الله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}، فقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك، فنهى عن المبالغة في مدحه.
وقد وقع ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، حيث غلا فيه أناس حتى جعلوه في مرتبة الألوهية والربوبية:
- فنسبوا إليه ما لا يليق إلا بالخالق، وصنعوا به كما صنع النصارى بالمسيح، غير أنهم لم يقولوا: هو ابن الله. لكنهم نسبوا إليه: التصريف، وعلم الغيب، وإجابة الدعاء. وهذا إنزال له في مرتبة الألوهية، وإن لم يقولوا: إنه الله. فإن العبرة بالمعاني والحقائق.
- كما أنهم ابتدعوا له عيدا، يحتفلون فيه بمولده صلى الله عليه وسلم، كابتداع النصارى عيد الميلاد للسيد المسيح عليه السلام، ولم يفعله ولم يأمر به عليه السلام، كما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر في حق نفسه الشريفة.
لقد اتبع طائفة من المسلمين سنن اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
نعم النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق، وسيد ولد آدم، وخليل الله تعالى، وأعلى الناس منزلة يوم القيامة، وفي الجنة، وهو إمام الأنبياء والمرسلين، لا يبلغ مقامه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، غير أنه تحت سقف العبودية، دون مرتبة الألوهية، وقوله:
- (إنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله).
تقرير على هذه الحقيقة، ولجم وإبطال لدعاوى فريقين:
- الأول: الغالي، الذي رفعه عن مرتبة العبودية، وذلك بقوله: (فقولوا عبد الله).
- والثاني: الجافي، الذي عامله كسائر الناس، فلم يميزه بالمرتبة العالية، وذلك بقوله: (ورسوله).
قال الله تعالى:
- {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
وتقديم محبته صلى الله عليه وسلم على كل شيء له أربعة أسباب، الاثنان الأولان منها على سبيل الوجوب، والآخران على سبيل الاستحباب:
- الأول: أمر الله تعالى به، حيث تقدمت الأدلة الدالة على هذا، وهذا السبب وحده يكفي في الوجوب.
- الثاني: منته صلى الله عليه وسلم على أمته، إذا هداهم الله به، ودلهم على طريق السعادة والنجاة من شقاء الدنيا والآخرة.
- الثالث: كماله الخُلقي: كرما، وشجاعة، وإحسانا، ومروءة، وصدقا، وعدلا، وأمانة، وحلما، ورحمة، وعفوا وصفحا. بالإضافة إلى العلم والفقه والبصيرة، وأية واحدة من هذه السجايا توجب محبة من تحلى بها، فكيف بمن اجتمعت فيه على أكمل وجه، قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
- الرابع: كماله الخَلقي. فقد كان جميلا، منيرا كالشمس، طيب الرائحة، عرقه كالمسك، معتدل القوام، حسن الشعر، جميل العين، أبيض البشرة. فله أوصاف الجمال، فمن رآه أحبه.
* * *
- الشوق إلى النبي.
وعلامات المحبة متعددة، هي: الإيمان به، وتوقيره، ونصرته، وطاعته.
ثم إن منها كذلك: الشوق والطرب عند ذكره، وتمني رؤيته، والجلوس إليه، ولو كان ذلك لا يحصل إلا بإنفاق كل المال، وما عرف عن الصادقين من المؤمنين إلا مثل هذا الشعور الصادق، وهذه آثارهم:
1- سأل رجل فقال: " متى الساعة؟.
- قال: ( وما أعددت لها)؟.
- قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله.
- فقال: (أنت مع من أحببت).
- قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي: أنت مع من أحببت.
- قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم" [البخاري، الأدب، باب علامة الحب في الله دون قول أنس].
2- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده! ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني. ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم ) [رواه مسلم في الفضائل، باب: فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم، وتمنيه 4/1836].
3- وجاء أن امرأة قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله فقالت:
- "ما فعل رسول الله؟.
- قالوا: خيرا، هو بحمد الله كما تحبين.
- فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل". [الروض الأنف للسهيلي 6/25، الشفا 2/22]
4- ولما احتضر بلال قالت امرأته: " واحزناه.
- فقال: واطرباه، غدا نلقى الأحبة .. محمدا وحزبه". [سير أعلام النبلاء1/359، الشفا2/23]
5- ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان:
- " أنشدك الله يا زيد!، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه، وأنك في أهلك"؟.
- فقال زيد: " والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي".
- فقال أبوسفيان: " ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا". [السيرة النبوية الصحيحة للعمري 2/400، سيرة ابن هشام 3/160، الروض الأنف 6/166، الشفا 2/23]
6- وكان خالد بن معدان لا يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه، ويسميهم ويقول: " هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل رب قبضي إليك"، حتى يغلبه النوم. [سير أعلام النبلاء 4/539، الحلية 5/210، الشفا 2/21].
7- وقد كانت الجمادات فضلا عن المؤمنين تشتاق إلى رسول الله وتحبه وكذا البهائم:
- فقد كان عليه السلام يخطب إلى جذع نخلة، فلما صنع له المنبر، تحول إليه، فحنّ الجذع، وسمع الناس له صوتا كصوت العشار، حتى تصدع وانشق، حتى جاء رسول الله فوضع يده عليه فسكت، وكثر بكاء الناس لما رأوا به، فقال النبي: (إن هذا بكى لما فقد من الذكر، والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه، لم يزل هكذا إلى يوم القيامة)، فأمر به فدفن تحت المنبر.
- وكان الحسن البصري إذا حدث بهذا بكى وقال: " يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه بمكانه فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه". [بتصرف، وأصله مروي في صحيح البخاري، في المناقب، باب: علامات النبوة قبل الإسلام3/1314، انظر الشفا 1/304، صحيح الجامع2256].
8- وقد كان الطعام يسبح في يده والشجر والجبل والحجر يسلم عليه. [ الشفا 1/306، وأثر التسبيح عند البخاري، في المناقب، باب: علامات النبوة قبل الإسلام 3/1312، وأثر تسليم الحجر في مسلم، الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/1782]
9- لما قدم عمر الشام، سأله المسلمون أن يسأل بلالا يؤذن لهم، فسأله، فأذن يوما، فلم ير يوما كان أكثر باكيا من يومئذ، ذكرا منهم للنبي صلى الله عليه وسلم. [سير أعلام النبلاء 1/357]
10- عن أبي بن كعب قال: " كان رسول الله إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.
- فقلت: يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟. قال: ما شئت.
- قلت: الربع؟، قال: ماشئت، وإن زدت فهو خير.
- قلت النصف؟، قال: ماشئت، وإن زدت فهو خير.
- قلت: الثلثين؟، قال: ماشئت، وإن زدت فهو خير.
- قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذا تكفى همَك، ويغفر لك ذنبك". [رواه الترمذي، صفة القيامة، وأحمد 5/136]؛ لأن من صلى على النبي صلى الله عليه بها عشرا، ومن صلى الله عليه كفاه همه وغفر ذنبه. [انظر جلاء الأفهام لابن القيم ص46].
* * *
كثير من الصالحين يرون النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، بعضهم كان يراه في كل ليلة، فإذا ما لم يره في ليلة اتهم نفسه بالنفاق، ورؤيته في المنام صلى الله عليه دليل على تعلق القلب به، واشتغال اللسان بالصلاة عليه، والعين بالنظر في سنته، والأذن في سماع حديثه.
أما أولئك الذين:
- لا يصلون عليه حتى إذا ذكر.
- ولا يسمعون لحديثه ولو تلي.
- ولا ينظرون في سنته، ولو مر بهم كتاب حديث.
فإنه لن يكون له في قلوبهم: ذكر، ولا شوق.
فأنى لهم أن يروه في المنام، ولو لمرة، فهل لهم أن يتهموا أنفسهم بالنفاق؟!..
عمروعبده 27-02-2011, 07:59 AM حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
د : أبو صهيب الرهواني
على اثر الاعتداء على رسولنا العظيم ثارت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تعبر عن سخطها ورفضها لهذا السلوك العدواني الظالم وهي ثورة ناتجة في أساسها عن حب المسلمين لنبيهم الكريم وهو شيء محمود إلا أن هذا الحب عند تمحيصه والتأمل في حقيقته يتبين أنه لا يرقى الى المستوى المطلوب وهو ما سنحاول بيانه من خلال هذه الصفحات التالية :
أولا : وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم
لكن دعونا في البداية نبين أن محبة النبي ليست كسائر المحبة لأي شخص نعم إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم عبادة عظيمة نعبد بها الله عز و جل وقربة نتقرب بها من خلالها إليه و أصل عظيم من أصول الدين ودعامة أساسية من دعائم الإيمان كما قال تعالى "{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}،وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". [البخاري]
وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه، واللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى اللّه عليه وسلم: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال: يا رسول اللّه واللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى اللّه عليه وسلم: "الآن يا عمر "
إذن فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست أمرا ثانويا أو أمرا مخير فيه إن شاء المرء أحبه وإن شاء لم يحبه بل هي واجب على كل مسلم وهي من صميم الإيمان ولابد لهذا الحب أن يكون أقوى من أي حب ولو كان حب المرء لنفسه .
لماذا نحب النبي ؟
ثانيا -بواعث محبة النبي صلى الله عليه وسلم
1- موافقة مراد الله تعالى في محبته
لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أحب الخلق الى الله تعالى فقد اتخذه خليلا وأثنى عليه مالم يثن على غيره كان لزاما على كل مسلم أن يحب ما يحب الله وذلك من تمام محبته سبحانه
2- مقتضى الإيمان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا أن من مقتضى الإيمان حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره "والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". [البخاري]
3- مميزات النبي صلى الله عليه وسلم :
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أ شرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس وأعظم الناس في كل شيء وهذه كلها دواعي لأن يكون صلى الله عليه وسلم أحب الناس .
4- شدة محبته لأمته وشفقته عليها ورحمته بها
كما وصفه ربه " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم،" ولذلك أرجأ استجابة دعوته شفاعة لأمته غدا يوم القيامة
5- بذل جهده الكبير في دعوة أمته
وإخراج الناس من الظلمات الى النور
ثالثا : دلائل محبته صلى الله عليه وسلم ومظاهر تعظيمه
1- تقديم النبي صلى الله عليه وسلم على كل أحد
قال تعالى " {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم"
وقال سبحانه " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" فعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم أن لايقدم عليه أشيء مهما كان شأنه .
2- سلوك الأدب معه صلى الله عليه وسلم
ويتحقق بالأمور التالية :
* الثناء عليه والصلاة والسلام عليه لقوله تعالى ""إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"
* التأدب عند ذكره بأن لا يذكره مجرد الاسم بل مقرونا بالنبوة أو الرسالة كما قال تعالى ""لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا"قال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه.
* الأدب في مسجده وكذا عند قبره وترك اللغط ورفع الصوت
* توقير حديثه والتأدب عند سماعه وعند دراسته كما كن يفعل سلف الأمة وعلماءها في إجلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان مالك إذا أراد أن يجلس (أي للتحديث) توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، وتطيّب، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقّر به حديث رسول الله.
و كان سعيد بن المسيب وهو مريض يقول أقعدوني فإني أعظم أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع"
3: تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به
وهذا من أصول الإيمان وركائزه ومن الشواهد في هذا الباب ما ناله ابو بكر من لقب الصديق فعن عروة، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت:
لما أسري بالنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس.فمن كان آمنوا به وصدقوه وسمعوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، فقالوا:هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال:أو قال ذلك؟قالوا: نعم.قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح.
قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.فلذلك سمي أبو بكر الصديق.هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
4 : اتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته والاهتداء بهديه
فطاعة الرسول هي المثال الحي والصادق لمحبته ولهذا قال تعالى ""قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم"
والاقتداء به صلى الله عليه وسلم من أكبر العلامات على حبه :
قال تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا"
فالمؤمن الذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقلده في كل شيء في العبادة وفي الأخلاق وفي السلوك وفي المعاملات وفي الآداب كما كان شأن الصحابة الكرام فعن نافع قال لو نظرت الى ابن عمر في اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت هذا مجنون ومما يروى عنه في هذا الباب
5: الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم
إن الدفاع عن رسول الله ونصرته علامة من علامات المحبة والإجلال .
وقد سطر الصحابة أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الدفاع رسول الله وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس في المنشط والمكره .كما قال تعالى " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"
والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أنواع نذكر منها :
1- نصرة دعوته ورسالته بكل ما يملك المرء من مال ونفس ....
2- الدفاع عن سنته صلى الله عليه وسلم :بحفظها وتنقيحها وحمايتها ورد الشبهات عنها .
3- نشر سنته صلى الله عليه وسلم وتبليغها خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك في أحاديث كثيرة كقوله" فليبلغ الشاهد الغائب " وقوله "بلغوا عني ولو آية "
رابعا "حال الصحابة في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم
لقد أحب الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا ليس له نظير وصل الى درجة أن افتدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وآباءهم :
نماذج مختلفة
* من الشباب : علي ابن أبي طالب ونومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم
ليلة أن أراد المشركون قتله
وسئل علي بن أبي طالب كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : كان والله أحب إلينا من أموالنا واولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ
* من الرجال :
قصة قتل زيد بن الدثنة ،. قال ابن إسحاق : اجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه ، وأنك في أهلك ؟ قال : (4/ 126) والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأني جالس في أهلي . قال : يقول أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدا
* أخرج الطبراني وحسنه عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت انك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم...} الآية".
* من النساء :
أخرج ابن إسحاق: عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
خامسا :جزاء محبة النبي
روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ أَعْرَابِيَّا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَتَىَ السَّاعَةُ ؟
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟"قَالَ: حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ.قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء ما فرحوا به. فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نستطيع أن نعمل كعمله فإذا كنا معه فحسبنا.
عمروعبده 27-02-2011, 08:08 AM الـصـحـبـة يـا رسـول الله!!!
يسري صابر فنجر
الصحبة فيها معاني سامية فهي للخير، وفي الخير، وعلى الخير ، للخير دائماً ، وفي الخير واقعاً ،وعلى الخير مستقبلاً ، وقد يكون ذلك محل اتفاق من الجميع قولاً أما فعلاً فأصناف الناس تختلف .
ليست الصحبة أن تجد صاحبك على الشر فتتركه ولا تنهاه مخافة زعله عليك أو جرح إحساسه كلا ينبغي مناصحته في لطف.
وليست الصحبة أن تكون في الخير وكفى بل لا بد من الاستمرار عليه والزيادة فيه .
وليست الصحبة تهنئة وفرحاً وسروراً وكفى بل فيها من تحمل التبعات والمشاق في سبيل جعل الآخر سعيداً في دنياه وآخرته فيقف بجانبه في السراء والضراء ويسد عنه حاجته ويحمله على الخير.
تلك المعاني أخذتها من هجرة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- حين ذهب إلى بيت أبي بكرٍ –رضي الله عنه- فقال: الصحبة يا رسول الله ‘ قال: "الصحبة" رواه البخاري ( 2138) من حديث عائشة –رضي الله عنه- رغم أن أبا بكرٍ-رضي الله عنه- صحب النبي –صلى الله عليه وسلم- منذ أن آمن به وبما جاء به ففي حادثة الإسراء والمعراج لما ذهب كفار قريش إلى أبي بكر-رضي الله عنه- يقولون له: إن صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ثم أصبح بين أظهرنا فقال أبو بكر –رضي الله عنه- إن كان قال ذلك فقد صدق....... ولكن لمزيد من التضحية والبذل لدين الله –عز وجل- وفي ذلك مزيد خير كانت الصحبة في الهجرة والملازمة التامة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي طريق الهجرة رويت أمثلة حيّه لهذه التضحية:
منها ترك المال والأهل والوطن.
ومنها دخوله لغار ثور قبل النبي –صلى الله عليه وسلم- مخافة أن يكون فيه شر فيلحقه فبل النبي –صلى الله عليه وسلم-.
ومنها وضع أبو بكر –رضي الله عنه- رِجله في مكان جُحراً مخافة أن يخرج منه شئ يؤذي النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى أن العقرب لدغته فلم يصدر صوتاً حتى لا يزعج النبي –صلى الله عليه وسلم-.
ومنها وهما في الطريق يمشي أبو بكر –رضي الله عنه- أمام النبي –صلى الله عليه وسلم- وتارة يمشي خلفه وتارة عن يمينه وتارة عن يساره يحوط النبي –صلى الله عليه وسلم- من جميع الجهات.
ثم تمثلت هذه الصحبة في أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- فقد روى البخاري (3692)عن المسور ابن مخرمة قال: لما طُعن عمر –رضي الله عنه- جعل يألم، فقال له ابن عباس – رضي الله عنهما- : يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكرٍ-رضي الله عنه- فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم، فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون ، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ورضاه ، فإنما ذاك مَنٌّ مِن الله تعالى مَنَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكرٍ-رضي الله عنه- فإنما ذاك مَنٌّ مِن الله جل ذكره مَنَّ به عليَّ ، وأما ما ترى من جزعي، فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً ، لافتديت به من عذاب الله –عز وجل- قبل أن أراه . فهذا قول عمر –رضي الله عنه- مع علو كعبه وفضله فما قولنا نحن وهذا التقصير والتفريط فينا !!!
وتمثلت تلك الصحبة بين أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- جميعاً –رضي الله عنهم- حينما آخى النبي –صلى الله عليه وسلم- بينهم في المدينة وغير ذلك من معانٍ في صحبٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه .
تلك المعاني في الصحبة نحتاج إليها وخاصة في طلب العلم الشرعي ونشره فهل هناك اثنان اصطحبا على حفظ كتاب الله – عز وجل- أو حفظ متن من المتون متحملين تبعات ذلك .
ونحتاج إلى تلك المعاني في الدعوة إلى الله لرفع الهمة وتفعيل الذات والارتقاء إلى مستوى الروح وتطبيق المعاني الإيمانية .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين
عمروعبده 27-02-2011, 08:17 AM أيها المبتلى.. لست وحدك على الدرب!!.
شريف رمضان السكندري
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.
أما بعد....
أحبائي الكرام/
في هذه الحلقات المباركة نتحدث عن أشد مصيبة ابتليت بها هذه الأمة.... لنأخذ منها الفوائد والدروس والعبر،
ونسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
فتابعوا معنا، وأرجوا ألا تبخلوا علينا بالإضافات والملاحظات والتعليقات.
ولا تنسونا من دعوة صالحة بظهر الغيب ليقول لك الملك إن شاء الله ولك بمثله.
(المصيبة العظمى)
فو الله إني لمتحير كيف أدخل إلى هذا الموضوع، ومن أنا أمام هذا الموضوع المدهش المحير المبكي؟! إنه موضوع وفاته عليه الصلاة والسلام، إنه موضوع انتقاله إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لا جدوى إلا بحديث يذكرنا بذاك الحدث الجلل، وكل حدث بعد وفاته هين سهل بسيط يسير.
وقد اخترت هذا الموضوع تحديدًا لشدته على المسلم الحق، ومن ثم يهون كل شيء وتسهل كل مصيبة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
ورحم الله امرأة قالوا لها بأن زوجها وابنها وأخوها قد قتلوا فلم تأبه لذلك وبادرت قائلة: ماذا صنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: هو بخير. فقالت: لا حتى أراه. فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل يا رسول الله. (جلل: تعني هينة أو يسيرة)
ولكن الموت نهاية كل حي، فقد انفرد سبحانه وتعالى بالبقاء وكتب على جميع المخلوقات الفناء فقال الله عز وجل:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26] وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [آل عمران:185]
ولم يستثن أحدًا حتى أكرم الخلق –صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله عز وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30] ويقول جل ذكره: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
فليبن أهل البغي والعدوان بروجاً من التحسين إن شاءوا، فو الله ليموتن ولو كانوا في بروج مشيدة، والموت وما أدراك ما الموت؟!
إنه مصيبة كما سماه ربنا تبارك وتعالى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
ولكن ليست كل المصائب كفقده صلى الله عليه وسلم.
(طلائع التوديع)
ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: (إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً)، وقال وهو عند جمرة العقبة: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا)، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه.
وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقــال: (السلام عليكـم يـا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولي)، وبشرهم قائلاً: (إنا بكم للاحقون).
(مرض النبي صلى الله عليه و سلم)
ويوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؟!
يوم زار المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر هذا اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: بأبي هو وأمي زاره المرض يوم الخميس. نعم، بأبي هو وأمي، وليت ما أصابه أصابنا، فإن مصابه رزية على كل مسلم، ولكن رفعاً لدرجاته وتعظيماً له عند مولاه.
ذكر ابن كثير بسند جيد قال: كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقلب الحصى في المسجد الحرام ويقول: [يوم الخميس، وما يوم الخميس -وهو يبكي- يوم زار المرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
فديناك من حب وإن زادنا كرباً فإنك كنت الشمس في الشرق أو غربًا
وكان الصحابة يفدونه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد وعاد وهو معصوب الرأس، فتقول عائشة - وقد فجعت رضي الله عنها وأرضاها-: {وارأساه!{ فقال صلى الله وسلم: (بل أنا وا رأساه) وصدق صلى الله عليه وسلم، فإن صداع الموت قد وصل إلى رأسه الشريف.
انظروا عباد الله هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام عند مرض موته، وهو أكرم خلق الله على الله، فما بالنا نحن، وفينا ما فينا، الله المستعان.
ثم لما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل كما عند البخاري في الجنائز من حديث عقبة بن عامر قال: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصل الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، ثم قال: (يا أيها الناس: والله ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)}
وصدق عليه الصلاة والسلام، فو الله ما قطعت أعناقنا إلا الدنيا، وما أفسد ديننا إلا الدنيا، وما ذهب بأخلاقنا وآدابنا إلا الدنيا...
و عند أحمد في المسند بسند حسن عن أبي مويهبة قال: قال لي صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس: (يا أبا مويهبة! أسرج لي دابتي)، فأسرجت له دابته عليه الصلاة والسلام، فركبها فذهبت معه حتى أتى الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، وقال: (أنا شهيد عليكم أنكم عند الله شهداء)، ثم قال: (يا أبا مويهبة! خيرت بين البقاء وأعطى مفاتيح خزائن الدنيا وبين لقاء الرفيق الأعلى)، قال: أبو مويهبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! خذ مفاتيح الدنيا، وأطل عمرك في الدنيا ما استطعت، ثم اختر الرفيق الأعلى، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)}.
انظروا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته يعلم أمته الدروس الوجيزة المفيدة، وخلاصة تلك الحياة العامرة في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى والتي يصل بها العبد إلى أعلى المراتب الإيمانية ومن هذه الدروس:-
1-عدم الركون إلى الدنيا والتنافس عليها لأنها أهلكت من قبلنا.
2-أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و(من أحب لقاء الله أحب الله لقائه).
3-المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
(على فراش الموت)
ووقع صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وعصب رأسه، وأخذت الحمى تنفضه عليه الصلاة والسلام، فكما جاء عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الطب والمرض للبخاري: (إن المؤمن كالخامة من الزرع، لا تزال الريح تفيئها يمنة ويسرة، وأما المنافق كالأرزة، لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة).
المؤمن يحم، المؤمن يصاب ويمرض ويجوع، لكن المنافق يسمن ويترك حتى تأتيه قاصمة الظهر مرة واحدة.
ولا ذنوب له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن رفعت درجاته عليه الصلاة والسلام، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:{دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك -أي: في مرض موته- فمسسته بيدي- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فقلت:يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً. قال: نعم. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله. قال: نعم. ثم قال: ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.
فيا من ابتلاك الله بالمرض لا تيأس ولا تحزن واصبر واحتسب فإن هذا خير لك إذا صبرت واحتسبت ورضيت بقضاء الله تبارك وتعالي.
فقد قال عليه الصلاة والسلام (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له). رواه مسلم.
فلا تحزن عبد الله إذا أصابك مرض وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يتألم كما يتألم الرجلان وهو من هو، ورغم ذلك يبشرنا أيضًا وهو على فراش الموت فيقول:(ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر.
ما أجملها من بشرى..
(قبل الوفاة بخمسة أيام)
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه في مِخَضَبٍ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: (حسبكم، حسبكم).
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أيها الناس، إلي)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وفي رواية: (قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (لا تتخذوا قبري وثناً يعبد).
خرج بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام على الناس، يقول ابن عباس كما جاء من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في الصحيحين: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهو عاصب على رأسه بعصابة دسمة، -وقيل: سوداء- وهو بين علي والعباس، على كتفيهما رضوان الله عليهما، وأقدامه من المرض تخط في الأرض، فأجلساه على المنبر، فلما رأى الناس قال: (يا أيها الناس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. زاد البيهقي كما قال ابن كثير: يا أيها الناس: إني ملاقٍ ربي، وسوف أخبره بما أجبتموني به، يا أيها الناس: من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، قال أنس: فنظرت إلى الناس وكل واضع رأسه بين رجليه من البكاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: اللهم من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله أو ضربته فاجعلها رحمة عندك} وعند أبي داود: {إني أخذت عند ربي عهداً أيما مسلم شتمته أو سببته أو ضربته، أن يجعلها كفارة له ورحمة} فاستبشر الناس بهذا، وأخذوا يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وعاد إلى فراشه.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: (من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها. فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، ثم أوصي بالأنصار قائلاً:
(أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)، وفي رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم).
ثم قال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد الخدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا اتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر).
وانظر إلى حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(قبل الوفاة بأربعة أيام)
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع: (هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني).
وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصي بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصَلَّى الناس؟) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك. قال: (ضعوا لي ماء في المِخْضَب)، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الاثنين، وخمس عشرة صلاة فيما بينها.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبي وقال: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
وفيه هذا أيضًا حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(ثلاثة أيام قبل الوفاة)
قبل ثلاثة أيام
قال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول: (ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظـن بالله).
ما أجملها من وصية وهي مصداق الحديث القدسي وفيه يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي).
قبل يوم أو يومين
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال: (أجلساني إلى جنبه)، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير.
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتِك السمن، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.
وفي هذا جواز المعاملة مع أهل الكتاب.
(آخر يوم من الحياة)
روي أنس بن مالك: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجـر من يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك - يا لقلبي ويا لشعري ما لهذا التبسم، وما لهذا التعجب! إنه -إن شاء الله- تبسم لأنه رأى الصفوف منتظمة، ورأى الدعوة حية، ورأى الرسالة منتصرة، ورأى لا إله إلا الله مرتفعة، ورأى أبا بكر يصلي بالناس، ورأى دعوة التوحيد قد ضربت بجرانها في الجزيرة، فحق له أن يتبسم-، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فَرَحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخي الستر.
ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسَارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه.
فقالت: وا كرب أباه. فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم).
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصي بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم).
وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما صنعوا ـ لا يبقين دينان بأرض العرب).
وأوصى الناس فقال: (الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، كرر ذلك مراراً.
فما أروعها من وصايا وما أبعد المسلمين عنها في أيامنا هذه.
عمروعبده 27-02-2011, 08:22 AM تابع
(الاحتضــــــار)
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.- ويا لسعادة الزوجة بزوجها! ويا لسعادة الحبيبة بحبيبها! ويا لفرحتها بمؤنسها وبرجلها في آخر عمره وهو يلصق رأسه بحجرها رضي الله عنها وأرضاها!- و دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره ـ وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ -، ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). [الفجر:27-30]. - وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات...) الحديث.
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى. اللهم، الرفيق الأعلى).
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
يوم توفاه الله إليه ليكرمه جزاء ما قدم للأمة، يوم قبضه الله، قال أنس: (ظننا أن القيامة قامت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مصيبة أكبر من مصيبة وفاته على الأمة؟! أي حدث وقع في تاريخ الإنسان يوم توفي خير إنسان وأفضل إنسان عليه الصلاة والسلام؟! ولكن نقول الآن وبعد الآن ويوم نلقى الرحمن: إنا لله وإنا إليه راجعون! (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). [البقرة:156-157].
(الفراق الأليم)
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها.
وبقي جثمانه الشريف في غرفة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولكن ما هو حال الصحابة؟
فداً لك من يقصر عن فداك *** فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي *** بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خـدود *** تبين من بكى ممن تباكى
وقف الصحابة في موقف لا يعلمه إلا الله، وفي دهشة لا يعلمها إلا الحي القيوم، كلهم يكذب الخبر، ولا يصدق إلا من أتاه اليقين..
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر *** فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً *** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وقفوا حول مسجده صلى الله عليه وسلم، وأغلق بابه الشريف على جثمانه، وبقيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبكي مع النساء، أما السكك فقد امتلأت بالبكاء والعويل والنحيب، وأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فوقف عند المنبر يسل سيف الإخلاص والصدق الذي نصر به دين الله، ويقول: يا أيها الناس: من كان يظن أن رسول الله قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف.
قال أنس: ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه. يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه.
أورد صاحب مجمع الزوائد عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، أن عمر مر به فسلم عليه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، فذهب عمر إلى أبي بكر فاشتكى عثمان وقال: سلمت عليه فلم يرد علي السلام، فاستدعاه أبو بكر، وقال: يا عثمان! سلَّم عليك أخوك عمر فلم ترد عليه السلام، فقال: يا خليفة رسول الله! والله ما علمت أنه سلَّم علي قال: لعلك داخلك ذهول أو دهش من وفاته صلى الله عليه وسلم قال: إي والله، فجلسوا يبكون].
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال أبو بكر لـعمر رضي الله عنه وأرضاه: يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن -هذا بعد وفاة رسول الله، وهي مولاة كانت مرضعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عجوز مسنة كان يزورها صلى الله عليه وسلم في حياته- قال: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها.. يا للتواضع! يا للتمسك بالسنة! يا للحرص على الأثر! فذهبا رضوان الله عليهما، فلما وصلا إلى أم أيمن بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن ؟
قالت: أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: والله إني أعلم ذلك، ولكن أبكي على أن الوحي انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان رضوان الله عليهما.
(الثبات العظيم)
أما أبو بكر فكان غائباً في ضاحية من ضواحي المدينة في مزرعته، ما يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى في ذلك اليوم، بأبي هو وأمي! فسمع الخبر فأتى على فرسه، وقد ثبته الله يوم أن يثبت أهل طاعته، وقد سدده الله يوم أن يسدد أهل التوحيد.
فأتى بسكينة ووقار، كان رجل المواقف، ورجل الساعة، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم موفقاً في إمامة أبي بكر، فأتى وإذا الناس لا يزدادون من البكاء إلا بكاء، ولا من العويل إلا عويلاً، ولا من النحيب إلا نحيباً، فقال: ماذا حدث؟ قالوا: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات رسول الله، أتدرون ماذا قال؟
قال: الله المستعان! الله المستعان نلقى بها الله، والله المستعان نعيش بها لله، والله المستعان نتقبل بها أقدار الله، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!.
إنها كلمة الصابرين حين يصابون بصدمات في الحياة، إنها كلمة الأخيار حينما تحل بهم الكوارث من أقدار الله وقضاء الله.
ثم دخل وشق الصفوف في سكينة على فرس له، وبيده عصا، ويشق الصفوف بسكينة ووقار، حتى وصل إلى البيت ففتح الباب، ثم أتى إليه صلى الله عليه وسلم، فكشف الغطاء عن وجهه، ثم قبله وبكى ودمعت عيناه الشريفتان على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبدا ً].
ثم خرج رضي الله عنه وأرضاه إلى الناس وعصاه بيده، فأسكتهم، وقال لـعمر: يـا بن الخطاب! اسكت، فلما سكت الناس، وهم ينظرون إلى القائد الجديد الملهم، إلى هذا الإمام الموفق، إلى هذا الخليفة الراشد، وهو يتخطى الصفوف حتى صعد المنبر، فيستفتح خطابه بحمد الله والثناء على الله، فالمنة لله والحمد لله، والأمر لله من قبل ومن بعد، ثم يقول: [يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). [آل عمران:144] ]] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، وكأنها ما مرت على أذهانهم، ثم عاد رضي الله عنه وأرضاه.
فلله دره ما أثبته، فليكن قدوة لكل من أصابته مصيبة أيا كانت.
(التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض)
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، قال علي رضي الله عنه: اختلفنا في كيفية تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقي علينا النعاس، ونحن بالماء حوله صلى الله عليه وسلم، حتى نمنا وإن لحية أحدنا إلى صدره، فسمعنا هاتفاً يقول: {اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه} وهذا سند صحيح، فغسلوه من فوق ثيابه، طيباً مباركاً مهدياً، عليه السلام يوم ولد، وعليه السلام يوم بعث، وعليه السلام يوم مات، وعليه السلام يوم يبعث حياً.
وكان القائمون بالغسل: العباس وعليّا، والفضل وقُثَم ابني العباس، وشُقْرَان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره.
وقد غسل ثلاث غسلات بماء وسِدْر، وغسل من بئر يقال لها: الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب منها.
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة من كُرْسُف، ليس فيها قميص ولا عمامة. أدرجوه فيها إدراجًا.
واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يـقبض)، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً.
ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفذاذاً، لا يؤمهم أحد، وصلي عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم الصبيان، ثم النساء، أو النساء ثم الصبيان.
ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، ومعظم ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المسَاحِي من جوف الليل ـ وفي رواية: من آخر الليل ـ ليلة الأربعاء.
نعم.. دفن و وضع في قبره عليه الصلاة والسلام، ورد عليه التراب، ودفن كما يدفن الإنسان بعدما صلى عليه الناس زرافات ووحداناً.
ذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم يبلغون سبعة وثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، من المهاجرين والأنصار، ما كان لهم إمام يصلي بهم، بل صلى كل إنسان منهم على حدة، وكان في الصف الأول أبو بكر وعمر، حفظ من دعائهما رضي الله عنهما أنهما قالا: [صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين].
(التـــــركـــة)
وهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات وما خلَّف درهماً ولا ديناراً، ولا عقاراً ولا قصوراً ولا مناصب، وإنما ذهب كما أتى، ذهب سليم اليد، أبيض الوجه، طاهر السريرة، ولكن خلَّف ديناً خالداً وخلَّف رسالة، مات الداعية ولكن ما ماتت الدعوة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ما ماتت الرسالة، مات البشير النذير، ولكن ما ماتت البشارة والنذارة، ترك لنا تراثاً أيما تراث، قرآناً حكيماً (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] وسنة طاهرة للمعصوم فيها صلاح العبد في الدنيا والآخرة.
وعادوا إلى تركته ولا تركة له.. فيا من جمع الأموال ولم يقدم ما ينفعه عند الواحد القهار! هذا خيرة خلق الله، وهذا صفوة عباد الله، ذهب والله ما تلوث منها بشيء، يمر عليه الشهر بعد الشهر ولا يوقد في بيته نار، ويمر عليه ثلاثة أيام وهو في جوعه صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان..
كفاك عن كل قصر شاهق عمد *** بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيـدة *** نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم *** على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها *** عذب من الوحي أو عذب من الكلم
ذهب عليه الصلاة والسلام وبقي بيته من طين، وبقيت بعض الدراهم ليست له، أنفقت في الصدقات وفي سبيل الله، وأتى أبو بكر فقال لقرابته ولبناته صلى الله عليه وسلم لما طلبوه الميراث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"
وعند أحمد في المسند: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة" فما ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن ترك هذا الدين، اجتماعنا بهذه الوجوه الطيبة النيرة حسنة من حسنات، وهذه المساجد والمنابر حسنة من حسنات رسالته، وهذه الدعوة الخالدة والرسالة القائمة فضل من فضل الله ثم من فضله صلى الله عليه وسلم.
نعم. مضى إلى الله صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله على كل ما يصيبنا!
فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم} إي والله.
وهذا إخواني الأعزاء هو غاية هذا الجزء المبارك من هذه السلسلة
(أيها المبتلى... لست وحدك على الدرب)
وإذا أتتك من الأمور بلية فاذكر مصابك بالنبي محمد
إذا مات ابنك فاعلم أن ابنك لا يكون أحب في قلبك إن كنت مؤمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مات أبوك أو أمك أو قريبك أو صفيك، فاعلم أنهم لا يعادلون ذرة في ميزان الحب مع حبه صلى الله عليه وسلم، تذكر أنه مات، وأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، يستشهده الله علينا هل بلغنا ما علينا؟ ويستشهده الله علينا هل سمعنا وأطعنا أم لا؟ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41].
