مشاهدة النسخة كاملة : د. عبد الرحمن البر يكتب: إن دماءكم حرام عليكم


صوت الامة
05-02-2012, 02:04 PM
http://www.ikhwanonline.com/Data/2012/1/11/Pic56876.jpg
د. عبد الرحمن البر


الجريمة الكبرى التي غدرت بالعشرات في ملعب بور سعيد وما تلاها وما قد يتلوها من توابع تؤلم قلب كل مصري حر، والمؤامرة الفاجرة التي صارت من الوضوح بحيث لا تغيب عمن عنده أدنى مسكة من عقل، هذه الجريمة تدعوني لأن أكتب اليوم مذكرًا بحرمة الدماء، وقد كان ذلك من آخر ما نبَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في خطبة النحر في حجة الوداع، حين قال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ. أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".



لقد حرص الإسلام كل الحرص على استقرار حياة الناس والحفاظ على أمنهم، وحرَّم كل اعتداء أو ترويع يهدد هذا الاستقرار، ويضيع هذا الأمن الذي هو من كبريات النعم التي امتن الله بها على عباده وذكَّر قريشًا أكثر من مرة في القرآن بنعمة الأمن، فقال سبحانه: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)) (قريش)، وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: من الآية 67)، وقال سبحانه: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص: من الآية 57)؛ ففي ظل الأمن تمضي الشرائع، وتزدهر الحياة ويسعد الناس.



لذلك كله حرم الإسلام كل سبب يفضي إلى تهديد هذا الأمن أو إراقة الدماء، ومن ذلك تحريم الخروج بالسلاح على النظام العام وتهديد حياة الناس، ورفع السلاح في وجوه الآمنين، وكان الإسلام واضحًا كل الوضوح، حاسمًا كل الحسم في هذا الأمر، معتبرًا قتلَ المؤمن من أعظم المصائب التي يمكن أن تحصل في هذا الكون، فإن المؤمنَ أعظمُ حرمةً عند الله من بيته الحرام الكعبة المشرفة، ومن ثم جعل القصاص فريضة مفروضة من كل من اعتدى على الآخرين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (البقرة: من الآية 178)، وقال سبحانه (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة: من الآية 45)، وهذا هو السبيل لاستقرار الحياة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) (البقرة). هذا فضلاً عما أعدَّه الله لمن اعتدى بالقتل من الخزي والهوان والعذاب العظيم في الآخرة: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)) (النساء)، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن: "كلُّ ذنبٍ عسى الله أن يغفره، إلا الرجلُ يقتلُ المؤمن متعمدًا، أو الرجل يموت كافرًا". نعم يُخْشَى على من أصاب دمًا حرامًا أن يفقد دينه، وفي الحديث عند البخاري: "لا يزال المؤمنُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا" ورضي الله عن ابن عمر الذي قال فيما أخرجه البخاري: "إنَّ من ورْطات الأمور التي لا مَخْرَجَ لمن أوقع نفسَه فيها سفْكَ الدمِ الحرامِ بغير حِلِّه".. كيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه النسائي: "والذي نفسي بيده لَقَتْلُ مؤمنٍ أعظمُ عند الله من زوال الدنيا"، واعتبر القرآن العظيم أَنه (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: من الآية 32).



ويرسم النبي صلى الله عليه وسلم صورة معبرة لما سيجري للقاتل بين يدي الله فيقول فيما أخرجه النسائي: "يجيء المقتولُ بالقاتل يوم القيامة ناصيتُه ورأسُه في يده، وأوْدَاجُه تَشْخُبُ دمًا، يقول: يا رب، قتلني. حتى يُدْنِيَه من العرش" وفي رواية: "يجيءُ متعلقًا بالقاتل تَشْخبُ أوْداجُه دمًا، فيقول: أي رب، سلْ هذا فيمَ قتلني؟".



إن كل قاتل وكل مقتول سيقفان هذا الموقف، وسيُسْأَل كلُّ قاتل هذا السؤال، ففي الحديث عند النسائي وغيره: "يَجيءُ الرجلُ آخذًا بيدِ الرجل، فيقول: يا رب، هذا قتلني. فيقول الله له: لِمَ قتلتَه؟ فيقول: قتلتُه لتكونَ العزةُ لك. فيقول: فإنها لي، ويَجيء الرجلُ آخذًا بيدِ الرجل، فيقول: إن هذا قتلني. فيقول الله له: لِمَ قتلتَه؟ فيقول: لتكونَ العزَّةُ لفلان. فيقول: إنَّها ليستْ لفلان. فَيَبُـوء بإثْـمِه".. إنها صورة من صور الحساب والحكم في الدماء الذي يتم في محكمة القضاء الإلهي يوم القيامة، حيث يأتي كلُّ مقتولٍ ممسكًا بقاتله؛ ليعرض قضيتَه على رب العزة جل وعلا، فإن كان قَتَلَه في حقٍّ أَدْلَى بِحُجَّتِه، فيقول: قتلتُه في سبيلك؛ لتكون العزةُ لك وحدك.



أما الظالِمُ الذي قتلَ نفسًا بغيرِ حقٍّ، لتكون العزةُ أو الملكُ لفلانٍ أو فلانٍ من ملِكٍ أو سلطانٍ أو رئيسِ قبيلةٍ أو شيخِ عشيرةٍ أو زعيم عصابة أو في سبيل الشيطان، أو من أجل ******ِ الحقوقِ وانتهاكِ الأعراضِ، ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة، فإن الحقَّ جل وعلا يُجيبُه بأن العزةَ ليست لفلان، إنما هي لله وحده، ثم يُحَمِّل هذا القاتلَ إثْمَ جريمته، بل إثْمَ المقتول، بل يعطي المقتولَ من حسناته، فيذهبُ القاتلُ بالشرِّ كلِّه، ويذهبُ المقتولُ ظلمًا بالخير كله. إنه مشهدٌ مؤثِّرٌ من مشاهد يوم القيامة يقصُّه علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في تعبير واضح وأسلوب سهل يفهمه الكبير والصغير، العامي والعالم.



بل إن الشريعة الإسلامية لا تقبل بعذر الإكراه في هذه الجريمة بالذات، فقد اتفقت كلمة علماء المسلمين: أنه لو أُكره أحد على قتل نفسٍ بغير حقٍ، فإنه يجب عليه أن يمتنع، ولا يجوز له بأي حالٍ من الأحوال أن يقتله، حتى لو هُدِّد هو بالقتل عند الامتناع؛ لأنه عندئذٍ يكون قد قتله باختياره افتداءً لنفسه من القتل، وهذا لا يجوز.



ألا فلْيسمعْ ذلك الذين يسعَوْن في الأرض فسادًا ويبيعون أوطانهم ودماءَ إخوانهم ومواطنيهم رخيصةً مقابلَ جنيهات معدودة، وليعتبر الذين يفسدون في الأرض من أجل مستبد مخلوع ومن أجل نظام فاسد ساقط، وليعلموا أن دماء المظلومين لن تذهب سدى، ولن تضيع هباء: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)) (الشعراء)، ولتتعاون الأمة بكل فصائلها وأطيافها على الوقوف بكل حزم في وجه من يعتدي على دماء الناس وحرماتهم وأموالهم، حتى يعلم كل فاسد وكل صاحب مأرب رخيص أنه لم يعد له محل في مصرنا الحرة الجديدة الناهضة بإذن الله، والله أكبر ولله الحمد، وتحيا مصر الحرة يدًا واحدة وقلبًا واحدًا: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)) (الحج).

---------------

* عميد كلية أصول الدين والدعوة بالمنصورة،
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين،
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.