alaa20022003
04-11-2011, 08:38 PM
تربية الحرية عند باولو فريري: الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية
حسام فتحي أبو جبارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2112 )
يعتبر باولو فريري Paulo Freire (1921-1997) واحداً من أبرز المفكرين المعاصرين الذين كرسوا حياتهم من أجل الارتقاء بمستوى التعليم ومزجه مع الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، وتغيير أوضاع الفقراء والمهمشين والمستضعفين على مستوى العالم تغييراً جوهرياً نحو الأفضل.
ففريري، البرازيلي المولد والنشأة، يرى في التعليم وسيلة للثورة على القهر، وصولاً إلى الحرية وإلى تمكين المقهورين من مقدراتهم، ومنهجه في تحقيق ذلك يرتكز على ‘الحوار’ الذي يتبادل فيه المعلم والمتعلم دوريهما، فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار الذي يدور في الغالب حول أوضاع المتعلمين المقهورين الحياتية هو المدخل إلى تعليمهم القراءة والكتابة. وهذا المنهج مناقض للمنهج الذي أسماه فريري ‘التعليم البنكي’، الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات ‘ سابقة التجهيز’ في أدمغة المتعلمين، الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات، ومن شأن ذلك التعليم البنكي أن يخرج قوالب مكررة من البشر تساهم في ‘ تكريس’ الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى من أوضاع جائرة.
لذلك وضع فريري عدة كتب بث فيها عصارة أفكاره، ومن أهمها كتاب ‘ تربية الحرية.. الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية’ Pedagogy of Freedom: Ethics, Democracy, and Civic Courage، الذي يربط فيه بين أبعاد تربية الحرية (الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية)، ويبين الخطوط الفاصلة بين أن يكون التعليم أداة للقهر أو طاقة للتحرر، وذلك على النحو التالي:
* المسؤولية الأخلاقية: يرى فريري أن المسؤولية الأخلاقية في ممارسة مهنة التعليم وفي عملية إعداد المعلمين، لا يجب أن تُختزل أبداً في صورة تدريب، بل يجب أن تتجاوز الإعداد الفني، وأن ترتبط بجذور التشكيل الأخلاقي للذات الإنسانية والتاريخ الإنساني. وبالتالي يجب أن تلتصق المسؤولية الأخلاقية بالمهنة التعليمية.
* الديمقراطية: يجب أن لا يكون المعلم فقط هو مصدر المعرفة الوحيد، وكأن الطلاب ليس لديهم أي معرفة أو خبرة، وهو الذي يتكلم ويشرح، وهم يستمعون وينصتون، وهو الذي يودع المعرفة في عقولهم وعليهم أن يختزنوها، وهو الذي يسأل وعليهم أن يجيبوا من مخزون ما أودعهم من رصيده المعرفي، ومن ثم فإن موقف التدريس في الفصل الدراسي وفي غيره مما يسود جو المدرسة من أوامر وعلاقات تسلطية أحادية يتحرك من أعلى إلى أدنى، ومن ثم يعكس نمط العلاقات السياسية غير الديمقراطية في المجتمع، ويؤدي إلى ترسيخه وإعادة إنتاجه.
* وفي مواجهة مواقف القهر والتسلط في الممارسات التعليمية، يدعو فريري بشدة إلى أهمية تنمية روح الاستقلالية لدى المتعلم، واحترام ما لديه من معرفة، وهذا يقتضي أن تقوم عملية التعليم على أساس المنهج الحواري الذي يشجع فضول المتعلم ورغبته في المعرفة، والتساؤل الرحب، والتفاعل الحقيقي بين المعلم والمتعلم، وعلى ممارسة التفكير النقدي في فهم الواقع المعاش والاستقلالية في اتخاذ القرار والتساؤل الفضولي، وهي قدرات لا تنمو وحدها، ولكنها تتبلور نتيجة عوامل متعددة تؤدي إلى النضج السليم أو إلى تشويه هذه القدرات.