(دروس وعبر من قصة وفاة سيد البشر)
وهكذا عباد الله كانت قصة وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلنا بأننا ذكرناها في هذه السلسلة لغاية خاصة وهي كما ذكرنا من قبل.
إنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم}.
ولكن قصة وفاته عليه الصلاة والسلام اشتملت على فوائد غزيرة جليلة نذكر منها:-
1- أن الموت نهاية كل حي، ولو كان أحد أولى بالبقاء لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لأمته حيهم وميتهم حتى وهو في نهاية حياته.
3- أنه عليه الصلاة والسلام كان يخشى على أمته أن يركنوا إلى الدنيا لذلك حذرهم من ذلك.
4- أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه)
5- المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
6- مرض المؤمن خير له، وتكفير لخطاياه، ومضاعفة لأجره.
7- أن مرض النبي عليه الصلاة والسلام لرفع درجته عليه الصلاة والسلام.
8- شديد حب الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام. وحرصهم على الاستفادة والاستزادة من تعاليمه ووصاياه عليه الصلاة والسلام.
9- أنه عليه الصلاة والسلام لا يتوانى ولا يتكاسل عن أداء واجبه الدعوي، فإذا سمحت له الفرصة ليقوم قام ولا يركن إلى الفراش.
10- حرص النبي عليه الصلاة والسلام على ترسيخ العقيدة، وتنبيه على مخالفة اليهود والنصارى، وعدم اتخاذ القبور مساجد وتشديده على ذلك.
11- حرصه صلى الله عليه وسلم على رد الأمانات إلى أهلها، وأداء حقوق العباد قبل ألا يكون درهم ولا دينار.
12- وصيته عليه الصلاة والسلام بالأنصار خيرا، لما لهم من فضل في الإسلام.
13- فقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وشدة حبه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم له وبيانه لفضله.
14- وصيته عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، و إجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
15- وصيته عليه الصلاة والسلام بألا يموتن مسلم إلا وهو يحسن الظن برب العالمين.
16- جواز المعاملة مع أهل الكتاب والاقتراض منهم مقابل رهان.
17- فرح النبي عليه الصلاة والسلام لرؤيته لدعوته حية قائمة على أصولها.
18- حبه عليه الصلاة والسلام لابنته وإسراره لها بأنه سيموت في مرضه هذا، وتبشيرها بأنه أول من سيلحق به من أهله، وبيان فضلها من أنها سيدة نساء العالمين.
19- حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها، وحبها له، وكذلك فرحها بأن الله توفاه في بيتها وفي يومها وبين سحرها ونحرها وأنه جمع بين ريقه وريقها.
20- حرصه عليه الصلاة والسلام على أن يستاك ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة.
21- بيانه عليه الصلاة والسلام لأمته من أن للموت سكرات.
22- اختياره عليه الصلاة والسلام للرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
23- حب الصحابة رضوان الله عليهم ومعاناتهم الشديدة من فراقه عليه الصلاة والسلام.
24- ثبات الصديق في أحلك الظروف، وإيضاحه للحقائق التي غابت في خضم تلك المشاعر العظيمة.
25- أن النبي عليه الصلاة والسلام تم تغسيله من فوق ثيابه إكرام له عليه الصلاة والسلام.
26- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدفنون مكان موتهم.
27- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك درهمًا ولا دينارًا، وما تركه فهو صدقة.
28- أن من أصيب بمصيبة أيا كانت وأيا كان حجمها فليتعزى بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه عزاء لكل مسلم.
هذا ما وفقنا الله لاستخراجه من فوائد وعبر من قصة وفاة سيد البشر صلى الله عليه وسلم
وما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والله أسأل أن ينفع بهذه السلسلة إنه على ما يشاء قادر.
ولا تنسونا من دعوة صالحة بظهر الغيب ليقول لك الملك إن شاء الله ولك بمثله.
عمروعبده 27-02-2011, 08:26 AM محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الجفاة والغلاة
عدنان أمامة
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإسلام، وشرط من شروط صحة الإيمان، قال الله تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24)
فلا يجوز أن يكون حب أي عرض من أعراض الدنيا مقدماً على محبة الله ورسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم ينفى الإيمان عمن لم يجعل محبته مقدمة على محبة الأهل والمال والولد فيقول:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". أخرجه البخاري/15. وحين قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لأنت أحبّ إلىّ من كل شيء إلا من نفسي. أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:" لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال عندها عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر". البخاري/ 6632. وحين سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآباؤنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ".
وحيث إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة لله وقربة يتقرب بها المسلم إلى ربه فلا بد فيها من تحقيق شروط قبول العبادة وهي:
1- الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه.
2- ثم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والالتزام بسنته وهديه وأن يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع. عملاً بقوله تعالى:(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً). والعمل الصالح هو العمل الموافق للسنة والعمل الخالي من الشرك هو العمل الخالص لله سبحانه والبريء من الرياء والسمعة.
ولقد ضل في باب محبة النبي صلى الله عليه وسلم طائفتان كبيرتان من الطوائف المنتسبة للإسلام، طائفة الجفاة، وقد مثلها في الماضي المعتزلة الذين قدموا عقولهم على نصوص الوحي وحاكموا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أقيستهم وأهوائهم، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه - بحجة أنه خبر آحاد مع أن أغلب أحكام الشريعة إنما جاءت من طريق الآحاد - أو تأولوه وحرفوا دلالته إلى ما يوافق رأيهم ومذهبهم، وقد وصل الغلو بأحد رؤوسهم وأئمتهم عمر بن عبيد أن قال عن حديث الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يأتيه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.... قال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته، ولو سمعت عبد الله ابن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا".
وقد ورثت فلسفة المعتزلة ومهجها في أيامنا هذه من نعتوا أنفسهم بالحداثيين والعصرانيين والمتورين الذين بهرتهم الحضارة الغربية وعلمانيتها المتحللة من الدين والمعادية له فآلوا على أنفسهم أن يبرزوا الإسلام بصورةٍ موافقة للفكر الغربي العلماني واضطروا لتحقيق غرضهم أن يضعوا قواعد و يؤصلوا أصولاً للتعامل مع نصوص الشرع لم تخطر ببال الأولين تسبب عنها إسقاط مئات الأحاديث المتعلقة بسير الحياة اليومية للإنسان في أكله وشربه ولبسه وتجارته وعلاقته بالآخرين بزعم أنها أحاديث خاصة بالبيئة العربية التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لها صفة الشمول والثبات وفهموا الإسلام على أنه جملة من القيم والمثل العليا وقوانين الحق والعدل التي يشكلها الإنسان حسب ما يتناسب مع عصره وبيئته، والآيات والأحاديث المتعلقة بالأمور التفصيلية ليست ملزمة للمسلم بل هي للاستئناس يأخذ منها المسلم ما يحقق مصلحته ويترك ما يعارضها، وهناك جفاة لا يصل جفاؤهم إلى هذا الحدّ إلا أنهم لا يتهيبون من ردّ الحديث الصحيح إذا عارض مذهبهم أو خالف توجهاتهم الفكرية متجاهلين خطورة هذا المسلك ومتناسين تحذيرات السلف من هذا التوجه من مثل قول الإمام أحمد رحمه الله:"من ردّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة". وقول الإمام البربهاري:" الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار أو يريد الآثار فاتهمه على الإسلام و لا تشك أنه صاحب هوى مبتدع".
ويقابل الجفاة الذين تقدم الحديث عنهم طوائف الغلاة وما أكثرهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم والذين أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم تنبىء أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان تفرغ على شكل احتفالات وقصائد وأناشيد دون أن تلزم أصحابها بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباع هديه وسنته والدفاع عن دينه وتحكيم شرعه.
وقد وصل الغلو عند كثير من هؤلاء إلى مناقضة كتاب الله سبحانه ومخالفة صريح أمره وخبره والوقوع في الشرك الأكبر والعياذ بالله.
فرغم الآيات القاطعة والأحاديث الصريحة التي تنهى عن الغلو في الدين ورفع النبي صلى الله عليه وسلم فوق منزلته التي أنزله الله إياها مثل قوله تعالى:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}. وقوله عليه الصلاة والسلام:(لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله). إلا أن طوائف من الأمة أبوا إلا أن يقعوا فيما وقعت فيه النصارى. فزعم بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشراً بل هو نور خلقه الله من نور وجهه وقالوا إن قوله تعالى:{قل إنما أنا بشر مثلكم ....} قد قرأها الناس قراءةً خاطئةً وإن القراءة الصحيحة لها قل إن ما أنا بشر مثلكم، فهي تؤكد على نفي بشرية النبي صلى الله عليه وسلم.
وعليه نسمع في بعض الأناشيد قولهم رب خلقت طه من نور ، ويزعم هؤلاء أن أول الكائنات على الاطلاق هي روح محمد و منها صدرت سائر المخلوقات وهذا ما يعبرون عنه بالحقيقة المحمدية وبقولهم إنه صلى الله عليه وسلم إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود وأنه مظهر لصفات الله، وكم سمعنا من مؤذن يقول يا أول خلق الله وخاتم رسل الله مع أن هذا مناقض لصريح قوله صلى الله عليه وسلم:" أول ما خلق الله القلم".
ومن المغالاة المرفوضة زعم البعض أن الكون ما خلق إلا من أجل محمد صلى الله عليه وسلم وينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً مكذوباً يقول:" لولاك ما خلقت الأفلاك". مع مناقضته لصريح قوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ومن غلوهم ومبالغاتهم الباطلة زعمهم أن يوم مولده صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر وأن روحه تحضر الموالد ولذلك يقومون عندما يصل قارىء السيرة إلى لحظة ولادته وأنه حي حياة كاملة وأنه يكلم الأولياء وهذا يناقض العقل والنقل المؤكد لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ومن مبالغاتهم الممجوجة زعمهم أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم على رؤوس الكائنات قال شاعرهم:
على رأس هذا الكون نعل محمد *** سمت فجميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع *** وأحمد إلى العرش لم يؤمر بخلع نعاله
ما قيمة هذا الكلام وما دليله من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن المغالاة المناقضة للقرآن الكريم زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب وفي هذا يقول البوصيري:
وإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
ومن غلوهم زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام الواسطة والأصل في كل رحمة تحل بالوجود ورتبوا على ذلك اللجوء إليه صلى الله عليه وسلم لكشف الكريات واستنزال الرحمات:
يقوي البكري في لاميته!
ما أرسل الرحمن أو يرسل *** من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه *** من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى *** عبده نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها *** يعلم هذا كل من يعقل
فلذ به به من كل ما تشتكي *** فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به من كل ما ترتجي *** فإنه المأمل والمعقل
يا أكرم الخلق على ربه *** وخير من فيهم يسأل
كم مسني الكرب و كم مرة *** فرجت كرباً بعضه يُذهل
فبالذي خصك بين الورى *** برتبة عنه العلى تنزل
عجل بإذهاب الذي اشتكى *** فإن توقفت فمن الذي أسأل
وشرعوا لمن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجير به ويرجوه ويتضرع خاشعاً بين يديه فقالوا: الأدب أن يأتي الإنسان لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتوب من الذنوب والخطايا ثم يقول يا رسول قد ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وأتيت بجهلي وخطئي وزراً كبيراً ووفدت إليك مستجيراً.
وهكذا نرى أن الغلو فيه عليه الصلاة والسلام والإنسياق خلف العواطف الجياشة دون الإنضباط بالضوابط الشرعية قد أوقع شرائح واسعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الشرك الأكبر والعياذ بالله حيث خلعوا عليه صلى الله عليه وسلم الكثير من صفات الرب سبحانه وتعالى بزعم حبه وتوقيره وهل وقع النصارى فيما وقعوا فيه في عيسى عليه السلام إلا بزعم حبه وتقديره.
وليس لأحد نجاة إلا بسلوك منهج الوسطية الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية.
عمروعبده 27-02-2011, 08:31 AM حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين
صلاح الدين علي بن عبد الموجود
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فإن من أعظم الحقوق على المسلمين كافة وأهل العلم خاصة بيان فضل نبيهم صلى الله عليه وسلم وعظيم قدره عند الله تبارك وتعالى وعند أصحابه الذين اتبعوه وعاشوا معه ورأوه، وكيف ترجم هذا الجيل هذه المحبة إلى واقع وسلوك!! فما أحوج المسلمون اليوم أن يعرفوا حق نبيهم صلى الله عليه وسلم عليهم حتى يحبوه كما أحبه ذلك الجيل ويتبعوه كما اتبعه ذلك الجيل.
وإن شئت أن ترى بعض المكانة عند الصحابة رضي الله عنهم فتأمل هذا الوصف الذي رآه عروة ابن مسعود الثقفي سيد من سادات قريش، وهم من أشد خلق الله عداوة له حينما جاء يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ فَوَ اللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ) [رواه البخاري].
ولا خفاء على من مارس شيئاً من العلم، أو خص بأدنى لمحة من فهم، بتعظيم الله تعالى قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، و خصوصه إياه بفضائل و محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة و الأقلام.
فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه، و نبه به على جليل نصابه، و أثنى عليه من أخلاقه و آدابه، و حض العباد على التزامه، و تقلد إيجابه، فكان جل جلاله هو الذي تفضل و أولى، ثم طهر و زكى، ثم مدح بذلك و أثنى، ثم أثاب عليه الجزاء الأوفى، فله الفضل بدءاً و عودا ً، و الحمد أولى و أخرى.
ومنها ما أبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال، و تخصيصه بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة، و المذاهب الكريمة، و الفضائل العديدة، و تأييده بالمعجزات الباهرة، و البراهين الواضحة، و الكرامات البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه، و علمها علم يقين من جاء بعده، حتى انتهى علم ذلك إلينا، و فاضت أنواره علينا.
فاعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم، الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم أن خصال الجلال و الكمال في البشر نوعان: ضروري دنيوي اقتضته الجبلة و ضرورة الحياة الدنيا، و مكتسب ديني، و هو ما يحمد فاعله، و يقرب إلى الله تعالى زلفى.
فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار و لا اكتساب، مثل ما كان في جبلته من كمال خلقته، و جمال صورته، و قوة عقله، و صحة فهمه، و فصاحة لسانه، و قوة حواسه و أعضائه، و اعتدال حركاته، و شرف نسبه، و عزة قومه، وكرم أرضه، و يلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه، من غذائه و نومه، و ملبسه و مسكنه، و منكحه، و ما له و جاهه.
و قد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى و معونة البدن على سلوك طريقها، و كانت على حدود الضرورة و قوانين الشريعة.
و أما المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، و الآداب الشرعية: من الدين و العلم، و الحلم، و الصبر، و الشكر، و المروءة، و الزهد، و التواضع، و العفو، والعفة، و الجود، و الشجاعة، و الحياء، والصمت، و التؤدة، و الوقار، و الرحمة، و حسن الأدب و المعاشرة، و أخواتها، و هي التي جمعها حسن الخلق.
و قد يكون من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة و أصل الجبلة لبعض الناس وقد يختلف الناس بعضهم عن بعض في هذه ولكن أن تجمع لشخص واحد فهذا من عظيم الفضل لهذا النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد أخذ سبحانه العهد على جميع الأنبياء أن أدركوه أن يتبعوه ويخبروا بذلك قومهم.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران81]
وبين سبحانه وتعالى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمانا لهم مما حرفه أحبارهم وعلماؤهم فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة15]
وامتن على البشرية كافة أن بعث رسولا منهم وليس ملكا حتى لا تيأس النفس وتعجز عن العبادة إذ لا طاقة لبشر بمتابعة عبادة مما تقوم بها الملائكة قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ(8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9)}[الأنعام 8 - 9]
وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان7]
فكان من فضل الله ورحمته لإقامة الحجة كاملة على خلقه وعباده أن بعث فيهم رسولا يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون وينام كما ينامون.
قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة128]
{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران164]
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة2]
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة151]
قال جعفر ابن محمد: علم الله عجز خلقه عن طاعته، فعرفهم ذلك، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة، و ألبسه من نعمته الرأفة و الرحمة، وأخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً، وجعل طاعته من طاعته، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء80]
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران159]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء107]
قال أبو بكر بن طاهر: زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، و الواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، فكانت حياته رحمة، و مماته رحمة.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً(45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً(46)} [الأحزاب 45 - 46].
جمع الله تعالى في هذه الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم ما آثره به على باقي الخلق، و جملة من أوصاف المدح، فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه صلى الله عليه و سلم، ومبشراً لأهل طاعته، ونذيراً لأهل معصيته، وداعياً إلى توحيده وعبادته، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق.
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)} [الشرح]
قال القاضي عياض: هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه، و شريف منزلته عنده، وكرامته عليه، بأن شرح قلبه للإيمان والهداية، و وسعه لوعى العلم، وحمل الحكمة، ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه، وبغضه لسيرها، وما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله، وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم، و تنويهه بعظيم مكانه، و جليل رتبته، و رفعه و ذكره، و قرانه مع اسمه اسمه.
ولقد كان أهل الكتاب يتناقلون صفته تابع عن تابع ورغم إخفائهم الكثير إلا أن الله سبحانه وتعالى أظهر ما أخفوه.
عن عطاء ابن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: أجل، و الله ! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، و حرزاً للأميين، أنت عبدي و رسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ و لا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، و لكن يعفو و يغفر، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً، و قلوباً غلفاً.
ولقد كان من عظيم محبة الله تعالى لنبيه بعد رفعه وعلو شأنه الملاطفة في العتاب رحمة به وفضلا وكرما قال تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة43]
قال عون بن عبد الله: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب.
و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب.
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب.
وكانت معية الله مع نبيه بالحفظ لا تفارقه.
قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء74]
عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد الزلات، وعاتب نبيّنا عليه السلام قبل وقوعه، ليكون بذلك أشد انتهاءً ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية.
ثم انظر كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذكر ما عتبه عليه وخيف أن يركن إليه، ففي أثناء عتبه براءته، وفي طي تخويفه تأمينه وكرامته.
قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام33]
قال علي رضي الله عنه: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك و لكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الآية]
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته تعالى له عليه السلام، و إلطافه به في القول، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، و أنهم غير مكذبين له، معترفون بصدقه قولاً و اعتقادًا، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين، فدفع بهذا التقرير ما قد يتألم به من وصفهم له بسمة الكذب، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين.
ثم عزّاه و آنسه بما ذكره عمن قبله، و وعده النصر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام34]
وقد أقسم تعالى بتحقيق قدره فقال تعالى: {وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى(4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)} [الضحى]
قال القاضي عياض: تضمنت هذه السورة من كرامة الله تعالى له، وتنويهه به وتعظيمه إياه ستة و جوه:
الأول: القسم له عما أخبره به من حاله بقوله تعالى: {وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)}. أي و رب الضحى، و هذا من أعظم درجات المبرة.
الثاني: بيان مكانته عنده و حظوته لديه بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، أي ما تركك و ما أبغضك. و قيل: ما أهملك بعد أن اصطفاك.
الثالث: قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى(4)}، قال ابن إسحاق: أي مالك في مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
و قال سهل: أي ما ذخرت لك من الشفاعة و المقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا.
الرابع: قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)}
و هذه آية جامعة لوجوه الكرامة، و أنواع السعادة، و شتات الإنعام في الدارين. والزيادة.
قال ابن إسحاق: يرضيه بالنصر والتمكين في الدنيا، و الثواب في الآخرة.
و قيل: يعطيه الحوض و الشفاعة.
الخامس: ما عدده تعالى عليه من نعمه، و قرره من آلائه قبله في بقية السورة، من هدايته إلى ما هداه له، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير، ولا مال له، فأغناه بما آتاه، وهدى بك ضالاً، و أغنى بك عائلاً، و آوى بك يتيماً ـ ذكره بهذه المنن، و أنه لم يهمله في حال صغره و عيلته و يتمه و قبل معرفته به، و لا ودعه ولا قلاه، فكيف بعد اختصاصه و اصطفائه !
السادس: أمره بإظهار نعمته عليه و شكر ما شرفه بنشره و إشادة ذكره بقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)}، فإن من شكر النعمة الحديث بها، و هذا خاص له، عام لأمته.
وهذه بعض شمائله صلى الله عليه وسلم:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) [رواه مسلم ].
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا) [رواه البخاري ومسلم].
(عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) [رواه البخاري ومسلم].
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ" قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) [رواه أبو داود].
ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بما يكره بل كان يعرض به صلى الله عليه وسلم.
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ"مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ") [رواه البخاري].
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ) [رواه البخاري].
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ) [رواه البخاري].
(عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا) [رواه مسلم].
والذي ينظر إلى حياته الخاصة يرى التواضع التام وعدم الانشغال الزائد بالدنيا.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ) [رواه البخاري ومسلم].
وكذلك رحمته بنسائه ومعونته إياهم.
(سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا قَالَتْ نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ) [رواه أحمد].
وكذلك شدة محبته لأصحابه رضي الله عنهم والشهود بالفضل لهم.
(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا) [رواه البخاري].
(وَعَنْ جَرِيرٍ قَالَ مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) [رواه البخاري ومسلم].
وحتى مع خادمه كان رمزا للأسوة والقدوة.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا) [رواه البخاري ومسلم].
فمهما كتب الكاتب وأفهم الخطيب فلن يف أحد بحق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم!!
ولكن هل من بداية؟!! والبداية لا تكون إلا بعلم وعمل... وقد أطلق المولى سبحانه وتعالى المتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب21]
فنسأل الله أن يجعلنا منهم- اللهم آمين.
عمروعبده 27-02-2011, 08:38 AM أدبُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم
أبومعاية محمد زايد
قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا،لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح:8،9)فأوجب عز وجل تعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم، وألزم إكرامه وتعظيمه، قال المبرد:( وَتُعَزِّرُوهُ): ((تبالغوا في تعظيمه))، ونهى عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) في إهمال حقه، وتضييع حرمته (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:1-4)، إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم الآمرة بالأدب العالي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأوامر الإلهية، فحفظوا حقوق سيد البرية، وتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم بما يليق بمقامه الشريف، وفضله المنيف.
ففي قصة صلح الحديبية أن عروة بن مسعود (جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال ((فو الله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له))، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: ((أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا) الحديث.رواه البخاري (5/330- فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/323-331)،وانظر: ((فتح الباري))(5/341).
وفي نفس القصة أن عروة بن مسعود دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يحدثه، ويشير بيده إليه، حتى تمسَّ لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى عليه وسلم بيده السيف، فقال له: ((اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك!)) فقبض يده عروةُ. رواه البخاري (5/330- فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/323-331)،وانظر: ((فتح الباري))(5/341).
وُروي أن عمر عمد إلى ميزابٍ للعباس على ممر الناس، فقلعه، فقال له: ((أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه في مكانه))، فأقسم عمر: ((لتصعدنَّ على ظهري، ولتضعنه موضعه)).أخرجه أحمد (1/210)، وابن سعد (4/20)، وضعفه الشيخ أحمد شاكر لانقطاعه، رقم (1790) تحقيق ((المسند)).
وعن أبي رزين قال: قيل للعباس))أنت أكبرُ أو النبي صلى الله عليه وسلم؟)) قال))هو أكبر، وأنا ولدتُ قبله)).عزاه الهيثمي في ((المجمع))(9/270)إلى الطبري، وقال))رجاله رجال الصحيح)).
ولما قدم رسول الله المدينة، نزل على أبي أيوب، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السفل، ونزل أبو أيوب العلو، فلما أمسى، وبات؛ جعل أبو أيوب يذكر أنه على ظهر بيتٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه، وهو بينه وبين الوحي، فجعل أبو أيوب لا ينام يحاذر أن يتناثر عليه الغبار، ويتحرك فيؤذيه، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يارسول الله! ما جعلت الليلة فيها غمضًا أنا ولا أم أيوب))، فقال: " ومم ذاك يا أبا أيوب؟ " قال: ((ذكرت أني على ظهر بيتٍ أنت أسفل مني، فأتحرك، فيتنار عليك الغبار، ويؤذيك تحركي، وأنا بينك وبين الوحي)) الحديث.رواه أحمد (5/415)، ومسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير))(3986)، والحاكم (3/460-461)، وصححه على شرط مسلم(!)، ووافقه الذهبي(!).
وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: ( لما نزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ((بأبي وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وتكون أسفل مني))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أرفق بنا أن نكون في السُّفل لما يغشانا من الناس "، فلقد رأيت جرَّة لنا انكسرت، فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة (القطيفة: كساء له خمل) لنا، وما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فـَرَقـَـًا (الفَرَق: الخوف) من أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منا شئ يؤذيه)الحديث.رواه مسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير)) رقم (3855)، واللفظ له.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((.. وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عينيَّ منه)).رواه مسلم رقم (121)(1/112).
ولما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجَّهه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في القضية أبى، وقال: ((ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم)).انظر:) (سير أعلام النبلاء))( 3ك290-291).
وفي حديث قـَيْلَة: ((فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا القرفصاء أرْعِدتُ من الفـَرَق، وذلك هيبةَ له وتعظيماً)).انظر: ((الإصابة))( 8/83-87).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((إن كان ليأتي عليَّ السنةُ، أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ، فأتهيَّبُ منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب)).عزاه الحافظ في ((المطالب العالية))( 3/325) إلى أبي يعلى، وسكت عليه البوصيري في ((مختصر إتحاف السادة المهرة))(1/28).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تـُقـْرعُ بالأظافير)).رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) رقم(1080)، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) رقم (2092).
وعن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أنه كان في مجلس قومه وهو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقبل على بعض يتحدثون، فغضب، ثم قال: (انظر إليهم أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقبل على بعض؟! أما والله، لأخرجن من بين أظهركم، ولا أرجع إليكم أبداً، فقلت له: ((أين تذهب؟))، قال: ((أذهب فأجاهد في سبيل الله)).رواه الطبراني في ((الكبير))(6/5656،5866).
كتاب: ((حرمة أهل العلم))، للشيخ الدكتور: محمد أحمد إسماعيل المقدم _عفا الله عنه_
عمروعبده 27-02-2011, 08:42 AM مع المصطفى صلى الله عليه وسلم : حسن معاملة الأجير
د/ خالد سعد النجار
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء رجل، فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم؛ فكيف أنا منهم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة؛ يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم؛ فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم؛ كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم، كان فضلا لك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ؛ اقتص لهم منك الفضل ، فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تقرأ قول الله تعالى ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) (1) فقال الرجل : يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم؛ أشهدك أنهم كلهم أحرار (2)
شاء الله عز وجل أن تتباين أدوار البشر وتتنوع مسؤولياتهم وتتعدد اهتماماتهم حتى تتكامل حركة الحياة وتعمر الأرض , واقتضت مشيئته وحكمته سبحانه أن يجعل بعض عباده أغنياء وبعضهم فقراء، وسخّر كلاّ من الطائفتين للأخرى، هذه تنمي المال وتنفق منه على تلك، وتلك تقوم بالعمل مقابل ذلك الإنفاق . والإسلام يوجه الأغنياء المخدومين إلى التواضع وعدم التكبر على الخادمين، ويجعل لهؤلاء حقوقا على أولئك يجب عليهم أن يؤدوها بدون مماطلة ولا نقص , فالمخدوم ينبغي أن يتواضع مع خادمه ولا يترفع عليه لأنه قد يكون أعظم درجة منه عند الله ، وليس الفضل بكثرة الأموال ولا بعظم الأجسام , ولا بغير ذلك من متاع الدنيا وزينتها ومظاهرها وإنما الفضل بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في معاملة الخادم , فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا"(3) والرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لأمته , وهي إذا لم تستطع أن تصل إلى درجة الكمال التي بلغها صلى الله عليه وسلم فلتسدد ولتقارب.
وقال صلى الله عليه وسلم ( من لايمكم من خدمكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون , ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) (4) وقال صلى الله عليه وسلم ( لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم , لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم ) (5) وقال صلى الله عليه وسلم "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه" (6) وبلغ من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطيق أحدا أن يقول : كان عبدي وأمتي وأنه أمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا فتاي وفتاتي (7)
وعن المعمور بن سويد قال: "رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال: ساببت رجلا فشكاني إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم ( أعيرته بأمه؟! ثم قال: إخوانكم خولكم جعلهم اللّه تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم ) (8) وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال : كنت أضرب غلاما لي , فسمعت من خلفي صوتا ( اعلم، أبا مسعود! لله أقدر عليك منك عليه) فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله! هو حر لوجه الله , فقال (أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار ) (9) وعن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر , فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال: امتثل منه ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتقوها" قالوا: ليس لهم خادم غيرها قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فيخلوا سبيلها" (10)
وللخادم على سيده حقوق نذكر منها (11):
ــ أن يعامله معاملة حسنة ويحلم عليه إذا بدر منه خطأ، قال تعالى { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران 134
ــ أن يتواضع معه ولا يتكبر عليه فإن التواضع مع الخادم يؤنسه ويشعر معه بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر، والتكبر عليه يوحشه ويشعر بسببه أنه محتقر لا قيمة له فيضطرب ويعيش كئيبا حزينا، وقد ذم الله الكبر والمتكبرين وأعدّ لهم عقابا أليما كما مدح التواضع والمتواضعين ووعدهم الجزاء الحسن قال تعالى{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الشعراء 215 وقال تعالى في وصف المؤمنين { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} المائدة 54 , وعن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" (12) وعن أنس رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت" (13)
ــ قد يقوم الخادم بالخدمة في مقابل طعامه وشرابه وكسوته، وقد يقوم بها بأجر معلوم من النقود أو غيرها، وفي كلتا الحالتين يجب على المخدوم أن يؤدي إلى الخادم ما يستحق، ولا يجوز له أن يظلمه بنقص أجرته أو مماطلته فيها فإن فعل شيئا من ذلك فقد ظلمهن, والله تعالى ذم في كتابه الظلم والظالمين كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه قال تعالى{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الحج 71 وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال: "وإن كان قضيبا من أراك"(14) وقد حذر الله المستأجر تحذيرا شديدا من عدم إعطاء الأجير أجره, قال البخاري رحمه الله: "باب إثم من منع أجر الأجير" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (15) وقال صلى الله عليه وسلم ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) (16) أي ينشف لأن أجره عمالة جسده وقد عجل منفعته فإذا عجلها استحق التعجيل ، ومن شأن الباعة إذا سلموا قبضوا الثمن عند التسليم فهو أحق وأولى . إذ كان ثمن مهجته لا ثمن سلعته فيحرم مطله والتسويف به مع القدرة ، فالأمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل إذا طلب وإن لم يعرق أو عرق وجف (17)
ـ ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به السيد للخادم تعليمه ما يجب عليه وما يحرم من أمور دينه, وحثه على التحلي بالأخلاق الفاضلة فإن في ذلك مصلحة عظيمة للسيد والخادم والمجتمع، كما ينبغي أن يحذره من الأخلاق الرذيلة واقتراف الأمور المحرمة ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأنه أصبح مسئولا عنه كمسئوليته عن بقية أهل بيته.
الهوامش
(1) الأنبياء 47 (2) الحديث رواه الترمذي ــ كتاب التفسير رقم 3165 وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم 2531 والمشكاة رقم 5494 والفظ له (3) رواه مسلم رقم 2309 (4) رواه أحمد وأبو داود عن أبي ذر (صحيح) انظر حديث رقم: 6602 في صحيح الجامع. (5) رواه أبو داود عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 7267 في صحيح الجامع (6) البخاري رقم 5460 (7) البخاري رقم 2552 (8) البخاري رقم 2545 (9) مسلم 1659 (10)مسلم رقم 1658 (11) المسئولية في الإسلام الشيخ عبد الله قادري بتصرف (13)مسلم رقم 2865 (13) رواه البخاري تعليقا انظر رياض الصالحين بتحقيق الألباني رقم 610 (14) صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الحارثي رقم 137 (15) البخاري رقم 2270 (16) رواه ابن ماجة عن ابن عمر وصححه الألباني في الإرواء رقم 1498 (17) فيض القدير ــ المناوي 1/254
عمروعبده 27-02-2011, 08:49 AM لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
محمد شعبان أبو قرن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
محمد صلى الله عليه وسلم.. لولاه لهلكنا ومتنا على الكفر واستحققنا الخلود في النار.. به عرفنا طريق الله، وبه عرفنا مكائد الشيطان، شوقَنَا إلى الجنة، ما من طيب إلا وأرشدنا إليه، وما من خبيث إلا ونهانا عنه، ومن حقه علينا أن نحبه، لأنه:
يحشر المرء مع من أحب
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعددت لها؟ ". قال: إني أحب الله ورسوله. قال: " أنت مع من أحببت ".
بهذا الحب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحوض فتشرب الشربة المباركة الهنيئة التي لا ظمأ بعدها أبداً.
أبشر بها يا ثوبان
قال القرطبي: كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما غير لونك؟! ". قال: يا رسول الله.. ما بي ضر ولا وجع غير أنى إذا لم أراك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبداً، فأنزل الله عز وجل قوله: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ".
رحم الله ثوبان.. حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الشاعر: الحزن يحرقـه والليـل يقلقه**** والصبر يسكتـه والحـب ينطقه
ويستر الحال عمن ليس *******يعذره وكيف يستره والدمع يسبقه
الرحمة المهداة
قال عز وجل: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ".
لولاه لنزل العذاب بالأمة.. لولاه لاستحققنا الخلود في النار.. لولاه لضعنا.
قال ابن القيم في جلاء الأفهام:
" إن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته:
- أما أتباعه: فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.
- وأما أعداؤه المحاربون له: فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب الله عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم.
- وأما المعاهدون له: فعاشوا فى الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له.
- وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوراة وغيرها.
- وأما الأمم النائية عنه: فإن الله عز وجل رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العاملين النفع برسالته ".
لطيفة
قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال فيه: " بالمؤمنين رؤوف رحيم "، وقال في نفسه:
"إن الله بالناس لرؤوف رحيم ".
اصــبر لكل مصيــبة وتجـلد**** واعلم بأن المرء غير مخـلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها***** نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تبلى بها******* فاذكر مصابك بالنبي مـحـمـد
الجماد أحبه.. وأنت؟!
لما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي ، فنزل إليه فاعتنقه ، فجعل يهذي كما يهذي الصبي الذي يسكن عند بكائه، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو لم أعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة ".
كان الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
ما أشد حبه لنا!!
تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: " رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم".
وقول عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "، فرفع يديه وقال: " اللهم أمتي.. أمتي ". وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما قال، فأخبر جبريل ربه وهو أعلم، فقال الله عز وجل: يا جبريل.. اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
حتى لا تكون فاسقاً
قال الله في سورة التوبة، _التي سميت بالفاضحة والمبعثرة لأنها فضحت المنافقين وبعثرت جمعهم _: " قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ".
قال القاضي عياض:
" فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع الله من كان ماله وولده وأهله أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله: " فتربصوا حتى يأتي الله بأمره "، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن أضل ولم يهده الله.
كمال الإيمان في محبته
قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ".
قد تمر علينا هذه الكلمات مروراً عابراً لكنها لم تكن كذلك مع رجل من أمثال عمر بن الخطاب رضى الله عنه الذي قال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شئ إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك "، فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر ".
قال الخطابي: " فمعناه أن تصدق في حبي حتى تفنى نفسك في طاعتي، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك ".
آخذ بحجزنا عن النار
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلى كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ".
ما أشد حب رسولنا لنا، ولأنه يحبنا خاف علينا من كل ما يؤذينا، وهل أذى مثل النار؟! ولما كان الله عز وجل قد أراه النار حقيقة كانت موعظته أبلغ وخوفه علينا أشد، ففي الحديث: " وعرضت على النار فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاني ".
وفى رواية أحمد: " إن النار أدنيت منى حتى نفخت حرها عن وجهي ".
ولذلك كان من الطبيعي أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: " صبحكم ومساكم ".
ولأنه لم يرنا مع شدة حبه لنا وخوفه علينا كان يود أن يرانا فيحذرنا بنفسه، لتكون العظة أبلغ وأنجح، قال صلى الله عليه وسلم: " وددت أنى لقيت إخواني الذين آمنوا ولم يروني ".
ولم يكتف بذلك بل لشدة حبه لنا اشتد إلحاحه لنا في أن نأخذ وقايتنا وجنتنا من النار.
