salememary
17-07-2011, 06:30 PM
الطريق إلي الديمقراطية الليبرالية... بقلم / حازم الببلاوي
المقال منشور في 2005 قبل انتخابات الرئاسة
طلبت مني مجلة الديمقراطية التي تصدرها جريدة الأهرام منذ نحو سنتين إعداد بحث عن مستقبل الليبرالية في مصر ونشر هذا البحث في العدد العاشر, ربيع 2003 وبالنظر إلي مايثار حاليا من نقاش حول الإصلاح السياسي, فقد وجدت أن الوقت مناسب لإعادة تلخيص بعض النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسة.
وقد يكون من المفيد أن نبدأ ببعض المقدمات النظرية, هناك ارتباط شديد بين مفهوم الليبرالية وفكرة الحرية, بل ان اسمها مشتق في الواقع من معني الحريةliberty وقد أخذ مفهوم الحرية عدة معان. فيمكن التمييز, علي الأقل, بين ثلاثة مفاهيم للحرية, فهناك مايمكن ان يطلق عليه المفهوم الجمهوري للحرية وهو يشير الي مساهمة الأفراد في الحياة السياسية, باختيار حكامهم ومساءلتهم.
وهذا المفهوم هو الأقرب إلي معني الديمقراطية السياسية, ولكن هناك مفهوما آخر يمكن ان نطلق عليه المفهوم الليبرالي للحرية, والمقصود بذلك الاعتراف للفرد بمجال خاص لايمكن التعرض له فيه بالتدخل, فهنا يرتبط الأمر بالاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لايجوز المساس بها أو انتهاكها, ويدخل في هذا حق الفرد في الحياة, وفي حرية العقيدة, وحرية التعبير عن الرأي, وحرية الاجتماع والانتقال كما يتضمن أيضا احترام حقوق الملكية الخاصة, وأخيرا هناك مايمكن أن نطلق عليه المفهوم المثالي أو التدخلي للحرية, والمقصود هنا ليس مجرد مشاركة الفرد في الحياة السياسية, أو الاعتراف له بمجال خاص لايجوز التعرض له.
بل ان الامر يجاوز ذلك إلي ضرورة أن يوفر المجتمع الشروط اللازمة لتمكين الأفراد من ممارسة اختياراتهم علي نحو يتفق مع رغباتهم الحقيقية وبحيث تتوافر لهم القدرة علي ممارسة هذا الاختيار. والحرية في هذا المفهوم تتعلق بتمكين الفرد من ممارسة حقوقه. وهذا المفهوم الأخير يتسع ويضيق وفقا للمدارس الفكرية المختلفة, بل وقد يتعارض مع المفاهيم الأخري للحرية في بعض الأحوال. فوفقا لهذا المفهوم المثالي أو التدخلي ـ من أشهر أمثلته الفكر الماركسي ـ فإن الحرية الليبرالية قد تصبح مجرد حرية شكلية خالية من المضمون إذا لم يتوافر للفرد مستوي اقتصادي من الدخل ومستوي تعليمي مناسب يمكنه من ممارسة اختياراته الحقيقية.
وإلي جانب هذا التقسيم اشار بنجامين كونستانت في كتابه الحريات القديمة والحديثة1819 الي التفرقة بين نوعين من الحرية فهناك المفهوم القديم للحرية والذي نجد جذوره في الفكر اليوناني والممارسات الديمقراطية في المدن اليونانية, الذي يري أن الحرية( الديمقراطية) تقتصر علي الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية. أما الحرية بالمعني الحديث فهي نتاج الفكر الليبرالي والذي استقر معناه ومفهومه من خلال المساهمات الفكرية لآباء هذا الفكر منذ القرن السابع عشر, خاصة مع جون لوك ثم مع جون استيورات ميل. وفي هذا المفهوم فإن الحرية ليست مجرد مشاركة في انتخاب الحكام وإنما هي بالدرجة الأولي دعوة إلي الفردية, بالاعتراف بمجال خاص يتمتع فيه الفرد بحرية واستقلال دون تدخل أو إزعاج من جانب السلطات. ويتضح من ذلك أن مفهوم الحرية القديم ـ المشاركة السياسية ـ يمكن أن يتعارض مع مفهوم الحرية الحديث ـ الليبرالي ـ خاصة عندما تظهر علي السطح دكتاتورية أو استبداد الأغلبية التي لاتقيم وزنا لحقوق الأقلية. وهو ماحدا بالكاتب الأمريكي/ الهندي إلي إصدار كتاب عن الديمقراطيات غير الحرة.
