مشاهدة النسخة كاملة : التعليم والحِراك الطبقى


طارق69
19-05-2011, 07:45 AM
لعلماء الاجتماع والاقتصاد والتربية أحاديث طويلة ونظريات متعددة، تحاول أن تفسر تلك العلاقة التفاعلية بين كل من التعليم وما يحدث للطبقات الاجتماعية من حِراك، اتساعا وضيقا، نزولا وهبوطا، تداخلا وافتراقا، لا نريد أن نُدخل القارئ فى أتونها، فهذا موضعه الكتب والبحوث والنظريات، وإنما نحن نقدم للقارئ أمرين، أولهما " حكاية "، ربما تكشف عن هذه العلاقة، وثانيهما عملية استقراء كلية، سريعة، ليما جرى فى بر مصر فى العقود القليلة الماضية، لعل هذا وذاك يكشف، ولو بشكل ما، عن جوهر هذه العلاقة.

هذا المنطق من التفكير، نلح عليه، فى مواجهة منطق آخر، يُقَلب المراجع، ويستقرئ النظريات التى قال بها علماء اقتصاد واجتماع وتربية، على البر الغربى، ثم يقيس عليها ما حصل فى البر المصرى، فيفسر هذا وذاك، ويربط بين هذه وتلك، ويحكم على كذا بأنه سليم، وكذا بأنه على العكس من ذلك...وليس هذا هو الطريق إلى إثراء المعرفة التربوية الوطنية، فهى تثرى، عندما نغوص فى ترابها الوطنى، نسنشق رائحته، ونستقرئ طبيعته، ذلك أن النظريات والفلسفات التى قال بها أهل البر الغربى، وصلوا إليها باستقراء ظروف مجتمعاهم هم، وبتجارب ثقافتهم هم، وفى ضوء مصالحهم، ولا بأس، بعد استقراء التجارب الوطنية، من الوقوف على ما قاله غيرنا، للمقارنة، والبحث ربما، عن أوجه تشابه أو افتراق، وإمكانات استفادة.

إن ما يقول به المخترع فلان أو فلان ، فى التقنيات الحديثة، لابد أن يلتزم به سكان أى مجتمع يريد أن يستخدم تقنية ما، لكن الأمر فى المشكلات المجتمعية والثقافية ، لابد أن يكون مختلفا...

فى الأربعينيات من القرن الماضى، كان هناك صبى، يبلغ من العمر عشر سنوات، التحق بالصف الأول الابتدائى، وكان حاله مما يرثى له، من حيث التواضع الاجتماعى، لأنه أتى من قاع المجتمع، حتى أنه كان لا يعرف كيف يدارى شأنه وقميصه وبنطلونه، كانا " مكويان " بوضعهما تحت " المرتبة "، حيث لم يكن يعرف الطريق إلى " المكوجى"، باعتبار ذلك ترف لا يستطيعه. وفضلا عن ذلك، فقد كانت آثار البعوض والبراغيث ظاهرة على وجهه وذراعيه.

كان جالسا مرة فى فناء المدرسة مع جمع من زملائه وهو يكاد يتوارى خجلا من تواضع حاله، ولأمر ما وجد واحدا من الزملاء، ممن كان حاله على عكس صاحبنا تماما، يُخرِج من جيب بنطلونه " كبشة " من المال، ويشير بها نحو صاحبنا متسائلا فى استعلاء وتفاخر: " معاك فلوس أدى"؟

فوجئ صاحبنا بهذه الحركة، وتمنى ساعتها أن يغوص فى باطن الأرص لتبتلعه، فجيبه لم يكن بها إلا " قرش صاغ" واحد، وشعر وكأن طعنة نجلاء قد اخترقت قلب كرامته وكيانه وشخصه، لكن صدق المولى العظيم الذى قال " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو كُره لكم"، فقد شكّلت هذه العبارة المسمومة نقطة انطلاق لصاحبنا، كان لها فضل انطلاق لم يخطر له على بال.

لم يكن صاحبنا يعرف نظرية فيلسوف التاريخى البريطانى " أرنولد توينبى " فى تفسير حركة التطور التاريخى وفقا لمنطق " التحدى والاستجابة " ، ولكنه – عمليا – وجد نفسه يتطور وفقا لها، كيف؟

فإذا كان صديقه قد امتلك المال الذى يفاخر به ويعايره على افتقاده إياه، فقد وجد أنه يمتلك عقلا، صدق فيلسوف فرنسا " ديكارت" فى وصفه بأنه أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وأن عقله هذا يمكن الاعتماد عليه فى التحصيل والتعلم بحيث يثبت لا لهذا الطالب الثرى المتحدى وحده، وإنما للجميع، أنه يمكن أن يكون أفضل منهم جميعا، لا بمال وجاه، وإنما بعرق وجهد...