حجاب.. واثنان.. وثلاثة
1. حجاب الصدقة: لقوله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا بينكم وبين النار حجاباً ولو بشق تمرة ".
2. حجاب الذكر: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " خذوا جنتكم من النار.. قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات ".صحيح الجامع, وحسنه ابن حجر في الفتح.
3. حجاب تربية البنات: لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له ستراً من النار ".
ولى كل مؤمن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفى من المؤمنين فترك ديناً فعلى قضاؤه ".
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها*** فأنت والروح شئ غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق *****من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنة***** إلا وإنك بين الجفن والحدق
ما أشرف مقامه!!
ولو وزنت به عرب وعجم *** جعلت فداه ما بلغوه وزناً
إذا ذكر الخليل فذا حبيب *** عليه الله في القرآن أثنى
وإن ذكروا نجى الطور فاذكر *** نجى العرش مفتقراً لتغنى
وإن الله كلم ذاك وحياً *** وكلم ذا مخاطبة وأثنى
ولو قابلت لفظة لن تراني *** لـ"ما كذب الفؤاد" فهمت معنى
فموسى خر مغشياً عليه *** وأحمد لم يكن ليزيغ ذهناً
وإن ذكروا سليمانًا بملك *** فحاز به الكنوز وقد عرضنا
فبطحا مكة ذهباً أباها *** يبيد الملك واللذات تفنى
وإن يك درع داود لبوساً *** يقيه من اتّقاء البأس حصنا
فدرع محمد القرآن لما *** تلا: "والله يعصمك" اطمأنا
وأغرق قومه في الأرض نوح *** بدعوةِ: لا تذر أحداً فأفنى
ودعوة أحمد: رب اهد قومي *** فهم لا يعلمون كما علمنا
وكل المرسلين يقول: نفسي *** وأحمد: أمتي إنساً وجنا
وكل الأنبياء بدور هدي *** وأنت الشمس أكملهم وأهدى
لكي تذوق حلاوة الإيمان
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه ذاق حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما... ".
وهذه مكافأة يمنحها الله عز وجل لكل من آثر الله ورسوله على هواه.. فيحس أن للإيمان حلاوة تتضاءل معه كل اللذات الأرضية، ولأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فكلما ازداد العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم حباً كلما ازداد له ذكراً، ولأحاديثه ترديداً، ولسنته اتباعاً، ومع هذا كل تزداد حلاوة الإيمان.
وثيقة حبه.. وقعها بالدم
- ففي الطائف وقف المشركون له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.
- ومع بنى عامر بن صعصعة: يعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الإسلام ويطلب النصرة، فيجيبونه إلى طلبه، وبينما هو معهم إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري، فأثناهم عن إجابتهم له ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قم فالحق بقومك، فو الله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى ناقة فركبها، فغمزها بيحرة فألقت النبي صلى الله عليه وسلم من على ظهرها.
تصور حالته صلى الله عليه وسلم وقد قرب على الخمسين من عمره، ويسقط من ظهر الناقة ويتلوى من شدة الألم على الأرض، والارتفاع ليس بسيطاً، إنه يسقط على بطنه من ارتفاع مترين ونصف.
- بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر رضى الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله ".
- وغير ذلك: يوضع سلا جزور على كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وينثر سفيه سفهاء قريش على رأسه التراب، ويتفل شقي من الأشقياء في وجهه صلى الله عليه وسلم..
صبر صلى الله عليه وسلم على ذلك كله لأنه يحبنا.. أوذي وضرب وعذب.. اتهم بالسحر والكهانة والجنون.. قتلوا أصحابه.. بل وحاولوا قتله.. وصبر على كل ذلك كي يستنقذنا من العذاب ويهدينا من الضلال ويعتق رقابنا من النار..
وبعد كل هذا البذل والتعب ؟! نهجر سنته، ونقتدي بغيره، ونستبدل هدى غيره بهديه!!.
يا ويحنا.. وقد أحبنا وضحى من أجلنا لينقذنا، ودعانا إلى حبه، لا لننفعه في شئ بل لننفع أنفسنا فأين حياؤنا منه؟! وحبنا له؟! بأي وجه سنلقاه على الحوض؟! بأي عمل نرتجي شفاعته صلى الله عليه وسلم؟! -بأبي هو وأمي- بأي طاعة نأمل مقابلته في الفردوس؟!.
عمروعبده 27-02-2011, 08:56 AM ومضات من حياة إمام الأنبياء - صلى الله عليه وسلم-
عبد العزيز بن عبد الله الحسين
مقدمة :
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)
قال عمرو بن العاص –رضي الله عنه- (ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا أجل في عيني منه , وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ، لأني لم أكن أملأ عيني منه) رواه مسلم.
قد تعددت الأساليب والطرق قديماً وحديثاً في العناية بحياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وسيرته وتقديمها للأمة واضحة جلية؛ إلا أني لما رأيت نيل الكفار منه –صلى الله عليه وسلم- في السنوات الأخيرة وتقصير الكثير منا في الدفاع عنه وعن نصرته؛ أحببت أن أعرض مواقفه المشرقة وصوراً من حياته الفذة بإيجاز؛ من أجل أن تكون من خير ما ينصره ويدافع عنه؛ وقد وضع هذا المختصر في خمسة موضوعات تحت كل واحد منها جملة من النقاط المختصرة، الأول: تعريف به صلى الله عليه وسلم.
الثاني: يتضمن صفاته الخلقية.
الثالث: يتضمن صفاته الخُلُقية.
الرابع: ذكرت فيه بعضاً من أعماله.
الخامس: ضمنته شيئاً من عاداته صلى الله عليه وسلم.
وهذا مما ييسر الاطلاع عليه ومعرفة محتواه بسهولة ويسر من كافة أفراد المجتمع ، ومن ثم يتيسر الاقتداء به والتمثل بأخلاقه وسلوكه، ولعل هذا العمل اليسير يكون لبنة في مشروع أكبر بإذن الله تعالى.
سائلاً المولى عز وجل أن يبارك في أعمالنا وأعمارنا ، وأن يرزقنا حسن التأسي بسيد الخلق –صلى الله عليه وسلم- وامتثال أمره في كل شؤون حياتنا .
التعريف به صلى الله عليه وسلم:
اسمه :
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وهاشم من قبيلة قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل عليه السلام، ابن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
فهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق ، فقومه أشرف قوم، وقبيلته أشرف قبيلة ،وفخذه أشرف الأفخاذ، وقد كان أعداؤه يشهدون له بعلوّ نسبه فيهم .
ومن أسمائه الثابتة في أحاديث صحيحة:
( محمد، و أحمد ، وعبد الله ، وخاتم النبيين، ونبي الملاحم، والعاقب, والحاشر, والماحي)
ذكره في القرآن:
ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- في القرآن باسمه "محمد" في أربعة مواضع: في سورة آل عمران الآية (144)، والأحزاب الآية (40)، ومحمد الآية (2)، والفتح الآية (29)، وأما "أحمد" فجاءت حكاية عن عيسى عليه السلام في سورة الصف الآية (6).
كنيته: (أبو القاسم).
ولادته :
ولد يوم الإثنين ، الثاني عشر من ربيع الأول في مكة .
عن أبي قتادة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه) رواه مسلم .
قال ابن القيم (لا خلاف أنه ولد –صلى الله عليه وسلم- بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل).
والده ووالدته :
والد النبي –صلى الله عليه وسلم-: هو عبد الله؛ وهو المسمى بالذبيح؛ وقد توفي ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- جنين في بطن أمه.
أمّ النبي –صلى الله عليه وسلم- هي: آمنة بنت وهب القرشية؛ وقد توفيت ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- له من العمر ست سنوات.
نشأته:
نشأ –صلى الله عليه وسلم- يتيماً فكفله جده عبد المطلب، ثم كفله عمه أبو طالب، وطهره الله عز وجل من دنس الجاهلية فلم يعظم صنماً في عمره قطّ, ولم يحضر مشهداً من مشاهد كفرهم وكانوا يطلبونه لذلك فيمتنع ويعصمه الله تعالى من ذلك، وهذا من لطف الله به أن برأه من كل عيب ومنحه كل خلق جميل.
رضاعه:
أرضعته –صلى الله عليه وسلم- ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأقام عندها في بادية بني سعد قرابة أربع سنين.
زوجاته:
هن أمهات المؤمنين، قال ابن القيم: "ولا خلاف أنه –صلى الله عليه وسلم- توفي عن تسع".
وأسماؤهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة هند بنت أبي أمية، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي بن أخطب. رضي الله عنهن جميعاً.
أولاده :
الذكور ثلاثة: القاسم، وعبد الله، وإبراهيم؛ وقد ماتوا صغاراً لم يتجاوزوا السنتين بالاتفاق.
الإناث أربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة؛ وقد أدركن البعثة، ودخلن في الإسلام، وهاجرن مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومات كل أولاده قبله إلا فاطمة فإنها ماتت بعده بستة أشهر.
بعثته:
لما كمل له -صلى الله عليه وسلم- أربعون سنة أشرق عليه نور النبوة وأكرمه الله برسالته وبعثه إلى خلقه، وجعله رسولاً إلى الناس كافة، فأقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته وينذرهم الشرك، ثم هاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين أقام بها دولة الإسلام وأمر الناس ببقية شرائع الدين الحنيف، ثم توفاه الله عز وجل وله من العمر ثلاث وستون سنة.
هجرته:
أقام النبي –صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى الإسلام وعبادة الله وحده لا شريك له، ولما ازداد عناد كفار مكة وتكبرهم عن قبول دعوة الحق، رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يؤسس دولة الإسلام في المدينة ويقيم شريعة الله في الأرض، فهاجر إليها –صلى الله عليه وسلم- وكان دخوله إياها يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
ولكون الهجرة النبوية أعزّ الله بها الإسلام وارتفعت راية الحق؛ فقد رأى عمر –رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة أن يكون للمسلمين تاريخاً جديداً يؤرخون به يستعملونه في كتاباتهم.
خصائصه :
خصّ الله نبيه محمداً –صلى الله عليه وسلم- من بين سائر الأنبياء والمرسلين بخصائص منها:
أنه خاتم النبيين، وصاحب المقام المحمود يوم القيامة، وكون رسالته إلى الثقلين الجن والإنس، ونزول القرآن الكريم الذي أذعن لإعجازه الإنس والجن، والإسراء به إلى بيت المقدس والمعراج إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.
ومن الخصائص التي خصّ الله بها نبيه –صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة: أنها فرضت عليه أشياء لم تفرض على غيره وحرمت عليه أفعال لم تحرم على سائر أمته وحللت له أشياء لم تحلل لهم, ومن أمثلة ذلك: تحريم الزكاة عليه وعلى آله ووجوب التهجد بالليل عليه, والزيادة على أربعة نسوة, وأنه لا يورث.
فضائله:
عن وائلة بن الأسقع –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه السلام, واصطفى قريشاً من كنانة, واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب, وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا, وأرسلت إلى الخلق كافة, وختم بي النبيون". متفق عليه.
وفاته:
وتوفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين 12/3/11هـ وله من العمر ثلاث وستون سنة، ولما توفي دخل عليه أبو بكر –رضي الله عنه- فقبله بين عينيه وقال طبت حياً وميتاً يا رسول الله، ولما أدرج –صلى الله عليه وسلم- في أكفانه وُضع على شفير القبر ثم دخل الناس أرسالاً يصلون عليه فوجاً فوجاً لا يؤمهم أحد، ثم دفن –صلى الله عليه وسلم-، قال أنس –رضي الله عنه-: " لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب إلا وقد أنكرنا قلوبنا"، ويختص النبي –صلى الله عليه وسلم- ببعض الخصائص مما يتعلق بوفاته منها: أنه يقبر حيث يموت، وأن الأرض لا تأكل جسده، قال –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أبو داود وصححه الألباني.
قبره:
قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكانت حجرتها بجانب المسجد النبوي, فلما مات أبو بكر وعمر رضي الله عنهما دفنا بجانبه في حجرة عائشة, وبقي القبر على حاله تلك زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم, فلما كان زمن الدولة الأموية أراد الخليفة الوليد بن عبد الملك أن يقوم بتوسعة المسجد النبوي من جهة الشرق فوسعه فأحاط المسجد بالقبر من ثلاث جهات وذلك سنة 88 هـ, ولا يزال قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- على هذه الحال غير داخل في المسجد لأن المسجد لم يحط به من جميع الجهات وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
صفاته الخَلْقية:
صفته:
كان –صلى الله عليه وسلم- معتدل القامة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولم تكن بشرته شديدة البياض ولم يكن أسمر بل كان بياضه إلى السمرة مشرباً بحمرة، وكان حسن الجسم بعيد ما بين المنكبين، وكان في وجهه تدوير، شديد سواد العينين طويل أهدابهما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر حسن الصوت، وكان كثيف اللحية أشعر المنكبين والذراعين وأعالي الصدر.
خاتم نبوته :
عن السائب –رضي الله عنه- قال : " نظرت إلى الخاتم بين كتفي النبي –صلى الله عليه وسلم- فإذا هو مثل زرّ الحجلة "أي أن الخاتم في ظهره الشريف قطعة لحم ظاهرة قدر بيضة الحمامة.
ضحكه:
عن عبد الله بن الحارث –رضي الله عنه- قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وعنه قال: "ما كان ضحك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا تبسماً" رواه أحمد وصححه الألباني.
عن جرير –رضي الله عنه- قال: "ما حجبني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم" رواه البخاري ومسلم.
كلامه :
كان –صلى الله عليه وسلم- طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وكان يتكلم بكلام مفصل ليس بهذٍّ مسرع لا يحفظ، ولا منقطع تتخلله السكتات، عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "كان كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلاماً فصلا يفهمه كل من سمعه " رواه أبو داود وصححه الألباني، "وكان يتكلم بكلام بيّن يحفظه من جلس إليه" رواه البخاري ومسلم، "وكان ربما يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه" رواه البخاري.
مشيه :
كان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها, وكان يمشي حافياً ومنتعلاً، وكان إذا مشى لم يلتفت، وكان يمشي مشياً يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان. (السلسلة الصحيحة للألباني) .
جماله:
عن أبي الطفيل –رضي الله عنه- (وكان آخر من مات من الصحابة) قال: رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، رأيته أبيض مليح الوجه". رواه مسلم.
عن البراء –رضي الله عنه- قال: " كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير" رواه البخاري.
وعن كعب بن مالك –رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر" متفق عليه.
صفاته الخُلُقية:
ظنّه بالله:
عن جابر –رضي الله عنه- قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى" رواه مسلم.
والنبي –صلى الله عليه وسلم- أقرب عباد الله إلى الله وأزكاهم عنده، وهو الذي سبق إلى كل خير واقترب من كل فضل، وكان يوصي أصحابه ومن بعدهم بالظن الحسن بالله عز وجل.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" رواه البخاري ومسلم.
خُلُقه:
عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- وكان صبياً قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله –صلى الله عليه وسلم-، فخرجت حتى أمُرّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد قبض بقفاي من ورائي، قال، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال : يا أنيس : ! هل ذهبت حيث أمرتك؟ قال قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله! قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين، ما علمته قال لشيء صنعته: لما فعلت كذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا". رواه مسلم.
حياؤه:
قال أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه-: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- أشد حياءً من العذراء في خدرها, فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه) رواه مسلم.
بكاؤه :
عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: (قرأت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سورة النساء حتى بلغت "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" قال: فرأيت عيني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تذرفان) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله –رضي الله عنه- قال: (أتيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المِرجَل من البكاء). رواه أبو داود وصححه الألباني.
بركته :
عن جابر –رضي الله عنه- قال عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إناء يتوضأ منه إذ جهش الناس نحوه، فقال: مالكم؟ فقالوا: ما لنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما بين يديك، قال: فوضع النبي –صلى الله عليه وسلم- يديه في الإناء ودعا بما شاء الله أن يدعو، وقال: "حي على الوضوء والبركة من الله"، قال جابر: فلقد رأيت الماء يجري من تحت يده، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه، فعلمت أنه بركة، فقيل لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة. رواه البخاري.
أمانته :
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى قبل الرسالة يعرف في قومه بالأمين (أي رجل الصدق والوفاء) في أقواله وأفعاله وأخلاقه وسلوكه، وشهد له بذلك العدو قبل الصديق؛ ولا أدل على ذلك أنه حين أُمر بالهجرة من مكة إلى المدينة وأراد مفارقة البلد التي عاش فيها؛ جعل علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في بيته ليردّ الودائع التي كانت عنده لأهلها.
شجاعته:
قال علي –رضي الله عنه- (كنا إذا اشتدّ البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه) رواه أحمد وصححه الألباني.
وسأل رجل البراء-رضي الله عنه-: أفررتم عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم حنين يا أبا عمارة ؟! فقال البراء : لكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يفر، ولكن الناس تلقتهم هوازن بالنبل فانهزموا، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- مقبل على العدو بوجهه على بغلته البيضاء وهو يقول:
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب " متفق عليه .
عمروعبده 27-02-2011, 09:00 AM تابع
صبره واحتماله أذى الناس :
عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: "قسم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قسماً بين الناس، فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب النبي –صلى الله عليه وسلم- من ذلك غضباً شديداً واحمرّ وجهه ثم قال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" متفق عليه.
رحمته :
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- : أن الأقرع بن حابس أبصر النبي –صلى الله عليه وسلم- يقبل الحسن بن علي فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم ! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من لا يَرحم لا يُرحم". رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: "ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-" رواه مسلم .
وعن جرير –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل". رواه مسلم.
تفاؤله:
عن أنس –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، قيل وما الفأل؟ قال: الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة يسمعها أحدكم".
تواضعه:
عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته ويخدم نفسه ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم". رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
وعن سهل بن حنيف –رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم " أخرجه الحاكم وصححه الألباني.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويحلب الشاة ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير" أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
وعن أبي أيوب –رضي الله عنه- قال: " كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يركب الحمار ويخصف النعل ويرقع القميص ويقول من رغب عن سنتي فليس مني" رواه أبو الشيخ وصححه الألباني.
توكله:
توكل النبي –صلى الله عليه وسلم- على الله أعظم التوكل وقد قال الله له: "فتوكل على الله إنك على الحق المبين" وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد –صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". رواه البخاري.
ثباته:
لقد لقي النبي –صلى الله عليه وسلم- بمكة من قريش كلّ أذى ووجد منهم كل معاناة، وربط على بطنه من شدة الجوع وسال دمه في الله، وهو يواجه كيد الكافرين بثبات يهز الجبال وعزم لا يتوقف عند حدّ فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- أكبر من أن يذل في الشدائد حتى وهو مطلوب من أعدائه، وصبر وصابر على البأساء والضراء ولم يضعف عند قوي أو يتردد عند عظيم، عن أنس رضي الله عنه قال: " قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين ليلة ويوم ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" رواه الترمذي وصححه الألباني.
ثناؤه
وعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه – قال "قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" رواه مسلم.
وعن سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه- قال: قدمنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم - الحديبية، ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة" رواه مسلم.
وعن أبي أسيد –رضي الله عنه - قال قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "خير دور الأنصار بنو النجار" رواه مسلم.
حلمه:
عن أنس –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت فيه حاشية الرداء من شدة جبذته؛ ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فضحك وأمر له بعطاء متفق عليه.
وباع يهودي على النبي –صلى الله عليه وسلم - بيعاً إلى أجل، فجاء اليهودي يريد أن يتقاضى حقه قبل الأجل، فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يحل الأجل، فقال اليهودي: إنكم لمطل يا بني عبد المطلب، فهم به الصحابة –رضي الله عنهم- فنهاهم، فلم يزده ذلك إلا حلماً، فقال اليهودي: كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة وهي أنه لا تزيده شدة الجهل إلا حلماً فأردت أن أعرفها، فأسلم اليهودي. رواه ابن حبان وصحح إسناده ابن حجر.
جوده:
عن أنس –رضي الله عنه- قال: ما سئل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئاً إلا أعطاه. قال: فجاءه رجل, فأعطاه غنماً بين جبلين, فرجع إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، قال أنس –رضي الله عنه-: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا, فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. رواه مسلم.
وعن جبير –رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- راجعاً من غزوة حنين؛ طفق الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال أعطوني ردائي؛ فوالله لو كان لي عدد هذه العضاه (الشجر) نعماً لقسمته بينكم؛ ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً" رواه البخاري.
دعاؤه:
قد كان –صلى الله عليه وسلم- يتخير من الدعاء أجمعه كما جاء عن عائشة –رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك "رواه أبو داود وصححه الألباني، وعن أنس –رضي الله عنه- قال: "كان أكثر دعوة يدعو بها النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". متفق عليه.
ذكره لله:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل أحيانه" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه - قال " سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" رواه البخاري، وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: "كنا نعدّ لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" رواه أبو داود وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه - قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس" رواه مسلم.
زهده في الدنيا:
عن النعمان –رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يجد ما يملأ بطنه من الدقل وهو جائع" أخرجه الحاكم وصححه الألباني .
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله, لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير" رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني.
وعن أنس –رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يؤتى بالتمر فيفتشه يخرج السوس منه" أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
وكان –صلى الله عليه وسلم- يؤثر الناس على نفسه، فيعطي العطاء ويمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، وكان متقللاً من الدنيا وقد ملك من أقصى الجزيرة إلى حدود الشام.
سماحته:
قال أنس –رضي الله عنه - (خدمت رسول الله –صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهل فعلت كذا؟. متفق عليه.
عبادته :
عن المغيرة بن شعبة –رضي الله عنه - أن النبي –صلى الله عليه وسلم- صلى حتى تورمت قدماه ، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً" متفق عليه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه" متفق عليه.
مزاحه:
عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر وكان يهدي إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- هدية من البادية, فيجهزه النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج, فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: إن زاهراً باديتنا, ونحن حاضروه, وكان –صلى الله عليه وسلم- يحبه وكان رجلاً دميما فأتاه النبي –صلى الله عليه وسلم- يوماً وهو يبيع متاعه, فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره, فقال: من هذا؟ أرسلني. فالتفت, فعرف النبي –صلى الله عليه وسلم-, فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي –صلى الله عليه وسلم- حين عرفه, فجعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: (من يشتري هذا العبد؟). فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لكن عند الله لست بكاسد) أو قال (أنت عند الله غالٍ) رواه أحمد وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه - قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إني لأمزح ولا أقول إلا حقا" رواه الترمذي وصححه الألباني.
وعن الحسن –رضي الله عنه- قال: أتت عجوز على النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال: (يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز) قال: فولت تبكي فقال: (أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز, إن الله تعالى يقول: (إنا أنشأناهن إنشاءً. فجعلناهن أبكاراً. عرباً أتراباً) أخرجه الطبراني والبيهقي وحسنه الألباني.
يقينه بالله:
لما جدّت قريش في طلب النبي –صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر –رضي الله عنه- بحثوا عنهما في كل مكان: وانتهوا إلى باب "غار ثور" فوقفوا عليه، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رؤوسهما ، ولكن الله سبحانه عمّى أبصارهم عن رؤيتهما، فقال أبو بكر –رضي الله عنه-: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- "يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ... لا تحزن إن الله معنا" .متفق عليه. وقد قال الله عز وجل في كتابه: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ... والله عزيز حكيم" [التوبة:40].
بلاغته وفصاحته :
كان محمداً –صلى الله عليه وسلم- أفصح الخلق، وأعذبهم كلاماً، وكان يتكلم بجوامع الكلم، وكان يختار في خطابه أحسن الألفاظ، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثت بجوامع الكلم" رواه البخاري ومسلم، أي يجمع الله له المعاني الكثيرة باللفظ القليل.
أعماله:
غزواته وسراياه :
ما بدأ النبي –صلى الله عليه وسلم- حرباً قط , إذ كان حريصاً ألا يراق دم إنسان فهو نبي الرحمة , ولقد كان عظيماً في رحمته بالناس عظيماً في استعداده للحرب , عظيماً في خططه عظيماً في تحقيق النصر واستثماره ، ولقد غزى بنفسه خمساً وعشرين غزوة ، من أهمها الغزوات العشر الكبرى:
(1) غزوة بدر الكبرى : رمضان 2 هـ
(2) غزوة أحد : شوال 3 هـ .
(3) غزوة الخندق : شوال 5 هـ
(4) غزوة بني قريظة : ذو القعدة 5 هـ
(5) صلح الحديبية : ذو القعدة 6هـ
(6) غزوة خيبر : محرم 7 هـ
(7) غزوة مؤتة : جماد الأولى 8 هـ
(8) فتح مكة : رمضان 8 هـ
(9) غزوة حنين والطائف : شوال 8 هـ
(10) غزوة تبوك : رجب 9 هـ
وأما سراياه فكانت ستاً وخمسين سرية .
حجه وعمرته:
لم يحج -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة هي حجة الوداع بعد أن فرض الله الحج في السنة التاسعة من الهجرة، فبادر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالحج من غير تأخير ، وكان قد حج قبل الهجرة مرتين . رواه الترمذي وصححه الألباني .، وقد اعتمر –صلى الله عليه وسلم- أربع مرات كلهن في شهر ذي القعدة إلا التي مع حجته. متفق عليه.
كتابه:
أنزل الله كتباً على بعض أنبيائه, فأنزل صحفه على إبراهيم –عليه السلام-, وأنزل الزبور على نبيه داود –عليه السلام-, وأنزل التوراة على نبيه موسى –عليه السلام-, وأنزل الإنجيل على نبيه عيسى –عليه السلام-, وأنزل القرآن على نبيه ورسوله محمد –صلى الله عليه وسلم-.
مؤذنوه:
له أربعة من المؤذنين: بلال بن رباح، وعبد الله بن أم مكتوم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظ بقباء -رضي الله عنه-.
خدمه:
منهم أنس بن مالك وربيعة بن كعب وأبو ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود –رضي الله عنهم-.
شعراؤه:
كان من شعرائه الذين يذبّون عن الإسلام: كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت –رضي الله عنهم-.
سلاحه:
كان للنبي –صلى الله عليه وسلم- ثلاثة رماح، وثلاثة أقواس، وستة أسياف، ودرعان، وترس، وراية سوداء مربعة ولواء أبيض.
دوابه:
كان للنبي –صلى الله عليه وسلم- عدة أفراس، فأول فرس ملكه يسمى "السّكب"، وله بغلة تسمى "دُلدل" كان يركبها في الأسفار وعاشت بعده حتى كبرت سنها وقاتل عليها علي بن أبي طالب الخوارج، وكان له ناقته "القصواء" ، وله حمار يقال له "عفير" مات في حجة الوداع.
تعليمه:
عن معاوية –رضي الله عنه- قال في الرسول –صلى الله عليه وسلم-: ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه. رواه مسلم.
وقد كان –صلى الله عليه وسلم- يعطي في تعليمه كل واحد حقه من الالتفات إليه والعناية به حتى يظن كل واحد منهم أنه أحبّ الناس إليه ، وكان أتم ما يكون تواضعاً للمتعلم والسائل المستفيد وضعيف الفهم.
وقد شهد التاريخ بكمال شخصيته التعليمية حتى قيل : إنه لو لم يكن لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- معجزة إلا أصحابه لكفوه لإثبات نبوته .
عاداته:
طعامه:
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- لايردّ موجوداً ولا يتكلف مفقوداً؛ فما قرّب إليه شيء من الطيبات إلا أكله؛ إلا أن تعافه نفسه؛ فيتركه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قط؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وكان يحب أكل الحلوى والعسل، وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج والحبارى والأرنب وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرطب والتمر... وغير ذلك، وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفرة، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ، ولا يأكل متكئاً، وكان يسمي الله تعالى أول طعامه، ويحمده في آخره.
شرابه :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان أحب الشراب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الحلو البارد". رواه الترمذي وصححه الألباني .
وعن أنس –رضي الله عنه-: قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا شرب تنفس ثلاثاً ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ "متفق عليه وكان من هديه المعتاد الشرب قاعداً، ويسمي بالله في أوله ويحمد الله في آخره.
سواكه:
كان يحب السواك وكان يستاك مفطراً وصائماً, ويستاك عند الانتباه من النوم وعند الوضوء وعند الصلاة وعند دخول المنزل.
كحله:
وكان –صلى الله عليه وسلم- يكتحل ثلاثاً وقال: خير أكحالكم الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر. رواه أبو داود وصححه الألباني.
طيبه:
قد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يكثر التطيب ويحب الطيب، ولا يرده إذا قدم إليه، وكان أحب الطيب إليه المسك، وكان يعرف بريح الطيب إذا أقبل. رواه الدارمي وصححه الألباني.
عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: "ما شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-".
لباسه:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: " كان أحب الثياب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القميص" رواه أبو داود وصححه الألباني، وكان كم قميص رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الرسغ (مفصل الكف) وكان يلبس ما تيسر من لباس: من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة.
بيعه وشراؤه:
باع –صلى الله عليه وسلم- واشترى، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله برسالته أكثر من بيعه، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره، وأما شراؤه فكثير، ويحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم، وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام واتجاره به حتى نما مالها وكثر. (زاد المعاد).
حجامته :
عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: "احتجم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال: إن من أمثل ما تداويتم به الحجامة" رواه البخاري ومسلم، وعنه –رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين" رواه الترمذي وصححه الألباني.
غضبه:
عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: رخّص رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في أمر من الأمور، فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: "ما بال أقوام يرغبون عما رخّص لي فيه؟! فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية".
وصاياه عند موته:
عن جابر –رضي الله عنه- قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى" رواه مسلم.
وكان من أقواله –صلى الله عليه وسلم- التي قالها في أيامه الأخيرة حين أحس بدنو أجله قوله:
(لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا) رواه البخاري ومسلم.
(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب). رواه البخاري ومسلم.
(إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا يراها المؤمن الصالح أو ترى له) صحيح مسلم.
وكان عامة وصيته –صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت قوله: "الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم... حتى جعل يغرغر بها صدره ولا يفيض بها لسانه –صلى الله عليه وسلم-". رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
ختاماً :
لو رآك محمد –صلى الله عليه وسلم- لأحبك
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "وددت أني لقيت إخواني، قال الصحابة: أو ليس نحن إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني" رواه أحمد وصححه الألباني.
بين يديك أخي المسلم (10) وسائل لنصرة نبيك محمد –صلى الله عليه وسلم- فلعلك تقوم بمستطاعك منها:
(1) الاقتداء به –صلى الله عليه وسلم- في معاملته لأهل بيته، ومع أهله وجيرانه.
(2) تربية الأبناء على محبته –صلى الله عليه وسلم- .
(3) إجلال النبي –صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه ومحبته أكثر من محبة النفس والأهل.
(4) الحرص على الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- كلما ذكر، وبعد الأذان، ويوم الجمعة.
(5) قراءة سيرته والاهتداء بهديه –صلى الله عليه وسلم- وربطها بحياتنا وواقعنا.
(6) طباعة الكتب وتوزيع الأشرطة التي تعنى بحياته –صلى الله عليه وسلم- .
(7) بغض أي منتقد للنبي –صلى الله عليه وسلم- أو لشيء من سنته.
(8) مقاطعة كل بلد يسيء للإسلام والمسلمين.
(9) محبة العلماء وتقديرهم لمكانتهم وصلتهم بميراث النبوة.
(10) الفرح بظهور سنته -صلى الله عليه وسلم- بين الناس .
من حقوق النبي –صلى الله عليه وسلم- على أمته:
(1) الإيمان به –صلى الله عليه وسلم- كما أمر الله في كتابه "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون" [الأعراف: 158].
(2) طاعته –صلى الله عليه وسلم- وامتثال أمره، واتباعه والاقتداء بسنته.
(3) احترامه وتوقيره وتعظيمه، وتقديم محبته على محبة كل أحد.
(4) وجوب التحاكم إليه والرضا بحكمه، كما قال الله تعالى" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" [النساء:65].
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عمروعبده 27-02-2011, 09:10 AM صفحات من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم
صالح بن ساير المطيري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
ما أجمل الكلام عن رجل عظيم ، وعن قدوة مربي ، في زمن قل فيه القدوات الحقة . من حياته نستلهم حياة الطهر والكرامة في وقت الفضائيات التي جاءت على الأخلاق والحياء فنسفتها ونشرت الرذيلة وقلة الحياء والفساد فأخرجت للناس قدوات وهمية وربطتهم بحياة اللهو والمجون . الحديث عن القدوة في زمن التخاذل والجري وراء سراب التبعية المقيتة للأعداء . الحديث عن العظمة بشتى صورها في زمن الاغترار بالأعداء والانبهار بعظمتهم وقوتهم والخوف منهم . الحديث عن رجل أحيا أمة وأعلن دولة وأقام شرعة ، أذل الله به الكفر وأهله ، ونصر به الحق وجنده ، الحديث عن رجل نصر بالرعب مسيرة شهر وجعل رزقه تحت ظل رمحه وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، حديثنا عن رجل الكلمة الصادقة والبيان الصائب والفكرة الهادفة في زمن تسارع فيه خفافيش الظلام وخونة الكلمة وتكلم الرويبضة . إن هذا الرجل الذي نتحدث عنه هو : محمد صلى الله عليه وسلم . كانت حياته صلى الله عليه وسلم حياة أمة وقيام دعوة ومنهاج حياة . وهو عليه الصلاة والسلام أمة في الطاعة والعبادة وكرم الخلق وحسن المعاملة وشرف المقام ويكفي ثناء الله عز وجل عليه : { وإنك لعلى خلق عظيم } . ونحن ـ أهل السنة والجماعة ـ ننزل المصطفى صلى الله عليه وسلم المنزلة الحقة اللائقة به فهو عبد الله ورسوله وصفيه وخليله نهى عن إطرائه والغلو فيه فامتثلنا أمره فلا نبتدع الموالد ولا نقيم الاحتفالات ، بل نحبه كما أمر ونطيعه فيما أمر ونجتنب ما نهى عنه وزجر .
إن فاتنا في هذه الدنيا رؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم وتباعدت بيننا الأيام ... فندعو الله عز وجل أن نكون فيمن قال فيهم صلى الله عليه وسلم :
" وددت أنا قد رأينا إخواننا " قالوا : ألسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : " أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد
" فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : " أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دُهم بُهم ألا يعرف خيله ؟" قالوا بلى يا رسول الله قال : " فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " رواه مسلم.
ندعو الله سبحانه أن يجعلنا ممن يتلمس أثره صلى الله عليه وسلم ويقتفي سيرته وينهل من سنته ، وأن يجمعنا معه في جنات عدن ، وأن يجزيه الجزاء الأوفى جزاء ما قدم .
حاجتنا إلى دراسة حياته صلى الله عليه وسلم :
إن البشرية التائهة في ظلمات الجهل والشهوات ، وهي تتنكب الطريق وتبحث عن مخرج من أزمتها وما هي فيه بحاجة إلى نور النبوة . وإن أمة الإسلام وهي تعيش في ظلام دامس بحاجة ماسة إلى العودة والتمعن في سيرة هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام . وثمت أمور عدة تبين بوضوح وجلاء حاجتنا إلى معرفة سيرته وأخذ المنهج منها في السير إلى الله سبحانه ومن هذه الأمور ما يلي :
1. إن الله أمرنا بالاقتداء به فقال سبحانه : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } وذلك يقتضي معرفة تلك السيرة العطرة لتحقيق الاقتداء الصحيح به .
2. إن حياته صلى الله عليه وسلم حياة المعصوم عن الخطأ والضلال فهو القدوة المطلقة وهو الصورة التطبيقية العملية لهذا الدين وجميع الطرق الموصلة إلى الله تعالى ثم إلى الجنة موصودة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم ، ويمتنع أن يعرف دين الله ويصح الإسلام بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه ومنهجه وسنته .
3. إن حياته مدرسة كاملة تخرج الأجيال تلو الأجيال ، فلقد سالم وحارب ، وأقام وسافر ، وباع واشترى ، وأخذ وأعطى وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده ولا غاب عن الناس يوماً واحداً . ولقد لاقى أصناف الأذى ، وقاسى أشد أنواع الظلم ، وكانت العاقبة والنصر والتمكين له . بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر ، وانحراف في الفطر ، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله . فاستطاع بعون الله له أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة ، فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة ، فأصبحوا أئمة الهدى ومنارات الدجى وقادة البشرية . هل تطلبون من المختار معجزة **** يكفيه شعب من الأجداث أحياه .
