مشاهدة النسخة كاملة : خواطر عراقية في الذكري الخامسة للغزو الأمريكي


كركركوكو
23-03-2008, 11:35 AM
تجمعني بالعراق ذكريات وروابط ومواقف متعددة، وقد استضافني مؤخراً الإعلامي اللامع جاسم العزوني، في برنامجه الأسبوعي علي شبكة الجزيرة الإنجليزية «في داخل العراق».

وكان ذلك بمناسبة الذكري الخامسة للغزو الأمريكي للعراق، وقد شاركني كضيف لنفس الحلقة عالم الذرة العراقي، وصديق الدراسة، الدكتور عماد خدوري. ولم أكن قد رأيته منذ ثلاث وثلاثين سنة. وكان اللقاء مفعماً بالمشاعر، وكانت حلقة البرنامج نفسها غنية وحزينة.

وكانت خلاصة ما انتهينا إليه في الحلقة هي أنه مهما كانت خطايا نظام صدام حسين، وهي كانت عظيمة وفادحة للعراق والأمة العربية، فإن خطايا الغزو الأمريكي للعراق كانت أعظم وأفدح.

في نهاية البرنامج، أعدت احتضان د. عماد خدوري، الذي زاملته وصادقته هو وشقيقه الأكبـر د. وليد خدوري، في الولايات المتحدة، وبيروت وعمان، وبغداد، كما تعرفت علي والدهما الطبيب يعقوب خدوري ووالدتهما الفاضلة ماري يوسف عباجي طيب الله ثراهما.

كان الوالدان والأبناء نموذجاً لأسرة مهنية، وطنية وعروبية حتي النخاع. صحيح أن السنوات الأولي لتعرفي بوليد (١٩٦٣-١٩٦٧) كانت بيننا منافسة حامية الوطيس، عمن يقود الطلبة العرب في الولايات المتحدة وكندا.

كان وليد مسؤولاً عن التشكيلات الطلابية لحزب البعث العربي الاشتراكي في أمريكا الشمالية بينما كنت أنا في تلك السنوات أقود الطلبة الناصريين، ومعظمهم مصريون، وحلفاءهم من القوميين العرب.

ووصلت هذه المنافسة أقصاها في انتخابات منظمة الطلبة العرب (OAS) في تلك السنوات. وقد نجحنا ـ كناصريين ـ في انتخاب رؤساء ناصريين للمنظمة، هم علي التوالي نبيل شعث، وأسامة الباز، وسعد الدين إبراهيم.

ولكن جاءت هزيمة ١٩٦٧ قاصمة لنا جميعاً ـ ناصريين وبعثيين وقوميين. وبدأت مرحلة جديدة من المراجعات، كان أهمها هو قرارنا بالالتفاف حول النضال المسلح الذي كانت تقوده منظمة التحرير الفلسطينية، بأجنحتها المختلفة.

وقررت أنا ووليد خدوري معاً الالتحاق بالجبهة الديمقراطية، التي كان يقودها نايف حواتمة، ورحلنا إلي عمان، تحت غطاء العمل لإنشاء الجمعية العلمية الملكية. وظللنا مع المقاومة في الأردن إلي أن وقعت الأحداث المأساوية بين المقاومة والسلطات الأردنية، فيما عّرف باسم «أيلول الأسود»، فخرجنا معها إلي سوريا، ومنها إلي بيروت.

رأينا معاً، أخطاءً فادحة لأجنحة منظمة التحرير في الأردن، ثم في لبنان ـ من فتح للجبهتين الشعبية والديمقراطية. ولكن المنظمة كانت قد أصبحت مع ذلك الوقت (١٩٧٠) مثل «البقرة المقدسة»، التي لا ينبغي المساس بها.

وطالما تبادلنا النظرات الانتقادية الصامتة، دون التصريح بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة. وعملت أنا ووليد خدوري معاً مرة أخري في بيروت مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تحت قيادة المفكر الفلسطيني الكبير د.وليد الخالدي، في أوائل السبعينيات.

ثم مع حرب أكتوبر، وما تحقق فيها من إنجاز، عسكري ومعنوي واقتصادي، صعد نجم صدام حسين، الذي كان وقتها نائباً للرئيس العراقي أحمد حسن البكر.

واستدعي صدام عدداً من رفاق الدرب البعثيين الذين كانوا يعيشون خارج العراق، للمساهمة فيما أسماه هو استراتيجية «التنمية الانفجارية» للوطن العربي كله، بدءاً بالعراق. والتأمت نفس المجموعة من نشطاء الطلبة العرب في السبعينيات، وحزمت حقائبها مولية وجهها نحو العراق، تحت قيادة العالم الفلسطيني القدير د.أنطوان زحلان.

والتقينا دورياً بالرفيق صدام حسين، الذي طلب منا المساعدة في إعداد وتنفيذ خطة خمسية لتنمية القوي البشرية العليا، بحيث يكون لدي العراق من العلماء والمهندسين، قدر ما لدي إيران (الجارة الشرقية) وتركيا (الجارة الشمالية) مجتمعتين.

وحينما شرحنا له الاستحالة العلمية لذلك، نظراً لأن سكان العراق كانوا فقط ثلث سكان إيران، وثلث سكان تركيا، أي تُسع سكان البلدين مجتمعين، رد علينا صدام بأن قاموسه لا يحتوي علي كلمة "استحالة"، أو كلمة «مستحيل»، وأنه استدعانا للعراق لكي نجد الطرق والوسائل للتنفيذ!

وكان ما اهتدينا إليه، بعد طول جدال، هو اعتبار أبناء الأمة العربية جميعاً، هم القاعدة السكانية للعراق. وبالتالي، أصبحت الخطة هي كيفية جذب علماء ومهندسين عرب إلي العراق للتوطن فيه، والحصول علي جنسيته لمن يرغب، مع حزمة مغرية من الحوافز المادية.

انتهينا من إنجاز الخطة، وبدأ آلاف المهندسين ومئات العلماء يتوافدون علي العراق من منتصف السبعينيات. وتركت أنا العراق عائداً إلي مصر بعد غيبة ثلاثة عشر عاماً. ولكن ما هي إلا سنوات، حتي انفجرت الثورة الإسلامية في إيران، وسقط حكم الشاه، وأعلنت الجمهورية الإسلامية (١٩٧٩). وسرعان ما افتعل صدام حسين أعذاراً لشن الحرب علي الجمهورية الإسلامية الوليدة (١٩٨٠)، والتي استمرت ثماني سنوات، وراح ضحيتها مليون إنسان، دون أن يحقق أي من البلدين هدفاً استراتيجياً واحداً.

ولم تكد تمر سنة علي وقف الحرب مع إيران حتي شن صدام حسين حرباً أخري في الخليج بغزوه للكويت (١/٨/١٩٩٠)، وهو ما سيبدأ مسلسلاً آخر، انتهي بالغزو الأمريكي للعراق. فما كانت أمريكا لتسمح بقيام قوة إقليمية معادية لها، وتهدد مصالحها النفطية الحيوية في الخليج، وهو ما كان صدام يمثله بالنسبة للمحافظين الجدد الذين أتوا مع جورج بوش الابن بعد الانتخابات الأمريكية سنة ٢٠٠٠، وساعد علي ذلك أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ التي نسبت إلي تنظيم القاعدة.

وقد تصادف وجودي في سجن مزرعة طره أثناء الأحداث التي ستؤدي إلي غزو العراق. وكنت أتابع الأحداث بقلق شديد، وطالما استرجعت حواراتنا ـ نحن مجموعة الخبراء العرب ـ مع صدام حسين،

وكيف انسقنا في السبعينيات بدوافعنا العروبية النبيلة، إلي الإسهام في تنمية العراق، ثم ها أنا أري أننا في الواقع قد أسهمنا في خلق مستبد أعظم، لم تر العراق مثله منذ الحجاج بن يوسف الثقفي، بل ولم تر المنطقة بأسرها مثله منذ هولاكو، وجنكيز خان.

ومع كل ألمي في محبسي، إلا إنني بادرت بكتابة رسالة، سمحت إدارة السجن بخروجها، إلي صدام حسين، أنبهه فيها إلي جدية التهديدات الأمريكية. وأن الكونجرس حينما يعطي ضوءاً أخضر، بالموافقة علي اعتمادات طلبها الرئيس الأمريكي، فإن ذلك هو الخطوة الأخيرة قبل شن الحرب.

وأن هذا هو نفس السيناريو الذي حدث مع جورج بوش الأب، قبل اثني عشر عاماً. واقترحت علي صدام حسين وقتها (نوفمبر ٢٠٠٢) أن يتخلي عن السلطة طواعية لأحد القيادات الحزبية أو العسكرية، وأن يغادر العراق هو وأسرته إلي أحد سبعة بلدان، كنت قد أخذت موافقة سفرائها في القاهرة، حينما كانوا يأتون لزيارتي في السجن.

أكثر من ذلك حصلت الناشطة الحقوقية الإيطالية، إيما بونينو، Emma Bininono علي نسخة من نفس الرسالة، وأضافت إليها فقرة، وافقت عليها فوراً، تدعو أمريكا للتراجع في المقابل عن خططها لغزو العراق. وقامت الناشطة الإيطالية، التي أصبحت فيما بعد وزيرة التجارة والشؤون الأوروبية في إيطاليا، بجمع توقيعات مئات الشخصيات العامة في العالم،

بما في ذلك عدد من أصحاب نوبل علي هذه الرسالة المزدوجة ـ لصدام للتخلي عن السلطة، ولجورج بوش للتراجع عن الغزو. وقد نشرت الرسالة في عديد من الصحف العالمية والعربية (منها «وطني» المصرية و«الوطن» السعودية)، ولكن لا استمع لنا صدام وتخلي، ولا جورج بوش وتراجع. والبقية هي تاريخ معروف للقراء.

لقد ظللت إلي آخر لحظة وأنا أتشبث بالأمل، خاصة بعدما حكمت أعلي محاكم الديار المصرية ـ ببراءتي من كل التهم التي وجهها إلي النظام، يوم ١٨ مارس ٢٠٠٣، ولكن فرحتي بالبراءة ورد الاعتبار، لم تطل أكثر من ٢٤ ساعة، ففي اليوم التالي لحكم البراءة ـ أي ١٩ مارس ٢٠٠٣ ـ بدأ الغزو الأمريكي للعراق ولم يصمد نظام صدام أكثر من أسبوعين، وبدأ الدمار المادي والخراب المعنوي لهذا البلد العريق.

ومع ذلك فإن العراق الذي أنجب أمثال وليد وعماد خدوري، وجاسم العزوني، والشعراء العظام من أمثال الزهاوي والرصافي، وحيدر النوري ونازك الملائكة، لا بد أن ينهض من جديد.

وربما كان غزو العراق في ٢٠٠٣، مثل الحملة الفرنسية علي مصر عام ١٧٩٨، وقد قاوم المصريون الغزاة الفرنسيين، كما يقاوم العراقيون الغزاة الأمريكيين اليوم. وخرج الفرنسيون، كما سيخرج الأمريكيون. وكما كانت الحملة الفرنسية بداية النهضة المصرية الحديثة، فربما يكون الغزو الأمريكي هو بداية نهضة عراقية جديدة.



بقلم د. سعد الدين إبراهيم