وفي هذا الإطار يقول فريري: ‘ لا يصبح أحد فجأة ناضجاً في الخامسة والعشرين من عمره، إذ أننا نصبح ناضجين مع كل يوم يمر علينا. إن الاستقلالية عملية نضج، أي عملية تشكيل الوجود، وهي لا تحدث في وقت معين، وإنما هي رهينة بالخبرات التي تثير اتخاذ القرار والمسؤولية، وبهذا المعنى يجب أن يرتكز تعليم الاستقلالية على حق الحوار والحديث مع الآخر، لا الحديث إلى الآخر’.
* الشجاعة المدنية: إن الدور الفاعل للإنسان في مسيرته التاريخية عبر صراعات القوى والمصالح هو السعي من خلال الشجاعة المدنية والمغامرة والمخاطرة لصنع حياة أفضل، ما يتطلب الالتزام واختيار المواقف المتسقة مع الطبيعة الأخلاقية التي تخاصم ما ليس صحيحاً أخلاقياً.
ولتنمية أبعاد ‘ تربية الحرية’ يطالب فريري بـما يلي:
- احترام ما يعرفه المتعلم: إذ يجب احترام قدرة المتعلم الإبداعية واستثارتها، ولهذا السبب ينطوي التفكير بشكل صحيح على مسؤولية المعلم والمدرسة، بحيث لا تتوقف تلك المسؤولية عند احترام أنواع المعرفة الموجودة بصفة خاصة بين الطبقات الشعبية، ولكنها تمتد إلى مسؤولية مناقشة الطلاب في منطق هذه الأنواع من المعرفة وفي علاقتها بمحتواها. فمثلاً لماذا لا يتم أخذ الطلاب في تجارب حية إلى المناطق الفقيرة من المدينة عند مناقشة قضية الفقر؟
- المخاطرة وتقبل الجديد ورفض التمييز: لا يمكن رفض الجديد لمجرد أنه جديد، كما لا يمكن رفض القديم لمجرد أنه زمنياً لم يعد جديداً، فالأفكار المسبقة عن العرق أو الطبقة مثلاً تسيء إلى جوهر الكرامة الإنسانية، وتشكل إنكاراً جذرياً للديمقراطية، وبهذا المعنى لا يكون التدريس مجرد ألفاظ تقال عن تجربة يتم وصفها، بل سلوكاً يُفعل ويعاش ويشكل نوعاً من الشاهد على حقيقته التي لا تنكر.
وهنا يؤكد فريري على بعض الأخلاقيات التي يجب أن يتحلى بها المعلم، ومن أهمها: قبول المخاطرة، والدعوة إلى عدم التمييز، والتواصل والتحاور مع الطلاب.
ليس مجرد نقل للمعرفة:
في سياق حديث فريري عن كيفية القيام بالتدريس يحاول الإشارة إلى بعض الخصائص التي يحتاج المعلم الديمقراطي إلى أن يتحلى بها في علاقته بحرية الطلاب، ومن أهمها:
- الاعتراف بالنقص المعرفي: والنقص الذي نعنيه هو أساس التربية كعملية مستمرة، فالناس قادرون على التعلم فقط إلى الحد الذي هم فيه قادرون على إدراك أنفسهم على أنهم كائنات ناقصة، فالتعليم ليس هو ما يجعلنا قابلين للتعلم، بل وعينا بأننا ناقصون هو ما يجعلنا قابلين للتعلم، وهذا أصل أساسي من أصول الممارسة التربوية وإعدادنا للتدريس، فبشكل مثالي يجب على المعلمين والطلاب والموهوبين معا، الإلمام بأشكال المعرفة الأخرى التي نادراً ما تكون جزءاً من المناهج.
- احترام استقلالية المتعلم: فالمعلم الذي لا يحترم فضول الطالب في تعبيراته الجمالية واللغوية، والذي يسخر من تعامله معه، إنما ينتهك مبادئ أخلاقية أساسية للشروط الإنسانية.