من وحد العرب حتى كان واترهم**** إذا رأى ولد الموتور أخــــــــاه.
وما أصيب المسلمون اليوم إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به والأخذ بهديه واتباع سنته .
وكيف يُسامى خير من وطئ الثرى **** وفي كل باع عن عُلاه قُصور .
وكل شريف عنده متــواضـــــــــــع **** وكل عظيم القريتين حقيـــــــر.
4 ـ إن سيرته صلى الله عليه وسلم رسمت المنهج الصحيح الآمن في دعوة الناس وهداية البشر ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة . وقد فشلت جميع المناهج والطرق والاطروحات التي تنكبت هديه صلى الله عليه وسلم سواء في محيط الفرد أو المجتمعات ، إن الأمة وهي تعيش في ظلام دامس وتناقضات غريبة وتعيش هجمة صليبية حاقدة عليها في دينها وأخلاقها ومسلماتها بحاجة ماسة إلى مجدد يترسم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وينهج نهجه ، إن الأمة وهي تعيش عيشة الذل والهوان في زمن تسلط الأعداء واستحلال كثير من بلاد الإسلام تتلفت يمنة ويسرة لتبحث عن قدوة كاملة بين هذا الركام المتلاطم ، وفي هذه الفتن التي تعصف بها عصفاً فلن تجد هدياً يخرجها مما هي فيه ويحقق لها السعادة إلا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تبرز معالم الاقتداء به عليه الصلاة والسلام . إن البشرية الضائعة في متاهات الضلال لم تدرك حق محمد صلى الله عليه وسلم ولم تعلم مدى الفلاح في السير على منهاجه .
جوانب من معالم الاهتداء في حياته صلى الله عليه وسلم :
1ـ العبادة في حياته :
للنبي صلى الله عليه وسلم شأن عظيم مع العبادة ومواصلة القلب بالله عز وجل . فهو لا يدع وقتاً يمر دون ذكر الله عز وجل وحمده وشكره . و قد كانت حياته كلها عبادة لله سبحانه ، خاطبه ربه بقوله تعالى : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * } [ المزمل : 1 ـ 4 ] . فاستجاب لربه فقام حتى تفطرت قدماه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم يصلي حتى تنتفخ قدماه ، فيقال له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " .
وعن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله بالليل فقالت : (( كان ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام فإذا سمع النداء الأول (قالت ) وثب ،( ولا والله ما قالت قام ) فأفاض عليه من الماء ( ولا والله ما قالت اغتسل . وأنا أعلم ما تريد ) و إن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين )) البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم 1/510 . وكان يطيل صلاته بالليل ويناجي ربه ويدعوه ويستعين بهذا الورد الليلي في القيام بأعباء الدعوة وأمور الأمة .
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح البقرة فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى فقلت : يصلي بها في ركعة ، فمضى ، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد ، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ، ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى قريباً من قيامه )) رواه مسلم 1/536.
والإمام القدوة صلى الله عليه وسلم كان وقته عامراً بالطاعة والعبادة . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه )) رواه مسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم " )) أبو داود . وكذا عن ابن عمر في الترمذي .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " البخاري . وتقول أم سلمة رضي الله عنها عن أكثر دعاء الرسول إذا كان عندها : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " الترمذي .
ولنا بهذا الإمام أسوة حسنة : فعبادة الله من صلاة وصيام وصدقة وحج وعمرة وذكر وقراءة ... إلى آخرة يجب أن نقوم بها كما أمر الله ويجب أن نشعر أننا بحاجة ماسة إلى عبادة الله . إن الدرس الذي نستفيده من عبادة رسول الله هو :
أن العبادة هي الزاد الحقيقي الذي يحتاج إليه العبد في سيره إلى الله تعالى . والعبادة هي الطريق إلى ولاية الله للعبد الذي بموجبها يكون في حفظ الله ورعايته ويكون في أمان من أعدائه ففي الحديث : " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدى بأحب مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " وفي الحديث : " احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك ......... "
وإذا كانت العبادة بهذه المكانة في الدين ففي هذه الأزمان التي تضطرب بالفتن والمغريات والشهوات أشد حاجة إليها لتثبيت الإيمان وترسيخ الأقدام على الطريق المستقيم . روى معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العبادة في الهرج كهجرة إلي " وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله " العمل في الهرج والفتنة كالهجرة إلي "
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : (( وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه ))
2 ـ طبيعة بيت النبوة :
كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم يمثل البساطة في جمالها وعلوها والزهد في قمته والاكتفاء بالقليل مع إمكان أن يحوز الدنيا بحذافيرها صلى الله عليه وسلم لو أراد ذلك . فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف عيش النبي صلى الله عليه وسلم قائلة : ( ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ) البخاري .
وكانت تقول لابن أختها عروة بن الزبير : كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقال عروة : ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله من أبياتهم فيسقيناه .
هذا إمام الأمة وقائدها ، هذا أفضل الخلق الشفيع المشفع فيهم يعيش هذه الحياة ، لم يفكر في الدنيا ولم تكن همه أبداً ، بقدر ما هي وسيلة للعطاء للدار الآخرة . فرسول الله ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع وربما أخرجه الجوع من بيته روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة " قالا الجوع يارسول الله قال : " وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوموا " فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار .... فرح بهم وقال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني ثم قدم لهم عذقاً من بسر ورطب فأكلوا ثم أخذ مديته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب " فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا ورووا فقال رسول الله لصاحبيه : " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " .
فهنا لم ينس صلى الله عليه وسلم أن يستغل الحدث فيذكر أصحابه ويربطهم بالآخرة !!! فأين نحن من هذا الأمر ونحن نتمتع برزق الله وأصناف الأطعمة والمأكولات ؟!! فهلا تذكرنا المساءلة عنها يوم القيامة لنقوم بشكرها ونحمد المولى على إنعامه ثم نستعين بها على طاعة الله وعبادته ؟! .
وصف لنا عمر رضي الله عنه فراش رسول الله وأثاثه فقال : ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدَمٍ حشوها ليف فسلمت ... ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهَبَة ثلاثة فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله ، وكان مئكئاً فقال : " أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فقلت يا رسول الله استغفر لي ) ا لبخاري.
هذا كله مع جوده وكرمه وسخائه فقد كان أكرم الناس وكان يجود بما يملك حتى كان أجود بالخير من الريح المرسلة ، ولو كان عنده خزائن الأرض لجاد بها في ليلة . يقول أبو ذر رضي الله عنه ( كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء استقبَلَنا أحد فقال : " يا أبا ذر ما أحب أن أحداً لي ذهباً يأتي علي ليلة أو ثلاث عندي منه دينار إلا أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا " وأرانا بيده ) البخاري .
يخطئ كثير من الناس عندما يعتقد أن السعادة هي جمع الأموال ، وأن السعادة هي المراكب الوثيرة أو الأثاث الفاخر في البيوت أو الأرصدة المتكدسة في المصارف ، . ليست السعادة تلك التحف الجميلة التي تمتلئ بها ردهات المنزل .
إن السعادة المنزلية الحقة : هي أن يكون البيت إسلامياً ، يقوم فيه أهله وينامون على ذكر الله ، على قراءة القرآن ، على الخير والصلاح . يتعاون فيه الزوجان على القيام بالمسوؤلية الملقاة على عاتقيهما في تربية النشء على الخير والصلاح . هذا البيت الذي لا يعرف الأغنية الماجنة ولا الفلم الرخيص ولا المجلة الهابطة . هذا البيت الذي يتكاتف جميع أفراده على الخير والصلاح ، فيه يتلى كتاب الله وفيه يحتذى الهدي النبوي ، هذا البيت الذي تعيش فيه المرأة الصالحة التي عرفت رسالتها وأدت أمانتها في تربية النشء على حفظ كتاب الله وقراءة سيرة المصطفى ، هذا البيت الذي تتربى فيه تلك الفتاة الصالحة التي أدركت سر وجودها وعرفت خطط أعدائها فردت عليهم بالواقع العملي بالتزام الحجاب الشرعي ، هذا البيت الذي ينعم بمحبة الله ورسوله ويعيش على معنى المراقبة الحقة لله سبحانه وتعالى هذا البيت الذي يسود فيه التفاهم والحب والوئام . هذه الأمور الأساسية في السعادة المنزلية وما تحصل بعد ذلك من نعيم الدنيا المسخر في الخير فلا بأس .
3ـ الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته :
هذا القائد إمام الأمة ، الذي يحمل هم أمة الإسلام قاطبة ، وقته كله عمل ودعوة : يقود الجيوش ، يعلم الأمة ، يجاهد المنافقين ، وينافح الكافرين ، ويعلم الجاهل ، ويأمر بالمعروف وينكر المنكر ، فهل أشغلته هذه الأعمال الجسام عن أهله وبيته ؟ كلا والله فقد كان نعم الزوج ونعم الأب ونعم المخدوم أعطى كل ذي حق حقه كان يقرر حقيقة : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " .
بيت الإنسان هو محكه الحقيقي الذي يبين حسن خلقه ، وكمال أدبه ، وطيب معشره ، فهو يتصرف في بيته على سجيته دون تكلف ولا مجاملات .
وإذا تأملنا في حال رسول هذه الأمة في بيته وجدناه نموذجاً فذاً للتواضع وعدم تكليف الغير . قيل لعائشة رضي الله عنها ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ؟ قالت : ( كان بشراً من البشر : يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه ) أخرجه أحمد والترمذي . وعنها قالت : (( كان يكون في مهن أهله فإذا سمع الأذان خرج )) مسلم .
كان صلى الله عليه وسلم يسعى في إدخال السرور على زوجاته فمن حسن عشرته كان ينادي أم المؤمنين بترخيم اسمها فيقول ( يا عائش ، هذا جبريل يقرئك السلام )) متفق عليه . بل كان يعرف لخد يجة رضي الله عنها فضلها ووقوفها منه وكان يذكرها دائماً بالخير حتى أن عائشة تقول ما غرت من أزواجه غيرتي من خديجة وقد توفيت قبلي لكثرة ما يذكرها وكان يقول : " صدقتني حين كذبني الناس وواستني بنفسها ومالها ولي منها الولد " . وكان يذبح الشاة ويتعاهد صويحباتها وكان يسابق عائشة ، وكان يراعي صغر سنها فيسرب إليها صويحباتها ليلعبن معها ، وكان يراها تلعب بلعب البنات فيقرها على ذلك . لما رجع من خيبر تزوج صفية بنت حيي فكان يدير كساء حول البعير الذي تركبه يسترها به ، ثم يجلس عند البعير فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب . كان هذا المشهد مؤثراً يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم لقد كان وهو القائد المنتصر والنبي المرسل يعلم أمته أنه لا ينقص من قدره ومكانته أن يوطئ أكنافه لأهله وأن يتواضع لزوجته وأن يعينها ويساعدها . وما كان يفضل أحداً من أزواجه على الأخرى . إن هذه الشخصية العظيمة التي وسع وقتها أمور الأمة بكاملها ولم تشغلها عن أن تعيش الحياة السعيدة الحقيقة مع أسرتها . فإلى أولئك الرجال الذين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية وإن التواضع معها ضعف ومهانة إلى أولئك نسوق هذه السيرة العطرة والحياة الزكية .
كان صلى الله عليه وسلم يقول : " الدنيا كلها متاع وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة " صحيح الجامع الصغير .
بل هذا نبي الأمة عليه الصلاة والسلام وأكملها خلقاً وأعظمها منزلة يضرب صوراً رائعة في حسن العشرة ومعرفة الرغبات النفسية والعاطفية لزوجته وينزلها المنزلة التي تحبها كل أنثى لكي تكون محظية عند زوجها . قالت عائشة رضي الله عنها : (( كنت أشرب وأنا حائض ، فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ ، وأتعرق العَرق << أي آخذ ما على العظم من اللحم >> فيتناوله ويضع فاه في موضع فيَّ )) رواه مسلم
إن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم درس للدعاة إلى الله الذين تختلط عندهم الأوراق فيرون عدم إمكان الجمع بين الدعوة وبين حقوق البيت وأهله ويدّعون ضيق الأوقات . إن الوقت الذي وسع رسول الله في دعوته هو نفسه الوقت ، لكن الخلل لدينا نحن في بعثرة أوقاتنا وبعدنا عن العبادة الحقة لله التي يبارك الله بسببها في الأوقات والطاقات .
إن هذا الرجل العظيم : لم ينشغل عن أن يصرف وقتاً من حياته المباركة لبناته ـ لأن أبناءه ماتوا صغاراً ـ فقد كان نعم الأب يبش لبناته ويفرح بهن ويدخل السرور عليهن ، فقد حظين منه بالحب الزائد والشفقة العظيمة والرحمة بشتى صورها كيف لا وهو الرحمة المهداة للبشرية .
(( كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها مجلسه ، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها )) أبو داود والترمذي والنسائي .
ومن صور الترحيب والبشاشة لابنته ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : (( كن أزواج رسول الله عنده فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ، ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلما رآها رحب بها وقال: " مرحباً بابنتي " ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله )) رواه مسلم .
ومن عطفه ومحبته لبناته زيارتهن وتفقد أحوالهن وحل مشاكلهن والذهاب إليهن في بيوتهن لمعرفة حوائجهن . أتت يوماً فاطمة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادماً فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها ثم انصرفت فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة ، قال علي رضي الله عنه فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال : " مكانكما " فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري فقال : " ألا أدلكما على ما هو خير من خادم ؟ إذا أويتما إلى فراشكما ، أو أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين ، وسبحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، فهذا خير لكما من خادم " )) البخاري .
إنك لتدهش من حياة المصطفى التي وسعت كل هذه الأمور فهذا قائد الأمة أتى من مهمة من مهام الأمة بلا شك فأخبرته عائشة بقدوم فلذة كبده فلم يصبر ولم يسوف بل ذهب مباشرة إلى ابنته ولم يقر له قرار حتى عرف شأنها وأخبرها بما هو أصلح لها .
درس عظيم يستفيده الآباء وهم يتعاملون مع أبنائهم : الرحمة والشفقة والعطف والحنان هو واجب الأبوة والأمومة والقائد هو الأسوة الحسنة في هذا المجال .
والرحمة والشفقة والعطف والحنان : لا يعني الدلال الزائد . فهذه فاطمة رضي الله عنها فلذة كبد المصطفى ويحبها حباً عظيماً ويدللها لكنها ، كانت امرأة عظيمة تخدم زوجها وتقوم بأعمال منزلها حتى آلمها كثرة الشغل في يديها ، فلما طلبت من والدها خادماً ، أرشدها إلى ما هو أصلح ، لم يكن بخيلاً ــ بأبي هو وأمي ــ ولم يستكثر على ابنته خادماً لكنه يريد لها الخير وما هو أصلح . فيرشدها إلى هذا الدعاء الذي سعدت به ونفعها الله به . وكان أيضاً فائدة للأمة من بعدها هذا النبي الرحيم وهذه المشاعر الفياضة . كانت أسوة حسنة في الصبر على أقدار الله وعدم الجزع . يموت أولاده جميعاً في حياته عدا فاطمة رضي الله عنها فيصبر صبراً جميلاً يقول عند موت ابنه إبراهيم : " إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
4ـ حياته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه :
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش في برج عاجي بعيداً عن أصحابه ومجتمعه بل كان يعيش معهم يخالطهم ويعيش معهم في آمالهم وآلامهم حتى أن من يقدم من خارج المدينة وهو لا يعرفه لا يميزه بين أصحابه . كان يعيش معهم كأنه أحدهم . فكان يبرز للناس وكان يبيع ويشتري لنفسه ومن ذلك قصة الأعرابي الذي اشترى منه صلى الله عليه وسلم فرساً وذهب إلى البيت لينقده فلوسه فطمع الأعرابي وأنكر البيع فشهد بذلك خزيمة بن ثابت رضي الله عنه والقصة مشهورة عند النسائي وغيره وكذلك . شراؤه جمل جابر رضي الله عنه .
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويلاعب أطفالهم فعن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له أبو عمير قال : أحسبه كان فطيماً قال : فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال : " أبا عمير ما فعل النغير ؟ " . وكان صحابته يرجعون إليه في كل شئ حتى في مخالفات أطفالهم فيتعامل معها صلى الله عليه وسلم بأسلوب تربوي عظيم يتناسب مع سن الصغير ومرحلة الطفولة . روى أبو داود عن أبي رافع بن عمرو الغفاري قال : كنت غلاماً أرمي نخل الأنصار فأُتي بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا غلام لِمَ ترمي النخل ؟ قال آكل ، قال : " فلا ترم النخل وكل مما يسقط في أسفلها " ثم مسح رأسه فقال : " اللهم أشبع بطنه " وفي رواية للترمذي قال : " أشبعك الله وأرواك " .
يصف الصحابة رضوان الله عليهم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جميع حياتهم حضرها وسفرها ، وتفقده لأحوالهم الخاصة والعامة فيقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ( إنا والله قد صحبْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر وكان يعود مرضانا ويتبع جنائزنا ويغزو معنا ويواسينا بالقليل والكثير ) رواه أحمد .وكان يعمل معهم في حفر الخندق ، وفي بناء المسجد وغيره .
لم ينشغل هذا القائد العظيم عن تفقد حال امرأة كانت تقم المسجد فيفتقدها فيسأل عنها فيقال أنها ماتت فيقول هلا آذنتموني فيقال ماتت بليل فيذهب إليها ويصلي عليها في قبرها . ما أعظم هذا القائد ! وما أحسن عشرته !
كان صلى الله عليه وسلم يؤاكل أصحابه فربما حضر معه الأعرابي حديث العهد بالإسلام أو الغلام أو الجارية ممن لا يعرف آداب الطعام والشراب فيأخذ بأيديهم ويعلمهم ويربيهم . روى الإمام أحمد عن حذيفة قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتي بطعام فجاء أعرابي كأنما يطرد فذهب يتناول فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، وجاءت جارية كأنها تطرد فأهوت فأخذ النبي بيدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الشيطان لما أعييتموه جاء بالأعرابي والجارية يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، بسم الله كلوا" ) .
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك " فما زالت تلك طِعمتي بعد .
وربما أردف أحد أصحابه فعلمه وأرشده وربما أردف بعض الشباب واستغل ذلك بتعليمه وتربيته .
إن أتباع الرسول من العلماء والدعاة لا بد أن يعوا هذا الدرس ويخالطوا الناس ويفتحوا أبوابهم وصدورهم للأمة ولشبابها . ويحلوا مشاكلهم ويعلِّموا جاهلهم ويربوا صغيرهم . إن بقاء جفوة بين العلماء والناس خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإن ازدياد بعد العلماء عن مخالطة الناس جدير بإيجاد حاجز عريض بين الأمة وعلمائها . العالم المؤثر هو ذلك الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ويحل مشاكلهم ويشعرهم بأنه معهم كما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
إن فتح العلماء أبوابهم للناس جدير بإذن الله في حل كثير من الاشكالات والأفكار الخاطئة ، إن من أعظم الفتن في عصر مثل هذا العصر أن يبتعد العلماء المؤثرون عن واقع أمتهم . ويصعب أن تجدهم الأمة إذا احتاجتهم . فأين هذا من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ ولمن يترك توجيه الأمة ــ إذا قصر العلماء في ذلك ؟! .
5ـ رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته :
قد رزق الله نبيه صلى الله عليه وسلم قلباً رقيقاً وحناناً دافقاً فهو صاحب القلب الحنون تكسوه الرحمة وتحركه العاطفة الإيمانية ، أما أهل القلوب القاسية فإنهم لا يعرفون الرحمة وليس للعاطفة في صدورهم مكان إنهم كالحجارة الصماء جفاف في العطاء وبخل بأرق المشاعر . قبََّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أبناء فاطمة وكان عنده رجل من الأعراب فقال تقبلون أبناءكم ؟! إن عندي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحداً فقال صلى الله عليه وسلم وما يدرني لعل الله قد نزع من قلبك الرحمة .
عن أنس رضي الله عنه عنه : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ابنه إبراهيم فقبَّله وشمه )) البخاري . وهذه الرحمة ليست لأبنائه فقط بل هي عامة لأبناء المسلمين . قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر فرأيته شمهم وذرفت عيناه فقلت يا رسول الله أبلغك عن جعفر شئ ؟ قال : " نعم قتل اليوم " فقمنا نبكي ، ورجع فقال : " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاء ما يشغلهم " الترمذي وابن ماجه.
ولما كانت عيناه صلى الله عليه وسلم تفيض لموتهم سأله سعد بن عبادة رضي الله عنه : يا رسول الله ما هذا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم : " هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " البخاري .
وعندما ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم لوفاة ابنه إبراهيم قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال: " يا ابن عوف ، إنها رحمة لمن اتبعها بأخرى " وقال : " إن العين تدمع، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " البخاري .
وقد بلغ من رأفته ورحمته أن يصعد الصبي على ظهره وهو ساجد يصلي بالناس فيطيل السجود مخافة أن يعجل الصبي عن عبد الله بن شداد عن أبيه رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في احدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي : فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك ؟ قال : " كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته " النسائي وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها .
وبلغت رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أنه يخفف الصلاة بسبب بكاء طفل مراعاة لحال أمه . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأدخل في الصلاة وإني أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم لوجد أمه ببكائه " ابن ماجه.
هذا الخلق العظيم مع الصغار يدعونا إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم و أن نسير على خطاه في وقت فقدنا فيه الإحساس بمحبة الصغار وإنزالهم منزلتهم فهم الرجال غداً وآباء المستقبل وفجر الأمة المنتظر ، تعاملنا مع الأطفال بشئ أقرب إلى التعالي والكبرياء حتى في المسجد ننهرهم ونؤخرهم ولا نعتبر أحاسيسهم ، إن الأطفال لهم أحاسيس ومشاعر ورغبات وأهواء لا بد من إشباعها لتنطبع قلوبهم بالمحبة والإجلال ، المصطفى صلى الله عليه وسلم ملك بأسلوبه الرائع قلوب الأطفال فأصبحت كلماته وتعليماته تنطبع في قلوبهم مباشرة ، إنه صلى الله عليه وسلم ملك مفاتيح قلوبهم بيده ولسانه . حتى أصبح الصبي يحبه ويجله ويقدره وهو صلى الله عليه وسلم ينزل الناشئة منزلة رفيعة . " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ... " " يا غلام سم الله "
كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يلعبون سلم عليهم ورب مازحهم ، وإذا مر بهم على بغلته أركبهم معه .
إن للأطفال مشقتهم وتعبهم وكثرة حركتهم إلا أن القدوة عليه السلام لا يغضب ولا ينهر الصغير ولا يعاتبه ، كان يأخذ بمجامع الرفق وزمام السكينة . عن عائشة رضي الله عنه قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم فأُتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله ) . إن الأطفال ليكونوا رجالاً بحاجة إلى يد حانية ترحم وتربي ولكي تكون التربية مؤثرة لا بد أن نشعر أبناءنا بالرجولة والاهتمام بهم وأن نتحمل أخطاءهم لأن هذا أقرب لتربيتهم وكسب قلوبهم . إن صغارنا يحتاجون منا أن ننزل من كبرياء شموخنا المزعوم وأن نبتعد عن الألفاظ البذيئة التي تهدم ولا تبني وإذا أدبنا يجب أن يكون ذلك التأديب مدروساً . الصغار لهم اهتماماتهم ولهم حياتهم فمن الخطأ أن نسعى إلى مصادرة ذلك أو نهمش ذلك الدور . الواجب أن ندرك أن هذا الشئ يعني الكثير للأطفال فلا بد إذً أن نلبي هذه الرغبة وأن نشبعها . فهل مازحنا صغارنا وهل سمعنا ضحكاتهم وجميل عباراتهم وبادلناهم شعوراً مماثلاً . يحسسهم بالحب والحنان والشفقة أم أشغلتنا أمور الحياة عنهم . فنبي هذه الأمة وقائدها كان يفعل ذلك . فكان يداعب الصغار ويمازحهم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدلع لسانه للحسن بن علي ، فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش له )) الصحيحة 70 وعن أنس رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة وهو يقول : " يا زُوينب ، يازوينب مراراً )) الصحيحة 2141 وعن محمود بن الربيع رضي الله عنه قال : (( عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي من دلو من بئر كانت في دارنا وأنا ابن خمس سنين )) مسلم .
نسوق هذه السيرة العطرة لعلنا نحيي بها قلوبنا ونقتفي أثرها ، فبيوتنا تُزهر بالصغار والأطفال الذين يحتاجون إلى حنان الأبوة وعاطفة الأمومة وإدخال السرور على قلوبهم الصغيرة . .. فينشأ الصغير سوي العاطفة سوي الخلق يقود أمة عند ما يصبح رجلاً ــ بإذن الله ــ صنعه الرجال والأمهات بعد توفيق الله تعالى .
ولقد عاش الخدم في بيت رسول الله عيشة السعداء فهاهو يقرر حقيقة هامة في هذا الجانب لينطلق الناس على ضوئها في التعامل مع الخدم ومن تحت أيديهم من العمالة يقول صلى الله عليه وسلم : " هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم " مسلم .
ثم نتأمل في خادم يروي عن مخدومه كلاماً عجيباً ويثني ثناء عطراً . عن أنس رضي الله عنه قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لي لشئ صنعته لِمَ صنعته ؟ ولا لشئ تركته " مسلم .
عشر سنوات كاملة ليست أياماً ولا شهوراً إنه عمر طويل فيه تقلبات النفس واضطرابها ومع هذا لم ينهره ولم يزجره بل كان يكافئه ويطيب خاطره ويلبي حاجته وحاجة أهله ويدعو لهم . قال أنس رضي الله عنه قالت أمي : يا رسول الله خادمك ادع الله له فقال : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته " البخاري
إنه ليس من الشجاعة ولا من القوة ولا من الشهامة أن يظلم الإنسان من تحت يده من خدم أو عمال أو يتسلط عليهم بيده أو لسانه أو يهينهم تحت رحمة الحاجة التي جلبتهم من بلادهم . في الحكمة : إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك . إن هناك صوراً من الظلم والإهانة يعج بها المجتمع في تعامله مع الخدم والعمال صوراً بعيدة عن العدل والإنصاف فالإمام القدوة عليه الصلاة والسلام نهجه واضح في ذلك وتعليمه بين في هذا الأمر . رسول الله مع شجاعته لم يُهن ولم يضرب إلا في حق ، ولم يتسلط على الضعفاء الذين تحت يده من زوجة وخادم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادماً ولا زوجة )) مسلم .بل كان ينادي بالرفق والأناة والحُلُم :" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " متفق عليه .
هذا الإمام القائد وسع وقته وصدره جميع الأمة ولم يكن يترفع عن أي فرد في الأمة ، يتواضع لتلك المرأة المسكينة ويمنحها من وقته الملئ بالأعمال . فعن أنس رضي الله عنه قال : (( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : ( إن لي إليك حاجة فقال : " اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك " أبو داود . وكان من تواضعه الذي بلغ الغاية أنه كان يقول : " لو دعيت إلى ذراع أو كُراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت " البخاري .
هذا هو نبي الله خير من أقلته الغبراء وأظلته الخضراء ، الذي بلغ السؤدد والمكانة العالية كان دائم الإخبات والإنابة إلى ربه شديد الانكسار بين يديه :
يروح بأرواح المحامد حُسنُها **** فيرقى بها في ساميات المفاخر .
وإن فُض في الأكوان مسكُ ختامها **** تعطر منها كلُّ نجد وغـــائر .
فأين المتكبرون المتغطرسون ؟!! من هذه السيرة العطرة . ولهؤلاء في كل عصر وحين . يبقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجزاً ورادعاً لكبرهم واستعلائهم . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " مسلم .
6ـ مجلسه صلى الله عليه وسلم :
أكرم المجالس مجلس العلم والذكر فما بالك إذا توسط المجلس إمام الأمة وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام . كان من صفاء مجلسه ونقاء سريرته . أن يرد المخطئ ويصوب الجاهل وينبه الغافل ولا يقبل في مجلسه إلا الخير . وكان صلى الله عليه وسلم مستمعاً منصتاً لمحدثه إلا أنه لا يقبل غيبة ولا يرضى بنميمة ولا بهتان فهو يرد عن أعراض الآخرين ، ولا يقبل في مجلسه ما يخالف الشرع . عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال : " أين مالك بن الدخشم ؟" فقال رجل ذلك منافق لا يحب الله ولا رسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفعل ذلك . ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟! وإن الله قد حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ! " متفق عليه .
وكن صلى الله عليه وسلم يحذر من شهادة الزور واقتطاع الحقوق . عن أبي بكر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" قلنا بلى يا رسول الله : قال : " الإشراك بالله وعقوق الوالدين " وكان متكئاً فجلس فقال : " ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " البخاري .
ومع محبته صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها إلا أنه أنكر عليها الغيبة وأوضح لها عِظَم خطرها . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبُك من صفية كذا وكذا ــ تعني قصيرة ــ فقال : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لغيرته " أبو داود . وقد بشر صلى الله عليه وسلم من يذب عن أعراض إخوانه فقال صلى الله عليه وسلم : " من ذب عن عرض أخيه الغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار " أحمد
أين نحن في مجالسنا من هذا المجلس المبارك الذي يعلم فيه الجاهل ويذكّر فيه الغافل ويسكت فيه المغتاب وتحفظ فيه الحقوق . إن كثيراً من المجالس التي يجلسها الإنسان تكون عليه ترة وحسرة يوم القيامة ، وتكون عليه وبالاً . فهل وقفنا مع أنفسنا ونحن نقضي الساعات الطوال والدوريات المستمرة فحاسبناها وأوقفناها عند حدود الله ؟! . هل تذكرنا ونحن نتلذذ في مجالسنا بالكلام في الآخرين المساءلة من الله عن هذه المجالس ؟ .
أن أولئك الأقوام الذين ليس لهم هم في مجالسهم إلا الغيبة والنميمة والوقوع في الأعراض . إن أولئك آثمون متعدون لحدود الله مخالفون لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن التقاء الأقارب والأحباب والجيران والأصدقاء أمر طيب وصلة وبر واجتماع حسن لكن لا بد أن يكون لقاء مثمراً . من الطيب والمحمود أن يجتمع هؤلاء على ذكر حسن وعلى فائدة منتقاة وعلى خير وبر . إن لقاء الجيران من الطيب فيه أن يتدارسوا أمور حيهم وأبناء الحي وكيف يفاد أهل الحي ؟ وعلاج المشكلات الموجودة والسعي في تكميل الخدمات الناقصة لدى المسؤولين . بهذا يكون لقاء مثمراً وكذلك دوريات الأقارب أو الأصدقاء وكذا تجمعات نسوة الحي أو الجارات يجب أن يبتعد فيه عن ما يسخط الله ، وأن يسعى فيه لتحصيل الفوائد .
بهذه الأمور وأمثالها نستطيع أن نستثمر تجمعاتنا ودورياتنا ونضيق الخناق على مداخل الشيطان وأعوانه الذين يريدون الشر والإفساد
وفي الختام أسأل الله أن نكون متأسين بهدي نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام .
عمروعبده 27-02-2011, 09:21 AM المُهْرَةُ
[ خُلاصةٌ مُستخلَصَة من المقامة الكُبرى " إدامة النُّضْرَة " ]
http://www.saaid.net/book/images/msword.gif (http://www.saaid.net/Doat/thomaaly/48.doc)
حبَّرَها : عبدُ الله بنُ سُليمان العُتَيِّق
بسم الله الرحمن الرحيم
حدَّثنا أبو الطيِّب الوائليُّ ، قال : : سَرَت بي أيام الزمان ، إلى أشرف الأوطان ، فلقيتُ قوماً نجباء ، أعزةً شرفاء ، نالوا من الخيرِ أجمعه ، و أعرضوا عن الشر أكتعه ، أكتنفوا خِصال الأُخُوَّة ، و هاموا بحب ذي النبوَّة ، بَدَت على وجوههم سيماءُ الصلاح ، و بانت أعلام الفلاح ، و ارتشفوا من معينِ الهدى ، و جانبوا مسلَك الردى ، فإليهم اطمأنت نفسي ، و بهم نسيتُ غُثُوْثَة أمسي .
فبينا أنا كذلك سارحٌ ، هتفَ بي صوتٌ ناصحٌ ، أسعد الله يومك ، و حلَلْتَ عند قومك ، مَن القادمُ علينا ، و من القاصد إلينا ؟ ، فأنت لست من أهل الديار ، و لا بِذي درهم و لا دينار ، فاكشف لنا عن حالك ، أرشدك ربي أسنى المسالك .
فقلتُ : أنا جوَّابُ بلاد ، و مختلفٌ على العباد ، أقتطفُ من أطايبهم أجودها ، و أنال من نعمهم أرغدها ، فأنزلتني المَسِيْرةُ في هذه الأرض ، المُكَرَّمةِ بالطول و العرض ، و رأيتُ منكم ما سَرَّني ، و من خصالكم ما سحرني ، فرغبتُ في استكشاف الحال ، و معرفة جميل الخصال ، فهل أجد لديكم البُغية ، فأتخذ منها خير حِلية ؟ .
فأفاد بالقبول ، و ضمن المأمول ، و نادى في القوم ، و درأ اللوم ، أن أكرموا المثوى ، و أجملوا القِرى ، فاهتبلَ الفرصةَ الرجال ، و أظهروا جميل الفعال ، و سمرتُ في الكلام ، على ضوءِ قمر الظلام ، و أخذتنا أحاديثُ السمر ، حتى داهمنا السَّحر .
فكان سَمَرُنا في الأكارم ، و رأسهم أبي القاسم ، عليه صلى الله ، و حفَّه سلامُ الإله ، و ما كان مِن بَدْءِ أمره ، و بُدُوِّ سِرِّه ، و شُنِّفَتْ الآذان بِحُسن المسموع ، و طُيِّبَتْ الألسنُ بالمديحِ المرفوع ، و أبِيْنَتْ فضائلُه ، و أُظهرتْ شمائلُه ، و طَرِبَ القلبُ للمحبوب ، و انجفلَ عنا المرهوب .
و حدا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، منشداً بِطِيْبِ الأنفاس ، ما قالَه ابنُ سيِّد الناس ، مِن قولٍ وَضَح ، في طليعةِ " المِنَح " (1) :
يَسمو بهِ المُدَّاحُ إذْ هوَ مَدْحُها *** و كذاك منشيها و مُنشدها سَما
و بهِ تحقَّقَ مَنْ نماه أجرما *** وافى له و العفوُ لمَّا أجرما
و بِمدحِهِ مَن كان مُغرىً مُغْرَما *** يَغْنى بِدارَيْهِ و يأْمَنُ مَغْرَما
فَرْضُ الصلاة عليهِ منَّا واجبٌ *** و الله قد صلى عليه و سلَّما
و تعلَّقَ القلبُ بالسَّماع ، على تعدُّدِ الأجناسِ منه و الأنواع ، كما قيلَ : " سَماعُ الأصواتِ المُطرِبَة ، بالإنشادات بالصفاتِ النبويَّةِ المُعْرَِبة " (2) ، مُقَوٍّ لمحبةِ المحبوب ، و مُنَمٍّ لتعلُّقِ القلوب ، و ذا مشروطٌ بموافقةِ الحال ، ليَحظى الفؤادُ بحسن الجمال .
أتاني هواها قبلَ أن أعرِفَ الهوى *** فصادَفَ قلباً خالياً فَتَمَكَّنا
ثُم تحدَّثَ أمثلُنا طريقة ، متفوِّها بقولِ الحقيقة ، أخذتنا تنقلاتُ الرجال ، في السفر و الترحال ، إلى مواطنِ الأمجاد ، و مفاخر النُّخْبَةِ الأجداد ، نقتبسُ علومَ الزمان الغابر ، ما يقيمَ الأوان الحاضر ، و قد خصَّني اللهُ بِصٌحبَةٍ ، أُراهم خيرَ نُخْبَةٍ ، و مما نمى إلى الأسماع ، و حالفَ ذيَّاك الاجتماع ، حديثُ رجلٍ أخباري ، و خبَرُ آثاري ، فنقلَ لمجلسنا ما زيَّنه ، و درأَ به ما شيَّنه ، ثم ذكرَ خبراً مؤسفاً ، و للقلبِ مُتلفاً ، أبان فيه عن خبيئة فِسْق ، و تطاولِ ذي مَحْق ، أشار لسطوة أهل الخميس ، و صنيعة الخسيس ، حيثُ تجرأوا بقبحٍ ، و استطالوا بقدحٍ ، على مقام النبُوَّة ، مُستعظمينَ بِفُتُوَّة ، فأطلقوا عنان اليراع ، بلا نهيٍ و امتناع ، لتَخُطَّ مرسوماً ، و تكتب مرقوماً ، يشير بالسُّبَّةِ و النقيصة ، إشارتها لذواتهم الرخيصة ، فأثار فينا الغضبَ ، و استجلبَ لنا الكرب .
فقلنا له بِشَوق ، و نطقنا بأحرف تَوقٍ ، فما كان موقفُ أهل الملة ، المنوَّرين كالأهلة ، أكان جوابُهم الصمت ، فيحقَ بهم المقت ، أم أقاموا دنياهم غضباً ، فأوردوا الضالين عَطَباً ؟ .
فأخذتني الغيرةُ الوائلية ، و اعترتني الغضبةُ الإسلامية ، فغداَ قلمي كاتباً ، و قلبي مراقباً ، قاصداً تحبيرَ مقامةٍ ، أحسبها تفي بالكرامة ، ناصراً بها زين البشر ، منافحاً عنه بلسانٍ كالحَجَرِ ، و إن كنتُ لستُ بذاك ، و إنما أرجو ما هناك ، فهيَ أقلُ ما وَجَبُ ، و أجزأُ ما الحالُ رَغِب ، فاعتليتُ منبراً مُتخيَّلاً ، و عن جهالتي لستُ متزيِّلاً ، فقلتُ لناقل الخبر ، كُفِيْتَ كلَّ الشر ، اسمع مني ما أقول ، فبمولاي الإله أصول :
إن أجودَ ما ينبغي ، و ما إياه الكريمُ ينتغي ، أن يُسعى للذبِّ عن ذي المفاخر ، و النفحِ عن جنابه الطاهر ، فليسَ هيِّنا يتطاوله الحقير ، و ليس مبتوراً يسبُّه الصغير ، فإن أنصاره على مرِّ الأزمان ، و أعوانه في سائر الأوطان ، يأخذون حقَّه كلّه ، و ينصرون دينَه فرعَه و أصلَه .
و حَدَا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، مُنْشِداً ما قال ابنُ عُجرة (3) ، متفاخراً بالنُّصرة :
نَصَرْنا رسولَ اللهِ مِن غَضَبٍ لَهُ *** بأَلْفِ كَمِيٍ لا تُعَدُّ حواسِرُه
دعانا فسمَّانا الشِّعارَ مُقَدَّماً *** و كُنا له عونا على مَن يُناكِرُه
و كُنا له دون الجنودِ بِطانةً *** يُشاورنا في أمرِهِ و نشاورُه
و اسمعوا مني ذِيْ المقالة ، مُعظِّماً فيها صاحبَ الجلالةِ ، و أنشرُ في طيِّها بياناً ، يُدركه العَميُّ عياناً ، و يعلمُ بها مَن بعِلْمِه قد أشَرَق ، و مَن بجهله أرغد و أبرقَ ، و لستُ فيها مجانباً ، و لا للحقِّ مغالباً ، و إنما أذكرُ ما هو جوهري ، و في ديننا ضروريٌ ، فيُنصَرَ في بواطن الأتباع ، بيقظةِ الاقتداء و الاتباع ، محبِّراً في ذلك ركائزَ النُّصْرَة ، و محرِّراً معاقدَ النَّفرة ، مُحتواةٌ في خَمسٍ ، تعتزُّ بها كلُّ نفسٍ :
فأولها و أعلاها ، و أصلها و أسناها : تحقيقُ الإيمان الصادق ، السالمِ من المخارق ، حيثُ هو الدعامة الثانية (4) ، و الركيزة السامية ، و به أمرَ ربنا العَلي ، فقال : { فآمنوا باللهِ و رسولِه النبيِّ الأُمِّي } ، و ذكرَ صاحبُ " الشفا " (5) ، حقيقةَ الإيمان بلا خفا ، فقال و هو المحقِّقُ ، و في قوله مُصَدَّق ، " و الإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديقُ نبوته و رسالة الله له ، و تصديقُه في جميع ما جاءَ به و ما قالَه ، و مطابقةُ تصديق القلبِ بذلك شهادةَ اللسان بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا اجتمع التصديقُ به بالقلبِ و النطقُ به بالشهادةِ بذلك باللسان تمَّ الإيمان به و التصديق له " .
و المرءُ بهذا العَقْد ، يكون ناظراً إلى الحبيب الأمجد ، على أنَّه إنسانُ الكمالِ المُقتدى به في أحواله ، و الذي تُقْتفى آثاره و خِصاله ، و يكون طُلْعةَ الفؤاد و السريرة ، و محلَّ النظرةِ من البصيرة ، فيَكتَسي القلبُ من أنوار الفضل الكامل ، و يقتبسُ القالَبُ من الحُسْنِ الماثل ، في ذلك الشخص الشريف ، و هذا من دقائقِ هذا الأصل المنيف .
و ثاني المقامات الرفيعة ، في الإيمان بصاحب الشريعة ، كونه برسالته التامة ، مبعوثاً إلى الناس عامة ، مندرجاً في ذلك الثقلان ، الإنس و الجان ، فبه جاءَ النصُّ قاطعاً منيعا ، { قُلْ : يا أيها الناسُ إنَّي رسولُ الله إليكم جميعاً } ، و تنصيصُ أزكى الخلقِ نفساً ، في قوله : " أُعطيتُ خمساً " ، و كذا في القول البَتِّ ، " فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بِسِتٍّ " .
فحَدَا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، بقولِ جُهَيش بن أويس النَّخَعي (6) ، منشداً بقريضٍ نفيس ألْمَعي :
ألا يا رسول الله إنك صادقٌ *** فَبُوْرِكْتَ مهدياً و بُوْرِكْتَ هاديا
شرعتَ لنا دين الحنيفةَ بعد ما *** عبدنا ، كأمثال الحمير ، طواغيا
فيا خيرَ مدعوٍ و يا خيرَ مُرْسَلٍ *** من الإنسِ و الجان ، لبيك داعيا
أتيتَ ببرهانٍ من الأمر واضحٍ *** فأصبحتَ فينا صادق الوعد زاكيا
و تمامُ الركيزة ، ذات المنزلة العزيزة ، صيانتها من الخوارق ، و حفظها من البوائق ، ليسلَمَ الإيمان من الفَتقِ ، و يتمَّ بها الرتق ، وعَوْدُها إلى الطعن المشين ، الوارد على شخصه المُبين ، أو المقصود به خبره ، المنقول عن الله بأثره ، فذاك موجبٌ قطع الإسلام ، و الحكم عليه بالإحكام ، في كونه كافراً خبيثاً ، حدُّه القتلُ أصلاً أثيثاً ، منقولاً بأصل الاتفاق ، بين أئمة الآفاق ، لم يُغرِب عنه فحلٌ ، و لم يَنفِه إلا ذو جهل .
و ثاني هاتيك الدعائم ، معرفةُ الخصائص العظائم ، فهو المُكرَّمُ بأشرفِ المناقبِ ، المخصوصُ بأسمى و أعلى المراتب ، و خُصَّ بها تعظيماً لحاله ، و تبيانا لعظيم خصاله ، و كونه ذا الكمال من البَشَر ، و صاحب الجلالِ عند أهل النظر .
و بناؤها على قاعدةِ التأصيل ، المستلزمةِ لمقامه بالتأهيل ، فيما تبناه ابنُ دِحية ، أناله الله كلَّ بُغْيَة ، مسطراً ذاك في " نهايته " (7) ، القاضيةِ بسابقة فضيلته ، فقال مقرراً ، و للحقِّ محرراً ، " لا يجوزُ على خصائصِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم و فضائلِه النسخُ و الاستثناء ، و لا التخصيص و لا النقص ، فإنها لم تزل فضائله صلى الله عليه وسلم تتزايد حتى مات " ، و هذا غايةُ القول بالإثبات .
فيا فلاحَ من لامستْ شغافَ قلبه ، و هنأ بالشوقِ و حبه ، معرفةُ تلك المنائح ، ذات المسك الفائح ، و اهناءة فؤاد المحب ، إذ بالحبيب يَطرب .
و حدا بنا الحادي ، و شدا فينا الشادي ، بعيون الشِّعْر الفريد ، و مليحِ لفظِ القَصِيْد ، مأخوذاً عَن الحِلِّي ، البليغِ المِلِّي :
شرحَ الإله الصَّدْرَ منك لأربعٍ *** فرأى الملائكَ حولك الإخوانُ
و حُبِيْتَ في خَمسٍ بِظلِّ غمامةٍ *** لك في الهواجِرِ جِرْمها صيوانُ
و مرَرْت في سَبعٍ بِدَيْرٍ فانْحَنى *** منه الجدارُ و أسلم المِطرانُ
و كذا في خمسٍ و عشرين انْثَنى *** نَسْطورُ منكَ و قلبُه ملآنُ
حتى كملتَ الأربعينَ و أشْرَقَت *** شمسُ النبوةِ و انْجلى التبيانُ
فَرَمَتْ رُجومَ النيِّراتِ رجيْمَها *** و تساقطتْ من خوفِك الأوثانُ
و الأرضُ فاحتْ بالسلامِ عليكَ و الـ *** ـأشجارُ و الأحجارُ و الكُثْبانُ
و أَتَتْ مفاتيحُ الكُنُوْزِ بأسْرِها *** فنهاكَ عنها الزُّهْدُ و العِرفانُ
و نظرْتَ خلْفَك كالإمامِ بخاتَمٍ *** أضحى لديهِ الشكُّ و هو عِيانُ
و غَدَتْ لك الأرْضُ البسيطةُ مسجداً *** فالكلُّ منها للصلاة مكانُ
و نُصِرْتَ بالرُّعْبِ الشديد على العِدى *** و لك الملائكُ في الوغى أعوانُ
و سعى إليك فتى سلامَ مُسلِّماً *** طَوعاً و جاءَ مُسلِّماً سلمانُ
و غَدَتْ تُكلِّمُك الأباعرُ و الظِّبا *** و الضَّبُّ و الثُّعبانُ و السرحانُ
و الجِذْعُ حنَّ إلى عُلاك مُسلِّماً *** و بِبَطْنِ كفِّكَ سبَّح الصَّوّانُ
و هوى إليكَ العِذْقُ ثُمَّ رَدَدْتَهُ *** في نخلةٍ تُزهى به و تُزانُ
و الدوحتانِ وَقْد دعوتَ فأقبلا *** حتى تلاقتْ منهما الأغصانُ
و شَكى إليك الجيشُ مِنْ ظمأٍ بِهِ *** فتفجَّرَتْ بالماءِ منكَ بَنانُ
و رَدَدْتَ عين قتادةَ مِن بعد ما *** ذهبتْ فلم ينظرْ بها إنسانُ
و حكى ذراعُ الشاةِ مُوْدَعَ سُمِّهِ *** حتى كأنَّ العُضْوَ مِنه لسان
و عَرَجْتَ في ظهرِ البُراقِ مجاوز الـ *** ـسبعَ الطباقَ كما يشا الرحمنُ
و البدرُ شُقَّ و أشْرَقَتْ شمسُ الضُّحى *** بَعد الغُرُوْبِ و ما بِها نُقصانُ
و فضيلةٌ شهِد الأنام بحقِّها *** لا يستطيعُ جُحُوْدَها إنسانُ
في الأرضِ ظلَّ اللهِ كُنْتَ و لَمْ يَلُحْ *** في الشمسِ ظِلُّكَ إن حواكَ مكانُ
نُسِخَتْ بِمَظْهَرِكَ المظاهِرُ بعد ما *** نُسِخَتْ بِمِلَّةِ دينِك الأديانُ
و على نُبُوَّتِك المُعَظَّمِ قَدْرُها *** قام الدليلُ و أُوْضِحَ البُرْهانُ
و لو أنني وَفَّيْتَ وَصْفَك حقَّهُ *** فَنِيَ الكلامُ و ضاقتْ الأوزانُ
فعليكَ مِن ربِّ السلامِ سلامُهُ *** و الفضلُ و البركاتُ و الرِّضْوانُ
و الركيزة الثالثة ، التي للشر نافثة ، درايةُ ما له من سيرة ، مما تطيبُ بها السريرة ، حيثُ هي قانونُ أهل المحبة ، و نبراسُ ذوي القُرْبة ، الحاويةُ لجلائل الأسرار ، الباعثةُ حقائق الأنوار ، الجامعةُ لكمال الهدى ، الدافعةُ عن درْب الردى ، المُوَرِّثَةُ العلوم الدقائق ، الشاملةُ لدقيق الحقائق ، الواهبةُِ حُسْنَ التخلُق ، الموصلةُِ لجنان التحقُّق ، فبها يأنسُ المحبون ، و بنورها يستضيءُ السالكون ، جمعتْ كمالاً في جمال ، و حوتْ أقوالاً تتبعها فِعال ، لا يعتريها نقصُ بني آدم ، و الله له خيرُ عاصم ، أنوار جلالها ظاهرة ، و نجومُ سمائها زاهرة ، فهو سيدُ الهداة ، و تاجُ مَن للخير دُعاة ، المُختارُ من الرحمن بحكمته ، المصطفى من الديان برحمته .
و رابعةُ الركائز ، كونه لشميلة الحسن حائز ، و ما حُبِيَ من أخلاقٍ حسان ، مُهذَّبَةٍ بالقرآن ، و صفاتٍ كاملة ، و نعوتٍ فاضلة ، بها استنارتْ أفئدةُ قومٍ فأسلموا ، و استضاءت قلوب مؤمنين فأُنعموا ، إذ " أولى ما صُرِفَتْ إليه العنايةُ ، و جرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضلِ غاية ، فنُّ الشمائلِ المحمديَّة ، المشتملُ على صفاته السَّنِيَّة ، و نعوتِه البهيَّة ، و أخلاقه الزَّكية ، التي هيَ وسيلةٌ إلى امتلاءِ القلبِ بتعظيمه و محبَّتِه ، و ذلك سببٌ لاتِّباعِ هديه و سُنَّتِه ، و وسيلةٌ إلى تعظيم شِرعته و ملته " (8)، لأنه المبعوثُ إلى الأفاق ، ليُتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاقِ ، فأخلاقه " أخلاقٌ نبويةٌ ربانيةٌ ، تخلَّقَ إذْ أُمِرَ بالتخلُّق بها من اللهِ تعالى نبيُّه سيدُ البريةِ ، فطوبى لِمن بها من العبادِ تخلَّقَ ، و هنيئاً لمن بأذواقِ معالي معانيها تحقَّق " (9).
و ما أحلا ما خطَّه الفقيه المُحِب ، في أجود ما كُتِب ، في " المنح المكية " ، الكاشفة للغراءِ " الهَمزيَّة " ، حيثُ قال بصدق ، و نطق بحق ، " لَمَّا اجتمعَ فيه صلى الله عليه وسلم من خصال الكمالِ ، و صفاتِ الجلالِ و الجمالِ ما لا يحصرُه أحدٌ ، و لا يُحيطُ به عد أثنى الله عليه في كتابه الكريم فقال الله تعالى { و إنك لعلى خُلُقٍ عظيم } ، فوصفه بالعظيم ، و زاد في المدحةِ بإتيانه بـ ( على ) المُشْعِرَةِ بأنه صلى الله عليه وسلم استعلى في ذلك على معالي الأخلاق ، و استولى عليها ، فلم يَصِلْ إليها مخلوقٌ غيرُه ، وَ وُصِفَ بالعِظَمِ دون الكرم الغالبِ وصفُه به ، لأن كرمَه يُرادُ به السماحةُ و الدماثة "(10) .
و " إذا كانت العقلاء تطمحُ إلى معرفةِ عظماء العالم و كبرائه ، فإنَّ أحقَّ ما يجبُ أن تطمحَ إليه و تطمعَ فيه هو التعرُّفُ إلى سيِّد السادات ، و فخرِ الكائنات ، الذي رفعه اللهُ تعالى أعلى الدرجات ، و رقَّاه فوقَ جميع أهل المراتب و المقامات " .
وَ معرفةُ الأوصاف العظيمة ، و الشمائلِ الكريمة ، يعطي صورةً تنطبعُ في القلب ، و ترتسمُ في مخيَّلَة المُحِب ، كأنه قد رأى محبوبَه ، و نال مطلوبَه ، و بها تحيا القلوبُ و تجول ، و تطربُ الأرواحُ و العقولُ ، و يزدادُ الشوقُ ، و يتحرَّكُ التَّوْقُ ، و كينونةُ ذاك بالتعلُّقِ (11) ، ليَكْتَمِلَ أصلُ التخلُّقِ ، و يُلْهَم القلبُ حُسْنَ التدقيقِ ، في المحبةِ على التَّحْقِيْق .
و حدا بنا الحادي ، و شدا بصوته الشادي ، مُنَغِّماً لأبي مَدْيَن ، ما تقرُّ به الأعيُن :
و نحيا بذكركمُ و إن لم نركم *** ألا إنَّ تذكارَ الأحبةِ يُنعشُنا
فلولا معانيكم تراها قلوبنا *** إذا نحنُ أيقاظٌ و في النَّومِ إنْ غِبنا
لمتنا أسىً من بُعدكم و صبابةً *** و لكنَّ في المعنى معانيكمُ معنى
يُحرِّكنا ذكرُ الحديث عنكمُ *** و لولا هواكم في الحشا ما تحرَّكْنا
و كلُّ هذا المديح ، للسيد المليح ، لأن " اللهُ جلَّ و علا كساهُ من نورِ الجلال ، حُلَّةَ المحبَّةِ و الجمالِ ، فكان ما نظرَ إليهِ أحدٌ من الموحدين إلا أفلحَ كلَّ الفلاح ، و ظهر عليه نورُ الحقيقةِ و لاح ، و أُخِذَتْ عنه بعد الجهلِ دقائقُ العلوم ، و صارَ خليفةً أو أميراً في طَيْلَسانِ الأمرِ و النهي المعلوم " (12).
و قد أوسَع الله فيه المِدحَةَ ، و أولاه المِنْحَةَ ، فأشادَ بأعضائه ، و أعظمَ بِحُسْنِ ثنائه ، و في مدحها إشارةٌ لكمالِه ، و تمامِ جمالِه و جلالِه ، فلهذه يكون مدحُ المُدَّاحِ ، فادْرِ هُدِيْتَ يا صاحْ .
فحَدَا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، مُظْهِراً مقام المدح ، و ما فيه مِن المَنْح :
جُحُوْدُ فَضِيْلَةِ الشُعراءِ غَيُّ *** و إكْرامُ المَدِيْحِ مِن الرَّشادِ
مَحَتْ " بانتْ سُعادُ " ذُنُوْبَ كَعْبٍ *** و أَعْلَتْ كَعْبَه في كُلِّ نادِ
و ما افتقرَ النبيُّ إلى قَصِيْدٍ *** مُشَبِّبَةً بِبَيْنٍ مِن سُعادِ
و لَكِنْ سُنَّ إسدادُ الأيادي *** فكان إلى المكارِمِ خيرَ هادي
ثُمَّ ساقَنا بِإنشادِه ، أكْرَمَه اللهُ بِحُسْنِ إيفادِه :
حَاوَلْتُ أَنْ أصِفَ الحبيبَ بِبَعْضِ ما *** فَهِمَ الفُؤادُ مِن الثنا القُرآني
فَوَجَدْتُ قَولي لا يَفِيءُ بِذَرَّةٍ *** مِنْ عُشْرِ مِعْشارِ العَطا الرَّباني
مِن أينَ يُعْرِبُ مِقْوَلِي عن حَضْرَةٍ *** عَن مَدْحِها قَدْ كلَّ كُلُّ لِسانِ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَ الكتابُ بِهِ فَمَا *** مِقْدارُ مَدْحِ العالَم الإنساني
فسألْتُ مِن ربي الثباتَ على الذي *** قَدْ خَصَّني و الصِدْقَ في إيماني
و كَما أفادَ القلْبَ سِرَّ تَعَلُّقٍ *** بِحَبِيْبِهِ يُملي بذاكَ جَناني
فأعِيْشُ في ذكرِ الحبيبِ مُنَعَّماً *** بالذكرِ مُنْبَسِطاً جميعَ زماني
و أَفوزُ بِالعُقْبَى برؤيةِ وَجْهِهِ *** و رِضاهُ عني في أجلِّ مكانِ
و خَتمُ الركائز الخَمس ، درايةُ أسماء زَكِيِّ النَّفْس ، و ما وُهِبَ من جميل الأوصاف ، الممنوحة من ذي الألطاف ، فإنه المخصوص بِحُسْنِ مبانيها ، و الموهوبُ بكُنْهِ معانيها ، مُتضَمِّنَةً صِفاتِ الكمال ، مُسْتَلْزِمَةً حقائق الجمال ، و لاختصاص مقامه عند مولاه ، ما من نعمه عليه أضفاه ، فقرَنَ اسم حبيبه باسمه ، ليَبِيْنَ للناسِ كمالُ وَصْفِه وَوَسْمِه ، و أنشد حسَّان الرسالة ، بإقرارِ ذي الجلالة :
وَ شَقَّ لَهُ مِن اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ *** فَذُوْ العَرْشِ محمودٌ وَ هذا مُحَمَّدُ
و كثَّرَ فيه صفات الكمال لِيَعْظُمَ في النفوس ، و يُدرى مقامه لدى الملك القُدُّوْس ، و أخذ المحبون من أوصاف الحُسْنِ ، أسماءَ تُذهبُ الحُزْن ، لمَّا كانت عوائد العَرب ، تكثيرُ أسماءِ ذوي الرُّتَب ، كما الصنيعُ معَ الأُسْد ، و سيفِ الِهند ، و الخيولِ الأصيلة ، و المنائح الجليلة .
فخذْ المعلومَ بقوَّةٍ ، عن وَسمِ ذي النبوَّةِ ، تكون حاظياً بِفقهٍ دقيق ، بالغاً مقام التحقيق ، و تخلَّقْ بمحاسنِ الأفعال ، تُدرك ذُرى الكمال ، فهذا يا نَقَلَةُ الأخبارِ ما بهِ فُهْتُ ، و لأجله في مقامي قُمتُ ، فأبلغوا أهل الديانة ، بواجب الصيانة ، و الحمايةِ الأكيدة ، لِعرْض ذي الخصال الحميدة ، فلا خيرَ فيهم إذا هنئوا بعيش ، و أسلموا أرواحهم لشرِّ طيش ، و رسول الله مُهانٌ ، في عِرْضه لا يُصان ، فالذبُّ عنه أوجبُ وظيفة ، و لِتُثارَ لأجله حفيظة ، و عذراً لمقامكم أيها الكرام ، فقد تجرأتُ على جنابكم في ذا المقام ، و لكنَّها غَضْبَةٌ بَدَتْ مِنِّي ، و وقفةٌ نأت عنِّي ، و أنتم أهل الصفحْ و المعذرة ، و أرجو من الله المغفرة ، و ختمُ المقامة ، الصلاةُ لذي الكرامة ، و المديحُ الباهر ، من القريضِ الطاهر ، فاعذروني إذ أطلْتُ ، فلا عُذرَ لي إن أقصرْتُ :
صلاةٌ و تسليمٌ و أزكى تحيةٍ *** على مُشْبِع الجَمِّ الغفيرِ من القُرْصِ
صبورٌ شكورٌ مُؤْثِرٌ في خصاصةٍ *** يَبِتْ و يُضْحي ثم يَطوي على خُمْصِ
صفوحٌ حليمٌ لا يؤاخِذُ مَن أسا *** و لا هو مِن جانٍ عليه بِمُقْتَصِّ
صدوقٌ فلمْ ينطقْ مدى الدهرِ عن هوى *** كذلك قال الله في مُحْكم النَّصِّ
صَؤُوْن عن الدنيا مُنيبٌ لربِّهِ *** على كُلِّ ما يُرضي المهيمنَ ذو حِرْصِ
صُنوفُ صفات الرُّسْل حِيْزَت لأحمدٍ *** بتكليمه في حضرةِ القُدسِ بِمُخْتَصِّ
صحيحٌ بأن الفضلَ فيهِ مُجَمَّعٌ *** و مِن عجبٍ أن يُجمع الفضلُ في شخصِ
صدَقْتُ لقد حاز الحبيبُ مناقباً *** تَقاصَر عَن إحصائها كُلُّ مُسْتَقْصِ
صحابتُه لَم تُحْصِ ما خصَّه الله بِهِ *** إلهُ البرايا يا ليت شِعري مَن يُحصِ
صباحٌ و مصباحٌ و نورٌ بدا لنا *** يقُصُّ جناح الكفرِ قصَّاً على قَصِّ
صُفوفاً لديه الخلْقُ تُوْقَفُ في غَدٍ *** فطوبى لِمن يُدني و ويلٌ لِمن يُقْصِ
صِلِي و انقُلي يا نفحةَ الحي و احملي *** سلامي إلى الهادي و أشواقَنا نصِّي
صدوراً طبعناها عليه محبةً *** فجاءت كنقشٍ للخواتم في فَصِّ
صَبا للصِبا صَبٌّ لأحمد قد صَبا *** نسيمَ الصِّبا قُصِّي صبابته قُصِّي
و أثني بالمديح الفصيح ، من الشعر المليح ، و أنتقي ما فاضت به القريحة ، لذي النفس المليحة ، أعني به المُبْدِعَ الصَّفي (13) ، حالفه اللطف الخفي :
فَيْرُوْزَجُ الصُّبْحِ أم ياقوتةُ الشَّفَقِ *** بَدَتْ فهيَّجَتْ الوَرْقاءَ في الوَرَقِ
أم صارمُ الشرْقِ لمَّا لاح مُخْتَضِباً *** كما بدا السيفُ مُحْمَرَّاً مِن العلَقِ
و مالت القُضْبُ إذْ مرَّ النسيمُ بها *** سَكْرى كما نُبِّهَ الوَسْنانُ مِن أرَقِ
و الغيمُ قَد نُشِرَتْ في الجوِّ بُرْدَتُهُ *** سِتراً تُمَدُّ حواشيهِ على الأفُقِ
و السُّحْبُ تبكي و ثَغْرُ البَرِّ مُبْتَسِمٌ *** و الطيرُ تسجَعُ مِن تِيْهٍ و مِن شَبَقِ
فالطيرُ في طَرَبٍ و السُّحْبُ في حَرَبٍ *** و الماءُ في هربٍ و الغُصْنُ في قلقِ
و عارضُ الأرضِ بالأنوارِ مُكْتَمِلٌ *** قد ضلَّ يشكرُ صَوبَ العارضِ الغَدِقِ
و كلَّلَ الطَلُّ أوراقَ الغُصُوْنِ ضُحى *** كما تكلَّلَ خَدُّ الخَوْدِ بالعَرَقِ
و أطلق الطيرُ فيها سَجْعَ مَنْطِقِهِ *** ما بين مُخْتَلِفٍ منه و مُتَّفِقِ
و الظلُّ يسرُقُ بين الدَّوْحِ خُطوَتَه *** و للمياهِ دبيبٌ غيرُ مُسْتَرَقِ
و قد بدا الورْدُ مُفْتَرَّاً مباسِمُه *** و النَّرْجِسُ الغَضُّ فيها شاخصُ الحَدَقِ
مِن أحمرٍ ساطعٍ أو أخضرٍ نَضِرٍ *** أو أصفرٍ فاقعٍ أو أبيضٍ يَقَقِ
و فاحَ مِن أرَجِ الأزهارِ مُنتشِراً *** نَشْرٌ تعطَّرَ منهُ كلُّ مُنْتَشِقِ
كأنَّ ذكرَ رسول اللهِ مرَّ بِها *** فأكْسِبَتْ أرَجاً مِن نشرِه العَبِقِ
محمدُ المُصطفى الهادي الذي اعتصمتْ *** به الورى فهداهم أوضح الطُرُقِ
و مَن له أخذ اللهُ العُهودَ على *** كلِّ النبيِّيْنَ مِن بادٍ و مُلْتَحِقِ
و مَن رقى في الطِّباقِ السبعِ مَنْزِلَةً *** ما كان قطُّ إليها قبل ذاك رقي
و مَن دنى فتدلَّى نحوَ خالقِهِ *** كقاب قوسين أو أدنى إلى العُنُقِ
و مَن يُقَصِّرُ مَدْحَ المادحينَ لهُ *** عجزاً و يَخْرَسُ ربُّ المنطقِ الذَّلَقِ
و يُعْوِزُ الفِكْرُ فيهِ إن أريدَ له *** وصفٌ و يفضلُ مرآهُ على الحَدَقِ
عُلاً مدَحَ اللهُ العَليُّ بها *** فقال : إنك في كلٍّ على خُلُقِ
يا خاتم الرُّسْلِ بَعثاً و هو أولُها *** فضلاً و فائزها بالسَّبْقِ و السَّبَقِ
جمعتَ كلَّ نفيسٍ مِن فضائلهم *** مِن كلِّ مُجتَمِعٍ منها و مُفْتَرِقِ
و جاءَ في مُحْكَم التوراةِ ذِكرُكَ و الـ *** ـإ نجيلِ و الصُّحُفِ الأُولى لى نَسَقِ
و خصَّك اللهُ بالفضلِ الذي شَهِدَتْ *** به لَعَمْرُك في الفُرقان من طُرُقِ
فالخَلْقُ تُقْسِمُ باسم اللهِ مُخلِصَةً *** و باسمكَ أقسَمَ ربُّ العَرْشِ للصَّدَقِ
لو آمنتْ بك كلُّ الناسِ مُخْلِصَةً *** لم يُخْشَ في البعثِ مِن بَخْسٍ و لا رَهَقِ
لو أن عبداً أطاع الله ثُم أتى *** بِبُغْضِكم كان عند الله غير تقي
لو خالفَتْكَ كُماةُ الجِنِّ عاصيةً *** أرْكَبْتَهم طبقاً في الأرضِ عن طبقِ
لو تُوْدَعُ البِيْضُ عَزْماً تستضيءُ بِهِ *** لَم يُغْنِ منها صِلابُ البيضِ و الدَّرَقِ
لو تجعلُ النَّقْعَ يوم الحَرْبِ مُتَّصِلاً *** بالليلِ ما كشَفَتْهُ غُرَّةُ الفَلَقِ
مهَّدْتَ أقطارَ أرضِ اللهِ مُنْفَتِحاً *** بالبِيْضِ و السُّمْرِ منها كلَّ مُنْغَلِقِ
فالحرْبُ في لُذَذٍ و الشِّرْكُ في عَوَذٍ *** و الدِّيْنُ في نَشَزٍ و الكُفْرُ في نَفَقِ
فضلٌ بِهِ زِيْنةُ الدُّنيا فكان لها *** كالتاجِ للرأسِ أو كالطوْقِ للعُنُقِ
صلى عليك إلهُ العَرْشِ ما طلعتْ *** شمسُ النهارِ ولاحَتْ أنْجُمُ الغَسَقِ
و آلِك الغُرَرِ اللاتي بها عُرِفَتْ *** سُبْلُ الرشادِ فكانت مُهْتدى الغَرَقِ
و صحْبِك النُّجُبِ الصِّيْد الذين جَروا *** إلى المناقِبِ مِن تالٍ و مُسْتَبِقِ
قومٌ متى أضمرتْ نفسُ امريءٍ طرَفاً *** مِن بُغْضِهم كان مِن بعد النَّعيم شَقي
ماذا تقول إذا رُمنا المديحَ وَ قدْ *** شرَّفْتنا بمديحٍ منك مُتَّفَقِ
إن قلتَ في الشعرِ حِكمٌ و البيانُ به *** سحرٌ فرغَّبْتَ فيه كُلَّ ذي فَرَقِ
فكُنتَ بالمدحِ و الإنعامِ مُبْتَدِئاً *** فلو أردْنا جزاءَ البَعْضِ لَم نُطِقِ
فلا أخُلُّ بِعُذْرٍ عن مديحكمُ *** ما دام فِكْرِي لَم يُرْتَ و لَم يُعَقِ
فسوفَ أصفيك مَحْضَ المدح مُجتهداً *** فالخلْقُ تفنى و هذا إن فَنِيْتُ بَقِي
فانبرى لي من صُلحاءِ القوم ، دافعاً عني اللوم ، قائلاً بفصيح ، بلفظ مليح ، مَهلاً هُدِيْتَ الرَّشَد ، و أكرمتَ بالرَّغَد ، فما فاه به لسانك ، قد رُفِعَ به شانك ، فأَبَنْتَ سِرَّ النُّصْرَة ، مُنِحْتَ التحجيلَ و الغُرَّة ، إذ كلٌّ عنه غافل ، و لم يَحظَ منَّا بنائل ، فلا مسلكَ يُنتَهَج ، و لا يُصَوَّبُ المُنْعَرِج ، إلا إذا أقمنا في البواطن ، ميثاقَ النُّصرَةِ الكامن ، و منه يسري إلى الظهور ، تمامُ البُدُوِّ و النشور ، و حين فُقِدْناهُ في السرائر ، أضحى الدين غير ظاهر ، و أهله أصابتهم المَسْكنة ، و أمجادهم لديهم مُمْكِنَة ، فلك الله يجزيك أفضاله ، و يُغدقُ عليك نواله ، و سعدتْ أيامك أُنْسِك ، و صيَّرَ يومك أرفع من أمسك ، و لا أراك مكروهاً ، و لا أوردك مشبوهاً ، و دامت عليك منائحُ العافية ، و لك قطوف الجنة دانية ، و قولك ليس بالإفك ، و كان ختامها مِسك .
فأمليتُ عليه حرفي ، مراعياً حالي و ظرفي ، بأنَّ حالنا في أسى ، لغياب مَن بِهِ يُؤْتَسى ، و ليس لنا في القوم منزلة ، و صِرنا للدنيءِ مَهزلة ، و إننا لنستوجبُ بالنُّصْرَة الظُّهُوْر ، و نستجلِبُ بالذبِّ شاراتِ السُّرُوْر ، و أنهيتُ المقامة باليراع ، حين غروب شمس الإمتاع ، من عاشوراءِ المُعَظَّم ، المنصورِ فيه مُوسى المُكلَّم ، الموافي يَوم الاثنين ، الفضيلِ بِلا مَيْن ، فهذه " مُهْرةٌ " خَيلاءُ ، و تَسُرُّ العيونَ الحوراء ، فتستجلِبَ " إدامةَ النُّضْرَة " ، بأفياءِ " مقامة النُّصْرَة "، بِما جادَ بِهِ عَفْوُ الخاطرِ ، فِي نُصْرَةِ الرسولِ الطاهرِ ، مُتَفَوِّهاً بِها ارْتِجَالاً ، مُخْتَزِلاً لفظها اخْتِزَالاً ، و قَد كان سببُ رَقْمِها ، و باعثُ رَسْمها ، دَمعةٌ حرَّى مِن لُبِّ البصيرةِ ، مُشتاقةً لأنوارِ كواكبَ مُنيرة ، فأنعم بدمعةٍ أفْضَتْ إلى مقامة ، و مقامةٍ تُفضي إلى دار المُقامة .
سائلاً لها القبول ، و الحَظْوَةَ بالمأمول ، و الرعايةَ مِن الذَمِّ ، و الصيانةَ مِنْ سُوءِ الفَهْم ، و الحمدُ لربنا على التَّتِمَّة ، و أسألُه كشْفَ المُلِمَّة ، و الصلواتُ الفاضلة ، على الرحمةِ النازلة .
حبَّرَها
عبدُ الله بنُ سُليمان العُتَيِّق
الاثنين ،10/1/1428هـ
الرياض
tamooh1426*************
-----------------------------------------
(1) ( ص :38 ) .
(2) " المنح المكية " ( ص : 270 ) .
(3) هو : عبدُ الله بنُ عُجرةَ السُلمي ، انظر : " الإصابة " (2/336) ، و الأبياتُ من " منح المدح " ( ص : 157 ) .
(4) أي : أنها الشهادة الثانية .
(5) ( 2/3 )
(6) انظر : " الإصابة " (1/256) ، و الأبيات في : " منح المدح " ( ص : 68) .
(7) (ص : 218)
(8) " متتهى السول على وسائل الوصول " (1/31) .
(9) " شمسُ الآفاق " ( ص : 20 ) .
(10) " المنحُ المكيَّة " ( ص:287) .