كانت الخدمة التعليمية فى هذه الفترة، ما زالت تُؤَدى كما يجب أن تكون، فالمدرسون لا يتركون صغيرة ولا كبيرة فى المقرر إلا وشرحوها شرحا وافيا مستفيضا، وكانت الكتب المدرسية تضم مفردات المقرر، واضحة لكل ذى عقل مجتهد، وجهد مبذول، فأخذ صاحبنا يصل ليله بنهاره، حتى أُعلنت نتيجة الصف الأول بالمدرسة، فإذا به يحتل الترتيب الأول على فصول المدرسة كلها، وتبدأ مسيرة حياته لتتخذ شكلا آخر..

بدأ المدرسون يهتمون بصاحبنا يُسمعونه مدحا وتقريظا، وبدأ زملاؤه ينظرون إليه نظرة احترام وتقدير، وشكّل هذا وذاك مزيد من الدافعية، حتى وصل إلى نهاية مراحل تعليميه، عندما تخرج من الجامعة، وهو يحتل أيضا المرتبة الأولى على زملائه فى شهادة الليسانس.

ومكّنه هذا أن ينتقل تدريجيا من مستوى اقتصادى واجتماعى مباين كلية لما كان عليه، وإن لم يعن هذا أنه أصبح من اليسورين، وفهم من هذا أنه ما حصد ما حصد من " حراك اجتماعى " إلا – بعد الله سبحانه وتعالى – بمقدار ما أجاد وحصّل من تعليم، وهو ما فهمه فيما بعد- نظريا – من أن التعليم بالفعل هو " مصعد اجتماعى"، يمكن أن يصعد بصاحبه إلى أعلى، والعكس صحيح.

لكن صاحبنا هذا، عندما يقف ليلقى نظرة على المسيرة الاجتماعية لوطنه مصر بعد ذلك، وجد مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر...

بدأت الدولة تتخلى عن دورها، ولم لا وقد شعر الحاكم أن المواطنين لم يأتوا به إلى سُدة الحكم، وبالتالى تتبدى القاعدة الشهيرة فى الإدارة العليا : الولاء لمن ولّى !!

وهكذا بدأت يد الدولة تنسحب تدريجيا من خدمة المواطنين، وعلى العكس من ذلك تفتح الأبواب على مصراعيها لعمليات نهب وتهليب ونصب وغش وخداع وسرقة، لتتكون شريحة اجتماعية أعلى البنيان الاجتماعى، تستأثر بخير الوطن، ولكى تؤمن نفسها، حرصت على التزاوج مع السلطة، وحرصت السلطة نفسها على أن تتزاوج مع رأس المال، لتجد فيه ومنه سندا لها، حيث لا تستند إلى جموع المواطنين، وكما أن هذا رأس المال، بحكم عدم مشروعيته، وجد الدفء والحماية يكمنان فى ارتباطه بقوى الهيمنة فى المنطقة..

وعلى طريق هذا الصراع الوحشى، بدأت شرائح دنيا لا تستطيع أن تفوز فى السباق، فزادت حالها سوءا، وبدأت شرائح وسطى متعددة تنقسم إلى فريقين، فريق عرف قواعد اللعبة وأصولها، فإذا به يكسب مالا وفيرا، ربما جاء بعضه حلالا بالعمل فى دول النفط سنوات طويلة، أو بمشروعات اقتصادية، وربما جاء بعضه بتجارة عملة، وربما ..وربما..

لكن الكثرة الغالبة من هذه الشرائح المتوسطة، إذ غابت الدولة عن القيام بالتزاماتها المجتمعية، وجدوا أنفسهم يسقطون على طريق السباق، فيتراجع مستواهم، وتتراجع مكانتهم الاجتماعية ، بل ويسقطون فى جُب الشرائح الأدنى...

وهكذا فُرغت الطبقة الوسطى من كثير من تلك القوى التى كانت تحصل على قوتها وتعليمها بالجهد والعرق الشريفين، وبالتالى كانت تفرز إلى المجتمع تراحما وتماسكا وتوادا، فضلا عن " حزمة " من القيم والعادات والتقاليد التى توصف " بالمحترمة"، لتحل محلها قيم تناسب أساليب الغش والنصب والخداع، وسياسة " اخطف واجرى"! و " اللى تغلب به، العب به "!