- التواضع والتسامح والنضال من أجل حقوق المعلم: إذا كان هناك شيء يجب أن يعرفه الطالب في سنواته المبكرة، فهو احترام المعلمين والتعليم نفسه، بما في ذلك النضال من أجل رواتب تستحقها مهنة التدريس، وبهذا المعنى يجب فهم مؤازرة دفاع المعلمين عن كرامتهم وحقوقهم على أنها جزء لا يتجزأ من ممارستهم للتدريس، وهذا شيء من صُلب الأساس الأخلاقي لهذه الممارسة، ولا يأتي من خارج نشاط التدريس، فهو شيء متكامل معه، إذ أن النضال من أجل إضفاء الكرامة على ممارسة التدريس جزء من نشاط التدريس مثله في ذلك مثل الاحترام الذي يجب أن يكنّه المعلم لهوية المتعلم، لذاته ولحقه في أن يكون، وفي هذا الإطار يشير المؤلف إلى أن احترام المعلم للطالب يتطلب منه غرس التواضع والتسامح عند ممارسة عملية التدريس.
- التدريس يتطلب الفضول: إن المعلم الذي تسيطر عليه اتجاهات تسلطية أو أبوية تخنق فضول المتعلم، ينتهي الأمر به إلى خنق فضوله هو نفسه، فليس هناك أساس أخلاقي ممكن لإنكار التعبير عن الفضول لدى الآخر، فالبيئة الديمقراطية والتعليمية الملائمة التي يجب العمل فيها هي بيئة يتقدم فيها المتعلم في تعلمه من خلال خبراته الفعلية، وهي البيئة التي يكون للفضول فيها - كتعبير عن الحرية - حدود بالضرورة.
- ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن علينا تقليص نشاطنا التدريسي ليصبح مجرد تداول الأسئلة، باسم الدفاع عن ضرورة الفضول، فالحاجة إلى الحوار لا تقلل بأي حال من الأحوال من الحاجة إلى الشرح والعرض الذي يقدمه المعلم من خلال فهمه ومعرفته بالموضوع، وإنما الأساس في هذه العملية هو أن يعرف كل من المعلم والطالب أن التساؤل المفتوح والجاد - سواءً في التحدث أو الإصغاء - أساسه التبادل.
التدريس فعل إنساني
يرى فريري أن الخصائص الأساسية التي يمكن أن تكشف عنها ممارسة تدريس ديمقراطي معترف به في علاقة هذه الممارسة بحرية الطلاب هي:
لا يوجد شيء يسمى سلطة التدريس دون هذه الكفاءة، فالمعلم الذي لا يتعامل مع تعليمه بشكل جيد، ولا يدرّس، ولا يبذل سوى النزر اليسير من الجهد لمواكبة الأحداث، ليس لديه سلطة ليشرف على أنشطة الفصول الدراسية. ولا يعني هذا بالتأكيد أن اختيار المعلم وممارسته الديمقراطية من الأمور التي تحددها الكفاءة العلمية، فهناك من المعلمين من هو مُعد علميا، غير أنه ديكتاتوري تماماً في ممارسته، أي أن عدم الكفاءة العلمية يدمر السلطة الشرعية للمعلم.
الالتزام: مكان التدريس قبل كل شيء نصّ يجب قراءته باستمرار وتفسيره وكتابته، وإعادة كتابته، وبهذا المعنى كلما كان هناك تلاحم بين المعلم والطالب في استخدام هذا المكان بشكل متبادل، زادت إمكانات حدوث التعلم الديمقراطي في المدرسة، والمعلم عليه أن يلتزم برعاية الطلاب عند ممارسة نشاطه التدريسي، حتى يكون هناك تفاعل بين الطلاب والمعلم، ما ينعكس بالإيجاب على العملية التعليمية برمتها.
اتخاذ القرار الواعي والمعبر عن الضمير الحي، فالتربية هي ذلك الفعل الإنساني الخاص، والذي يعتبر شكلاً من أشكال التدخل في العالم، والتدخل هنا يعني الرغبة في إحداث التغييرات الجذرية في المجتمع في مجالات مثل الاقتصاد، والعلاقات الإنسانية والملكية، والحق في التوظيف، وفي التعليم، وفي الصحة…الخ.
وهذه الأشكال من التدخل، والتي تتبادل المواقع بينها، هي أبعد من أن توّحد بين أفعالنا وما نعلنه، ولعل هذا ما يتضح جليا بين ما يقوم له بعض المعلمين من أفعال تناقض أقوالهم، مثل: ممارستهم ممارسة تعليمية تتسم بالتسلط إلى حد كبير، فنادراً ما يسهم أحدهم في بناء استقلالية متماسكة لدى طلابه، فهم بصفة عامة يُصرون على القيام بعملية تلقين الطلاب لمنهجهم الدراسي بدلاً من تحديهم لتعلم جوهر هذا المحتوى، ومن هنا فإن على المعلمين اتخاذ القرارات الصحيحة الواعية والرامية إلى تحقيق العملية التعليمية لأهدافها.
الانفتاح على الحوار: إن الأساس الأخلاقي والسياسي والتعليمي لهذا الانفتاح يقوم على الحوار الذي من الممكن أن يجعل منه ثراءً متميزاً وجمالاً، وميزة الانفتاح أنه يؤدي بنا إلى التبصرة بنواقصنا المعرفية، ومن ثم يجب على تعليم المعلم أن يؤكد ضرورة هذا النوع من المعرفة والأهمية الواضحة لمعرفة المعلمين للسياق البيئي والاجتماعي والاقتصادي بالمكان الذي يحيط بهم ويقومون بالتدريس فيه، ولا يكفي أن يكون لدى المعلم معرفة نظرية بهذا السياق، بل يجب أن تكون لديه أيضاً معرفة للواقع الذي يعمل فيه المعلم.
رعاية الطلاب: من الضروري أن يكون المعلم منفتحاً على رعاية مصلحة طلابه وعلى تجربة التربية التي يمارسها؛ لأن عدم احترام التربية والطلاب والمعلمين، يفسد حساسيتنا وانفتاحنا على رعاية مصالح الممارسة التربوية.
إن المعلم صاحب العقل المنفتح على الآخرين وعلى العالم يحتاج إلى تلك المعرفة التي تهتم بالطبيعة الإنسانية الخاصة لفن التدريس، والتي تحمل بين جنباتها رعاية الطلاب الذين هم في أطوار عملية التشكيل والتغيير والنمو، وإعادة توجيه حياتهم لبلوغ أحوال أفضل.
ومن هنا يمكن القول بأن الممارسة التربوية الديمقراطية والجادة هي تلك القائمة على إنتاج التفكير الذكي وتحقيق وتنمية استقلالية كل من المعلم والطالب، واحترام ما يعرفه المتعلم، والقدرة على النقد، وأن يقبل المعلم المخاطرة والجديد، ويرفض التمييز، وأن يعي بالنقص المعرفي والاعتراف بحدود الإنسان، وأن يكون المعلم متواضعا ومتسامحا مع نضاله من أجل حقوقه، وأن تكون لديه قدرة على فهم الواقع، وإيمان بأن التغيير ممكن وأن التدريس يتطلب الفضول.
إضافة إلى ذلك يجب أن يتحلى المعلم بعدة صفات إنسانية متمثلة في الثقة بالذات والالتزام، والقدرة على اتخاذ القرار الواعي ومعرفة كيفية الإصغاء، والانفتاح على الحوار، وأن يقــــوم برعاية الطلاب مهما كانت مستوياتهم أو أنماط تفكـــــيرهم.. تلك هي مقومات الرسالة وملامحها التي أراد المؤلف أن يبلغنا إياها، والتي حملت عنوان ‘تربية الحرية’ بروافدها الثلاثة: الأخلاق، والديمقراطية، والشجاعة المدنية، مع التأكيد على ديمقراطية التدريس للمعلم في علاقتـــــه بحرية الطلاب، على أن يتحلى المعلم بشــروط وآداب الحوار، فتلك هي صــورة مصغرة لتوضيح العلاقة بين ‘السلطة’ و’الحرية’، والتي يجب أن تكون مقننــــة، وعلى أساس متين من المبادئ، حــــماية للحرية من تعسف السلطة وحتى تكون الحرية قولاً وسلوكاً.
حسام فتحي أبو جبارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2112 )
يعتبر باولو فريري Paulo Freire (1921-1997) واحداً من أبرز المفكرين المعاصرين الذين كرسوا حياتهم من أجل الارتقاء بمستوى التعليم ومزجه مع الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، وتغيير أوضاع الفقراء والمهمشين والمستضعفين على مستوى العالم تغييراً جوهرياً نحو الأفضل.
ففريري، البرازيلي المولد والنشأة، يرى في التعليم وسيلة للثورة على القهر، وصولاً إلى الحرية وإلى تمكين المقهورين من مقدراتهم، ومنهجه في تحقيق ذلك يرتكز على ‘الحوار’ الذي يتبادل فيه المعلم والمتعلم دوريهما، فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار الذي يدور في الغالب حول أوضاع المتعلمين المقهورين الحياتية هو المدخل إلى تعليمهم القراءة والكتابة. وهذا المنهج مناقض للمنهج الذي أسماه فريري ‘التعليم البنكي’، الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات ‘ سابقة التجهيز’ في أدمغة المتعلمين، الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات، ومن شأن ذلك التعليم البنكي أن يخرج قوالب مكررة من البشر تساهم في ‘ تكريس’ الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى من أوضاع جائرة.
لذلك وضع فريري عدة كتب بث فيها عصارة أفكاره، ومن أهمها كتاب ‘ تربية الحرية.. الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية’ Pedagogy of Freedom: Ethics, Democracy, and Civic Courage، الذي يربط فيه بين أبعاد تربية الحرية (الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية)، ويبين الخطوط الفاصلة بين أن يكون التعليم أداة للقهر أو طاقة للتحرر، وذلك على النحو التالي:
* المسؤولية الأخلاقية: يرى فريري أن المسؤولية الأخلاقية في ممارسة مهنة التعليم وفي عملية إعداد المعلمين، لا يجب أن تُختزل أبداً في صورة تدريب، بل يجب أن تتجاوز الإعداد الفني، وأن ترتبط بجذور التشكيل الأخلاقي للذات الإنسانية والتاريخ الإنساني. وبالتالي يجب أن تلتصق المسؤولية الأخلاقية بالمهنة التعليمية.
* الديمقراطية: يجب أن لا يكون المعلم فقط هو مصدر المعرفة الوحيد، وكأن الطلاب ليس لديهم أي معرفة أو خبرة، وهو الذي يتكلم ويشرح، وهم يستمعون وينصتون، وهو الذي يودع المعرفة في عقولهم وعليهم أن يختزنوها، وهو الذي يسأل وعليهم أن يجيبوا من مخزون ما أودعهم من رصيده المعرفي، ومن ثم فإن موقف التدريس في الفصل الدراسي وفي غيره مما يسود جو المدرسة من أوامر وعلاقات تسلطية أحادية يتحرك من أعلى إلى أدنى، ومن ثم يعكس نمط العلاقات السياسية غير الديمقراطية في المجتمع، ويؤدي إلى ترسيخه وإعادة إنتاجه.
* وفي مواجهة مواقف القهر والتسلط في الممارسات التعليمية، يدعو فريري بشدة إلى أهمية تنمية روح الاستقلالية لدى المتعلم، واحترام ما لديه من معرفة، وهذا يقتضي أن تقوم عملية التعليم على أساس المنهج الحواري الذي يشجع فضول المتعلم ورغبته في المعرفة، والتساؤل الرحب، والتفاعل الحقيقي بين المعلم والمتعلم، وعلى ممارسة التفكير النقدي في فهم الواقع المعاش والاستقلالية في اتخاذ القرار والتساؤل الفضولي، وهي قدرات لا تنمو وحدها، ولكنها تتبلور نتيجة عوامل متعددة تؤدي إلى النضج السليم أو إلى تشويه هذه القدرات.