(11) في " الشمائل المحمدية " ( رقم : 8 ) : قول الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما : سألتُ خالي هِنْد بنَ أبي هالة _ و كان وصَّافاً _ عَن حِلْيَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أنا أشتهي أن يَصِفَ لي منها شَيء أتعلَّقُ بِهِ . أي : أتعلَّقُ بِه تعلماً و حفظاً و معرفةً .
(12) " الآيات البينات " ( ص : 233 ) .
(13) " ديوان الصَّفي الحِلِّي " ( ص : 83 ) .
عمروعبده 27-02-2011, 09:37 AM صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين
د.محمد بن عدنان السمان
المدير التنفيذي لشبكة السنة النبوية وعلومها
• الصورة الأولى :
عن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟ قال ( لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، فقال : ذلك فيما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً ) رواه البخاري .
• الصورة الثانية :
عن ابن عمر رضي الله عنهما ( أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة . فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان ) رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لهما ( وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي . فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ).
• الصورة الثالثة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار ) رواه البخاري .
• الصور الرابعة :
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ) رواه البخاري .
الصورة الخامسة :
عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمر أمير على جيش أو سرية ، أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا . ثم قال ( اغزوا باسم الله . وفي سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا . وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ( أو خلال ) . فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ثم ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين . وأخبرهم أنهم ، إن فعلوا ذلك ، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا أن يتحولوا منها ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين . يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين . ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء . إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن هم أبوا فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه . فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه . ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك . فإنكم ، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم ، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله . وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله . ولكن أنزلهم على حكمك . فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) رواه مسلم .
• الصورة السادسة /
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما عندك يا ثمامة ) . فقال : عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال ، فسل منه ما شئت . فترك حتى كان الغد ، فقال : ( ما عندك يا ثمامة ) . فقال : ما قلت لك ، إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال : ما عندك يا ثمامة فقال : عندي ما قلت لك فقال : ( أطلقوا ثمامة ) . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، يا محمد ، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب دين إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ، وإن خيلك أخذتني ، وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت ، قال : لا ، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله ، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري ومسلم .
• الصورة السابعة :
عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: ( غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها ) رواه أبو داود بسند حسن .
• الصورة الثامنة /
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر : ( لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه ) . فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى ، فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى ، فقال : ( أين علي ) . فقيل : يشتكي عينيه ، فأمر فدعي له ، فبصق في عينيه ، فبرأ مكانه حتى كأنه لك يكن به شيء ، فقال : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال : ( على رسلك ، حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم ) . رواه البخاري ومسلم .
• الصورة التاسعة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قيل : يا رسول الله ! ادع على المشركين . قال " إني لم أبعث لعانا . وإنما بعثت رحمة "رواه مسلم .
• الصورة العاشرة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة . فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي . قلت : يا رسول الله ! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي . فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره . فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ! اهد أم أبي هريرة " فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم . فلما جئت فصرت إلى الباب . فإذا هو مجاف . فسمعت أمي خشف قدمي . فقالت : مكانك ! يا أبا هريرة ! وسمعت خضخضة الماء . قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها . ففتحت الباب . ثم قالت : يا أبا هريرة ! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . قال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته وأنا أبكي من الفرح . قال قلت : يا رسول الله ! أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة . فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرا . قال قلت : يا رسول الله ! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عبادة المؤمنين ، ويحببهم إلينا . قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ! حبب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين . وحبب إليهم المؤمنين " فما خلق مؤمن يسمع بي ، ولا يراني ، إلا أحبني ) رواه مسلم .
الصورة الحادية عشرة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه ، على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إن دوسا عصت وأبت ، فادع الله عليها ، فقيل : هلكت دوس ، قال : ( اللهم اهد دوسا وأت بهم ) رواه البخاري .
الصورة الثانية عشرة :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنهم قالوا : يا رسول الله ! أحرقتنا نبال ثقيف ، فادع الله عليهم . فقال : اللهم اهد ثقيفا ) رواه الترمذي بسند صحيح .
عمروعبده 27-02-2011, 11:31 AM معالم من المنهاج النبوي
عبدالله بن صالح القٌصيِّر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .. أما بعد : فقد كان من معالم المنهاج النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام :
مبادرة الأوقات والمناسبات ، بما شرع الله تعالى فيها من فرائض الطاعات ، وجنسها من جليل القربات تحبباً إلى الله تعالى ، وتجملاً بين يديه ، ومسارعة إلى مغفرته وجنته ، وطلباً لرفعة الدرجة لديه ، وعمارة للوقت بما يحب وتكميلاً لما يجب، طلباً لعظيم الأجر ، وكريم المثوبة ، وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى فضلاً عن أن تستقصى :
• فلقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه وأوصى غيره بقوله : (( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله )) وقال : (( سـبق المفردون ، فقيل ومن المفردون يا رسول الله ؟ فقال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات )) إحالة على قوله تعالى : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وقال صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق – يعني الفضة – وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم – يعني نافلة الجهاد – وسئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل أهل كل عمل ؟ فقال أكثرهم لله تعالى ذكراً .
• وإنما كان ذكر الله تعالى بهذه المثابة لأنه أدل شيء على توحيد الله تعالى وخشيته وحبه والرغبة الصادقة في رضاه وحبه وفيه صلاح القلب وطمأنينة النفس وانبعاث الهمة والجوارح إلى طاعة الله تعالى وقوتها على ذلك وانكفافها عن معصيته ومخالفته رغبة إليه ورهبة منه .
• وكان صلى الله عليه وسلم إذا أذن للصلاة وثب وترك شغله الذي بين يديه واشتغل بأمر صلاته ويخبر أن أحب العمل إلى الله تعالى الصلاة لوقتها ويحظ على الصلاة مع الجماعة ويبين أنها أكمل للصلاة وأعظم للأجر وأرضى لله تعالى وارفع للدرجة عنده وأنها براءة من النفاق ومن النار ، ويتوعد المتخلفين عن الجماعة من غير عذر بتحريق بيوتهم عليهم ويصفهم بالنفاق ويحذرهم من سوء الخاتمة وبين أن ترك الصلاة محبط للعمل وأنه شرك وكفر وسبب للحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف ونحوهم من أساطين الكفر وأكابر الطغاة المتجبرين على الله تعالى والذين يعرضون على النار غدواً وعشياً – مدة البرزخ – ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب والنصوص في هذا معلومة وشهرتها تغني عن ذكرها .
• وذات مرة قام صلى الله عليه وسلم من مصلاة – حين صلى العصر – مسرعاً إلى بيته ثم رجع إلى المســــجد فلما رأى أن الناس قد استنكروا مبادرته قال : إني ذكرت تبرا – يعني ذهباً – عندنا من الصدقة لم يقسم فأمرت بقسمته .
• وكان صلى الله عليه وسلم يحظ على الزكاة والصدقة وبين أنها لا تنقص المال وأن الله تعالى يخلف على المرء ما أنفق صدقة وزكاة ويقول : اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ، ويقول : ما يسرني أن لي مثل أحد ذهباً تمضي عليّ ثلاث ليالٍ وعندي منه شيء إلا أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن وراءه ظهـــــره وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم بما في يده وأبعدهم عن المن بفضله ، وما ذلك إلا لحسن ظنه بربه وصدق توكله عليه وعظيم رجائه له وشديد رغبته في مثوبته وحبه لما يحبه الله من الإحسان وزهده في الدنيا والتماسه لما فيه رفعة الدرجة في الأخرى .
• وكان صلى الله عليه وسلم يصوم يومي الاثنين والخميس ويقول عنهما : (( إنهما يومان تعرض فيهما أعمال العباد على الله تعالى فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم )) فيتزن صلى الله عليه وسلم لعرض عمله على ربه بالصيام الذي قال الله تعالى فيه (( كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )) وكان صلى الله عليه وسلم لا تشاء أن تراه صائماً إلا رأيته ولا تشاء أن تراه مفطراً إلا رأيتــه ، وما ذلك إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا شغل عن صيام اعتاده بسفر أو مرض أو نحوهما قضى ما فاته من تلك الأيام فصامها سرداً .
• وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إذا زالت الشمس وقبل الظهر أربع ركعات ويخبر أنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ويقول (( فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح )) .
• وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاء طالب شفاعة أو صاحب حاجة شفع له وسعى في حاجته حتى إنه صلى الله عليه وسلم شفع لأحد أصحابه عند يهودي فلم يشفعه ، وشفع لدى مولاته بريرة لزوجها مغيث أن تبقى على زوجتيه بعد عتقها فلم تقبل منه وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه صاحب حاجة أقبل على أصحابـــــه فقال : (( اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء )) وفي رواية ما أحب ، وكان يقول : (( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) ويقول : (( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته )) .
وأدلة هذا المنهـــــاج النبوي كثيرة ومعالمه شهيرة فعليك أخي المسلم أن تحذوا حذو نبيك صلى الله عليه وسلم وأن تتأسى به وتستن بسنته حتى يحبك الله ويغفر لك ويمن عليك بواسع فضله ويشرح لك صدرك ويضع عنك وزرك ويرفع لك ذكرك ويجعلك مباركاً أينما كنت على نفسك وأهلك ومن حولك .
رزقنا الله وإياك ذلك وألحقنا بنبينا صلى الله عليه وسلم وصحبه فإن المرء مع من أحب يوم القيامة
وآية الحب الإتباع والحذر من هجر السنة والابتداع وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
عمروعبده 27-02-2011, 11:34 AM الحب
أ.د فالح بن محمد الصغير
المشرف العام على شبكة السنة النبوية وعلومها
الحب: كلمة جميلة محببة للنفوس، ترادفها كلمات أخرى في القاموس العربي مثل الود، ولها علاقة وطيدة بكلمات أخرى كالشفقة والرحمة، والعطف، وينبني عليها سلوك عملي يظهر على المحب تجاه من يحبه، من الأعيان، أو ما يحبه من الأقوال والأفعال والأحوال، ويتمنى كل مخلوق حي أن يعيش في عالم هذه المصطلحات المريحة في يومه وليلته، وفي بيته وشارعه وعمله، وفي إقامته وسفره لتضفي عليه جواً من السكينة والطمأنينة، والهدوء والراحة، وتخفف عنه أعباء الحياة ومشكلاتها ومشاغلها، بل لتقلب هذه الأعباء إلى لذائذ يستمتع بها، وقد يتعجب من يقرأ هذا الكلام فهل ممكن أن يكون كذلك؟ وكيف لايكون كذلك والتاريخ شاهد أيّما شاهد لأولئك الجيل الذين غمر قلوبهم حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ كيف حولهم هذا الحب من أقل الناس شأناً إلى أن يسودوا الدنيا، وينشروا الخير والرحمة والإحسان في أقاصيها، ونقلهم هذا الحب من ذيل القائمة، إلى أن يكونوا قادة الناس وقدوتهم؟
الحب: شجرة سامقة، تثمر ثماراً يانعة، متعددة الاغصان، أصلها ثابت في القلب، وفروعها ممتدة ومتفرعة.
والحب: درجات ومنازل، والمحب يتنقل بينها فيعطي كلاً نصيبه منه بلا زيادة ولا نقصان.
والحب: حقيقة لا يجوز تجاهلها، ولكن قد يصرف لغير أهله، أو في غير محله، ومن ثمّ فلا يؤدي غرضه، ولا يورث خيره، بل قد يكون وبالاً على صاحبه. * * * *
وإذا كان ذلك كذلك فليس هنا مقام تفضيل درجات الحب، ولا مراتبه ولا تفصيلها، ولكننا نغوص في بحر حب من أعظم أنواعه وأجلها، وأرفعها قدرها، وأعمقها جذراً، وأعلاها مقاماً.
هذا الحب – أزعم أن كل مسلم يدعيه، وآمل أن يكون مبرهناً على زعمه وصدقه في أقواله وأعماله.
هذا الحب هو محبة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به من عند الله تعالى.
هذه المحبة التي يجب أن تكون عميقة في نفوسنا، متجذرة في قلوبنا، تلهج فيها ألسنتنا، وتنطق بها أقوالنا، وتترجمها أعمالنا وسلوكنا، هذه المحبة عقيدة يجب أن نعتقدها، وندين الله تعالى بها، نرجوا بها الثواب، والرفعة عند الله تعالى، والصحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم ومرافقته في الجنة، والشرب من حوضه.
هذه المحبة: التى تمثل لنا زاداً إيمانياً يكون حادياً لنا في السير في هذه الحياة فتتسهل بها الدروب ونتخطى بها العقبات.
هذه المحبة التي تتعدل بها الأخلاق وتستقيم بها المعاملة فيظهر الصدق و الإخلاص وحسن الظن و القول الحسن واللين في المخاطبة و العفو و التسامح و الصفح.
هذه المحبة ممتدة مع امتداد الزمن نحيا عليها ونموت عليها، نربي عليها أنفسنا، ونقوّم فيها أعمالنا، كل يوم يزيد من حبنا للمصطفى صلى الله عليه وسلم حتى نلقى الله تعالى على ذلك.
وهي من خير ما يخلف الأبناء و البنات فينعمون بهذا الحب العميق فيضفي على حياتهم السعادة دنيا وأخرى.
* * * *
هذه المحبة لا يجوز أن تكون دعوى دون تطبيق عملي فإن كانت كذلك فلا يتجاوز حبلها أن ينقطع فالدعوى سريعة الانكشاف قصيرة الأمد.
ولا يجوز أن تكون مخصصة في مكان دون آخر فهذا مشهد يبطله المشهد الآخر.
ولا يتجاوز أيضاً أن تكون مخصصة في زمان دون آخر فهذا مشهد آخر مزعوم.
ولا يجوز أن تكون في حالة دون أخرى فهذا مما يبطل دعوى هذا الزعم.
* * * *
محبة النبي صلى الله عليه وسلم اعتقاد بالقلب : يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وقول باللسان وعمل بالجوارح يظهره في الواقع التطبيق والسلوك قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) فإذا كان إتباع النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على محبة الله فهو دليل من باب أولى على محبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
محبة النبي صلى الله عليه وسلم منهج حياة متكامل يعيش فيه الإنسان المسلم متمثلاً بحق : شهادة أن محمد رسول الله .
يتمثل هذا المنهج بوضوح في :-
- الإيمان بأن محمداًُ عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
- الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
- اعتقاد محبته عليه الصلاة والسلام في القلب.
- تقديم هذه المحبة على محبة النفس و الوالد والولد و الزوجة و الزوج و الناس أجمعين .
- العمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دون زيادة فيها أو إحداث فيها ما ليس منها أو النقص منها.
- الاستسلام والتسليم لما جاء به من أخبار وعدم الاعتراض.
- كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
- نشر سيرته وسنته وأخذ العبرة و الدروس منها .
- الدفاع عنه وعن سنته عليه الصلاة والسلام .
- التخلق بأخلاقه و الإقتداء به في جميع شؤون الحياة وفي المخبر والمظهر.
- محبة رضوان الله عليهم.
- ومحبة آله وأصحابه ومعرفة حقهم ومنزلتهم رضوان الله عليهم.
- محبة أحبابه المؤمنين الصادقين.
- محبة ما أحبه عليه الصلاة والسلام ومعاداة من عاداه.
وأخيراً صياغة الحياة كلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و التربوية..... الخ، والفردية و الأسرية و المجتمعية، وفق شرعه سنته عليه الصلاة والسلام.
* * * *
هكذا المحبة الحقة فهل نحب محمداً صلى الله عليه وسلم ... آمل أن يكون كذلك، رزقنا الله ذلك وجمعنا الله به وأحبابنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقا ،
ونلتقي معاً على المحبة بإذن الله
عمروعبده 27-02-2011, 11:39 AM بسم الله الرحمن الرحيم
هذه فكرة متواضعة الهدف منها إحياء سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في واقعنا اليومي :
1- في بيوتنا .
2- في مساجدنا .
3- في أماكن الدراسة ، والعمل .
4- في عمائرنا السكنية .
5- في مناسباتنا ، وأماكن تجمعنا ، ورحلاتنا .
والعمل بسيط جداً ولكن فائدته عظيمة بإذن الله تعالى !
ما عليك / أو عليكِ ..إلا أن تأخذ نسخة من ( البرنامج ) الذي عنونت له :
سأعيش يوماً بهدي نبيي صلى الله عليه وسلم ..
ليكون بإذن الله تعالى بداية حياة سعيدة على أثر المبعوث رحمة للعالمين ..والموعد شربة هنية من حوضه عليه الصلاة والسلام .. اللهم آمين .
- وعوداً على الطريقة ..
خذ النسختين من البرنامج المرفق ثم اجعلهما وجهين لورقة واحدة( أي فور ) لتصبح النتيجة = ورقة واحدة فقط ..
( وإذا رأيت أن تغير فيها بما تراه مناسباً فالأمر لك )
ثم وزعها على من تحب طبعاً بعد أن تبدأ بنفسك :
أسرتك ، وأقاربك ، أصدقاءك ، زملاء العمل ، طلابك ، جماعة المسجد ......
- وهي منتقاه من كتاب : زاد المعاد في هدي خير العباد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
قام بإنتقائها الدكتور : أحمد المزيد وفقه الله .
- وقد أخترت منها ما يتكرر علينا في اليوم والليلة باستمرار ..
وأعددتها بشكل يسهل حمله وتوزيعه
افتح الملف المرفق . (http://www.saaid.net/mohamed/271.doc)
http://www.saaid.net/img/msword.gif (http://www.saaid.net/mohamed/271.doc)
- أخوكم : أبو عمر .
mosnm*************
سأعيش يوماً بهدي نبيي صلى الله عليه وسلم
(http://www.saaid.net/mohamed/271.doc)
عمروعبده 27-02-2011, 11:43 AM الكرم النبوي
حسين بن قاسم القطيش
الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، ذو الجود والعطاء، أحمد حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، امتن علينا بالإيمان وهدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله عظيم الشأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكرم الكرماء، وأسخى الأسخياء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الجود والعطاء. أما بعد:
فسوف نتكلم عن كريم عُرف بكرمه، وجواد عرف بجوده، وسخي عرف بسخائه، لم يأته من الدنيا شيء إلا أنفقه، وما وصل يده مال إلا فرقه، لم يكن بخيل قط، ولم يقل يوماً لا، بل إنه كان يتمنى لو أن جبل أحد ذهبا يفرقه في سبيل الله. تَعوّد بَسْط الكفِّ حتَّى لو انـَّهُ * * * ثناها لِقَبْضٍ لم تجِبْه أَناملُهْ
تـراه إذا مـا جـئتَه مُتـهلِّلاً * * * كأنَّك تُعطيه الذي أنت سَائلُهْ
ولو لم يكن في كفِّه غير رُوحهِ * * * لجَادَ بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ
هُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أتيته * * * فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
إنه الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-، رضع الكرم مع حليب أمه، فهو يسري في عروقه، ويتحرك مع دقات قلبه، وهو المسيطر على تصرفاته، بل إنه ملازم له كنفسه، فلم يرى إلا كريماً ينفق ماله هنا وهناك، وما عرف إلا جواداً، تخلق بخلق الكرم فاتسم بالجود ووصف بالكريم.
فلم يبخل يوماً قط فقد جاء عن جابر -رضي الله عنه- قال: (ما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيءٍ قط فقال: لا) رواه البخاري، وما قال لا قط في حياته.
ما قال لا قط إلا في تشهده * * * لولا التشهد كانت لاؤه نعم
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم – أحْسَنَ الناس، وأجْوَد الناس، وأشْجَعَ الناس) رواه البخاري ومسلم. وصل به الكرم- صلى الله عليه وسلم- إلى أن يعطي ثوبه الذي عليه، فقد روي أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدة فقالت: يا رسول الله: أكْسوك هذه. فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم - محتاجاً إليها، فَلَبسَها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحْسَنَ هذه، فاكْسُنيها. فقال : ((نعم)) . فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم - لامه أصحابه فقالوا: ما أحسنْتَ حين رأيتَ النبي -صلى الله عليه وسلم - أخَذها مُحتاجاً إليها، ثم سألتَهُ إياها، وقد عرفتَ أنه لا يُسْأَل شيئاً فيمنعه. فقال: رجوتُ بَرَكَتَهَا حين لَبِسها النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ لَعَلَّي أُكَفَّن فيها. رواه البخاريُّ. هكذا كان كريم -عليه الصلاة والسلام- لا يرد سائل أبدا مهما طلب.
وأتاه رجل فسأله، فأعطاه غنما سدَّت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وأتي بمال من البحرين فقال: انثُروه في المسجد، وكان أكثر مالٍ أُتي به، فخرج إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه، فلمّا قَضَى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحداً إلَّا أعطاه، وما قام وثَمَّ منها درهم. فيا لله من نفس كريمة سخية، مليئة بالقناعة فزهدت عن حطام الدنيا واشتاقت إلى الفردوس الأعلى. ويا لله ما أكرمه من نبي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر فقد جاء في مغازي الواقدي أنه -عليه الصلاة والسلام- أعطى صفوان وادياً مملوءاً إبلاً ونعماً، فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي.
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم: أن الأعراب علقوا بالنبي -صلى عليه وسلم- مَرْجِعَهُ من حُنَيْن، يسألونه أن يقسم بينهم فقال: ((لو كان لي عَدَدُ هذه العَضَاةِ نَعَماَ، لقَسمتُه بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوباً، ولا جباناً)).
فالمال لا يدخره ولا يكنزه لنفسه فقد جاء عن أنس -رضي الله عنه- قال:(كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدَّخر شيئاً لغدٍ) رواه الترمذي وصححه الألباني بل إنه وصل الحد بكثير من الكفار أن يسلموا طمعاً في كرمه -صلى الله عليه وسلم- ففي صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: (ما سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً إلا أعطاه، فجاء رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقه" قال أنس: إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا فما يُمسي حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها).
وها هو -عليه الصلاة والسلام- لا يطمئن له بال ولا يستقر له قرار وفي بيته مال إلا بعد أن ينفقه, فقد جاء عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلاّ خشية أن يكون فيها مالُ فأتوفى ولم أنفقه)) رواه الطبراني وحسنه الألباني، وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: (كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعة دنانير وضَعها عند عائشة، فلَّما كان عند مرضه قال: ((يا عائشة، ابعثي بالذهب إلى علي)). ثم أغمي عليه. وشغل عائشة ما به، حتى قال ذلك مراراً. كل ذلك يغمى على رسو الله -صلى الله عليه وسلم- ويشغل عائشة ما به، فبعث إلى عليٍّ فتصدَّق بها، وأمسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الاثنين في جديد الموت ، فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائها، فقالت: أهدي لنا في مصباحنا من عُكَّتك السَّمْن، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمسى في جديد الموت) رواه الطبراني وصححه الألباني.
وهكذا يتمنى -عليه الصلاة والسلام- لو أن جبل أحدٍ ذهبا ينفقه في سبيل الله، فقد جاء عن أبي ذرٍّ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- التفت إلى أُحُدٍ فقال: ((والذي نفسي بيده، ما يَسُرُّني أن أُحُداً تحوَّل لآلِ محمدٍ ذهباً، أُنفقه في سبيل الله، أموتْ يومَ أموتُ أدَعُ منه دينارين، إلَّا دينارين أُعدُّهما للدَّيْن إنْ كان)) رواه أحمد وحسنه الألباني.
وكان جوده -صلى الله عليه وسلم- كلّه لله، وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال إما لفقير، أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه، وكان يُؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاءً يعجز عنه الملوكُ مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يُوقَد في بيته نار، وربَّما رَبط على بطنه الحجر من الجوع، وكان قد أتاه صبيُّ مرةً فشكتْ إليه فاطمةُ ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادماً يكفيها مُؤْنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال: ((لا أُعطيك وأَدَع أهل الصُّفًّة تَطْوَى بطونُهم من الجوع)). صلاح الأمة في علو الهمة (2/523).
هُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أتيته * * * فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
أسأل الله بمنه وكرمه وجوده أن يرينا في أعداء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما يشفي به صدورنا، وأن يهلكهم ويدمرهم تدميرا إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،،
عمروعبده 27-02-2011, 11:46 AM والله لا يخزيك الله أبدًا
بقلم : محمد مسعد ياقوت **
"كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
بهذه الكلمات العظيمة تثبت أم المؤمنين خديجة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثها بشأن المَلك الذي نزل عليه بغار حراء، حيث قال لها معبرًا عن خشيته: "لقد خشيتُ على نفسي".
وكان دور المرأة والزوجة الصالحة هو تخفيف حدة الضنك التي لحقت بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم جراء هذه المقابلة الشديدة الصعبة مع "جبريل"، وتؤكد له عناية الله به، مدللة على خصال كريمة يتصف بها المصطفى، وسلوكيات طيبة يمارسها في مجتمعه.
فهي توضح له بكل صراحة أن الله لن يخزيه لعلة واحدة، هي أنه مواظب على جملة من العبادات الاجتماعية.. فلن يخزي الله من وصل الرحم، وصدق الحديث، وحمل الكَل، وأكرم الضيف، وأعان على نوائب الدهر!
إنها تتحدث إلى زوجها كطبيبة نفوس، وكفيلسوفة فكر، وكعالمة في سنن الله ونواميسه في الخليقة..
إنها بكلماتها تلك تسبق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات..." [صحيح، الحاكم، عن أنس].
هذا القلب الكبير الذي يحمل كُل هذا الخير للناس لا يخزيه الله، لن يصل الحُزن إلى قلبه، ولن يصل الخوف من الناس إلى وجدانه، بل ستنعم حياته، وينعم قلبه، ويزهو ويفرح، وينجلي غبار الضنك عن رأسه.
• "كلا"..
لن يحزن قلبك، ما دام يحمل الخير للناس..
• "أبشر"..
سيندمل الجرح، ويزول الوجع، وستمضي في طريق الحياة بهذا القلب الخيّر، يفيض منه النور إلى البشر، وتسرج به قلوبًا غلفًا، وعيونًا عميا، وآذانًا صما.
• "فوالله لا يخزيك الله أبدا"..
لست أنت بالوجه الذي يرده الله، ولست ولست أنت بالعبد الذي يتخلى عنه ربه، فأنت عبد أكرمت عباده، أشبعت جوعتهم، وأذهبت ظمأتهم، وكسوت عورتهم، ومسحت على رأس اليتيم، فكنت الأب، وعفوت عمن أساء إليك فكنت الأم:
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
لا يخزيك.. ولم ولن يخزيك الله أبدًا.. فأنعم بحياتك!
• "إنك لتصل الرحم"
فمن قطعك وصلته، تغني القريب الفقير، وتقوّي القريب الضعيف، أنت سند أهلك، ووتد أقاربك، لم يسمعوا منك إلا كل خير، ولم يروا منك إلا كل صلاح.. أنت لكبيرهم ابن، ولصغيرهم أب، ولصاحبهم أخ.
• "تصدق الحديث"
لا تكذب أبدًا، لا تغش أبدًا، لا تزور شهادة، ولا تدلس مقالة، لم يُعهد عليك كذبة واحدة في حياتك، ولم تتلطخ لحظة واحدة في براثن الكذب.
• "تحمل الكَل"
وهو العاجز، لا تُعينه وفقط، بل تحمله! ولا تحمله فقط، بل تحمله وحاجته! لا ينزل عنك إلا وقد قضيت مسألته، ورحمت ذلته، وأسعدت قلبه.
• "تقري الضيف"
ما أكرم الناس إذا نزلوا بدارك! وما أعظمهم إذا حلوا بحضرتك! أوقدت القدور، وجهزت النمارق، وقضيت الحاجات، فإن بات الضيف بدارك بات آمنًا عزيزًا، وإن انصرف؛ فمُكرم مسرور.
• "تعين على نوائب الدهر"
فمصائب الأيام كثيرة، وجراح الواقع كبيرة، فيأتيك طالب العون فتعينه على نائبته، ويأتيك المكروب فتعينه على كربته.. أنت الظَهر للبائسين، فأنت لجراحهم طبيب، وأنت ليتمهم أب.
والصدّيق كذلك!
و"أبو بكر" تلميذه العظيم! يسير على شرعته، ويمارس صنعته، ويُبتلى، فيخرج مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ (برك الغماد) لقيه "ابن الدغنة" وهو سيد (القارة) فقال: "أين تريد يا أبا بكر؟" فقال أبو بكر: "أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي".
فقال ابن الدغنة: "فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يُخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فأرجع فاعبد ربك ببلدك..
فأصحاب هذه الصنائع الخيرية، ما كان الله ليخزيهم، وما كان ليكلهم إلى بعيد كافر، أو إلى قريب ظالم، هم أحق بالتمكين، وأولى بسعادة الدنيا والآخرة، وكان حقًّا على الله أن يسخر لهم أمثال "ابن الدغنة".. ينصرهم ويؤازرهم، حتى ينعم صناع الخير في ظلال الله.
فاصنع خيرًا.. يسعد قلبك، ولا يخزيك الله.
[ نقلاً عن موقع إسلام أون لاين ،بتاريخ 3/7/2008]
عمروعبده 27-02-2011, 05:40 PM رسول الله .. لا تبالي !
بقلم : محمد مسعد ياقوت **
بعد عقد من الزمان أمضاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في دعوة الوثنيين في مكة، وكانت سنوات حافلة بالإيذاء والتعذيب والسجن، حتى إذا كان على رأس عشر سنين مات عمه وسنده "أبو طالب" وماتت زوجه وحصنه "خديجة"، أراد أن ينقل دعوته إلى خارج مكة بعدما ضاق به أهله، فقرر الهجرة إلى الطائف، فخرج معه مولاه " زيد".
خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الطائف داعيًا وهاديًا، يحدوه الأمل في هداية ثقيف، جاء إليهم على قدم وساق، بقلب يحمل الخير والهدى للعالمين.
ولما وصل إلى الطائف بسلامة الله وحفظه، توجه على التو نحو علية القوم، وقادة ثقيف، وزعماء الطائف، فهو يعلم أن هداية الحكام أكثر أثرًا من هداية المحكومين، والبداية بالمتبوع أولى بالبدية مع التابع . نعم، ذهب إلى نخبة البلد وأهم ثلاث شخصيات في الطائف، وهم أخوة : عبد ياليل، ومسعود ، وحبيب بنو عمرو . فلما جلس إليهم وكلمهم، سخروا منه، وردوا عليه ردًا منكرًا، وأغروا به السفهاء، فاجتمع عليه الأهالي، ووقفوا له صفين، يمر من بينهم، وقد أمطروه ضربًا بالحجارة حتى دميت قدماه، وقذفًا بالهجاء والشتم، وكان "زيد "يقيه بنفسه حتى أصيب في رأسه، ومكثوا يطاردونه ويصيحون به في الشوارع حتى ألجأوه إلى بستان، لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، وهكذا ظل الناس يطاردونه ويضربونه على مدار مسافة طويلة، نحو خمسة كيلو مترات، وقد قطع هذه المسافة مشيًا أو ركضًا مع ما يكابده الأذى.
فدخل البستان يلوذ به، ويحتمي بشجراته من الضرب والمطاردة، وهو الذي جاء إليهم منقذًا، فجلس إلى شجرة عنب وكأنما هي المرة الأولى التي يجلس فيها بعد سنين، فقد أعياه الضرب والركل، ودماء شريفة تنزف من وجهه الكريم، ومن قدمه الشريف، فضلاً عن ذلك الجرح النفسي في قلبه الصديع المكلوم، والأسى الذي ينكأ جروح الماضي، فإذا بخير البرية – صلوات الله وسلامه عليه - يتوجه إلى ربه ضارعًا، خاشعًا ، رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربه، معتذرًا إليه، متحببًا إليه، بكلمات كريمة ، وبدعاء صادق نبع من أعماق قلبه الحزين، قد امتزجت كلماته بحرقه وجدانه المكسور :
"اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك"[ابن هشام 1/ 420]
لقد كانت إصابته النفسية كبيرة، إلى الدرجة التي نراه لأول مرة يشكو إلى الله قلة حيلته وضعف قوته وهوانه على الناس .
"اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو "
صلى الله عليك ، علمتنا أن الشكاية واللجوء إنما يكون إلى الباري جل في علاه، يجيب المضطر ويكشف الضر ويشفي السقيم ويقضي الحاجات . "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " [البقرة186 ]، " أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ " [النمل:62].
"إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ "
كلا ! أنت الأقوى بين بني البشر ! وأنت الأعلى وأنت الأعظم بين البرية يا خير الورى – صلى الله عليك - .
بل هم أهل الهوان؛ إذ هانو على أنفسهم، وكذبوا دعوتك، وحجبوا عن قلوبهم نورك. هم الأهون والأذل ، والله ليردنك الله إلى ثقيف وأنت العزيز وهم الإذلاء، حتى إذا قهرتهم في غزوة حنين في العام الثامن من الهجرة، وقتلت منهم وأسرت، جاءو إليك معتذرين، يطلبون سباياهم، فتفك نسائهم من الأسر وأولادهم من الرق ، وتعفو وتصفح الصفح الجميل ، فيدخلوا في الإسلام وافرين : زانتك في الخلق العظيم شمائل **** يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى **** وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادرا ومقدرا **** لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب **** هذان في الدنيا هما الرحماء
بك يا ابن عبدالله قامت سمحة **** بالحق من ملل الهدى غراء
" يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي" .
سينصرك الله نصرًا عزيزًا، وينصر جنودك وأتباعك وتلاميذك إلى قيام الساعة، ستنكشف الغمة – إن شاء الله تعالى - ، وتفيق الأمة، سيندمل الجرح يا رسول الله، وسيمكن الله لدعوتك، ويستخلف الله عباده المستضعفين، فيرفعوا رايتك، ويطبقوا شرعتك، " وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ " [الحج: 39].
" إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي"
لا تبالي ! "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ "[الكوثر3]، إن مبغضك هو المقطوع !"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ "[الحجر95]، " فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [البقرة137]، " طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى " [ طه1،2] " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ{1} وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ{3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ{4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{6} " [ الشرح : 1-5].
لا تحزن ! سيفتح الله لك قلوب الأبعدين، وسيمكنك الله من رقاب العدوين، فلا يتجهمك الأول ولا يملك أمرك الثاني، بل ستملك زمامهما رغبًا أو رهبًا، " وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً " [ النساء : 141]. "كَتَبَ اللَّهُ : لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي؛ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ " [ المجادلة:21].
"إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي" ..
والله لم يغضب عليك ! وما أعظم نفسك الكريمة، تتهم نفسك بالتقصير، وما قصرت قيد أنمله، لا تبالي، فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ! لا تبالي، فأنت الشافع المشفع ! لا تبالي، فأنت حبيب الله أنت خليله ! لا تبالي ؛ فعافيته أوسع، ورحمته وسعت كل شيىء .
"أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ" .
ما أكرمك ! تسأل ربك أن يعيذك بوجه الكريم من غضبه وسخطه ! فكيف بنا وكلنا ذنوب !
لا تبالي ، قد أعاذك ولله الحمد بنور وجهه الكريم، الذي أشرقت له الظلمات من غضبه، فاللهم لا تغضب علينا .
لا تبالي ، قد أعاذك ولله الحمد بنور وجهه الكريم الذي صلح عليه أمر الدنيا والآخرة من سخطه، فاللهم ارحمنا وارض عنا .
"لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى".
صلى الله عليك، تتحب إلى ربك، وتتلطف إليه، وتتودد ، وتؤكد على غايتك الكريمة، وهي رضا مولاك، فله أن يعاتبك حتى يرضى عنك . لا يضيرك شيئ ما دام الله راض عنك، لا يحزنك شيء طالمًا الرب يحبك . لله درك !حتى وأنت نبي الله تصحح نيتك وتوكد مقصدك ؟!
" وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك"
تتبرأ من كل حول ومن كل طول ومن كل قوة إلا قوة الله وحوله وطوله، أنت لا تعترف بأي قوة إلا قوة الله ، فأنت قوي بالله، ولن يخزيك أرحم الراحمين، فلا تبالي ! .
أخي :
1- اشك إلى ربك همومك كما رأيت من رسولك !
2- لا حيلة لك ولا قوة لك إلا بالله فلا تظلم ولا تتجبر ولا تتكبر
3- لا تبالي إلا بغضب الله فلا تحزن على دنيا فانية أو زينة ماضية، واحزن وابك على طاعة فاتتك ورضا من الله خسرته في موقف.