وإذ يبدو أن الفكر الليبرالي هو بالدرجة الأولي انصياع للفردية فليس معني ذلك أن هذا الفكر ـ وهو يضع حقوق الفرد في بؤرة اهتمامه ـ يهمل مصالح المجتمع ليصبح نهبا للمصالح الأنانية حيث يتسيد القوي ويذبل الضعيف, ويسيطر الغني ويسحق الفقير. علي العكس, الفكر الليبرالي الحديث وتحت وطأة العديد من التجارب ـ وبعضها مرير مثل الأزمات الاقتصادية والحروب والثورات ـ قد وصل إلي أن الفردية لايمكن أن تتحقق علي نحو مستقر وسليم مالم يتحقق التوازن بين الاعتبارات الفردية في حماية الحقوق الأساسية للفرد وبين الاعتبارات المجتمعية في توفير فرص التقدم الاقتصادي وعدالة التوزيع وصيانة البيئة والقضاء علي الفقر ورعاية المهمشين.
ولذلك فإن الديمقراطية الليبرالية وهي تستند الي المفهوم الليبرالي للحرية لايمكن أن تتجاهل المفهوم الجمهوري( المشاركة السياسية) أو المثالي التدخلي( ضمان حقوق دنيا للمواطنين) وعلي أن يظل الأساس والجوهر هو المفهوم الليبرالي في احترام حقوق الفرد وحرياته الأساسية. فالحرية الجمهورية( الديمقراطية السياسية) والحرية المثالية أو التدخلية( ضمان حدود دنيا للحقوق) تأتي لتدعيم حرية الأفراد وحقوقهم الأساسية وليس للمساس بها أو الاعتداء عليها.
وليس هناك من شك في أننا نعيش في عالم جديد يصعب تجاهله, وأن هذا العالم يتطلب بشكل متزايد ـ الأخذ بصورة من الليبرالية بشقيها الاقتصادي( اقتصاد السوق) والسياسي( الديمقراطية) وعلينا في مصر, أن نعمل علي تحقيق مزيد من التصالح بين هذا التيار العالمي وبين مقتضيات الظروف الداخلية.
وإذا نظرنا إلي أوضاعنا الداخلية فإن الأمر لايبدو ميسرا للإنتقال فجأة إلي نظام ليبرالي ناجح. وهناك علي الأقل مشكلتان حاليتان, الأولي هي النقص الشديد في القيادات الليبرالية المقبولة شعبيا وضعف القدرة علي إبراز قيادات جديدة. وأما الثانية فهي أنه باستثناء حزب الحكومة والذي احتكر السلطة لأكثر من نصف قرن, فقد انفراد التيار الإسلامي ـ باتجاهاته المختلفة ـ بالساحة السياسية الشعبية سواء علي مستوي التنظيم أو علي مستوي الخطاب السياسي. وموقف هذا التيار من الفكر الليبرالي ملتبس ـ عند الكثيرين. ويترتب علي ذلك أن الأخذ بإصلاحات ليبرالية غير مخططة قد يؤدي إلي تمكين القفز علي السلطة لعناصر معادية أصلا لليبرالية أو لعناصر انتهازية غير مؤمنة أصلا بالفكر الليبرالي, وبذلك فإنها تهدد بإجهاض التجربة في مهدها وتحويلها إلي مسار غير ليبرالي.