وفي هذا الإطار يقول فريري: ‘ لا يصبح أحد فجأة ناضجاً في الخامسة والعشرين من عمره، إذ أننا نصبح ناضجين مع كل يوم يمر علينا. إن الاستقلالية عملية نضج، أي عملية تشكيل الوجود، وهي لا تحدث في وقت معين، وإنما هي رهينة بالخبرات التي تثير اتخاذ القرار والمسؤولية، وبهذا المعنى يجب أن يرتكز تعليم الاستقلالية على حق الحوار والحديث مع الآخر، لا الحديث إلى الآخر’.
* الشجاعة المدنية: إن الدور الفاعل للإنسان في مسيرته التاريخية عبر صراعات القوى والمصالح هو السعي من خلال الشجاعة المدنية والمغامرة والمخاطرة لصنع حياة أفضل، ما يتطلب الالتزام واختيار المواقف المتسقة مع الطبيعة الأخلاقية التي تخاصم ما ليس صحيحاً أخلاقياً.
ولتنمية أبعاد ‘ تربية الحرية’ يطالب فريري بـما يلي:
- احترام ما يعرفه المتعلم: إذ يجب احترام قدرة المتعلم الإبداعية واستثارتها، ولهذا السبب ينطوي التفكير بشكل صحيح على مسؤولية المعلم والمدرسة، بحيث لا تتوقف تلك المسؤولية عند احترام أنواع المعرفة الموجودة بصفة خاصة بين الطبقات الشعبية، ولكنها تمتد إلى مسؤولية مناقشة الطلاب في منطق هذه الأنواع من المعرفة وفي علاقتها بمحتواها. فمثلاً لماذا لا يتم أخذ الطلاب في تجارب حية إلى المناطق الفقيرة من المدينة عند مناقشة قضية الفقر؟
- المخاطرة وتقبل الجديد ورفض التمييز: لا يمكن رفض الجديد لمجرد أنه جديد، كما لا يمكن رفض القديم لمجرد أنه زمنياً لم يعد جديداً، فالأفكار المسبقة عن العرق أو الطبقة مثلاً تسيء إلى جوهر الكرامة الإنسانية، وتشكل إنكاراً جذرياً للديمقراطية، وبهذا المعنى لا يكون التدريس مجرد ألفاظ تقال عن تجربة يتم وصفها، بل سلوكاً يُفعل ويعاش ويشكل نوعاً من الشاهد على حقيقته التي لا تنكر.
وهنا يؤكد فريري على بعض الأخلاقيات التي يجب أن يتحلى بها المعلم، ومن أهمها: قبول المخاطرة، والدعوة إلى عدم التمييز، والتواصل والتحاور مع الطلاب.
ليس مجرد نقل للمعرفة:
في سياق حديث فريري عن كيفية القيام بالتدريس يحاول الإشارة إلى بعض الخصائص التي يحتاج المعلم الديمقراطي إلى أن يتحلى بها في علاقته بحرية الطلاب، ومن أهمها:
- الاعتراف بالنقص المعرفي: والنقص الذي نعنيه هو أساس التربية كعملية مستمرة، فالناس قادرون على التعلم فقط إلى الحد الذي هم فيه قادرون على إدراك أنفسهم على أنهم كائنات ناقصة، فالتعليم ليس هو ما يجعلنا قابلين للتعلم، بل وعينا بأننا ناقصون هو ما يجعلنا قابلين للتعلم، وهذا أصل أساسي من أصول الممارسة التربوية وإعدادنا للتدريس، فبشكل مثالي يجب على المعلمين والطلاب والموهوبين معا، الإلمام بأشكال المعرفة الأخرى التي نادراً ما تكون جزءاً من المناهج.
- احترام استقلالية المتعلم: فالمعلم الذي لا يحترم فضول الطالب في تعبيراته الجمالية واللغوية، والذي يسخر من تعامله معه، إنما ينتهك مبادئ أخلاقية أساسية للشروط الإنسانية.