حتى الفن، بعد أن كان يعرف من يغنى الكرنك، والجندول ، وكليوبترا، وولد الهدى، وسلوا قلبى، ، أصبح لا يجد أمامه إلا " كوز المحبة اتخرم إديله بنطة لحام "، و " أنا مش خرونج أنا كينج كونج"!!

هنا، وجد الرأسماليون الجدد أنهم فى الوقت الذى استطاعو فيه أن يُوجدوا مناطق سكنية خاصة بهم فاخرة، تبعدهم عن الدهماء، فى قصور وفيلات، ومنتزهات، أن أولادهم لابد أن يحصلوا على التعليم فى بيئات مغايرة لمدارس الدهماء، فبدأت تظهر أوعية تعليمية لاستيعاب أبناء هؤلاء، بدأت متواضعة فى بداية الأمر، مدارس لغات، ثم مدارس دولية وأخرى أجنبية، وفى الجامعات، تعليم خاص وبرامج مميزة، وكل هذا وذاك لا يُؤَدَّى إلا بعشرات الألوف من الجنيهات.

وبدأت مدارس الدولة تتراجع بسرعة فى مستوياتها، حتى أصبحت مجرد أماكن للإيواء، لا للتعليم، وبدأ الناس يبحثون عن الخدمة التعليمية فى السوق السوداء، عن طريق الدروس الخصوصية، بأسعار تزداد التهابا عاما بعد آخر، يعجز الفقراء عن التعامل معها.

وهكذا وجدنا " المال " ، الممتزج بالسلطة، يُفقد التعليم قوة تحريكه الطبقى، ليمارس دورا آخر، هو قدرة التثبيت الطبقى، ليظل أبناء الفقراء فقراء، ويظل أبناء الأغنياء أغنياء.

وزاد الطين بلة، أن من " يفلت " فى السباق من أبناء الفقراء، ويستطيع أن يُكمل تعليمه، يجد الباب مسدودا فى العمل، وإن حصل عليها يكون بقروش لا تكاد تسد الرمق، فيعجز عن أن يحصل على سكن، يمكن أن يضمه مع من يختارها شريكة حياته مكونا أسرة، كما هو مأمول كل شاب وشابة.

وعلى العكس من ذلك، وقبل أن يتخرج أبناء الرأسماليون الجدد، ومن يشبههم، يجدون عملا ينتظرهم ، يحصلون منه على دخل يكاد يكون أضعاف أضعاف ما يحصل عليه عموم الناس.

وعندما يعود صاحبنا إلى المجتمع الجامعى الذى أصبح فردا من أفراده، يجد أنه لم يكن بدعا فى سيرته، فالكثرة الغالبة من جيله، فما قبل، كانوا، فى الغالب والأعم، إن لم يكونوا أبناء قاع المجتمع، فقد كانوا من فقرائه ومساكينه، لكن اجتهادهم العلمى، أوصلهم إلى قمة المجتمع، لا قمة مال وسلطة، بقدر ما هى قمة أداء ورفعة شأن.

ثم ينظر حوله فى العقود الأخيرة، فإذا بمن بدأوا يملأون الساحة الجامعية، تحكم وصولهم إلى ما وصلوا إليه : علاقات قرابة وسلطة ونفوذ..فهذه زوجة ضابط فى أمن الدولة، لابد أن تصبح عضو هيئة تدريس، وتلك زوجة العضو فلان أو ابنته أو ابنه أو أخيه أو أخته..وهكذا..

ولم تنفرد الجامعة بهذه السوأة الاجتماعية، بل تجلت كذلك فى الكثرة الغالبة من مجالات العمل، فى الإعلام، وفى البنوك، والشركات،..وغير هذا وذاك من المواقع المرموقة.

وهكذا تغيرت قواعد اللعبة، ولم يعد التعليم مصعدا اجتماعيا، بقدر ما أصبح أداة " تثبيت " اجتماعى، ليظل المحروم محروما، ويظل صاحب الحظوة صاحب حظوة.

هنا تتكشف لنا سبل الطريق الصحيح، إلى العودة إلى أن تكون المعرفة، والجهد المضنى المرافق، والمناخ الموضوعى، لا ننتظرها من مؤسسات التعليم بقدر ما ننتظرها من تبدل واسع النطاق فى السياسات المجتمعية، تقوم على الممارسات الديمقراطية، فهى وحدها، إذا عرفت طريقها الصحيح إلى التشخص العملى، التى يمكن أن تفتح الأبواب إلى عودة المثل الشهير " من طلب المعالى سهر الليالى "!!
http://www.almesryoon.com/default.aspx