ولكن من ناحية أخري لايجوز التعلل بهذه المشاكل لتعطيل التحول إلي مزيد من الديمقراطية الليبرالية أو لتجاهل اتجاهات رئيسية في المجتمع واستبعادها من المشاركة بمقولة أنها قوي غير ليبرالية أو معادية لها. فإذا أضفنا إلي ذلك أن التعديل الدستوري المقترح قد جاء فجأة, وبلا مقدمات, بل ربما كانت الدلائل السابقة عليه تشير إلي العكس. كذلك فإن الإجراءات القانونية لوضع هذا التعديل موضع التنفيذ لن تتم إلا في نصف الساعة الأخير وقبل الإنتخابات بشهرين أو ثلاثة, ولذلك فإن نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة تبدو محسومة مقدما.
وهكذا يتضح أن معضلة الإصلاح السياسي في مصر تتطلب من ناحية التصالح والأخذ بنظام يغلب عليه المفاهيم الديمقراطية الليبرالية, ومن ناحية أخري أن يتم التصالح بين هذه المفاهيم نفسها وبين الاتجاهات الإسلامية والتي تمثل أحد أهم التيارات السياسية القائمة. وأخيرا, لابد أن يأخذ هذا المسار أسلوبا يسمح بالانتقال نحو هذا الهدف دون أن تقفز عليه العناصر الانتهازية أو المعادية لإختطاف التحول بعيدا عن الاتجاهات الليبرالية الحقيقية نتيجة للنقص الشديد في القيادات الليبرالية وعدم ترسخ التقاليد الليبرالية في الوعي العام.
ومن هنا الحاجة إلي فترة انتقال معقولة تقلل من مخاطر الإنحراف عن الهدف النهائي أو اختطاف العملية في مسار غير ليبرالي من جماعات انتهازية أو حتي معادية للأفكار الليبرالية لمجرد تميزهم بقدرات تنظيمية عالية أو سيطرتهم علي مراكز حساسة ومؤثرة في المجتمع. وهكذا فإن النجاح في التحول إلي نظام ديمقراطي ليبرالي يتوقف إلي حد بعيد علي مدي مايتوافر للمرحلة الإنتقالية من ظروف تمكنها من الانتقال الهاديء والسلمي والصحي إلي بر الأمان.
ومع ذلك فإنه لايقل أهمية ضرورة إحاطة هذه الفترة الإنتقالية بقيود واضحة ومحددة, وهي قيود زمنية وموضوعية علي السواء. فمن الناحية الزمنية يجب الاتفاق علي إطار زمني محدد تنتهي بعده هذه الفترة الإنتقالية, وأعتقد أن فترة بين سنتين وثلاث سنوات علي الأكثر كافية لتحقيق الانتقال السلمي والصحي إلي حياة ديمقراطية كاملة. ولايكفي الإتفاق علي حدود زمنية للفترة الإنتقالية بل لابد فوق ذلك من الاتفاق علي عدد من القيود الموضوعية التي تحكم هذه الفترة الإنتقالية. وأول هذه القيود هو ضرورة الأخذ ـ خلال هذه الفترة الإنتقالية ـ بكافة مظاهر الحرية الليبرالية, من إلغاء كافة القوانين الإستثنائية, وإقامة دولة القانون وتوفير استقلال القضاء وإلغاء كل صور القضاء الاستثنائي, واحترام جميع الحريات, وتوفير الشفافية الكاملة وخاصة فيما يتعلق بالميزانية وأوجه إنفاقها, وضمان حرية الصحافة والإعلام, وإقرار حرية تكوين الأحزاب والجمعيات.
الخطر الذي يمكن أن تتعرض له عملية الانتقال إلي الديمقراطية لايرجع إلي مخاطر إطلاق الحرية الليبرالية بقدر مايرجع إلي عدم الاستعداد إلي ممارسة حرية الجمهورية نتيجة للخواء السياسي للبيئة السياسية لأكثر من خمسين عاما. ففي هذه الظروف يمكن أن تكون الحرية الجمهورية والألتجاء المبكر إلي صناديق الأنتخاب متناقضا مع الحرية الليبرالية ومتعارضا معها وذلك قبل أن يستعيد المجتمع السياسي زمام الأمور ويتيح الفرصة لظهور قيادات جديدة. فالحرية مدخل للديمقراطية, ولكنها ليست بالضرورة نتيجة لها.
ولذلك فإن الإقتراح الذي طرحه الأستاذ سلامة أحمد سلامة بعدم منافسة السيد الرئيس في الانتخابات القادمة لضمان نجاحه بالتزكية يبدو اقتراحا معقولا للبدء في تجربة التعددية بعد أن تتوافر مقوماتها الحقيقية, وذلك بدلا من تبديد الجهود في قضية محسومة سلفا. وبذلك تصبح فترة الرئاسة القادمة هي الفترة الإنتقالية لترسيخ معاني الحرية الليبرالية حتي تأتي بعد ذلك الحرية الجمهورية مؤكدة لهذه المعاني وليست نقضا لها. وبعبارة أخري, يصبح التعديل الدستوري المقترح بداية للتحول الديمقراطي وليس نهاية له, وذلك بدءا بتطبيق الحرية الليبرالية, في فترة الرئاسة القادمة وفتح الباب لإستكمال مسيرة الإصلاح الدستوري. فالفترة الإنتقالية هي فترة البناء القانوني والمؤسسي للحريات العامة وإلغاء كافة القيود والإجراءات الاستثنائية. فلنبدأ بالحريات العامة, وبعد ذلك نستكمل البناء بالممارسات الديمقراطية في الانتخابات وتشكيل البرلمان.
ويمكن النظر إلي الفترة الإنتقالية باعتبارها مرحلة للحوار السياسي الحر وإبداء الآراء والإعداد لوضع دستور جديد وإتاحة الفرصة للأحزاب السياسية لوضع برامجها وتكوين كوادرها والإنخراط في العمل الجماهيري, وتعويد الرأي العام علي المشاركة في الحياة العامة واستعادة دوره القيادي والتخلص من أشكال اللامبالاة التي ميزت الفترة السابقة. والله أعلم.
المقال منشور في 2005 قبل انتخابات الرئاسة
طلبت مني مجلة الديمقراطية التي تصدرها جريدة الأهرام منذ نحو سنتين إعداد بحث عن مستقبل الليبرالية في مصر ونشر هذا البحث في العدد العاشر, ربيع 2003 وبالنظر إلي مايثار حاليا من نقاش حول الإصلاح السياسي, فقد وجدت أن الوقت مناسب لإعادة تلخيص بعض النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسة.
وقد يكون من المفيد أن نبدأ ببعض المقدمات النظرية, هناك ارتباط شديد بين مفهوم الليبرالية وفكرة الحرية, بل ان اسمها مشتق في الواقع من معني الحريةliberty وقد أخذ مفهوم الحرية عدة معان. فيمكن التمييز, علي الأقل, بين ثلاثة مفاهيم للحرية, فهناك مايمكن ان يطلق عليه المفهوم الجمهوري للحرية وهو يشير الي مساهمة الأفراد في الحياة السياسية, باختيار حكامهم ومساءلتهم.
وهذا المفهوم هو الأقرب إلي معني الديمقراطية السياسية, ولكن هناك مفهوما آخر يمكن ان نطلق عليه المفهوم الليبرالي للحرية, والمقصود بذلك الاعتراف للفرد بمجال خاص لايمكن التعرض له فيه بالتدخل, فهنا يرتبط الأمر بالاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لايجوز المساس بها أو انتهاكها, ويدخل في هذا حق الفرد في الحياة, وفي حرية العقيدة, وحرية التعبير عن الرأي, وحرية الاجتماع والانتقال كما يتضمن أيضا احترام حقوق الملكية الخاصة, وأخيرا هناك مايمكن أن نطلق عليه المفهوم المثالي أو التدخلي للحرية, والمقصود هنا ليس مجرد مشاركة الفرد في الحياة السياسية, أو الاعتراف له بمجال خاص لايجوز التعرض له.
بل ان الامر يجاوز ذلك إلي ضرورة أن يوفر المجتمع الشروط اللازمة لتمكين الأفراد من ممارسة اختياراتهم علي نحو يتفق مع رغباتهم الحقيقية وبحيث تتوافر لهم القدرة علي ممارسة هذا الاختيار. والحرية في هذا المفهوم تتعلق بتمكين الفرد من ممارسة حقوقه. وهذا المفهوم الأخير يتسع ويضيق وفقا للمدارس الفكرية المختلفة, بل وقد يتعارض مع المفاهيم الأخري للحرية في بعض الأحوال. فوفقا لهذا المفهوم المثالي أو التدخلي ـ من أشهر أمثلته الفكر الماركسي ـ فإن الحرية الليبرالية قد تصبح مجرد حرية شكلية خالية من المضمون إذا لم يتوافر للفرد مستوي اقتصادي من الدخل ومستوي تعليمي مناسب يمكنه من ممارسة اختياراته الحقيقية.
وإلي جانب هذا التقسيم اشار بنجامين كونستانت في كتابه الحريات القديمة والحديثة1819 الي التفرقة بين نوعين من الحرية فهناك المفهوم القديم للحرية والذي نجد جذوره في الفكر اليوناني والممارسات الديمقراطية في المدن اليونانية, الذي يري أن الحرية( الديمقراطية) تقتصر علي الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية. أما الحرية بالمعني الحديث فهي نتاج الفكر الليبرالي والذي استقر معناه ومفهومه من خلال المساهمات الفكرية لآباء هذا الفكر منذ القرن السابع عشر, خاصة مع جون لوك ثم مع جون استيورات ميل. وفي هذا المفهوم فإن الحرية ليست مجرد مشاركة في انتخاب الحكام وإنما هي بالدرجة الأولي دعوة إلي الفردية, بالاعتراف بمجال خاص يتمتع فيه الفرد بحرية واستقلال دون تدخل أو إزعاج من جانب السلطات. ويتضح من ذلك أن مفهوم الحرية القديم ـ المشاركة السياسية ـ يمكن أن يتعارض مع مفهوم الحرية الحديث ـ الليبرالي ـ خاصة عندما تظهر علي السطح دكتاتورية أو استبداد الأغلبية التي لاتقيم وزنا لحقوق الأقلية. وهو ماحدا بالكاتب الأمريكي/ الهندي إلي إصدار كتاب عن الديمقراطيات غير الحرة.
وإذ يبدو أن الفكر الليبرالي هو بالدرجة الأولي انصياع للفردية فليس معني ذلك أن هذا الفكر ـ وهو يضع حقوق الفرد في بؤرة اهتمامه ـ يهمل مصالح المجتمع ليصبح نهبا للمصالح الأنانية حيث يتسيد القوي ويذبل الضعيف, ويسيطر الغني ويسحق الفقير. علي العكس, الفكر الليبرالي الحديث وتحت وطأة العديد من التجارب ـ وبعضها مرير مثل الأزمات الاقتصادية والحروب والثورات ـ قد وصل إلي أن الفردية لايمكن أن تتحقق علي نحو مستقر وسليم مالم يتحقق التوازن بين الاعتبارات الفردية في حماية الحقوق الأساسية للفرد وبين الاعتبارات المجتمعية في توفير فرص التقدم الاقتصادي وعدالة التوزيع وصيانة البيئة والقضاء علي الفقر ورعاية المهمشين.
ولذلك فإن الديمقراطية الليبرالية وهي تستند الي المفهوم الليبرالي للحرية لايمكن أن تتجاهل المفهوم الجمهوري( المشاركة السياسية) أو المثالي التدخلي( ضمان حقوق دنيا للمواطنين) وعلي أن يظل الأساس والجوهر هو المفهوم الليبرالي في احترام حقوق الفرد وحرياته الأساسية. فالحرية الجمهورية( الديمقراطية السياسية) والحرية المثالية أو التدخلية( ضمان حدود دنيا للحقوق) تأتي لتدعيم حرية الأفراد وحقوقهم الأساسية وليس للمساس بها أو الاعتداء عليها.
وليس هناك من شك في أننا نعيش في عالم جديد يصعب تجاهله, وأن هذا العالم يتطلب بشكل متزايد ـ الأخذ بصورة من الليبرالية بشقيها الاقتصادي( اقتصاد السوق) والسياسي( الديمقراطية) وعلينا في مصر, أن نعمل علي تحقيق مزيد من التصالح بين هذا التيار العالمي وبين مقتضيات الظروف الداخلية.
وإذا نظرنا إلي أوضاعنا الداخلية فإن الأمر لايبدو ميسرا للإنتقال فجأة إلي نظام ليبرالي ناجح. وهناك علي الأقل مشكلتان حاليتان, الأولي هي النقص الشديد في القيادات الليبرالية المقبولة شعبيا وضعف القدرة علي إبراز قيادات جديدة. وأما الثانية فهي أنه باستثناء حزب الحكومة والذي احتكر السلطة لأكثر من نصف قرن, فقد انفراد التيار الإسلامي ـ باتجاهاته المختلفة ـ بالساحة السياسية الشعبية سواء علي مستوي التنظيم أو علي مستوي الخطاب السياسي. وموقف هذا التيار من الفكر الليبرالي ملتبس ـ عند الكثيرين. ويترتب علي ذلك أن الأخذ بإصلاحات ليبرالية غير مخططة قد يؤدي إلي تمكين القفز علي السلطة لعناصر معادية أصلا لليبرالية أو لعناصر انتهازية غير مؤمنة أصلا بالفكر الليبرالي, وبذلك فإنها تهدد بإجهاض التجربة في مهدها وتحويلها إلي مسار غير ليبرالي.
ولكن من ناحية أخري لايجوز التعلل بهذه المشاكل لتعطيل التحول إلي مزيد من الديمقراطية الليبرالية أو لتجاهل اتجاهات رئيسية في المجتمع واستبعادها من المشاركة بمقولة أنها قوي غير ليبرالية أو معادية لها. فإذا أضفنا إلي ذلك أن التعديل الدستوري المقترح قد جاء فجأة, وبلا مقدمات, بل ربما كانت الدلائل السابقة عليه تشير إلي العكس. كذلك فإن الإجراءات القانونية لوضع هذا التعديل موضع التنفيذ لن تتم إلا في نصف الساعة الأخير وقبل الإنتخابات بشهرين أو ثلاثة, ولذلك فإن نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة تبدو محسومة مقدما.
وهكذا يتضح أن معضلة الإصلاح السياسي في مصر تتطلب من ناحية التصالح والأخذ بنظام يغلب عليه المفاهيم الديمقراطية الليبرالية, ومن ناحية أخري أن يتم التصالح بين هذه المفاهيم نفسها وبين الاتجاهات الإسلامية والتي تمثل أحد أهم التيارات السياسية القائمة. وأخيرا, لابد أن يأخذ هذا المسار أسلوبا يسمح بالانتقال نحو هذا الهدف دون أن تقفز عليه العناصر الانتهازية أو المعادية لإختطاف التحول بعيدا عن الاتجاهات الليبرالية الحقيقية نتيجة للنقص الشديد في القيادات الليبرالية وعدم ترسخ التقاليد الليبرالية في الوعي العام.
ومن هنا الحاجة إلي فترة انتقال معقولة تقلل من مخاطر الإنحراف عن الهدف النهائي أو اختطاف العملية في مسار غير ليبرالي من جماعات انتهازية أو حتي معادية للأفكار الليبرالية لمجرد تميزهم بقدرات تنظيمية عالية أو سيطرتهم علي مراكز حساسة ومؤثرة في المجتمع. وهكذا فإن النجاح في التحول إلي نظام ديمقراطي ليبرالي يتوقف إلي حد بعيد علي مدي مايتوافر للمرحلة الإنتقالية من ظروف تمكنها من الانتقال الهاديء والسلمي والصحي إلي بر الأمان.
ومع ذلك فإنه لايقل أهمية ضرورة إحاطة هذه الفترة الإنتقالية بقيود واضحة ومحددة, وهي قيود زمنية وموضوعية علي السواء. فمن الناحية الزمنية يجب الاتفاق علي إطار زمني محدد تنتهي بعده هذه الفترة الإنتقالية, وأعتقد أن فترة بين سنتين وثلاث سنوات علي الأكثر كافية لتحقيق الانتقال السلمي والصحي إلي حياة ديمقراطية كاملة. ولايكفي الإتفاق علي حدود زمنية للفترة الإنتقالية بل لابد فوق ذلك من الاتفاق علي عدد من القيود الموضوعية التي تحكم هذه الفترة الإنتقالية. وأول هذه القيود هو ضرورة الأخذ ـ خلال هذه الفترة الإنتقالية ـ بكافة مظاهر الحرية الليبرالية, من إلغاء كافة القوانين الإستثنائية, وإقامة دولة القانون وتوفير استقلال القضاء وإلغاء كل صور القضاء الاستثنائي, واحترام جميع الحريات, وتوفير الشفافية الكاملة وخاصة فيما يتعلق بالميزانية وأوجه إنفاقها, وضمان حرية الصحافة والإعلام, وإقرار حرية تكوين الأحزاب والجمعيات.
الخطر الذي يمكن أن تتعرض له عملية الانتقال إلي الديمقراطية لايرجع إلي مخاطر إطلاق الحرية الليبرالية بقدر مايرجع إلي عدم الاستعداد إلي ممارسة حرية الجمهورية نتيجة للخواء السياسي للبيئة السياسية لأكثر من خمسين عاما. ففي هذه الظروف يمكن أن تكون الحرية الجمهورية والألتجاء المبكر إلي صناديق الأنتخاب متناقضا مع الحرية الليبرالية ومتعارضا معها وذلك قبل أن يستعيد المجتمع السياسي زمام الأمور ويتيح الفرصة لظهور قيادات جديدة. فالحرية مدخل للديمقراطية, ولكنها ليست بالضرورة نتيجة لها.
ولذلك فإن الإقتراح الذي طرحه الأستاذ سلامة أحمد سلامة بعدم منافسة السيد الرئيس في الانتخابات القادمة لضمان نجاحه بالتزكية يبدو اقتراحا معقولا للبدء في تجربة التعددية بعد أن تتوافر مقوماتها الحقيقية, وذلك بدلا من تبديد الجهود في قضية محسومة سلفا. وبذلك تصبح فترة الرئاسة القادمة هي الفترة الإنتقالية لترسيخ معاني الحرية الليبرالية حتي تأتي بعد ذلك الحرية الجمهورية مؤكدة لهذه المعاني وليست نقضا لها. وبعبارة أخري, يصبح التعديل الدستوري المقترح بداية للتحول الديمقراطي وليس نهاية له, وذلك بدءا بتطبيق الحرية الليبرالية, في فترة الرئاسة القادمة وفتح الباب لإستكمال مسيرة الإصلاح الدستوري. فالفترة الإنتقالية هي فترة البناء القانوني والمؤسسي للحريات العامة وإلغاء كافة القيود والإجراءات الاستثنائية. فلنبدأ بالحريات العامة, وبعد ذلك نستكمل البناء بالممارسات الديمقراطية في الانتخابات وتشكيل البرلمان.
ويمكن النظر إلي الفترة الإنتقالية باعتبارها مرحلة للحوار السياسي الحر وإبداء الآراء والإعداد لوضع دستور جديد وإتاحة الفرصة للأحزاب السياسية لوضع برامجها وتكوين كوادرها والإنخراط في العمل الجماهيري, وتعويد الرأي العام علي المشاركة في الحياة العامة واستعادة دوره القيادي والتخلص من أشكال اللامبالاة التي ميزت الفترة السابقة. والله أعلم.