4- عافية الله أوسع ورحمته أرحب فلا تقنت من رحمة الله وفرجه، سينجلي الهم، وسيذهب الحزن، وسيشفى القلب، فلا تظن أن ظالمك منتصر .
5- وجه الله الكريم، أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، فهل سئلت ربك النظر إلى وجهه الكريم ؟ دومًا قلها : اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم ،" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23}" [ القيامة ].
6- أكثر من الاستغفار وسؤال الله أن يعيذك من غضبه وسخطه، واحفظها : "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" [ مسلم 751]، "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ" [ مسلم 4922]
__________________
** كاتب وداعية مصري، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومستشار لموقع إسلام أون لاين بالنطاق الشرعي، والمشرف العام على موقع نبي الرحمة.
عمروعبده 27-02-2011, 05:43 PM رسالة الإسلام
كان فتح مكة، فتح أخلاق ورحمة، قلما نجد في تاريخ البشر فتحًا يضاهي فتح مكة في روعة أخلاقياته، وسمو العفو في طيات أحداثه.
فهو يوم نُصرة المظلوم، ويوم الوفاء والبر، ويوم عز مكة، ويوم التمكين .......
وقد ازدحمت في هذا اليوم ، مشاهد الأخلاق الكريمة ، وصور الخلال السجيحة، حتى تيقن الباحثُ في السيرة النبوية؛ أن محاضن التربية التي كانت في دار الأرقم، قد أتت أُكلها، وأينعت ثمارها، وانتفض حية في سلوك الصحابة يوم الفتح؛ تلك الدروس النبوية في العقيدة والأخلاق التي تربى عليها خير جيل .
فلم نسمع يوم الفتح؛ أن رجلاً مسلمًا هتك عرض امرأة، أو سرق شملة، أو هدم بيتًا، أو أفسد زرعًا، أو قتل ظلمًا، أو فزّع طفلاً . كانوا – رضي الله عنهم – مصاحف في مساليخ بشر، تتحرك تتلك المصاحف بين الشوارع والأزقة، أو يتحرك هؤلاء الرجال الربانيون بين أكناف مكة .. في حكمة، ينشرون العدل والحق ، وينتشر الإسلام بفضل أخلاقهم انتشار أشعة الشمس، أو فوحان المسك، وترى الواحد منهم – أي من هؤلاء الصحابة الكرام يوم الفتح - كالليث في السكة، فقد فر منه المجرمون، وأمنَّ به الجالس في كسر بيته ، والثاوي في بيت ربه.
نصرة المظلوم
وأول دروس الأخلاق الجلية في يوم الفتحة ، هو درس نصرة المظلوم .
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة – حلفاء المسلمين - ، وأعملوا فيها القتل، وخرقوا العقد؛ أرسلت خزاعة رسولاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باعتباره شريك عقد وأخ حلف، فخرج عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ سراعًا، يجوب الحزون ليلاً ونهارًا، حَتّى قَدِمَ المدينة، فوقف على النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يجلس حتى أخبره الخبر، فلخَّص له الأحداث في قصيدة تاريخية شهيرة، قال فيها : يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ... ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا ... إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا ... إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا ... وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا ... وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
" نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنُ سَالِمٍ !!! " [ ابن هشام2/393 ]
واستبشر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتفائل؛ فعَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ، فَقَالَ :
" إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ " [ ابن هشام 2/393].
لقد اعتمل فؤادُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غيظًا على هذا الظلم الصريح، فلم يقر حتى انتدب لنصرة حلفائه، والتجهز للتنكيل بأعدائه، الذين انتهكوا الحرمات، وسفكوا الدماء.
إنها نصرة المظلوم، وإغاثة المكلوم، تلك الخصلة الإسلامية الكريمة، والخلة العربية الأصيلة، وليس من المسلمين من لم يهتم بأمرهم، فيناصرهم ويذود عنهم.. وملعونٌ ذلك الذي شهد موقفًا يُظلم فيه المظلوم، وانقلب خسيئًا سلبيًا لم ينصر أخاه ببنت شفة – وهو يقدر.
وفي الأثر : لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره. من أُذل عنده مؤمن وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق .
وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا [وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ]" [ البخاري: 2266]
فالمؤمن لأخيه كالبنيان، يقوّيه ويمنعه من ظلم الظالمين، وبغي الباغين، وغُشم الغاشمين. وقد شبَّك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أصابعه، ممثلاً لتلك العلاقة التي تربط بين الإخوان وبعضهم، فهي كالأصابع المتضاغمة، كتلك الشبَكة التي لا غناء لها عن عقدة من عقدها. وقد خاب من حمل ظلمًا.
أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال الظلوم هو الملوم
نبذ الهدنة مع الخونة
والإبقاء على عهد الخائن الـهَوجَل ؛ ليس من الخُلق في شيء، بل الأخْلقُ نبذ عهده، وشق موادعته، وخليق بإمام المسلمين ألا يحوْل عهد الغَدرةِ دون نصرة البررة، وحقيقٌ أن بنود صلح الحديبية تسقط فور إخلال أحد الأطراف ببند من البنود.
ولقد استند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نصرته لخزاعة، إلى أصل أصيل، مفاده أن العدو إذا حارب من هم في جوار المسلمين أو في حلفهم أو في ذمتهم، صار العدو بذلك محاربًا لسلطان المسلمين، وبذلك يصبح المسلمون في حِلِّ من أي اتفاقات مبرمة، أو معاهدات سابقة، وذلك لسبب وجيه : أن العدو نفسه نقَضها باعتدائه على حلفاء المسلمين، وما على إمام المسلمين عار إذا باغت العدو حينئذ في عقره، ودخل عليهم بغتة، أما إذا شك إمام المسلمين في كون العدو على العهد أو تحول إلى النقض؛ فلا يجوز للإمام في هذه الحالة مباغتة العدو، إلا بعد إعلامهم بنبذ العهد، وذلك حتى لا يُؤثر عن المسلمين الغدر، ودليل ذلك قول الله تعالى :
"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ " [الأنفال58]
العفو عن صاحب السبق إذا ذل
فهذا حاطب، ذل، وتخابر مع العدو، فأرسل إليهم كتابًا يخبرهم فيه بمقدم جيش المسلمين، وأرسل هذا الكتاب إليهم مع " مُطربة " تجوب بين القبائل تغني، فأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في إثر هذه المغنية، وتم مصادرة خطاب حاطب، ورُفع الأمر إلى حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ليفصل في هذه القضية، فدليل التخابر موجود، والمتهم مُعترف، بل قال – مبررًا - :
" يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ .. كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ " [البخاري: (3939)]
وكانت مبررات حاطب هذه كلها، محض شَعْبذة وهراء ..
وكان حُكم رسول الله العفو !
وذلك لسبب استثنائي دامغ :
أن حاطبًا قد شهد بدرًا ، وأن الله قد تاب على حاطب، فقال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وحاشا أن يُكذب الله، وأن عملية التخابر لم تتم ولم تنجح ..
ولقد أَكلتْ هذه الفعلة الشنعاء قلبَ عمر – فأراد أن يستئذن رسول الله في قتل حاطب -فقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ" .
فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ! وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا .. فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ !" ..
فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ "[البخاري: (3939)] .
وفي عفوه – صلى الله عليه وسلم – عن حاطب، يدل على أهمية العفو عن أصحاب السبق والفضل في الإسلام إذا ما وقعوا في خطيئة أو ذلت أقدامهم في مصيبة ..
وفي هذا الموقف – أيضًا - دلالة على عدم جواز التخابر لصالح العدو، ولا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من أعداء الله أولياء يلقون إليهم بالمودة ..
حظر الشعارات والهتافات غير الأخلاقية :
وفي نشوة الفتح، وشذى النصر الفواح، صاح قائد الأنصار سعد بن عبادة : " الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ! "
فَقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم - : "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ "[ صحيح البخاري (3944) ]
وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال: إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد.[ ابن كثير: 3/559].
وفيه، دلالة على حظر فحش القول وهُجره في الشعارات والهتافات، خاصة في المؤتمرات والتظاهرات، فليس من أخلاقنا، أن نتخلق بأخلاق الغوغاء ممن يتهفون بأفظع الهجاء . فإذا هتفنا أو شعِرنا أو نَظَمْنا الشعارات، أو نثرنا الأسجاع؛ في تظاهرة أو مؤتمر، فإنما يكون بأطايب الكلام، وبأحاسن الألفاظ، فديننا دين مكارم الأخلاق . والله يكره الفاحش البذيء، واللعان الطعان .
تواضع الفاتحين الإسلاميين
كأنه وهو فرد من جلالته *** في عسكر حين تلقاه وفي حشم
ودخل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – مكة، شاخص الطرف، باسط الكف، شاكرًا حامدًا ربه، خفيض الرأس، معتمًا بعمامة سوداء، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل..
ويلهج صوته بالقرآن، قارئَا سورة الفتح .
يتراءى للناس رويدًا رويدًا، كالكوكب المشبوب رونقًا وبهاءً.
يَشقُ بجحافله البيداءَ شقًا، شامخَا باذخًا، في جَلْجَلة وصَلْصَلة، يحفه خير أجناد الله، عليهم وَقَار البطولة، ومَخَايل الظفر .. كلهم ، كلهم في انتظار إشارة منه لتتحول مكة إلى حمام دم، ومذبحة يشيبُ لها الأمْرَد، وخسف وهدم، ليدمدموا مكة على رءوس المشركين ، فهم الذين عذّبوا المسلمين أيام عهد مكة، وسجنوهم وحصروهم وأخرجوهم .
ولكن ما حدث ليس ذلك، بل أصدر العفو العام .
العفو العام عند المقدرة
وماذا عن العفو العام، الذي أطنب فيه المفكرون عبر حقب التاريخ ؟
بعدما أمنَّ الجميع، في بيوتهم ومساجدهم، وقال: : "كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً" [ الترمذي: 3054]، وقال : " لا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [ مسلم : (3334)].
يقول "واشنجتون ايرفنج"، في كتابه (حياة محمد)، معلقًا على قرار العفو العام:
"كانت تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" [واشنجتون ايرفنج : حياة محمد 72 .].
ويقول : إميل درمنغم :
"فقد برهن [محمد ] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء ! " [انظر: بشرى زخاري ميخائيل : محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50].
إن أخلاقيات العفو العام، هي أخلاقيات تمخضت عن نفوس أُشربت الربانية، وشربت من كأس التربية ثمالتها، وإن أمثال هؤلاء ممن تربوا على التراحم فيما بينهم والتآخي والتغافر، لخليق بهم أن يحملوا راية التمكين في الأرض، فما أعظم هذه النفوس التي ذاقت ويلات التعذيب في رمضاء مكة، حتى إذا أمكنهم الله من رقاب أعداءهم، أَعطوا العفو، وجنَّبوا القود، فمسألة التمكين عند هؤلاء الإسلاميين ليست حكاية تصفية حسابات، وليست حكاية غرس أعواد المشانق لمن شنقوهم، فشنقًا بشنق وتنكيلاً بتنكيل، وليست قضيتهم قضية مطالَبات وتِرات، وثارات ودِيَّات، بل يعتبرون الإيذاء ضريبة التمكين، ووسام على صدور المؤمنين.. فهؤلاء الإسلاميون لا يحملون بين جنباتهم جذوة الثأر، إنما يحملون بميامنهم شعلة القرآن، وبميامنهم الآخرى شعلة السُنة، وبين ذلك يحملون قلبًا خالصًا للرب، صادقًا في الغاية.
إنتماء القائد لأنصاره:
ويكأن الناظر ظن، أن رسول الله ضن بأهله المكيين، فأصدر عفوه، وأمنَّ عدوه، فقال: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " [مسلم : (3332)].
فقال بعض الأنصار : أَمَّا الرَّجُلُ [ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ] فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ !
فنبَّأه العليمُ الخبير ..
فجمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأنصار ، وقال :
"قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَلا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ !! "
فبكوا، وأرسلوا عبرات الحب، وزفرات الضن بقائدهم، قائلين :
" وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلا ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ! " ..
وتفَّهمَ القائد هذه المشاعر النبيلة، وكأنه لامس مشاعرهم الصادقة في سيوداء قلوبهم ، فقال :
"فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ" [مسلم : (3332)].
يا صاحب الفتح ! صلى الله عليك !
لقد قيض الله لك أنصارًا لا يطمعون في شيء بين الخافقين إلا في رضاك عنهم وقربك منهم . ولا يبغون لعاعة من الدنيا، إنما يأملون أن يعودا إلى ديارهم في المدينة المنورة - وقد رجعوا بك في رحالهم .
يوم بِرٍ ووفاء
وجاء علي بن أبي طالب، يطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجمع له شرف الحجابة مع السقاية، وقد كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، وقد طلب النبي منه تسليم المفتاح ليصلي في جوف الكعبة، ثم رده إليه قائلاً :
" هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ " [ ابن هشام 2/412]
ولم يكن يوم ظلم وعدوان. أو مكر وخُتل.
وقد كان في استطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يضع مفتاح الكعبة في بني هاشم أو في يد زعيم من زعماء الصحابة . فقد كان إعلاء قيم البر الوفاء أولى من الاستئثار بمفتاح الكعبة، ولم يكن من شيم الفاتحين الإسلاميين سلب الأملاك وكرائم الأموال ونفائس الآثار؛ إن ذلك من شأن الإنقلابيين الفاسدين الذي إذا وصلوا إلى سُدة الحُكم – جَبريةً - ، أكلوا كل شيء عنوة، قصور ومجوهرات، ومال وعقارات- كما فعل أصحاب الثورات النكدة السوداء، حيث يتحول فريق الإنقلاب من أبطال كفاح ونضال، إلى لصوص كبار، ومعربدين فجار، وخونة غَّدار، فلا يتركون صادحًا ولا باغمًا، ولاخفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوْ عليه، حتى لعاعة الفقير اللابط بالأرض، الذي يبيت طاويًا، لا يجد أكسار بقرة .. يشتهي ظِلفَا يمسك رمقه، أو عرقوبًا يُطفىء لوعته، ولا يجده .
***
هذه دروس في أخلاقيات الفتح؛ تشي بأحقية الناشيء الصابر في الظفر والتمكين والسؤدد، فأقرب الدعاة إلى التمكين أحاسنهم أخلاقًا، وأحق الدعوات بالنجاح أكارمها أخلاقًا، وكذلك الحال في الجماعات والدول والحضارات، فالأخلاق عماد الحضارات، وكم من حضارة زالت بشؤم ظالم فاسد، وعربيد خليع، ومرقص لعوب !
وكم من أناس عاشوا يزفون الفتوحات إلى الأمة، ولم يغنموا من غنائم النصر عقال بعير، أو سلاح غفير، فقضوا نحبهم دون أن تتمرغ أجسامهم في ريش النصر وفراش النعيم والوثير؛ وكانت القبور مساكنهم . فلهم ثواب الله . فأنعم به وأكرم من ثواب !
وآخرون قطفوا ثمرة الفتح سهلة، وقد تعبَ وجاهدَ في سبيلها غيرهم، ونسوا حظًا من تعاليم الإسلام، وطال عليهم الأمد، وقست قلوبهم، وتلَّهوا بالنساء والبنين والمال والأنعام والحرث، وشغلتهم أموالهم وأهلوهم عن منهج الله، واستوردوا دساتير اليهود والنصارى، واتَّبعوهم في ثقافاتهم حذو القذة بالقذة، وتصعلكوا لأعداء الأمة، وجلبوا للمسلمين كل مَضَرَّة ومَعَرَّة .. وأوليئك هم الرُّقعاء السفهاء، الذين أضاعوا المجد، وباعوا العِرض، وهم لصوص الأمة، وإن اعتلوا ذُؤابة منبر المجد، الذي بناه الفاتحون الصادقون.
فعسى الله أن يأتي بفتح جديد، وفاتح مجيد، فيعود المجد التليد !
نقلاً عن موقع رسالة الإسلام
الاثنين 15 رمضان 1429 الموافق 15 سبتمبر 2008
___________________
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمشرف العام على موقع نبي الرحمة، ومستشار لموقع إسلام أون لاين في النطاق الشرعي .
عمروعبده 27-02-2011, 08:05 PM أخلاقيات فَتْح مَكَّةَ
22 رمضان 8 هـ- يناير 630 م
بقلم : محمد مسعد ياقوت **
رسالة الإسلام
كان فتح مكة، فتح أخلاق ورحمة، قلما نجد في تاريخ البشر فتحًا يضاهي فتح مكة في روعة أخلاقياته، وسمو العفو في طيات أحداثه.
فهو يوم نُصرة المظلوم، ويوم الوفاء والبر، ويوم عز مكة، ويوم التمكين .......
وقد ازدحمت في هذا اليوم ، مشاهد الأخلاق الكريمة ، وصور الخلال السجيحة، حتى تيقن الباحثُ في السيرة النبوية؛ أن محاضن التربية التي كانت في دار الأرقم، قد أتت أُكلها، وأينعت ثمارها، وانتفض حية في سلوك الصحابة يوم الفتح؛ تلك الدروس النبوية في العقيدة والأخلاق التي تربى عليها خير جيل .
فلم نسمع يوم الفتح؛ أن رجلاً مسلمًا هتك عرض امرأة، أو سرق شملة، أو هدم بيتًا، أو أفسد زرعًا، أو قتل ظلمًا، أو فزّع طفلاً . كانوا – رضي الله عنهم – مصاحف في مساليخ بشر، تتحرك تتلك المصاحف بين الشوارع والأزقة، أو يتحرك هؤلاء الرجال الربانيون بين أكناف مكة .. في حكمة، ينشرون العدل والحق ، وينتشر الإسلام بفضل أخلاقهم انتشار أشعة الشمس، أو فوحان المسك، وترى الواحد منهم – أي من هؤلاء الصحابة الكرام يوم الفتح - كالليث في السكة، فقد فر منه المجرمون، وأمنَّ به الجالس في كسر بيته ، والثاوي في بيت ربه.
نصرة المظلوم
وأول دروس الأخلاق الجلية في يوم الفتحة ، هو درس نصرة المظلوم .
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة – حلفاء المسلمين - ، وأعملوا فيها القتل، وخرقوا العقد؛ أرسلت خزاعة رسولاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باعتباره شريك عقد وأخ حلف، فخرج عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ سراعًا، يجوب الحزون ليلاً ونهارًا، حَتّى قَدِمَ المدينة، فوقف على النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يجلس حتى أخبره الخبر، فلخَّص له الأحداث في قصيدة تاريخية شهيرة، قال فيها : يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ... ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا ... إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا ... إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا ... وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا ... وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
" نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنُ سَالِمٍ !!! " [ ابن هشام2/393 ]
واستبشر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتفائل؛ فعَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ، فَقَالَ :
" إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ " [ ابن هشام 2/393].
لقد اعتمل فؤادُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غيظًا على هذا الظلم الصريح، فلم يقر حتى انتدب لنصرة حلفائه، والتجهز للتنكيل بأعدائه، الذين انتهكوا الحرمات، وسفكوا الدماء.
إنها نصرة المظلوم، وإغاثة المكلوم، تلك الخصلة الإسلامية الكريمة، والخلة العربية الأصيلة، وليس من المسلمين من لم يهتم بأمرهم، فيناصرهم ويذود عنهم.. وملعونٌ ذلك الذي شهد موقفًا يُظلم فيه المظلوم، وانقلب خسيئًا سلبيًا لم ينصر أخاه ببنت شفة – وهو يقدر.
وفي الأثر : لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره. من أُذل عنده مؤمن وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق .
وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا [وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ]" [ البخاري: 2266]
فالمؤمن لأخيه كالبنيان، يقوّيه ويمنعه من ظلم الظالمين، وبغي الباغين، وغُشم الغاشمين. وقد شبَّك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أصابعه، ممثلاً لتلك العلاقة التي تربط بين الإخوان وبعضهم، فهي كالأصابع المتضاغمة، كتلك الشبَكة التي لا غناء لها عن عقدة من عقدها. وقد خاب من حمل ظلمًا.
أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال الظلوم هو الملوم
نبذ الهدنة مع الخونة
والإبقاء على عهد الخائن الـهَوجَل ؛ ليس من الخُلق في شيء، بل الأخْلقُ نبذ عهده، وشق موادعته، وخليق بإمام المسلمين ألا يحوْل عهد الغَدرةِ دون نصرة البررة، وحقيقٌ أن بنود صلح الحديبية تسقط فور إخلال أحد الأطراف ببند من البنود.
ولقد استند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نصرته لخزاعة، إلى أصل أصيل، مفاده أن العدو إذا حارب من هم في جوار المسلمين أو في حلفهم أو في ذمتهم، صار العدو بذلك محاربًا لسلطان المسلمين، وبذلك يصبح المسلمون في حِلِّ من أي اتفاقات مبرمة، أو معاهدات سابقة، وذلك لسبب وجيه : أن العدو نفسه نقَضها باعتدائه على حلفاء المسلمين، وما على إمام المسلمين عار إذا باغت العدو حينئذ في عقره، ودخل عليهم بغتة، أما إذا شك إمام المسلمين في كون العدو على العهد أو تحول إلى النقض؛ فلا يجوز للإمام في هذه الحالة مباغتة العدو، إلا بعد إعلامهم بنبذ العهد، وذلك حتى لا يُؤثر عن المسلمين الغدر، ودليل ذلك قول الله تعالى :
"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ " [الأنفال58]
العفو عن صاحب السبق إذا ذل
فهذا حاطب، ذل، وتخابر مع العدو، فأرسل إليهم كتابًا يخبرهم فيه بمقدم جيش المسلمين، وأرسل هذا الكتاب إليهم مع " مُطربة " تجوب بين القبائل تغني، فأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في إثر هذه المغنية، وتم مصادرة خطاب حاطب، ورُفع الأمر إلى حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ليفصل في هذه القضية، فدليل التخابر موجود، والمتهم مُعترف، بل قال – مبررًا - :
" يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ .. كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ " [البخاري: (3939)]
وكانت مبررات حاطب هذه كلها، محض شَعْبذة وهراء ..
وكان حُكم رسول الله العفو !
وذلك لسبب استثنائي دامغ :
أن حاطبًا قد شهد بدرًا ، وأن الله قد تاب على حاطب، فقال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وحاشا أن يُكذب الله، وأن عملية التخابر لم تتم ولم تنجح ..
ولقد أَكلتْ هذه الفعلة الشنعاء قلبَ عمر – فأراد أن يستئذن رسول الله في قتل حاطب -فقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ" .
فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ! وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا .. فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ !" ..
فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ "[البخاري: (3939)] .
وفي عفوه – صلى الله عليه وسلم – عن حاطب، يدل على أهمية العفو عن أصحاب السبق والفضل في الإسلام إذا ما وقعوا في خطيئة أو ذلت أقدامهم في مصيبة ..
وفي هذا الموقف – أيضًا - دلالة على عدم جواز التخابر لصالح العدو، ولا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من أعداء الله أولياء يلقون إليهم بالمودة ..
حظر الشعارات والهتافات غير الأخلاقية :
وفي نشوة الفتح، وشذى النصر الفواح، صاح قائد الأنصار سعد بن عبادة : " الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ! "
فَقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم - : "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ "[ صحيح البخاري (3944) ]
وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال: إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد.[ ابن كثير: 3/559].
وفيه، دلالة على حظر فحش القول وهُجره في الشعارات والهتافات، خاصة في المؤتمرات والتظاهرات، فليس من أخلاقنا، أن نتخلق بأخلاق الغوغاء ممن يتهفون بأفظع الهجاء . فإذا هتفنا أو شعِرنا أو نَظَمْنا الشعارات، أو نثرنا الأسجاع؛ في تظاهرة أو مؤتمر، فإنما يكون بأطايب الكلام، وبأحاسن الألفاظ، فديننا دين مكارم الأخلاق . والله يكره الفاحش البذيء، واللعان الطعان .
تواضع الفاتحين الإسلاميين
كأنه وهو فرد من جلالته *** في عسكر حين تلقاه وفي حشم
ودخل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – مكة، شاخص الطرف، باسط الكف، شاكرًا حامدًا ربه، خفيض الرأس، معتمًا بعمامة سوداء، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل..
ويلهج صوته بالقرآن، قارئَا سورة الفتح .
يتراءى للناس رويدًا رويدًا، كالكوكب المشبوب رونقًا وبهاءً.
يَشقُ بجحافله البيداءَ شقًا، شامخَا باذخًا، في جَلْجَلة وصَلْصَلة، يحفه خير أجناد الله، عليهم وَقَار البطولة، ومَخَايل الظفر .. كلهم ، كلهم في انتظار إشارة منه لتتحول مكة إلى حمام دم، ومذبحة يشيبُ لها الأمْرَد، وخسف وهدم، ليدمدموا مكة على رءوس المشركين ، فهم الذين عذّبوا المسلمين أيام عهد مكة، وسجنوهم وحصروهم وأخرجوهم .
ولكن ما حدث ليس ذلك، بل أصدر العفو العام .
العفو العام عند المقدرة
وماذا عن العفو العام، الذي أطنب فيه المفكرون عبر حقب التاريخ ؟
بعدما أمنَّ الجميع، في بيوتهم ومساجدهم، وقال: : "كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً" [ الترمذي: 3054]، وقال : " لا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [ مسلم : (3334)].
يقول "واشنجتون ايرفنج"، في كتابه (حياة محمد)، معلقًا على قرار العفو العام:
"كانت تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" [واشنجتون ايرفنج : حياة محمد 72 .].
ويقول : إميل درمنغم :
"فقد برهن [محمد ] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء ! " [انظر: بشرى زخاري ميخائيل : محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50].
إن أخلاقيات العفو العام، هي أخلاقيات تمخضت عن نفوس أُشربت الربانية، وشربت من كأس التربية ثمالتها، وإن أمثال هؤلاء ممن تربوا على التراحم فيما بينهم والتآخي والتغافر، لخليق بهم أن يحملوا راية التمكين في الأرض، فما أعظم هذه النفوس التي ذاقت ويلات التعذيب في رمضاء مكة، حتى إذا أمكنهم الله من رقاب أعداءهم، أَعطوا العفو، وجنَّبوا القود، فمسألة التمكين عند هؤلاء الإسلاميين ليست حكاية تصفية حسابات، وليست حكاية غرس أعواد المشانق لمن شنقوهم، فشنقًا بشنق وتنكيلاً بتنكيل، وليست قضيتهم قضية مطالَبات وتِرات، وثارات ودِيَّات، بل يعتبرون الإيذاء ضريبة التمكين، ووسام على صدور المؤمنين.. فهؤلاء الإسلاميون لا يحملون بين جنباتهم جذوة الثأر، إنما يحملون بميامنهم شعلة القرآن، وبميامنهم الآخرى شعلة السُنة، وبين ذلك يحملون قلبًا خالصًا للرب، صادقًا في الغاية.
إنتماء القائد لأنصاره:
ويكأن الناظر ظن، أن رسول الله ضن بأهله المكيين، فأصدر عفوه، وأمنَّ عدوه، فقال: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " [مسلم : (3332)].
فقال بعض الأنصار : أَمَّا الرَّجُلُ [ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ] فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ !
فنبَّأه العليمُ الخبير ..
فجمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأنصار ، وقال :
"قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَلا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا ! ؟ أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ !! "
فبكوا، وأرسلوا عبرات الحب، وزفرات الضن بقائدهم، قائلين :
" وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلا ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ! " ..
وتفَّهمَ القائد هذه المشاعر النبيلة، وكأنه لامس مشاعرهم الصادقة في سيوداء قلوبهم ، فقال :
"فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ" [مسلم : (3332)].
يا صاحب الفتح ! صلى الله عليك !
لقد قيض الله لك أنصارًا لا يطمعون في شيء بين الخافقين إلا في رضاك عنهم وقربك منهم . ولا يبغون لعاعة من الدنيا، إنما يأملون أن يعودا إلى ديارهم في المدينة المنورة - وقد رجعوا بك في رحالهم .
يوم بِرٍ ووفاء
وجاء علي بن أبي طالب، يطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجمع له شرف الحجابة مع السقاية، وقد كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، وقد طلب النبي منه تسليم المفتاح ليصلي في جوف الكعبة، ثم رده إليه قائلاً :
" هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ " [ ابن هشام 2/412]
ولم يكن يوم ظلم وعدوان. أو مكر وخُتل.
وقد كان في استطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يضع مفتاح الكعبة في بني هاشم أو في يد زعيم من زعماء الصحابة . فقد كان إعلاء قيم البر الوفاء أولى من الاستئثار بمفتاح الكعبة، ولم يكن من شيم الفاتحين الإسلاميين سلب الأملاك وكرائم الأموال ونفائس الآثار؛ إن ذلك من شأن الإنقلابيين الفاسدين الذي إذا وصلوا إلى سُدة الحُكم – جَبريةً - ، أكلوا كل شيء عنوة، قصور ومجوهرات، ومال وعقارات- كما فعل أصحاب الثورات النكدة السوداء، حيث يتحول فريق الإنقلاب من أبطال كفاح ونضال، إلى لصوص كبار، ومعربدين فجار، وخونة غَّدار، فلا يتركون صادحًا ولا باغمًا، ولاخفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوْ عليه، حتى لعاعة الفقير اللابط بالأرض، الذي يبيت طاويًا، لا يجد أكسار بقرة .. يشتهي ظِلفَا يمسك رمقه، أو عرقوبًا يُطفىء لوعته، ولا يجده .
***
هذه دروس في أخلاقيات الفتح؛ تشي بأحقية الناشيء الصابر في الظفر والتمكين والسؤدد، فأقرب الدعاة إلى التمكين أحاسنهم أخلاقًا، وأحق الدعوات بالنجاح أكارمها أخلاقًا، وكذلك الحال في الجماعات والدول والحضارات، فالأخلاق عماد الحضارات، وكم من حضارة زالت بشؤم ظالم فاسد، وعربيد خليع، ومرقص لعوب !
وكم من أناس عاشوا يزفون الفتوحات إلى الأمة، ولم يغنموا من غنائم النصر عقال بعير، أو سلاح غفير، فقضوا نحبهم دون أن تتمرغ أجسامهم في ريش النصر وفراش النعيم والوثير؛ وكانت القبور مساكنهم . فلهم ثواب الله . فأنعم به وأكرم من ثواب !
وآخرون قطفوا ثمرة الفتح سهلة، وقد تعبَ وجاهدَ في سبيلها غيرهم، ونسوا حظًا من تعاليم الإسلام، وطال عليهم الأمد، وقست قلوبهم، وتلَّهوا بالنساء والبنين والمال والأنعام والحرث، وشغلتهم أموالهم وأهلوهم عن منهج الله، واستوردوا دساتير اليهود والنصارى، واتَّبعوهم في ثقافاتهم حذو القذة بالقذة، وتصعلكوا لأعداء الأمة، وجلبوا للمسلمين كل مَضَرَّة ومَعَرَّة .. وأوليئك هم الرُّقعاء السفهاء، الذين أضاعوا المجد، وباعوا العِرض، وهم لصوص الأمة، وإن اعتلوا ذُؤابة منبر المجد، الذي بناه الفاتحون الصادقون.
فعسى الله أن يأتي بفتح جديد، وفاتح مجيد، فيعود المجد التليد !
نقلاً عن موقع رسالة الإسلام
الاثنين 15 رمضان 1429 الموافق 15 سبتمبر 2008
___________________
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمشرف العام على موقع نبي الرحمة، ومستشار لموقع إسلام أون لاين في النطاق الشرعي .
عمروعبده 27-02-2011, 08:10 PM غزوة بدر الكبرى .. وعلاقة القائد بجنده
(الجمعة 17 رمضان 2هـ/13مارس624م)
بقلم : محمد مسعد ياقوت **
ستظل معركة بدر الكبرى مَعلَمًا عريقًا، و دستورًا منيرًا للدعاة والمصلحين والمجاهدين في معاركهم مع الباطل، ستظل الدرس الأكبر في انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ..
كما ستبقى مرجعًا مهمة لتجلية العلاقة بين القائد وجنده، والأمير وجيشه، دروسًا في الجندية والطاعة، والوحدة والتنظيم والجماعة ..
والحق أن مسألة " العلاقة بين القائد وجنده " ..تحتاج دومًا للتأصيل والتوضيح، والتبيين والتمثيل، فهل يتبسط القائد مع جنده إلى حد المجون ؟ وهل يتشدد القائد مع جنده إلى حد الغرور ؟ ما هي يا ترى طبيعة العلاقة بين القائد وجنده من الناحية الإنسانية ومن الناحية العسكرية ومن الناحية السياسية ؟ ..
إن إجابة هذا السؤال، في مدارسة هذه الغزوة الفضيلة ..والوقوف على مواقفها الحكيمة، وقبل الإجابة؛ علينا أن نعرض لموجزها، قبل الولوج في مواقفها .
وسبب هذه الغزوة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سمع بقافلة تجارية لقريش قادمة من الشام بإشراف أبى سفيان بن حرب، وتتكون من ألف بعير محملة بالبضائع، يحرسها أربعون رجلاً فقط، فندب المسلمين إليها، ليأخذوها لقاء ما صادر المشركون من أموال وعقارات المسلمين في مكة. فخف بعضهم لذلك وتثاقل آخرون،إذ لم يكونوا يتصورون قتالاً فى ذلك.
وتحسس أبو سفيان الأمر وهو فى طريقه الى مكة، فبلغه عزم المسلمين على خروجهم لأخذ القافلة، فأرسل الى مكة من يخبر قريشاً بالخبر ويستفزهم للخروج لإنقاذ أموالهم .
فبلغ الخبر قريشاً فتجهزوا سراعاً وخرج كل منهم قاصدين القتال ولم يتخلف من أشراف قريش أحد وكانو قريباً من ألف مقاتل .
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ليال مضت من شهر رمضان مع أصحابه، أما أبو سفيان فقد أتيح له أن يحرز عيره، فلما أخبر قريشًا بأن القافلة التجارية قد نجت، وأنه لا داعي للقتال، رفض أبو جهل إلا المواجهة العسكرية..
وخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل، منهم ستمائة دارع (لابس للدرع) ومائة فرس، وسبعمائة بعير، ومعهم عدد من القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء الإسلام والمسلمين.
أما المسلمون فكانت عدتهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، من المهاجرين ثلاثة وثمانون، وباقيهم من الأنصار ( 61 من الأوس، و170 من الخزرج) ، وكان معهم سبعون بعيرًا، وفرسان، وكان يتعاقب النفر اليسير على الجمل الواحد فترة بعد أخرى، وقبل المعركة، استشار النبي أصحابه، وخاصة الأنصار، في خوض المعركة، فأشاروا عليه بخوض المعركة إن شاء ، وتكلموا خيرًا .. ثم سار النبي - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلى أرض المعركة في بدر [ وهي الآن مدينة بدر، تبعد 155 كلم عن المدينة، و310 كلم عن مكة، و30 كلم عن ساحل البحر الأحمر ] ، وعسكر النبي – صلى الله عليه وسلم - عند أدنى ماء من العدو نزولاً على اقتراح الحباب بن المنذر، وتمام بناء مقر القيادة كما أشار سعد بن معاذ، وقبيل المعركة، أخذ الرسول - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يسوي صفوف الجيش ، ويحرضهم على القتال، ويرغبهم في الشهادة، ورجع إلى مقر القيادة ومعه أبو بكر، وأخذ الرسول - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - في الدعاء والابتهال إلى الله أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين، ثم حمي القتال، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وقد قُتل منهم أربعة عشر، وقُتل من جيش المشركين سبعون، وأُسر سبعون، وافتدى المشركون أسراهم بالمال ونحوه. وأصدر النبي- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عفوًا عن بعض الأسرى دون أن يأخذ منهم الفداء ، نظرًا لفقرهم، وكلّف المتعلمين منهم بتعليم أطفال المسلمين القرأة والكتابة.
ونزلت سورة الأنفال تعقّب على هذه الغزوة وتستنكر على الصحابة اختلافهم على الأنفال . وتركز على سلبيات المعركة لمحاولة تلافيها في المعارك القادمة .
وبعد هذا الموجز، نقف فيما يلي على بعض مشاهد العلاقة بين القائد وجنده، لنرى موضع القائد من جنده وموضع الجند من قائدهم.
مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا : نحن نمشي عنك قال : " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما " [ابن هشام 2/ 389 وحسنه الألباني في تحقيق فقه السيرة 167].
فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويكابد معهم الآكام والشعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقر. والقائد إذا ركن إلى لذة المهاد الوثير؛ حُرم لذة المشاهد والمواقف. وبعض الرجال في الحروب غثاء !
استشارة الجنود
في وداي ذَفِرَانَ [وهو يبعد عن المدينة المنورة نحو مائة كيلو متر ]، وكان في هذا الوادي المجلس الاستشاري الشهير لمعركة بدر- بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم- نجاة القافلة، وتأكد من حتمية المواجهة، فإما القتال وإما الفرار.. فاستشار، فجمع الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن،وقال لجنوده:"أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ ! " .. ورددها مرارًا، وما زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر فقال وأحسن. ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن.. حتى قام القيادي الأنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري، قائًلا :
" لَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك ، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْت بِهِ هُوَ الْحَقّ ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودِنَا وَمَوَاثِيقِنَا ، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ .. فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك ، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك ، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ . لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ "[ السهيلي 3 / 57]
فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه.. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي، كنسي مستبد خرافي، يُقيدُ فيه الجنود بالسلاسل – في المعارك – حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن - في تصوراتهم – لفكر.
وصدق حافظ إبراهيم – رحمه الله – حين قال: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به **** رغم الخلاف و رأي الفرد يشقيها
إن الشورى، من فرائض شرعتنا، ومن مفاخر دعوتنا، ومن معالم حضارتنا، ومن يعمل على تنحيتها، وهدمها وعزلها، أو الالتفاف حولها، فإنما يهدم الفرض، ويفسد في الأرض، ويُمكنُ لذلك للغرب، ويُحارب بذلك الرب .
وليعلم المتبصر، أن الشورى مُعلمةٌ للإمام الصالح غير مُلزمة، وهذا في شأن الحُكم والدولة. كذلك بالنسبة للقائد العسكري في ساح الوغي، فالقتال دائر والقلب حائر ، بيد أن الشورى في العمل الجماعي الدعوي أو التوعوي أو الخيري مُلزمة، نعم مُلزمة، إذ يجب على قائد العمل الدعوي ومسؤول النشاط التوعوي أن ينزل على رأي إخوانه في الدعوة، وأتباعه في الحركة، ولا يجوز له - ولا يليق به - أن يُلزم الآخرين برأيه الذي لم يُجمع عليه، ولم تتفق الآراء حوله . وخاب من أصدر قرارًا – في غير نص - بغير شورى، وبئس القائد الذي قرّب الغاش وأقصى الناصح .
فإذا عزمتَ، وجمعت فريقك على مائدة الشورى، فاصدق الله في قصدك، وأسأله أن يصفي ذهنك، وأن ينقح فكرك، وأن يثقف عقلك، وأن يهذب خُلقك، وأن يهديك إلى خير الأفكار، وخير الأحوال، وخير الحلول، وأن يكفيك الشواغل العارضة، والقوى المتقسمة، والمصائب الباغتة، واستعذ به من استوحاش الفكرة، وجمود العقل، وصعوبة الحسم، وضعف العزم .
وعلى مائدة الشورى، إياك والجلوس رئاء الناس، واحذر السُّمعة، وحب الشهرة، والنَّفج والاستطالة، والتكبر على إخوانك والمغالبة، والغرور بالرأي والمجاذبة، وعليك على ذلك بالمجاهدة، والانبتات إلى الله والمسارعة، وإياك وقولة : قد قلتُ لكم رأي، ونصحتُ لكم، فخالفتموني فحفتم وفشلتم، فذوقوا وبال أمركم !!! فما تمخضت عنه الشورى خير، هو من اختيار الله، ومن اختلف في الفروع لم يُؤثَّم، ومن اختلف في الأصول – لا شك - يُحَوَّب . والرجل الحائر البائر المقبوح المشقوح، هو الذي يشير على أهل الرأي ! ولا يقبل منهم رأي، فدومًا يرى أن رأيه هو الرأي، وما عداه فساد محض!
الثقة في القيادة.. (امض لما أمرك الله !)
وتأمل القولة التاريخية لسعد بن معاذ ، والتي قال فيها :
" فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك ، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك ، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ . لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ "[ السهيلي 3 / 57] ..
فامض يا رسول الله لما أردتَ، فنحن معك ...
فسر بنا على بركة الله ..
إنها ثقة الجندي في قائده، وثقة الأخ في نقيبه، والثقة الحقة، هي "اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه .. اطمئنانًا عميقًا؛ يُنتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة" [ مجموعة الرسائل 283]..
قال الله تعالى في شأن الشاكين في كفاءة القيادة الإسلامية وإخلاصها :
"أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " [النور:50] .
فإذا انتشر الشك في صفوف الجماعة؛ انتشر على إثر ذلك الخوار والتصدع في بنيان الدعوة، فقوة التنظيمات تكون على قدر الثقة بين القائد وجنده، ومتانة الجماعات مرتبطة بمتانة الثقة بين النقيب وإخوانه، والثقة المتبادلة بين القائد وجنده هي الوِجاء الواقي في الخطط الدعوية، والأعمال التنظيمية، وتحقيق الأهداف الكبرى والمرحلية .
إن الجماعة المؤمنة هي تلك الجماعة التي لاتسمح ولاتمكّن لأعدائها أن يشقوا غبار أخوتها بالوشاية، ولا أن يصدّعوا وحدتها بالدعاية.
والمؤمن الصادق لا يشك في أخيه، ولا يشكك في نزاهته وأمانته، وإخلاصه وكفائته، فإذا تسلل الشيطان إلى النفس بنفث الشك في كفاءة القائد، تابت النفس المؤمنة، وقالت كما قال الله :
"لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ " [النور12].
فلا إيمان لنا حتى نُحّكم الشرع فيما شجر بيننا، ولا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضى الله ورسوله وأولو الأمر من المؤمنين، أو ما تمخضت عنه مجالس شورى المتقين، ونسلم بذلك تسليما،و نقول بالقلب واللسان : سمعنا وأطعنا .
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً " [النساء:65].
ومن تمام التسليم، أن يكون لدى المؤمن الاستعداد التام، لأن يفترض في رأيه الخطأ وفي رأي القيادة الصواب، وهذا في حدود الخلاف السائغ، حيث لا خلاف أصلاً – بين القائد وجنده - مع وجود النص.
تبشير الجنود وبث الثقة فيهم
سُرّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ : "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ ! وَاَللّهِ لَكَأَنّي الآن أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ !!"[ السهيلي 3 / 57]
وفي اليوم السابق ليوم بدر مشى - صلى الله عليه و سلم - في أرض المعركة وجعل يُري جنوده مصارع رؤوس المشركين واحدًا واحدًا .
وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ: هَذَا مَصْرَعُ فلان- ووضع يده بالأرض - ، وَهَذَا مَصْرَعُ فلان، وَهَذَا مَصْرَعُ فلان - إنْ شَاءَ اللّهُ –، فَمَا تَعَدّى أَحَد مِنْهُمْ مَوْضِعَ إشَارَتِهِ [ابن القيم : زاد المعاد 3 / 15]. فَعَلِمَ الْقَوْمُ أَنّهُمْ يلاقُونَ الْقِتَالَ، وَأَنّ الْعِيرَ تُفْلِتُ وَرَجَوْا النّصْرَ لِقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ الواقدي 49]
قال أنس: "ويضع يده على الأرض هاهنا هاهنا. فما ماطَ أحدهم عن موضع يد رسول الله"[ البيهقي : دلائل النبوة (21)]
وقال عمر : " فوالذي بعثه بالحق ! ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله "[ مسلم( 2873 )] .
وقوله - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لعقبة بن أبي معيط – المجرم المعروف -: "إن وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا" [الصالحي 4 / 18]، فحقق الله تعالى ذلك .
وأخبر بقتل المسلمين لأمية بن خلف، ولذلك قال سعد بن معاذ لأمية عندما ذهب إلى مكة قبيل بدر : يا أمية، فوالله لقد سمعت رسول الله يقول: "إنهم قاتلوك" ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً [ البيهقي : دلائل النبوة : 21].
ما أعظم القائد الصامد المبشر ! وما أكرمه هو يبث روح الثقة في جنده، وينشر روح التفائل في جيشه، ويصب جوامع الكلم الطيب في القلوب، كالمطر الهاطل على السيول، فيذكرهم بشارة الله لعباده، وجنة الله لأوليائه، والمجاهدون أعظم الأولياء، رفقاء الرسل والأنبياء !
فإذا بالجنود – على أثر تثبيت قائدهم - ؛ قد ثبت الله أقدامهم، وربط الله على قلوبهم، وسدد الله رميتهم، وأثقل بأسهم، وجعل الدائرة لهم.
احترام آراء الخبراء والجنود :
فقد قال عبد الله بن رواحة – في موقف من مواقف بدر - : " يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك"[ الطبراني في الكبير 4 / 210 ] فأنصت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقول ابن رواحة وقال له قولاً حسنًا ..
ولما تحرك رسول الله إلى موقع ماء بدر، في موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع قائًلا :
يَا رَسُولَ اللّهِ ! أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ : " بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ" .. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [ أي ندفن ] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ..
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – مشجعًا - :" لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ".
وبادر النبي – صلى الله عليه وسلم - بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه برغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء، فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدُنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمّ أَمَرَ بالآبار فخُربت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْبئر الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ [ابن هشام - 1 / 620].
إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة، وتتبنى الابتكارات، وتحفز الاختراعات..
أيها القائد ، أيها المسؤول، لن تعدم في جنودك من فاقك في العلم، وراقك في الفهم، فامتلِكْ عقول الجميع - في عقلك -، بالشورى، فأنت بغير الشورى عقل واحد، وبالشورى عقول ! وإذا احترمتَ عقلاً ملكته، وإذا وقّرتَ خبيرًا ظفرته، وإذا عرفتَ شرفَ الحاذقِ كان سهمًا في كنانتك، وخنجرًا في جعبتك .
حماية القائد و تأمين مقر القيادة:
فقد قال القائد الإسلامي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ – مبينًا أهمية تأمين سلامة القائد والقيادة- : " يَا نَبِيّ اللّهِ، أَلا نَبْنِي لَك عَرِيشًا [من جريد] َتكُونُ فِيهِ نُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك [ أو رواحلك]، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا ، فَإِنْ أَعَزّنَا اللّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى ، جَلَسَتْ عَلَى رَكَائِبِك ، فَلَحِقَتْ بِمَنْ وَرَاءَنَا ، فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ - يَا نَبِيّ اللّهِ - مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ ! وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك ، يَمْنَعُك اللّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك"[ السهيلي 3 / 63] .
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ .
وقال مبشرًا : "أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد!" [ الواقدي 1/17]
ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَرِيشًا على تل مرتفع يشرف على ساحة القتال استجابة لمطلب سعد – رضي الله عنه - .
وكان فيه أبو بكر، ما معهما غيرهما [ابن الأثير: أسد الغابة 2 / 143] .
كما تم انتخاب فرقة من جنود الأنصار بقيادة سعد بن معاذ لحراسة مقر قيادة حضرة النبي- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [انظر: ابن هشام 2/233].
لا خير في جنود لا يهتمون بسلامة قائدهم، ومقر قيادتهم، لا خير فيهم إلا لم يتهالكوا في حفظه و يتضامنوا في حمايته، بترسيخ الحواجز والموانع التي تحول بين العدو والقيادة الإسلامية، فإذا خلص العدو إلى مقر القيادة، ملك العدو زمام المعركة، وقيل : من انهزم، قالوا : من لا قائد لهم .
حُسن الظن بالإخوان
وذلك في قول سعد بن معاذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما اقترح عليه فكرة العريش ، قال سعد - في رواية - :
إنّا قَدْ خَلَفْنَا مِنْ قَوْمِنَا قَوْمًا مَا نَحْنُ بِأَشَدّ حُبّا لَك مِنْهُمْ . وَلا أَطْوَعَ لَك مِنْهُمْ، لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ وَنِيّةٌ، وَلَوْ ظَنّوا - يَا رَسُولَ اللّهِ أَنّك - مُلاقٍ عَدُوّا مَا تَخَلّفُوا ، وَلَكِنْ إنّمَا ظَنّوا أَنّهَا الْعِيرُ [ الواقدي 1/49].
وهكذا الإخوان في الله، في ميادين المجتمع إخوانٌ، في ميادين الدعوة إخوانٌ، في ميادين الجهاد إخوانٌ، عظماء أخلاق، أحاسن خلال، أكارم شيم، أفاضل قيم .. إخوانٌ لا مكان للظَّنة بينهم، ولا وجود للتُّهمة بينهم، يُحسنون الظن بأنفسهم، أي بإخوانهم، فالأخ بمنزلة الإنسان من نفسه، والجسم من روحه . وإن بعض الظن إثم – أي في غالب الناس- ، أما بين الإخوان فكله إثم !
عدل وتنظيم وطاعة
قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بيت القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود.. أما محمد صلى الله عليه وسلم فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده لَيَقتص الجندي منه.. أما الجندي فهو ِسَوَادِ بْنِ غَزِيّةَ، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي – صلى الله عليه وسلم - غمزة خفيفة في بَطْنِهِ - بالسهم الذي لا نصل له - وقال: "اسْتَوِ يَا سَوّادُ!".. قال: يا رسول الله! أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي! فكشف رسول اللّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: "اسْتَقِدْ".. فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ! فَقَالَ النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ؟"، قال: حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير [ابن هشام 1 / 626].
وفي هذا الموقف؛ نرى – أيضًا – عظَمَ أهمية التنظيم، وتنسيق الصفوف، وتقسيم الكتائب، وتأمير الأمراء، فلا نجاح لتنظيم دون تنظيم، ولا فلاح لجماعة فوضوية !
"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ " [الصف :4 ]
وفي هذا الموقف، نرى – أيضًا – أهمية الطاعة، والالتزام بتعليمات القادة، وتنبيهات أولي الأمر من المسلمين، فلا قيادة إلا بطاعة، ولا بيعة إلا بطاعة، ولا قوام لجيش لا يطيع أميره، ويعصي الله ورسوله ، فعن أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي " [ البخاري : 6604].
دعاء القائد لجنده :
لما عَدّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الصّفُوفَ وَرَجَعَ إلَى مقر القيادة، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، إذا بَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ : " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي.. اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسلام لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ!!"[مسلم ( 3309)]..
وبالغ في الابتهال، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ : "يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ" ... ثُمّ انْتَبَهَ فَقَالَ " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ ! أَتَاك نَصْرُ اللّهِ ! هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ" [السهيلي 3 / 68]
وكان من دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - ما ذكره علي بن أبي طالب، حيث قال: "لما كان يوم بدر قاتلتُ شيئًا من قتال، ثم جئتُ مسرعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -لأنظر ما فعل، فإذا هو ساجد يقول: " يا حي يا قيوم "، لا يزيد عليهما، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال.ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك. " [الصالحي 4 / 37].
و نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين، وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صلاته: " اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم أنشدك ما وعدتني "[ الصالحي 4 / 38]
وكان من دعائه كذلك لجنوده : " اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم " [أبو داود:( 2747 )، وحسنه الألباني]. قال عبد الله بن عمرو : ففتح الله له يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا.
فالقائد كالأب يحنو على أولاده، كالظليم يظلل على أفراخه، يرفع يديه ضارعًا، خاشعًا، داعيًا، بأدعية خاشعة تستنزل لجند الله الرحمات والبركات . يستغفر لهم، يصلي عليهم، يدعو لهم، فالقائد ليس كالترس القائد – في صندوق التروس - لا حس فيه ولا حراك، ولا شعور فيه ولا إحساس، يقود تروسه بشكل ميكانيكي جامد جاف، بل القائد روح بين جنوده تحييهم، ورباط وثيق يجمعهم، وهو القلب الكبير وهم أعضائه، وهو الأصل الأصيل وهم فروعه وأفنانه، وهو أرحم الناس بهم ."وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ " [التوبة :103].
وأخيرًا ..
العلاقة بين القائد وجنده، والنقيب وإخوانه، علاقةٌُ أساسها الإيمان، وعمادها الإخوة، وأركانها الشورى والطاعة والمشاركة والثقة.
___________________
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمشرف العام على موقع نبي الرحمة، ومستشار لموقع إسلام أون لاين في النطاق الشرعي .
عمروعبده 28-02-2011, 08:33 PM وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
همام محمد الجرف
بسم الله والحمد لله وأفضل الصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه .
ثمَّ أمَّا بعد : فلقد اختار الله نبيُّه الخاتم , واصطفاه وفضله على خلقه , وكفاه , و أعطاه فأجزل له العطاء حتى رضي . قال تعالى : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [1]
وهذه جملة يسيرة من عطايا الله عز وجلَّ لنبيه صلى الله عليه وسلم ساقها إلينا خاتم المرسلين وسيد الخلق أجمعين :
- فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُعْطِيْتُ خمساً لم يعطهن أحد قبلي نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر وجُعِلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأُحِلَّت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي و أُعْطِيْتُ الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة . [2]
- وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فضلت على الأنبياء بست أُعْطِيْتُ جوامع الكلم ونُصِرْتُ بالرعب وأُحِلَّت لي الغنائم وجُعِلَت لي الأرض طهورا ومسجدا وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافة وخُتِمَ بي النبيون .[3]
أُعْطِيْتُ جوامع الكلم : قال الهروي : يعني به القرآن جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة , وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني.
- عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فَرْطٌ لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني قد أُعْطِيْتُ مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها .[4]
إني فَرْطٌ لكم : سابقكم لأهييء لكم طيب المنزل والمقام , أُعْطِيْتُ مفاتيح خزائن الأرض : وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض وقد وقع ذلك وأنها لا ترتد جملة وقد عصمها الله تعالى من ذلك , تنافسوا فيها : أي تتنازعوا وتختصموا على الدنيا وما فيها من ملك وخزائن من المنافسة وهي الرغبة في الشيء والانفراد به .
- وعن أنس بن مالك قال : بينما ذات يوم بين أظهرنا يريد النبي صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا له ما أضحكك يا رسول الله قال : نزلت علي آنفا سورة : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[5]
ثم قال هل تدرون ما الكوثر قلنا الله ورسوله أعلم قال : فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة آنيته أكثر من عدد الكواكب ترده علي أمتي فيُخْتَلَج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقول لي إنك لا تدري ما أحدث بعدك . [6]
فيُخْتَلَج العبد :ورد في النهاية : يُنتَزع ويُحتََزُ .
- وعن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل زوى لي الأرض أو قال إن ربي زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها وأني أُعْطِيْتُ الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكوا بسَنَةٍ بعامة ولا يُسَلِّطُ عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم وان ربي عز و جل قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمَّتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها أو قال من بأقطارها حتى يكون بعضهم يسبى بعضا وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع في أمتي السيف لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وانه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز و جل . [7]
- وعن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أُعْطِيْت مكان التوراة السَّبْعَ و أُعْطِيْت مكان الزبور الْمَئِينَ و أُعْطِيْت مكان الإنجيل الْمَثَانِيَ وفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ.[8]
السَّبْعَ : السور السبع الطوال , الْمَئِينَ : السور التي زادت آياتها عن مئيتين , الْمَثَانِيَ : قيل سورة الفاتحة , بِالْمُفَصَّلِ :السور التي عدد آياتها قليل وهي السُّبع الأخير من القرآن .
فهذا من بعض ما أعطاه ربه فأرضاه فكيف بنا ونحن من اتبعنا دينه فحريٌّ بنا أن يلقانا عند الحوض وهو راض عنَّا .
وكتبه
همام محمد الجرف
الجمعة، 25 شوال، 1429
24/10/2008
--------------------------
[1] : [الضحى:5] [2] : رواه البخاري صحيحه حديث رقم (328) .
[3] : رواه مسلم في صحيحه حديث رقم ( 523 ) .
[4] : رواه مسلم في صحيحه حديث رقم (2296) .
[5] : [الكوثر: 1-3] .
[6]: رواه النسائي في سننه حديث رقم (904) وصححه الألباني .
[7] : رواه أحمد في مسنده حديث رقم (22395) وقال الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .
[8] : رواه أحمد في مسنده حديث رقم (16982) وقال الأرنؤوط : إسناده حسن .
المصادر
1- الجامع الصحيح المختصر (صحيح البخاري) : محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي , دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت , الطبعة الثالثة ( 1407 – 1987) , تحقيق : د. مصطفى ديب البغا .
2- صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري , دار إحياء التراث العربي – بيروت , تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي.
3- المجتبى من السنن (سنن النسائي الصغرى) : أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي , تحقيق محمد ناصر الدين الألباني .
4- مسند الإمام أحمد بن حنبل : أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني, تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخرون , مؤسسة الرسالة , الطبعة الثانية(1420هـ ، 1999م) .
عمروعبده 28-02-2011, 08:35 PM السيدة خديجة – رضي الله عنها – ودروس في فضائلها
بقلم : محمد مسعد ياقوت **
أطلق كُتَّابُ السيرِ على العامِ العاشر من البعثة، عام الحزن، لوفاة عم النبي " أبو طالب" ، وزوج النبي " خديجة " في شهر واحد تقريبًا .
ماتا - وهما السندان القويان – ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أمس الحاجة إليهما .
أما أبو طالب فكان بمثابة "السند الخارجي " لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدفع عنه أذى الوثنيين، وظلم الظالمين . ولعل في وفاته حكمة عظيمها، مفادها أن الدعوة الإسلامية منصورة بالله ثم بمنهجها، ويأبى الله أن يقال :إن الدعوة انتصرت بعشيرة محمد أو بعمه . إنما هي دعوة اليتيم الذي خذله بعض أعمامه ومات عنه بعضهم، وتأخر عنه بعضهم.
سبق وفضل:
أما خديجة فهي أول من آمنت به، وهي حصنه الداخلي، وركنه الشديد، وكانت بمثابة الوزير الصادق له، والرفيق الساعي له، تخفف عنه، وتواسيه ، وتسعى في قضاء حوائجه، وكانت – رضي الله عنها – قد أكرمت رسول الله بالعمل الكريم في تجارتها، وتزوجته – رضي الله عنه – رغم فقره، وأسكنته بيتها حيث لا بيت له يملكه ، وكانت تُنفق على رسول الله من مالها حين تفَرغ لأمر الرسالة، وآمنت به حين كفر الناس، وصدّقته حين كذبه الناس، وآوته حين طرده الناس .
فإذا دخل بيته إليها – بعد يوم شاق في الدعوة والتلبيغ – سرعان ما ينسى الألم والحزن، إذا تمسح بيدها الحانية على قلبه . وكانت – رضي الله عنها – امرأة حاذقة صَنَاعٌ في إدخال السرور على زوجها والتخفيف عنه . ولقد ضُرب بها المثل في طهارتها، وضُرب بها المثل في حكمتها وضُرب بها المثل في حصافتها.
***
الطُهر والعفة:
أما طهارتها، فقد كان لقبها في الجاهلية " الطاهرة "
والمرأة التي تحمل هذا اللقب في مجتمع جاهلي أكلته الفواحش، وجازت فيه الدعارة، واشتهرت فيه البغايا .. لهي امرأة بلغت من العفة والنقاء مبلغًا رفيعًا؛ أهْلَهَا لهذا الاصطفاء الرباني، أن اختارها الله زوجةً لخاتم الأنبياء .
ولله در العفة، بَلَّغَت أهلها الدرجات العلى !
***
الحكمة :
وأما حكمتها فهي صاحبة قولة تُعد من أبلغ ما دونه العرب في الحكمة، تلك التي قالت فيها - مخففة من خشية رسول الله على نفسه يوم نزلت " اقرأ " –
" كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ "[ البخاري : 4572]، ثم انطلقت تمشي به إلى ورقة بن نوفل – وكان عالمًا بالأديان - ، لتَحُلَ لزوجها اللغز الذي أُشكل عليه في أمر النبوة. ولم تكن بالمرأة السلبية التي لا تبالي بشؤون زوجها .
***
الفطنة :
وأما حصافتها .. فهي ممن كمل من النساء.. وهي التي أثبتت لرسول الله أن ما يأتيه ليس بشيطان ولا جِن، فقد شرعت تمتحن برهان الوحي لتثّبت قلب زوجها، فقالت : "أَيْ ابْنَ عَمّ أَتَسْتَطِيعُ أَنّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي يَأْتِيك إذَا جَاءَك ؟
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَك فَأَخْبِرْنِي بِهِ .
فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لِخَدِيجَةَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي ، قَالَتْ : قُمْ يَا ابْنَ عَمّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى ؛ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَتْ : فَتُحَوّلْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى.
فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَتْ : فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي .
فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا . قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فلما فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا ، ثُمّ قَالَتْ لَهُ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ لَا ، قَالَتْ يَا ابْنَ عَمّ اُثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ " [ ابن هشام : 1/،238]
فقد علمتْ – برجاحة عقلها – أن الملائكة تستحي، وأن الشياطين تستحي، فتحيلت هذه الحيلة، وفثبتت وبشرت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . وخير الناس للناس من يَفطن لحاجاتهم، ومَن فاته العقلُ والفطنة فرَأْسُ مالِه الجَهْلُ.
***
الصبر على تطليق بناتها :
ولم يزعزع إيمانُها، ولم تتزحزح ثقتُها بزوجها يوم تسببت الدعوة الإسلامية – بزعم البعض – في تطليق بناتها .
" وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ زَوّجَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ رُقَيّةَ أَوْ أُمّ كُلْثُومٍ . فَلَمّا بَادَى قُرَيْشًا بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى وَبِالْعَدَاوَةِ، قَالُوا : إنّكُمْ قَدْ قَرّغْتُمْ مُحَمّدًا مِنْ هَمّهِ فَرُدّوا عَلَيْهِ بَنَاتِهِ فَاشْغَلُوهُ بِهِنّ . فَمَشَوْا إلَى أَبِي الْعَاصِ فَقَالُوا لَهُ فَارِقْ صَاحِبَتَك وَنَحْنُ نُزَوّجُك أَيّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ شِئْتَ قَالَ : لا وَاَللّهِ، إنّي لا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي ، وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ خَيْرًا ... ثُمّ مَشَوْا دار أبي لهب، فأجابهم، وطُلقت رقية وأم كلثوم " [ ابن هشام 1/652 ( بتصرف)].
ولم يصدر منها ولا من البنات لفظة تشائم أو تبرم، أن ابتلاهم الله بفض هاتين الزيجتين، ولم تقل خديجة كما تقول نساء بعض الدعاة : لقد جلبت لنا دعوتك خراب البيوت، وطلاق البنات ! ما ذنبهن ألا يفرحن ويُحْمَلن إلا أزواجهن؟!.....
لم تقل هذا . بل صبرت، ورأت أن حكمة الله اقتضت، أن يبدلنهن بزوج أكرم وأخلق وأغنى وأجمل مما كُنَّ يطمحن إليه . فحالهن مع الله كحال الطفل الذي سلبه أبوه الطعام الخبيث ومنحه الطعام الطيب الغريض.
الصبر على الحصار :
ولما كُتبت وثيقة الحصار الظالمة، وسيق المسلمين إلى الشِعِب، وقاطعتهم قريش وجوّعتهم، كانت خديجة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راضية محتسبة، ولم يصدر منها كلمة عتاب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولم تتبرم له، بل ثبتت معه في المحنة، وعزمت أن تبقى إلى جواره حتى تنقشع الظلمة، ورضيت أن تترك منزلها الفاخر وفراشها الوثير وتخرج حبيسة مع رسول الله بين جبلين، تُعاني الحَر والقَر، تفترش الحصباء وتلتحف السماء، وتكابد الجوع والفقر، وهي الغنية الحسيبة.. تكابد الظمأ والخشونة، وهي السيد الشريفة.. وطالت بها أيام الحصار وهي واثقة راسخة رسوخ الشم الروسي، سامقة سمو الجوزاء العوالي ..كل ذلك على مدار سنوات الحصار الثلاث من شهر المحرم للعام السابع للبعثة وحتى المحرم للعام العاشر للبعثة .
***
سلام وجَنَّة ورضوان
ولما انقشعت ظلمة الحصار، وتبدد كابوس السجن، خرجت – رضي الله عنها – وقد أعياها المرض، وبراها الجوع، وهدَّمت بنيانها سنوات الضنك، فخرجت من سجن الناس إلى رحاب الله الرحيب، بعدما بشرّها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة من لؤلؤ – وبيوت الجنة قصور -، تنعم في قصرها بغاية الهدوء والنعيم، وقد نزل الأمين جبريل – خصيصًا – ذات يوم حاملاً رسالة عاجلة وسلامًا مُخَصَصًا من الله رب العالمين إلى إلى السيد الجليلة . فما أكرمها وأكرم منزلتها
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال :
أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ؛ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا – وَمِنِّي -، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ ولا نَصَبَ [ انظر : البخاري: 3536]
وهكذا أرسل الله لها التحية والبشارة، محمولتنا من أمين السماء" جبريل"، مدفوعتان إلى أمين الأرض " محمد "، ليقوم بدوره بتليغ التحية الكريمة والبشارة الكريمة، من كريم عن كريم عن كريم إلى سيدة نساء العالمين " خديجة " .
وتوفيت – رضي الله عنها- في رمضان من العام العاشر من البعثة، ودفنت بمدافن مكة عند جبل الحجون، عن خمس وستين سنة [انظر : الذهبي : سير أعلام النبلاء 2/112].
فماتت ولم تر في الدنيا لقاء ما قدمته، فلم تفرح بغنيمة، ولم تر دولة المسلمين، بيد أن الأجر العظيم الذي لا ينقطع فضله قد أخره الله لها، فليس بمقدور ملوك الأرض جميعًا أن يوفوا لها أجر صنيعها، إنما الجدير بذلك ربها الذي خلقها وهو ملك والملوك . فجزاك الله عنا يا أماه خيرًا .
***
وفاء بلا حدود
وكان رسول الله يحن إليها، ويذكرها دومًا، فلا يزال يذكر فضائلها حتى تغار إحدى زوجاته، وكان يكرم صويحبات خديجة، فإذا ذبح أو طبخ أهدى إليهن، إكرامًا لها. وهي في قبرها !
وإذا ذكرَها ذاكرُها في حضرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا به – صلى الله عليه وسلم – يرق لها، ويذكرها، ويستغفر لها، ويذكر فضائلها حتى يأتيه عارضٌ يقطع عليه حديثة، وضجرة – كضجرة عائشة – تحوْلُ بغيرتها بين رسول الله وبين الحديث عن خديجة، بيد أن العكس يحصل، فإذا غارت عائشة ونالت من خديجة كما تنال المرأة من ضرتها فقالت: " عجوزٌ ! قد أبدلك الله بخير منها "، زادت الطينة بلة، فيزيد رسول الله في ذكرها ويكثر من الحديث عن فضلها أكثر وأكثر ، ويستمر الحال حتى تأتيه عادية أو صارفة تقطع الحديث عن فضل خديجة !
***
ويوم بدر [ في رمضان 2 هـ ]، جاءت كل عشيرة تفتدي أسرها من نُيوب المسلمين، وكان أبو الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ - زوج زينب – بين الأسارى، وكان الإسلام قد فرق بينه وبين بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأرادت زينب – الوفية بنت الوفية – أن تنقذ زوجها من الأسر، علها تَرد له يدًا من أياديه البيضاء، أو يشرح الله صدره للإسلام .
وبينا الناسُ يتوافدون على النبي – صلى الله عليه وسلم – كل ٌيدفع الفداء لقاء قبض أسيره؛ إذ بعثت زينب بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في فداء أبي العاص بمالٍ وبعثت فيه بقلادة لخديجة، كانت أَدخلتها بها على أبي العاص .
وجيء بالمال والقلادة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، لإطلاق أبي العاص، فلما وقعت عينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على قلادة خديجة، رَقّ لَهَا رِقّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ – يستسمح أصحابه - :
" إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا ، وَتَرُدّوا عَلَيْهَا مَالَهَا ، فَافْعَلُوا " فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ . ففعلوا [ ابن هشام 1/652 ( بتصرف ) ]
لقد أثارت قلادة خديجة في نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذكريات، فكأنما هب إليه من إطار هذه القلادة أريجًا تنفسته خديجة، فحرك القلب الرحيم، بعدما كاد أن يقر بعد رحيل الحبيبة الكريمة، تلك المرأة التي حار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في فضلها .
رق لها . ولما لا ؟ فهي قلادة لامست يومًا نَفسَ خديجة التي أعطته كل شيء نفسها وجهدها ومالها وبيتها، وتركت له كل شيىء، ولم تمتن عليه بشيء .
ورق لها، رقة شديدة، فأوشك أن يرسل عَبرة حارة من عينيه الكريمتين، بيد أن العَبرة لم تسيل على الخد إنما سالت إلى القلب، فأحس الناظرون بحرارتها في رقته الشديدة هذه . وأشفقوا عليه . وشرع يستنزل فيهم الكرم، ويستسمح أصحابه – وهو الكريم الأكرم – أن يطلقوا لزينب أسيرها . . ثم إنه في أدب جم وخلق سَجْح، يُخيرهم في ذلك ويكل إليهم القرار، ولو شاء أمرهم، فقال : " إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا ، وَتَرُدّوا عَلَيْهَا مَالَهَا ، فَافْعَلُوا " .
***
وفي يوم فتح مكة[ رمضان 8هـ]، لما أراد أن يبيت، لم يذهب إلى بيت من بيوت أصحابه، وهو لو شاء لصادر أرقى بيت في مكة، ولكنه ضرب خيمته إلى جوار قبر خديجة، وكأنما لما فتح مكة؛ فتحت هي الأخرى قلبه، فنكئت فيه ذكريات خديجة الغائرةَ، وكأنما جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليها على قدم وساق، قد اختلطت في قبله عَبرة الفراق وفرحة الفتح، ولسان حال المقام يقول : صدقت يا خديجة : " لا يخزيك الله أبدً " .
***
توصيات:
يا أم القاسم ! رضي الله عنك !
أصبحت مَعلمةَ العفة لبنات المسلمين، ومَعلمةَ الوفاء لزوجات المسلمين، ومَعلَمة الصبر لداعيات المسلمين ، بل أنت سيدة الحكمة لحكماء المسلمين .
فعيشوا – إخواني وأخواتي - في ظلال سيرة أُمنا بين العفة والوفاء والصبر والحكمة .
***
وأما أحوج الدعوة الإسلامية إلى أمثال خديجة ! فنحن في أمس الحاجة إلى "خديجات " ينفقن على الدعوة، ويبذلن للدعوة، ويصبرن في سبيل الله، ويسكبن الإيمان والثقة والفرح في قلوب إزواجهن سكبًا. ويبَلِغْنَ دعوة الله إلى السَّانح والبَارح والنَّاطح والقعيد . فإلى هذا المعين ، معين أم المؤمنين، فارتشفن، يا فتيات المسلمين . وإياكن، و السُّفوليةَ الخارجة، والمَثالب الفاضحة، والتبرج المحرم، والعُري الـمُجرَّم، والخضوع بالقول والتغنج، والتساهل مع الرجال والتهتك .. إياكن والكَذِب المُبرِّح، والخُلْفَ المُصَرّح، والغيبة والنميمة، وإضاعة الوقت والمال، على الكماليات والتفاهات .. إياكن والانشغال بوسائل الإعلام، من مسلسلات وأفلام – تُركية وغير تُركية ! - تحض على الفُحش والرذيلة، والجَهالة المُفْرطة، والرِّكاكة المُسْتَخِفّة، والزنا والخَنا ، والسطحية والسذاجة، والميوعة والخلاعة.
ولا تتأثرن – أبدًا – بأي امرأة متبرجة، تلك التي تتعرى للعيون الجائعة، كالبقلة الحمقاء، الذاوية في أرض نشَّاشة أو النابتة في بِركةٍ من بِرك الصرف الصحي .. لا تعجبن بها، فالشيطان يجملها في عين الرجل ليُفتن، ويزينها في عين المرأة لتفسد، هي حسنة في عين الشيطان وحسنة في عين الخبلان، وحسنة عند الذئب البشري والعقربان.. والقَرَنْبَى في عين أمِّها حسنة !
بل أنتِ. أنتِ – أيتها المؤمنة - جميلة الجميلات ومليحة الحسناوات!
--------------------------------
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمشرف العام على موقع نبي الرحمة، ومستشار لموقع إسلام أون لاين في النطاق الشرعي .
engi11 04-03-2011, 07:42 PM بارك الله فيك
عمر ابو قطرة 17-03-2011, 04:26 PM بارك الله فيك
|