مشاهدة النسخة كاملة : كوبى 00000بست (2)


غاربله
27-08-2011, 06:53 AM
من الأولويات المهمة شرعا : تقديم الكيف والنوع على الكم والحجم، فليست العبرة بالكثرة في العدد، ولا بالضخامة في الحجم: إنما المدار على النوعية والكيفية.
لقد ذم القرآن الأكثرية إذا كان أصحابها ممن لا يعقلون أو لا يعلمون أو لا يؤمنون أو لا
يشكرون : كما نطقت بذلك آيات وفيرة من كتاب الله : (بل أكثرهم لا يعقلون )، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)، (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).
في حين مدح القرآن القلة المؤمنة العاملة الشاكرة، كما في قوله تعالى : (إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وقليل ما هم )، (وقليل من عبادي الشكور )، (واذكروا إذ أنتم قليل
مستضعفون في الأرض )، (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم).
ولهذا ليس المهم أن يكثر عدد الناس، ولكن المهم أن يكثر عدد المؤمنين الصالحين منهم.
يذكر كثيرون الحديث النبوي : "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مكاثر بكم الأمم "، ولكن الرسول لن يباهي الأمم بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، إنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين.
وقد قال عليه الصلاة والسلام : "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ". دلالة على ندرة النوع الجيد من الناس، كندرة الراحلة الصالحة للسفر والركوب والحمل في الإبل، حتى إن المائة لا يكاد يوجد فيها واحدة من هذا النوع.
والتفاوت في بني الإنسان أكثر منه في جميع الفصائل والأنواع الأخرى من الحيوان وغيره .
حتى جاء في الحديث: "ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان".
إننا مولعون بالكم وبالكثرة في كل شيء، وإبراز الأرقام بالألوف والملايين، ولا يعنينا كثيرا ما وراء هذه الكثرة، ولا ماذا تحمل هذه الأرقام.
لقد أدرك الشاعر العربي الجاهلي أهمية النوع على الكم فقال:
تعيرنا أن قليـــــــــل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل، وجارنا عزيز، وجار الأكثرين ذليل
والقرآن ذكر لنا كيف انتصر جنود طالوت، وهم قلة على جنود جالون وهم كثرة : ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249) إلى أن قال: (فهزموهم بإذن الله).
وذكر لنا القرآن كيف انتصر الرسول وأصحابه في بدر، وهم قلة على المشركين وهم كثرة كما قال تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123)
(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ....) (لأنفال:26) على حين كاد المسلمون يخسرون في حنين، إذ نظروا إلى الكم لا الكيف وغرتهم الكثرة، وأهملوا القوة الروحية، والحيطة العسكرية، فدارت الدائرة عليهم أولا، حتى يتعلموا وينتبهوا أو يتوبوا، ثم فتح الله عليهم وأيدهم بجنود لم يروها.0
يقول الله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة:25)
ولقد بين القرآن أن الإنسان إذا اجتمع له الإيمان وقوة الإرادة المعبر عنها بالصبر،يمكن أن تتضاعف طاقته إلى عشرة أضعاف أعدائه ممن لا يملك إيمانه وإرادته: يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (لأنفال:65)).
وهذا في حالة القوة، أما في حالة الضعف فيمكن أن تكون طاقته ضعف طاقة خصمه، كما أشارت إلى ذلك الآية اللاحقة في سورة الأنفال : ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ....) (لأنفال:66) ).
المدار إذن على الإيمان والإرادة لا على العدو والكثرة.
ومن قرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن عنايته كانت بالنوع لا بالكم.
ومن قرأ سيرة أصحابه وخلفائه، رأى ذلك بجلاء ووضوح أيضا.
بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مددا، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة قال عمر : كل واحد منهم بألف،واعتبر المجموع اثنى عشر ألف ا! ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة.
لقد كان عمر مؤمنا بأن العبرة بنوع الرجال وقدراتهم ومواهبهم لا بأعدادهم وأحجامهم.
روى عنه أنه جلس يوما مع بعض أصحابه في دار رحبة، فقال لهم : تمنوا، فقال أحدهم : أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دراهم من فضة أنفقتها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكون له ملؤها ذهبا ينفقه في سبيل الله، أما عمر فقال : لكني أتمنى ملء هذه الدار رجالا مثل أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة، فأستعملهم في سبيل الله.
وفي عصرنا بلغ عدد المسلمين في العالم ما يجاوز المليار وربع المليار من البشر . ولكنهم للأسف الشديد كما وصفهم الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان : "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها "، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : "بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن "، قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال : "حب الدنيا وكراهية الموت".
لقد بين هذا الحديث أن الكثرة وحدها لا تغني، إذا كانت منتفخة من الخارج، واهنة من
الداخل، كما في المراحل "الغثائية" من حياة الأمة، التي تتصف الأمة فيها بما يتصف به الغثاء من الخفة، وعدم التجانس، وفقدان الهدف والطريق، كما هو شأن غثاء السيل.
العناية إذن يجب أن تتجه إلى الكيف والنوع لا مجرد الكم، والمقصود ب "الكم" هنا: كل ما يعبر عن مقدار الجانب المادي و حده، من كثرة العدد، أو سعة المساحة، أو كبر الحجم، أو ثقل الوزن، أو طول المدة، أو غير ذلك مما يدخل في هذا المجال.
وما قلناه في كثرة العدد نقوله في الأمور الأخرى.
فالإنسان مثلا لا يقاس بطول قامته، أو قوة عضلاته، أو ضخامة جسمه، أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته، فما الجسم في النهاية إلا غلاف الإنسان ومطيته، أما حقيقة الإنسان فما هو إلا العقل والقلب.
وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم).
كما وصف عادا على لسان نبيه هود بقوله: (وزادكم في الخلق بسطة).
ولكن هذه البسطة في الخلق جعلتهم يغترون ويستكبرون كما قال تعالى : (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة).
وفي الحديث الصحيح : "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرأوا إن شئتم: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)".
وصعد ابن مسعود يوما شجرة، فظهرت ساقاه، وكانتا دقيقتين نحيلتين، فضحك بعض
الصحابة من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد"
ليس المهم إذن ضخامة الجسم، إذا لم يكن يسكنه عقل ذكي، وفؤاد نقي، وقديما قال العرب : "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل".
وقال حسان بن ثابت يهجو قوما:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير