جهاد2000
04-10-2011, 04:00 PM
مصر.. هل تتكرر مأساة عام 54؟
الاحد 04 ذو القعدة 1432 الموافق 02 أكتوبر 2011
سمير العركي
رغم أن الثورة التونسية سجَّلت الأسبقية الزمنية من حيث الحدوث، كما أنها لعبت دورًا لا ينكر كمفجرة لبراكين الغضب التي تقاذفت حممها بعد ذلك، إلا أن الثورة المصرية ستبقى هي الأشد زخمًا والأقوى تأثيرًا والأوسع امتدادًا، لما تمثله مصر من محورية لا تنكَر في النظام العربي الإقليمي، وخصوصية مشهودة في النظام العالمي، ليست وليدة اليوم، بل تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.
لذا، فإن ما يحدث في مصر سيلقي بظلاله على المنطقة بأسرها، وسيسهم في تغيير الكثير من معادلات السياسة التي استقرت عبر عقود طويلة، وخاصة فيما يخص الصراع العربي – الإسرائيلي.
ومن هنا ندرك حجم الضغوط التي تمارَس على الدولة المصرية الحالية، من أجل الحيلولة دون إتمام العملية الديمقراطية، والتي تتمثل في انتخاب مجلسيْ الشعب والشورى، ورئيس جديد للدولة المصرية، وهي الانتخابات التي من المتوقع أن يهيمن الإسلاميون على جزء كبير منها.
لذا، فإن الفرحة والبسمة التي علت وجوه الملايين من الشعب المصري بدأت تختفي تدريجيًا مع تأزم الأوضاع الأمنية والمعيشي، والضبابية التي تغلف الموقف السياسي برمته، والتي جعلت الكثيرين يشككون في نوايا المجلس العسكري، وهل سيسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة كما قال مرات ومرات أم أن الشعب المصري والقوى السياسية على موعد مع استنساخ جديد لمأساة 54 التي أخرت مصر لعقود طويلة وأوصلتنا إلى المشهد المزري الذي ترك عليه مبارك ونظامه الحكم؟ فكيف كانت المأساة ؟ وما ملامح الاستنساخ الجديد؟
ثورة 52 وإجهاض التجربة الديمقراطية
في ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 52 قام الجيش المصري بحركته من أجل تصحيح الأوضاع السيئة التي سادت مصر آنذاك، والتي تطورت إلى انقلاب كامل على الملك فاروق ونظامه، وإعلان المبادئ الستة للثورة، ومن بينها إقامة حياة ديمقراطية سليمة، ولكن ثورة 52 استقبلت عهدها الجديد بإلغاء الأحزاب القائمة، واستثنت منها جماعة الإخوان المسلمين، والتي لعبت دورًا محوريًا في احتضان الثورة ونجاحها.
وهكذا ظلت إعادة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته أحد أهم المطالب التي تتصدر قائمة الأولويات عقب ثورة 52، وقد شكلت هذه المطالب تحديًا كبيرًا أمام الشعب وقواه الفاعلة المتطلعة للديمقراطية والحياة النيابية، على عكس قطاع كبير داخل مجلس قيادة الثورة كان منزعجًا من فكرة الديمقراطية وعودته إلى ثكناته، وعلى رأس هؤلاء يأتي عبد الناصر، ومن هنا فقد نشأ صراع مكتوم داخل مجلس قيادة الثورة ظل قرابة العامين دون خطوة واحدة صوب الديمقراطية الموعودة، والذي أدى في نهاية المطاف إلى عزل الرئيس محمد نجيب عام 54 بعد أن نجح عبد الناصر في استصدار قرار من مجلس قيادة الثورة بتجريد محمد نجيب من جميع مناصبه، مع صدور قرار موازٍ باعتقال المرشد العام للجماعة آنذاك المستشار/حسن الهضيبي، ومعه قرابة الألف من قيادات الجماعة، وكان ذلك في فبراير 54، ولكن الذي حدث بعد ذلك لم يكن في حسبان عبد الناصر؛ إذ خرج مئات الآلاف من طلبة الجامعة والشعب المصري في مظاهرات صاخبة في ميدان الجمهورية قبالة قصر عابدين، مطالبين بعودة محمد نجيب، ولم تنصرف هذه الجموع إلا بعد إطلالة نجيب عليهم من شرفة القصر وطمأنته إياهم بعودة الحكم النيابي. وبما أن تلك الجموع كان معظمها منتميًا إلى جماعة الإخوان المسلمين فقد احتاج الأمر لتدخل الشهيد / عبد القادر عودة بنفسه لمطالبته إياهم بالانصراف، وهو الأمر الذي أضمره عبد الناصر في نفسه؛ إذ أن من يملك صرف هذه الجموع يملك حشدهم متى شاء.
المهم، عاد محمد نجيب، وحصل الشعب على وعد صريح بعودة الحكم النيابي، وأعلن المسئولون بعدها إطلاق حرية الصحافة ورفع الرقابة عن الصحف، والأهم انتخاب جمعية تأسيسية لمراجعة الدستور واعتماده والذين سيختارون بالانتخاب المباشر، إضافة إلى عودة الأحزاب السياسية، وامتلأت الصحف حينها بتصريحات أعضاء مجلس قيادة الثورة حول إلغاء الأحكام العرفية، واستقالة رجال الجيش من مناصبهم العسكرية إذا رغبوا في الاندماج في العمل السياسي، وعدم اشتراك مجلس قيادة الثورة في الحكم... إلخ.
وبالجملة ملأت التصريحات الوردية الصحف اليومية آنذاك، وانتعش المجتمع المصري انتظارًا لتحقق حلمه الذي من أجله أيد الثورة في أيامها الأولى. واجتمع مجلس قيادة الثورة يوم 25 / 3/ 54، واتخذ العديد من القرارات المهمة، أذكر منها هنا:
· السماح بإنشاء الأحزاب
· لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات
· حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة
· تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها
ولكن المجتمع المصري استيقظ من أحلامه على وقع أحداث غريبة بدأت تضرب القاهرة منذ التاسع والعشرين من مارس 54؛ إذ فوجئ الجميع بإضراب شامل ينظمه عمال النقل في البلاد ( ترام – مترو- أتوبيس – سيارات أجرة) الجميع تلاقت إرادته فجأة على تنظيم إضراب عام في البلاد، في وقت كانت وسائل الاتصال بدائية للغاية، مقارنة بعصر المحمول والفيسبوك والتوتير. وقد أدى ذلك الإضراب إلى إصابة البلاد بحالة من الشلل التام، إضافة إلى طواف هؤلاء المضربين على دواوين الحكومة مطالبين الموظفين بترك وظائفهم، وتم الاعتداء على جريدة "المصري" (رمز الصحافة الحرة آنذاك)، وغلق مجلس الوزراء، حتى إن الرئيس محمد نجيب لم يستطع الدخول إلا من الباب الخلفي للمجلس، في الوقت الذي مرَّ فيه عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بكل سهولة من بين المحتجين الغاضبين.
وواصلت فرق الاحتجاج هياجها في شوارع القاهرة، فهاجمت مجلس الدولة، واعتدوا على عبد الرازق السنهوري رئيس المجلس، واستقال الأستاذ / سليمان حافظ، المسئول عن ملف تكوين هيئة وطنية مؤقتة تمثل البلاد.
هذه الموجة من الاضطرابات التي شملت البلاد فجأة أعطت الفرصة لعبد الناصر للتقدم بمطالب جديدة تتعارض مع قرارات مجلس الثورة السابقة، وقال حينها بكلمات حاسمة: إنها رغبة الجيش بجميع وحداته.. ومضت الأحداث بعد ذلك في مسارها المعروف الذي عصف بالحلم الديمقراطي، وأقام ديكتاتورية فاشية استمرت زهاء الستين عامًا.
إرهاصات 54 تلوح في الأفق
إذا كانت هذه باختصار مأساة 54 التي أدت إلى إقامة حياة ديكتاتورية تخلص منها الشعب المصري بعد جهد ومشقة، فإننا اليوم نجد أنفسنا أمام إرهاصات جديدة لتلك المأساة تتمثل في الآتي:
· تسلم الجيش المصري مقاليد الحكم في مصر عقب الإطاحة بالرئيس المخلوع حسنى مبارك، وذلك بعد وقفته الشجاعة مع جموع المتظاهرين ورفضه إطلاق النار عليهم، مما جنب مصر الدخول في دوامة شلالات الدماء التي شهدتها بلدان أخرى.
· أعلن المجلس العسكري أنه لا يريد السلطة، وسيقوم بتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية ينتقل الحكم بمقتضاها إلى حكومة مدنية ورئيس منتخب، وأن ما حدث عام 54 لن يتكرر.
· أجرى المجلس العسكري استفتاءً على بعض مواد دستور 71، ثم ضمنها في إعلان دستوري لتنظيم المرحلة الانتقالية، ولكن الذي لم يلتفت إليه أحد أن المادة 59 من الإعلان الدستوري وضعت كل السلطات في يد المجلس العسكري، والتي ستجعله مهيمنًا على مجمل الحياة السياسية المصرية لحين انتخاب رئيس جديد، وليس البرلمان كما يظن كثيرون؛ إذ سيظل هو صاحب الحق في تشكيل الحكومة، وليس من الضرورة أن تكون من تيار الأغلبية في البرلمان.
· تباطأ المجلس العسكري في تنفيذ مطالب الثورة، وعلى رأسها المحاكمات العادلة لرموز النظام السابق، وعلى رأسها حسني مبارك، ولم تتم إلا بعد مزيد من المظاهرات والاعتصامات.
· رفض المجلس العسكري تفعيل قانون الغدر، والذي بمقتضاه يتم حرمان قيادات وأعضاء الحزب الوطني المنحل الذين ساهموا في إفساد الحياة السياسية لمدة لا تقل عن خمس سنوات، بل على العكس من ذلك تم السماح بتأسيس ما يقرب من ستة أحزاب جديدة لقيادات وقواعد الحزب الوطني المنحل، في محاولة جديدة لاستنساخه ولكن بصورة جديدة.
· أبقى المجلس العسكري على الكثير من القيادات الحكومية في الوزارات ودواوين الحكومة، رغم انتمائهم للحزب الوطني، رغم مناشدة قوى الثورة الاستبدال بهم، واختيار عناصر وكفاءات لم تتلوث بالخدمة في بلاط الحزب الوطني، وما أكثرها في مصر لمن يريد.
· إعلان المجلس إعادة تفعيل قانون الطوارئ، وذلك للقضاء على ظاهرة البلطجة كما قيل، ولكنه حتى الآن لم يؤد الدور الذي من أجله تم تفعيله، بل أدى إلى توقيف د./ عمرو الشوبكي، الباحث والناشط السياسي في مطار القاهرة، والتهديد بمصادرة جريدتين أحدهما حكومية (صوت الأمة وروزاليوسف)؛ بسبب بعض الأخبار التي وردت فيهما.
· تعمد المجلس إصدار القوانين الخاصة بتنظيم الانتخابات ومباشرة الحقوق السياسية في غيبة القوى السياسية أو على عكس إرادتها، ووضح ذلك في تقسيم الدوائر التي تعمد أن يذهب نصفها إلى المستقلين، وهو ما يثير التخوف من عودة فلول الوطني إلى البرلمان مرة أخرى، خاصة مع تواتر أنباء عن رصد ما يقرب من مليار جنيه للمعركة الانتخابية من قبل فلول الوطني وقياداتهم القابعين في سجن طرة.
· إصدار المجلس العسكري إعلانًا دستوريًا حدد فيه مواعيد انتخابات البرلمان بمجلسيه؛ الشعب والشورى، والتي ستظل لمدة تقترب من ستة أشهر، مع إغفال تحديد موعد انتخاب رئيس الجمهورية، والذي يتوقع البعض أن يكون أواخر عام 2012 أو مطلع 2013، مما زاد من كآبة المشهد وقتامته، حتى إن الدكتور محمد سليم العوا، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، عبر عن قلقه الشديد – عبر بيان له – من امتداد العملية الانتخابية بهذه الصورة، واعتبر أنها غير مبررة، ولا يمكن للبلاد أن تحتمل شهورًا ستة كلها تستغرق في الانتخابات مع تردي الأوضاع الاقتصادية، ومع الفوضى السياسية والضعف الحكومي الذين يلمسهما كل متابع .
وأضاف أن مدة سنة من فبراير 2011 إلى فبراير 2012 أكثر من كافية لإنهاء الفترة الانتقالية، وبدء الحياة الديمقراطية السليمة، مشيرًا إلى أنه تم إضاعة تسعة أشهر منذ قيام الثورة وحتى الآن في خلافات ومناقشات وحوارات لم تؤد إلى نتائج يشعر بها الناس ويرضون عنها .
وكرر العوا دعوته إلى إعادة النظر الفوري في المواعيد المعلنة، كي تنتهي إجراءات تسليم السلطة من المجلس الأعلى إلى المنتخبين المدنيين في موعد لا يجاوز نهاية فبراير 2012 .
وحذر المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية مما أسماه بـ"عواقب لا يستطيع أحد التنبؤ بها" إذا جرى تنفيذ الجدول الزمني الذي أعلن عنه، واستمر الإغفال المتعمد لتحديد موعد نهائي لتسليم السلطة إلى برلمان ورئيس ينتخبان من الشعب .
لا يدرى أحد إلى أين ستسير مصر؟ هل هي على شفا استنساخ جديد لمأساة 54؟ أم أنها على موعد مع ثورة جديدة تعيد تصحيح المسار وتضع ثورتها الأولى على الطريق الصحيح من جديد؟
الاحد 04 ذو القعدة 1432 الموافق 02 أكتوبر 2011
سمير العركي
رغم أن الثورة التونسية سجَّلت الأسبقية الزمنية من حيث الحدوث، كما أنها لعبت دورًا لا ينكر كمفجرة لبراكين الغضب التي تقاذفت حممها بعد ذلك، إلا أن الثورة المصرية ستبقى هي الأشد زخمًا والأقوى تأثيرًا والأوسع امتدادًا، لما تمثله مصر من محورية لا تنكَر في النظام العربي الإقليمي، وخصوصية مشهودة في النظام العالمي، ليست وليدة اليوم، بل تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.
لذا، فإن ما يحدث في مصر سيلقي بظلاله على المنطقة بأسرها، وسيسهم في تغيير الكثير من معادلات السياسة التي استقرت عبر عقود طويلة، وخاصة فيما يخص الصراع العربي – الإسرائيلي.
ومن هنا ندرك حجم الضغوط التي تمارَس على الدولة المصرية الحالية، من أجل الحيلولة دون إتمام العملية الديمقراطية، والتي تتمثل في انتخاب مجلسيْ الشعب والشورى، ورئيس جديد للدولة المصرية، وهي الانتخابات التي من المتوقع أن يهيمن الإسلاميون على جزء كبير منها.
لذا، فإن الفرحة والبسمة التي علت وجوه الملايين من الشعب المصري بدأت تختفي تدريجيًا مع تأزم الأوضاع الأمنية والمعيشي، والضبابية التي تغلف الموقف السياسي برمته، والتي جعلت الكثيرين يشككون في نوايا المجلس العسكري، وهل سيسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة كما قال مرات ومرات أم أن الشعب المصري والقوى السياسية على موعد مع استنساخ جديد لمأساة 54 التي أخرت مصر لعقود طويلة وأوصلتنا إلى المشهد المزري الذي ترك عليه مبارك ونظامه الحكم؟ فكيف كانت المأساة ؟ وما ملامح الاستنساخ الجديد؟
ثورة 52 وإجهاض التجربة الديمقراطية
في ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 52 قام الجيش المصري بحركته من أجل تصحيح الأوضاع السيئة التي سادت مصر آنذاك، والتي تطورت إلى انقلاب كامل على الملك فاروق ونظامه، وإعلان المبادئ الستة للثورة، ومن بينها إقامة حياة ديمقراطية سليمة، ولكن ثورة 52 استقبلت عهدها الجديد بإلغاء الأحزاب القائمة، واستثنت منها جماعة الإخوان المسلمين، والتي لعبت دورًا محوريًا في احتضان الثورة ونجاحها.
وهكذا ظلت إعادة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته أحد أهم المطالب التي تتصدر قائمة الأولويات عقب ثورة 52، وقد شكلت هذه المطالب تحديًا كبيرًا أمام الشعب وقواه الفاعلة المتطلعة للديمقراطية والحياة النيابية، على عكس قطاع كبير داخل مجلس قيادة الثورة كان منزعجًا من فكرة الديمقراطية وعودته إلى ثكناته، وعلى رأس هؤلاء يأتي عبد الناصر، ومن هنا فقد نشأ صراع مكتوم داخل مجلس قيادة الثورة ظل قرابة العامين دون خطوة واحدة صوب الديمقراطية الموعودة، والذي أدى في نهاية المطاف إلى عزل الرئيس محمد نجيب عام 54 بعد أن نجح عبد الناصر في استصدار قرار من مجلس قيادة الثورة بتجريد محمد نجيب من جميع مناصبه، مع صدور قرار موازٍ باعتقال المرشد العام للجماعة آنذاك المستشار/حسن الهضيبي، ومعه قرابة الألف من قيادات الجماعة، وكان ذلك في فبراير 54، ولكن الذي حدث بعد ذلك لم يكن في حسبان عبد الناصر؛ إذ خرج مئات الآلاف من طلبة الجامعة والشعب المصري في مظاهرات صاخبة في ميدان الجمهورية قبالة قصر عابدين، مطالبين بعودة محمد نجيب، ولم تنصرف هذه الجموع إلا بعد إطلالة نجيب عليهم من شرفة القصر وطمأنته إياهم بعودة الحكم النيابي. وبما أن تلك الجموع كان معظمها منتميًا إلى جماعة الإخوان المسلمين فقد احتاج الأمر لتدخل الشهيد / عبد القادر عودة بنفسه لمطالبته إياهم بالانصراف، وهو الأمر الذي أضمره عبد الناصر في نفسه؛ إذ أن من يملك صرف هذه الجموع يملك حشدهم متى شاء.
المهم، عاد محمد نجيب، وحصل الشعب على وعد صريح بعودة الحكم النيابي، وأعلن المسئولون بعدها إطلاق حرية الصحافة ورفع الرقابة عن الصحف، والأهم انتخاب جمعية تأسيسية لمراجعة الدستور واعتماده والذين سيختارون بالانتخاب المباشر، إضافة إلى عودة الأحزاب السياسية، وامتلأت الصحف حينها بتصريحات أعضاء مجلس قيادة الثورة حول إلغاء الأحكام العرفية، واستقالة رجال الجيش من مناصبهم العسكرية إذا رغبوا في الاندماج في العمل السياسي، وعدم اشتراك مجلس قيادة الثورة في الحكم... إلخ.
وبالجملة ملأت التصريحات الوردية الصحف اليومية آنذاك، وانتعش المجتمع المصري انتظارًا لتحقق حلمه الذي من أجله أيد الثورة في أيامها الأولى. واجتمع مجلس قيادة الثورة يوم 25 / 3/ 54، واتخذ العديد من القرارات المهمة، أذكر منها هنا:
· السماح بإنشاء الأحزاب
· لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات
· حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة
· تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها
ولكن المجتمع المصري استيقظ من أحلامه على وقع أحداث غريبة بدأت تضرب القاهرة منذ التاسع والعشرين من مارس 54؛ إذ فوجئ الجميع بإضراب شامل ينظمه عمال النقل في البلاد ( ترام – مترو- أتوبيس – سيارات أجرة) الجميع تلاقت إرادته فجأة على تنظيم إضراب عام في البلاد، في وقت كانت وسائل الاتصال بدائية للغاية، مقارنة بعصر المحمول والفيسبوك والتوتير. وقد أدى ذلك الإضراب إلى إصابة البلاد بحالة من الشلل التام، إضافة إلى طواف هؤلاء المضربين على دواوين الحكومة مطالبين الموظفين بترك وظائفهم، وتم الاعتداء على جريدة "المصري" (رمز الصحافة الحرة آنذاك)، وغلق مجلس الوزراء، حتى إن الرئيس محمد نجيب لم يستطع الدخول إلا من الباب الخلفي للمجلس، في الوقت الذي مرَّ فيه عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بكل سهولة من بين المحتجين الغاضبين.
وواصلت فرق الاحتجاج هياجها في شوارع القاهرة، فهاجمت مجلس الدولة، واعتدوا على عبد الرازق السنهوري رئيس المجلس، واستقال الأستاذ / سليمان حافظ، المسئول عن ملف تكوين هيئة وطنية مؤقتة تمثل البلاد.
هذه الموجة من الاضطرابات التي شملت البلاد فجأة أعطت الفرصة لعبد الناصر للتقدم بمطالب جديدة تتعارض مع قرارات مجلس الثورة السابقة، وقال حينها بكلمات حاسمة: إنها رغبة الجيش بجميع وحداته.. ومضت الأحداث بعد ذلك في مسارها المعروف الذي عصف بالحلم الديمقراطي، وأقام ديكتاتورية فاشية استمرت زهاء الستين عامًا.
إرهاصات 54 تلوح في الأفق
إذا كانت هذه باختصار مأساة 54 التي أدت إلى إقامة حياة ديكتاتورية تخلص منها الشعب المصري بعد جهد ومشقة، فإننا اليوم نجد أنفسنا أمام إرهاصات جديدة لتلك المأساة تتمثل في الآتي:
· تسلم الجيش المصري مقاليد الحكم في مصر عقب الإطاحة بالرئيس المخلوع حسنى مبارك، وذلك بعد وقفته الشجاعة مع جموع المتظاهرين ورفضه إطلاق النار عليهم، مما جنب مصر الدخول في دوامة شلالات الدماء التي شهدتها بلدان أخرى.
· أعلن المجلس العسكري أنه لا يريد السلطة، وسيقوم بتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية ينتقل الحكم بمقتضاها إلى حكومة مدنية ورئيس منتخب، وأن ما حدث عام 54 لن يتكرر.
· أجرى المجلس العسكري استفتاءً على بعض مواد دستور 71، ثم ضمنها في إعلان دستوري لتنظيم المرحلة الانتقالية، ولكن الذي لم يلتفت إليه أحد أن المادة 59 من الإعلان الدستوري وضعت كل السلطات في يد المجلس العسكري، والتي ستجعله مهيمنًا على مجمل الحياة السياسية المصرية لحين انتخاب رئيس جديد، وليس البرلمان كما يظن كثيرون؛ إذ سيظل هو صاحب الحق في تشكيل الحكومة، وليس من الضرورة أن تكون من تيار الأغلبية في البرلمان.
· تباطأ المجلس العسكري في تنفيذ مطالب الثورة، وعلى رأسها المحاكمات العادلة لرموز النظام السابق، وعلى رأسها حسني مبارك، ولم تتم إلا بعد مزيد من المظاهرات والاعتصامات.
· رفض المجلس العسكري تفعيل قانون الغدر، والذي بمقتضاه يتم حرمان قيادات وأعضاء الحزب الوطني المنحل الذين ساهموا في إفساد الحياة السياسية لمدة لا تقل عن خمس سنوات، بل على العكس من ذلك تم السماح بتأسيس ما يقرب من ستة أحزاب جديدة لقيادات وقواعد الحزب الوطني المنحل، في محاولة جديدة لاستنساخه ولكن بصورة جديدة.
· أبقى المجلس العسكري على الكثير من القيادات الحكومية في الوزارات ودواوين الحكومة، رغم انتمائهم للحزب الوطني، رغم مناشدة قوى الثورة الاستبدال بهم، واختيار عناصر وكفاءات لم تتلوث بالخدمة في بلاط الحزب الوطني، وما أكثرها في مصر لمن يريد.
· إعلان المجلس إعادة تفعيل قانون الطوارئ، وذلك للقضاء على ظاهرة البلطجة كما قيل، ولكنه حتى الآن لم يؤد الدور الذي من أجله تم تفعيله، بل أدى إلى توقيف د./ عمرو الشوبكي، الباحث والناشط السياسي في مطار القاهرة، والتهديد بمصادرة جريدتين أحدهما حكومية (صوت الأمة وروزاليوسف)؛ بسبب بعض الأخبار التي وردت فيهما.
· تعمد المجلس إصدار القوانين الخاصة بتنظيم الانتخابات ومباشرة الحقوق السياسية في غيبة القوى السياسية أو على عكس إرادتها، ووضح ذلك في تقسيم الدوائر التي تعمد أن يذهب نصفها إلى المستقلين، وهو ما يثير التخوف من عودة فلول الوطني إلى البرلمان مرة أخرى، خاصة مع تواتر أنباء عن رصد ما يقرب من مليار جنيه للمعركة الانتخابية من قبل فلول الوطني وقياداتهم القابعين في سجن طرة.
· إصدار المجلس العسكري إعلانًا دستوريًا حدد فيه مواعيد انتخابات البرلمان بمجلسيه؛ الشعب والشورى، والتي ستظل لمدة تقترب من ستة أشهر، مع إغفال تحديد موعد انتخاب رئيس الجمهورية، والذي يتوقع البعض أن يكون أواخر عام 2012 أو مطلع 2013، مما زاد من كآبة المشهد وقتامته، حتى إن الدكتور محمد سليم العوا، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، عبر عن قلقه الشديد – عبر بيان له – من امتداد العملية الانتخابية بهذه الصورة، واعتبر أنها غير مبررة، ولا يمكن للبلاد أن تحتمل شهورًا ستة كلها تستغرق في الانتخابات مع تردي الأوضاع الاقتصادية، ومع الفوضى السياسية والضعف الحكومي الذين يلمسهما كل متابع .
وأضاف أن مدة سنة من فبراير 2011 إلى فبراير 2012 أكثر من كافية لإنهاء الفترة الانتقالية، وبدء الحياة الديمقراطية السليمة، مشيرًا إلى أنه تم إضاعة تسعة أشهر منذ قيام الثورة وحتى الآن في خلافات ومناقشات وحوارات لم تؤد إلى نتائج يشعر بها الناس ويرضون عنها .
وكرر العوا دعوته إلى إعادة النظر الفوري في المواعيد المعلنة، كي تنتهي إجراءات تسليم السلطة من المجلس الأعلى إلى المنتخبين المدنيين في موعد لا يجاوز نهاية فبراير 2012 .
وحذر المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية مما أسماه بـ"عواقب لا يستطيع أحد التنبؤ بها" إذا جرى تنفيذ الجدول الزمني الذي أعلن عنه، واستمر الإغفال المتعمد لتحديد موعد نهائي لتسليم السلطة إلى برلمان ورئيس ينتخبان من الشعب .
لا يدرى أحد إلى أين ستسير مصر؟ هل هي على شفا استنساخ جديد لمأساة 54؟ أم أنها على موعد مع ثورة جديدة تعيد تصحيح المسار وتضع ثورتها الأولى على الطريق الصحيح من جديد؟