- التواضع والتسامح والنضال من أجل حقوق المعلم: إذا كان هناك شيء يجب أن يعرفه الطالب في سنواته المبكرة، فهو احترام المعلمين والتعليم نفسه، بما في ذلك النضال من أجل رواتب تستحقها مهنة التدريس، وبهذا المعنى يجب فهم مؤازرة دفاع المعلمين عن كرامتهم وحقوقهم على أنها جزء لا يتجزأ من ممارستهم للتدريس، وهذا شيء من صُلب الأساس الأخلاقي لهذه الممارسة، ولا يأتي من خارج نشاط التدريس، فهو شيء متكامل معه، إذ أن النضال من أجل إضفاء الكرامة على ممارسة التدريس جزء من نشاط التدريس مثله في ذلك مثل الاحترام الذي يجب أن يكنّه المعلم لهوية المتعلم، لذاته ولحقه في أن يكون، وفي هذا الإطار يشير المؤلف إلى أن احترام المعلم للطالب يتطلب منه غرس التواضع والتسامح عند ممارسة عملية التدريس.
- التدريس يتطلب الفضول: إن المعلم الذي تسيطر عليه اتجاهات تسلطية أو أبوية تخنق فضول المتعلم، ينتهي الأمر به إلى خنق فضوله هو نفسه، فليس هناك أساس أخلاقي ممكن لإنكار التعبير عن الفضول لدى الآخر، فالبيئة الديمقراطية والتعليمية الملائمة التي يجب العمل فيها هي بيئة يتقدم فيها المتعلم في تعلمه من خلال خبراته الفعلية، وهي البيئة التي يكون للفضول فيها - كتعبير عن الحرية - حدود بالضرورة.
- ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن علينا تقليص نشاطنا التدريسي ليصبح مجرد تداول الأسئلة، باسم الدفاع عن ضرورة الفضول، فالحاجة إلى الحوار لا تقلل بأي حال من الأحوال من الحاجة إلى الشرح والعرض الذي يقدمه المعلم من خلال فهمه ومعرفته بالموضوع، وإنما الأساس في هذه العملية هو أن يعرف كل من المعلم والطالب أن التساؤل المفتوح والجاد - سواءً في التحدث أو الإصغاء - أساسه التبادل.
التدريس فعل إنساني
يرى فريري أن الخصائص الأساسية التي يمكن أن تكشف عنها ممارسة تدريس ديمقراطي معترف به في علاقة هذه الممارسة بحرية الطلاب هي:
لا يوجد شيء يسمى سلطة التدريس دون هذه الكفاءة، فالمعلم الذي لا يتعامل مع تعليمه بشكل جيد، ولا يدرّس، ولا يبذل سوى النزر اليسير من الجهد لمواكبة الأحداث، ليس لديه سلطة ليشرف على أنشطة الفصول الدراسية. ولا يعني هذا بالتأكيد أن اختيار المعلم وممارسته الديمقراطية من الأمور التي تحددها الكفاءة العلمية، فهناك من المعلمين من هو مُعد علميا، غير أنه ديكتاتوري تماماً في ممارسته، أي أن عدم الكفاءة العلمية يدمر السلطة الشرعية للمعلم.
الالتزام: مكان التدريس قبل كل شيء نصّ يجب قراءته باستمرار وتفسيره وكتابته، وإعادة كتابته، وبهذا المعنى كلما كان هناك تلاحم بين المعلم والطالب في استخدام هذا المكان بشكل متبادل، زادت إمكانات حدوث التعلم الديمقراطي في المدرسة، والمعلم عليه أن يلتزم برعاية الطلاب عند ممارسة نشاطه التدريسي، حتى يكون هناك تفاعل بين الطلاب والمعلم، ما ينعكس بالإيجاب على العملية التعليمية برمتها.
اتخاذ القرار الواعي والمعبر عن الضمير الحي، فالتربية هي ذلك الفعل الإنساني الخاص، والذي يعتبر شكلاً من أشكال التدخل في العالم، والتدخل هنا يعني الرغبة في إحداث التغييرات الجذرية في المجتمع في مجالات مثل الاقتصاد، والعلاقات الإنسانية والملكية، والحق في التوظيف، وفي التعليم، وفي الصحة…الخ.
وهذه الأشكال من التدخل، والتي تتبادل المواقع بينها، هي أبعد من أن توّحد بين أفعالنا وما نعلنه، ولعل هذا ما يتضح جليا بين ما يقوم له بعض المعلمين من أفعال تناقض أقوالهم، مثل: ممارستهم ممارسة تعليمية تتسم بالتسلط إلى حد كبير، فنادراً ما يسهم أحدهم في بناء استقلالية متماسكة لدى طلابه، فهم بصفة عامة يُصرون على القيام بعملية تلقين الطلاب لمنهجهم الدراسي بدلاً من تحديهم لتعلم جوهر هذا المحتوى، ومن هنا فإن على المعلمين اتخاذ القرارات الصحيحة الواعية والرامية إلى تحقيق العملية التعليمية لأهدافها.
الانفتاح على الحوار: إن الأساس الأخلاقي والسياسي والتعليمي لهذا الانفتاح يقوم على الحوار الذي من الممكن أن يجعل منه ثراءً متميزاً وجمالاً، وميزة الانفتاح أنه يؤدي بنا إلى التبصرة بنواقصنا المعرفية، ومن ثم يجب على تعليم المعلم أن يؤكد ضرورة هذا النوع من المعرفة والأهمية الواضحة لمعرفة المعلمين للسياق البيئي والاجتماعي والاقتصادي بالمكان الذي يحيط بهم ويقومون بالتدريس فيه، ولا يكفي أن يكون لدى المعلم معرفة نظرية بهذا السياق، بل يجب أن تكون لديه أيضاً معرفة للواقع الذي يعمل فيه المعلم.
رعاية الطلاب: من الضروري أن يكون المعلم منفتحاً على رعاية مصلحة طلابه وعلى تجربة التربية التي يمارسها؛ لأن عدم احترام التربية والطلاب والمعلمين، يفسد حساسيتنا وانفتاحنا على رعاية مصالح الممارسة التربوية.
إن المعلم صاحب العقل المنفتح على الآخرين وعلى العالم يحتاج إلى تلك المعرفة التي تهتم بالطبيعة الإنسانية الخاصة لفن التدريس، والتي تحمل بين جنباتها رعاية الطلاب الذين هم في أطوار عملية التشكيل والتغيير والنمو، وإعادة توجيه حياتهم لبلوغ أحوال أفضل.
ومن هنا يمكن القول بأن الممارسة التربوية الديمقراطية والجادة هي تلك القائمة على إنتاج التفكير الذكي وتحقيق وتنمية استقلالية كل من المعلم والطالب، واحترام ما يعرفه المتعلم، والقدرة على النقد، وأن يقبل المعلم المخاطرة والجديد، ويرفض التمييز، وأن يعي بالنقص المعرفي والاعتراف بحدود الإنسان، وأن يكون المعلم متواضعا ومتسامحا مع نضاله من أجل حقوقه، وأن تكون لديه قدرة على فهم الواقع، وإيمان بأن التغيير ممكن وأن التدريس يتطلب الفضول.
إضافة إلى ذلك يجب أن يتحلى المعلم بعدة صفات إنسانية متمثلة في الثقة بالذات والالتزام، والقدرة على اتخاذ القرار الواعي ومعرفة كيفية الإصغاء، والانفتاح على الحوار، وأن يقــــوم برعاية الطلاب مهما كانت مستوياتهم أو أنماط تفكـــــيرهم.. تلك هي مقومات الرسالة وملامحها التي أراد المؤلف أن يبلغنا إياها، والتي حملت عنوان ‘تربية الحرية’ بروافدها الثلاثة: الأخلاق، والديمقراطية، والشجاعة المدنية، مع التأكيد على ديمقراطية التدريس للمعلم في علاقتـــــه بحرية الطلاب، على أن يتحلى المعلم بشــروط وآداب الحوار، فتلك هي صــورة مصغرة لتوضيح العلاقة بين ‘السلطة’ و’الحرية’، والتي يجب أن تكون مقننــــة، وعلى أساس متين من المبادئ، حــــماية للحرية من تعسف السلطة وحتى تكون الحرية قولاً وسلوكاً.